التجربة الشعرية للشاعر الفلسطيني خالد شوملي غنية وحافلة بالعطاء الإبداعي والتنوع الموضوعاتي, كتب عن الوطن (فلسطين) وعن المنفى والحب بأبعاده الإنسانية والحياة والوجدان والقصيدة…
وتحضر تيمة الوطن في ديوان “ضيق منفاك”, موضوع الدراسة, بشكل قوي ومهيمن, حيث يحتفي فيه الشاعر بوطنه فلسطين, يجعله في قلب الشعر والخيال والتفكير وفي قلب الأحداث, هو المحور المركزي وفي فضائه الأنا والجماعة روحا وجسدا.
إن بعد الشاعر عن وطنه يولد في نفسه مشاعر متضاربة, يولد حبا وحنينا وخوفا وامتعاضا وقلقا وآمالا وأحلاما… ويولد شعرا صادقا عميقا يعيد الصواب والمنطق إلى الأشياء التي فقدت قيمتها وبوصلتها للوصول إلى بر الوطن وأمنه وسلامه..
تطالعنا تيمة الوطن في الديوان منذ عتبة العنوان “ضيق منفاك” إذ تحيلنا مباشرة إلى الغربة والعيش في المنفى بعيدا عن الوطن والأهل, وتحيلنا كذلك إلى الإحساس بالضيق في الوطن الذي حط فيه الشاعر رحاله, لكن دلالة العبارة أعمق وأوسع من ذلك, إذ تخفي وراءها هما ثقيلا, ففي نبرة صوت الشاعر وهو يوجه الخطاب إلى ذاته, مشاعر الحسرة والحزن العميق والحنين والشجن… ويدعونا من خلال هذه العتبة الأولى, إلى أن ندرك ونحس بعمق ما تكتوي بناره الذات في بعدها القسري عن وطنها السليب, وفي صراعها المرير من أجل العودة والتحرر.
أما قصائد الديوان فنجدها مبسوطة على أرجاء الوطن, تكشف عن حس وطني غني وعميق, وتوثق للارتباط الأبدي بين الشاعر ووطنه من خلال التيمة المركزية (الوطن/ فلسطين), وتيمات أخرى تدور في فضاء الوطن وتلتقي عنده وهي: الغربة والمنفى والضيق والحزن والقلق والحب والحلم…
قلب الشاعر مجروح وبه لوعة وشجن, لا ينعم براحة البال في الوطن الذي حط فيه رحاله, مهما اتسع ورحب, ومهما حقق للمغترب من استقرار وحياة هادئة, فإن الشاعر يحس بضيق شديد, لن يخرجه منه إلا تربة الوطن التي لا تضاهيها كنوز الأرض, يقول في قصيدة “ضيق منفاك”:
ضَيِّقٌ مَنْفاكَ كَالْكَفَنِ
آهِ ما أغْلاهُ مِنْ ثَمَنِ
كُلُّ ما في الْكَوْنِ مِنْ ذَهَبٍ
لا يُضاهي تُرْبَةَ الْوَطَنِ
(ص: 39)
تتأجج العواطف وتلتهب المشاعر مع قوة الإحساس بضيق المنفى ووطأة الفقد والبعد عن الأرض, وتتحول إلى أسئلة مؤرقة وإحساس بالضياع:
لَمْ أَفْتَقِدْ أحَدًا سِواكِ فَأيْنَ أَنْتِ وَكَيْفَ ضاعَ هَواكِ. مُنْذُ عَرَفْتُ عُمْري حينَ لامَسْتُ الْقَصيدَةَ في يَديَكِ تَحَوّلَتْ أَشْواكُ مَنْفاها مَدًى وَوُرودَ حُبٍّ. كَمْ كَبُرْنا عَنْ تَفاصيلِ الْكلامِ وَلَمْ نَبُحْ إلّا إذا أغْمَضْتِ عَيْنيْ بابْتِسامِ الضَّوْءِ في ثَغْرِ الطَّبيعَةِ. أَيْنَ أَنْتِ لِتَرْسُميني مِنْ جَديدٍ طائِرًا أَوْ شاعِرًا لِنَلُمَّ أَلْوانَ الْمَعاني مِنْ بِحارِ الْمُسْتَحيلِ أَنا وَأنْتِ.
(ص:31)
فلسطين في شعر الشاعر هي المعادل الموضوعي لوجود الذات, فرغم البعد والغربة, فالصلة لا تنقطع بين الشاعر ووطنه, يغيب الوجود الفعلي والاتصال الواقعي بالوطن, ويحل محله وجود داخلي وجداني, فالوطن في الأعماق, في فلدة الكبد, يحيلهما الحب ذاتا واحدة, فهما نصفان متصلان ومترابطان لا ينفصل أحدهما عن الآخر. يقول الشاعر في قصيدة “نصفان”:
أنا الْغَريبُ الْبَعيدُ عَنْ بَلَدي
وَأَنْتَ حُبِّي الْوَحيدُ لِلْأَبَدِ
وَسِحْرُ نَجْمٍ يُضيءُ لي حُلُمي
وَأَنْتَ وَرْدٌ في رَوْضَةِ الْجَسَدِ
نِصْفانِ وَالْحُبُّ نَحْنُ يُكْمِلُنا
فَعِشْ عَميقاً في فِلْذَةِ الْكَبِدِ
(ص: 69)
وهكذا لا يتوانى الشاعر في أداء دوره الوطني والنضالي, يشخص الوضع ويقرؤه, ويقدم الدروس والعبر ويستنهض الهمم والعزائم ويحث على التضحية والفداء من أجل تحرير الوطن, فالحرية مطلب عظيم لن يتأتى إلا بتقديم ما هو عظيم.. يقول الشاعر في قصيدة: “جنون العصر”:
وحُرِّيَّةُ الْإنْسانِ لَيْسَتْ هَدِيَّةً
مَخاضٌ عَسيرٌ وَالضّحايا مَشاعِلُ
تَضيعُ حُقوقٌ لَمْ يُطالَبْ بِنَيْلِها
سَيَغْفو جَوابٌ إنْ تَرَدّدَ سائِلُ
(ص: 44)
وفي قصيدة “شامات السماء” يرثي الشاعر القدس, ويدعوها للانتفاضة ورفع الظلم عنها, يقول:
لَقَدْ حانَ الْأَوانُ لِكَيْ تَطيري
فَغَنّي الْآنَ أُغْنِيَةَ الْفِداءِ
(ص: 46)
القدس تستمد طاقة المقاومة والصمود من وفاء أبنائها بالرغم من إبعادهم عنها, الشاعر يجدد وفاءه للأرض التي أنجبته, يقول:
وَمَهْما اللّيْلُ شَتَّتَنا بَعيدًا
أَنا باقٍ عَلى عَهْدِ الْوَفاءِ
(ص: 47)
وهكذا يشهر الشاعر غضبه ولاءاته في وجه التآمر والعبث بمصير الوطن وبأبنائه, ويقاوم على كل الجبهات, جبهة العدو الصهيوني المتسلط الذي استبد بالأرض وعاث فيها فسادا وظلما, وجبهة الذات (الجماعية) التي تعمل على خراب نفسها بنفسها نتيجة الطيش والجهل والغباء.. وهو ما حول وطن المحبة والسلام إلى مسرح للتقتيل والقمع… لقد امتلأت نفس الشاعر حسرة وآلاما على وطن يعصف بأمنه عبث الجميع, يقول في قصيدة “كم لا” :
كَمْ لا سَتَنْتَصِفُ الْكَلامَ لِتُنْصِفَ الْمَعْنى
إذا غَرِقَتْ عُيونُ الشَّمْسِ في بِئْرِ الرَّدى
كَمْ مَرَّةٍ سَتَموتُ سُنْبُلَةُ الْحْياةِ
بِفَأسِ طَيْشِ الرّيحِ في وَطَنِ الْمَحَبّةِ وَالسّلامِ
وَتَشْهَقُ الْكَلِماتُ آخِرَ ما تَبَقّى مِنْ حنانٍ لِلحِجارَةِ
في بِلادٍ يُقْتَلُ العُصْفورُ فيها إنْ شَدا
يا مَوْطِني جُنَّ الْجَميعُ وَأَنْتَ وَحْدَكَ عاقِلُ
أنْتَ الضَحِيّةُ وَالْجَميعُ الْقاتِلُ
يا موطني يا موطني يا موطني
(ص: 55)
وبسراج الوعي والحكمة يدين صراع الإخوة وقتل بعضهم لبعض, ويحذر من هذه الظواهر العنيفة السيئة على مسرح الوطن, يقول في قصيدة: “لعل سواي”:
خَرابُ الْبِلادِ سَريعُ الْخُطى
وَفَرِّقْ تَسُدْ شُغْلُهُ الشّاغِلُ
دَمارٌ هُنا وَهُناكَ انْفِجارٌ
هُنا لِأخيهِ أَخٌ قاتِلُ
إذا ما اسْتَمَرَّ شخيرُ الْبِلادِ
سَيَحْضُرُها النَّبَأُ الْعاجِلُ
(ص: 59)
وأسئلة مضنية ترهق الروح, والإجابات الشعرية حقائق صادمة تزيد من حزن الذات وحرقتها على الوطن, يقول في قصيدة “الطائر”:
ألا أيُّها الطّيْرُ هَلْ زُرْتَها
وَهَلْ يَرْجِعُ الزَّمَنُ الْغابِرُ ؟
فَقالَ: ألا أيُّها الشّاعِرُ
مَليءُ السَّوادِ هُوَ الْحاضِرُ
رَديءٌ بَذيءٌ هُوَ الظّاهِرُ
وَأسْوَأُ مِنْهُ هُوَ الضّامِرُ
يَعيثُ الْعَدُوُّ بِأَوْطانِكُمْ
وَيَطْعَنُكُمْ زَمَنٌ غادِرُ
(ص: 61 ـ 62)
ما حدود الوطن في شعر خالد شوملي؟
فلسطين في قلب الشاعر وفي قلب شعره, لكن في لحظات شعرية قوية تذوب الحدود ويتمدد الوطن وتتسع جغرافيته ليشمل كل الأوطان العربية التي اكتوت بنار الفتن، والتي تعيش حالة من اللامنطق واللامعقول بسبب ما استجد فيها من أحداث مأساوية, تستدعي الوعي بالوحدة وبوطن عربي كبير ينتصر للإنسانية والأمن والسلام..
يضعنا الشاعر في زخم الأحداث الراهنة وأسئلة الحاضر الكبرى التي تمزق سكينة النفس وتعكس قلق الذات الشاعرة ومعها كل الوطنيين والإنسانيين, بسبب ما آل إليه حاضر الأوطان العربية, فلسطين والعراق والشام واليمن وتونس, في ظل ربيع استحالت خضرته المأمولة والمُرَاهن عليها إلى سواد لا يُعلم متى يزول, يقول الشاعر في قصيدة “ضيق منفاك”:
ها هيَ الْأوْطانُ قَدْ غَرِقَتْ
بِبِحارِ الْجَهْلِ وَالْفِتَنِ
أَبْحَرَتْ في طَيشِ زَوْبَعَةٍ
لَمْ تَصِلْ ميناءَها سُفُني
تَتَهاوى الآنَ أشْرِعَتي
في عِراقِ الْمَجْدِ وَالْيَمَنِ
وَدُموعُ الْقُدْسِ هادِرَةٌ
فَوْقَ خَدِّ الْعالَمِ الْخَشِنِ
وَمُروجُ الشّامِ بِئْرُ أسًى
تَرْتَدي ثَوْبًا مِنَ الْحَزَنِ
مِنْ مَعينِ الْعَيْنِ أَدْمُعُها
دَمُها الشّلّالُ في سَنَنِ
تونسُ الْخَضْراْءُ شاحِبَةٌ
وَحِصانُ الفَجْرِ بِالرَّسَنِ
(ص: 40 ـ 41)
تصطدم الذات بدوامة الدمار والخراب التي لا تنتهي, التاريخ يعيد نفسه والدمار يرجع مرة أخرى إلى العراق والشام وينتشر في أرجاء الوطن العربي, يقول الشاعر:
قَدْ عادَنا ” هولاكو ” بِصُحْبَتِهِ
مُرْتَزِقُ الإسْمِ مِنْ أبي لَهَبِ
لِيَحْرِقَ الْأَرْضَ والسَّماءَ بِنا
يَصُبّ نارَ الْغَباءِ في الْكُتُبِ
إنَّ بِلادي تَهْوي عَلى عَجَلٍ
وَحُمْقُ قَوْمٍ يَزيدُ مِنْ غَضَبي
(ص: 63 ـ 64)
الأحلام بديل مؤقت عن واقع البعد عن الوطن واستمرار احتلاله وتبدد يقين العودة والأمن والسلام, يجد الشاعر نفسه تائها, منقادا وراء طائر الأحلام, لكنه يرتاب ويتوجس من أحلامه ويخاف أن تنتهي نهاية مأساوية, لأنه لا يعرف إلى أين تتجه به, كل ما يدركه هو حدود واقعه الضيقة, ولا صور تثير الخيال.. يقول في قصيدة: “يا طائر الأحلام”:
يا طائرَ الْأحْلامِ أيْنَ تَقودُني
وَأنا الضّريرُ
في غُرْفَتي الظّلْماءِ أعْرِفُ مَنْ أنا
هذا سَريري. حَوْلَهُ الْأشْياءُ قُرْبَ يَدي
وَأوْجاعي مُرَتّبَةٌ
وَذاكِرَتي مُهَمّشَةٌ بِدُرْجي
ولكنه لا يفقد الأمل في الحلم, ينتظر بكل يقين أن يتحقق, يقول في قصيدة: “ألا أيها الخيل من طوعك”:
ألا أَيُّها الْخَيْلُ لا بُدَّ لِلْحُلْمِ أَنْ يَهْزِمَ الْوَهْمَ كَيْ أُرْجِعَكْ
لا لحن إلا لحن الوطن ورنة الحنين إليه, كل هذه السنين الخالية والآتية يظل مفتاح القدس معلقا بين العيون, بعزم كبير وصبر لا يعرف الملل وولاء للأرض التي أنجبتهم, يسير أبناء هذا الوطن الجريح إلى فلسطينهم, والأمل يضيء طريق العودة التي لا محالة متحققة, يقول الشاعر في قصيدة “جواب القصيدة” التي أعتبرها نشيدا وطنيا:
وَتَمْضي السِّنونَ وَمِفْتاحُنا
نُعَلِّقُهُ حُلُمًا في الْمُقَلْ
نَسيرُ بِعَزْمٍ لِأَوْطانِنا
وَلا يَعْرِفُ الصَّبْرُ فينا الْمَلَلْ
سَنَرْجِعُ نَحْوَ فِلِسْطيننا
يُضيءُ لَنا الدَّرْبَ نورُ الْأَمَلْ
(ص:67 ـ68)
عديدة المعاني والدلالات التي تكشف عن هذه الوطنية العميقة في الديوان, وعديدة أيضا الأساليب التي اعتمدها خالد شوملي في تعبيره الشعري عن قضاياه وأفكاره ومشاعره, ومنها الحكمة, حيث يوقد الشاعر مصابيح الحكمة والمثل العليا في شعره, ليهتدي بنورها أبناء الوطن وأحرار العالم في طريقهم إلى تحرير أوطانهم والخروج بها من مستنقعات الاستعمار والجهل والتنافر والاقتتال, وإعادة بنائها على أسس المحبة والتواصل والعدل والسلام … تارة بلهجة الانتقاد الشديد, وتارة بالتوجيه والنصح والإرشاد للحث على النضال وتصحيح عالم الصداقة والتعامل الإنساني الراقي ورأب الصدع بين الإخوة الخصوم…
ولأن الشعر إنجاز لغوي وجمالي, فإن شعر خالد شوملي يحقق متعة جمالية كبيرة, بما يعتمده من خصائص فنية وأساليب متنوعة, غير أنني سأكتفي بالإشارة إلى بعضها لأن دراسة الخصائص الفنية في ديوان “ضيق منفاك” تحتاج إلى وقفة طويلة ومتأنية.
كتب الشاعر في القصيدة العمودية, وقصيدة التفعيلة, في وقت يعرف فيه الشعر موجة عارمة من تجديد الأشكال الشعرية والخروج عن قواعد القصيدة العمودية, وهذا يدل على أن الشاعر يتمتع بالحرية الكاملة والوعي والميول الفني والجمالي لاختيار الشكل الفني المناسب لاحتواء مادته الإبداعية, إضافة إلى قناعته بأن القصيدة العمودية لم تستنفذ بعد طاقتها التعبيرية, فهي قادرة على استيعاب المضامين الجديدة التي يفرضها الواقع العربي والإنساني عامة, من قضايا الأوطان والإنسان والإنسانية والوجود…
شعر الشاعر متجدد بما يضفيه عليه من أحاسيس وأفكار ومواقف وإبداع وتشكيل لغوي وتصوير بلاغي وإيقاعات موسيقية تنسجم مع انفعالاته ومواضيعه, وتؤثر في النفس عميقا.
وقد أولى الشاعر خالد شوملي عناية خاصة للكفاية الشعرية وحدد تصوره عن النص الشعري وأوصافه والحرية في كتاباته, ونجد ذلك في عدد من القصائد: “النص يكتب نفسه” (ص:25), وقصيدة “النص يولد عاريا” وقصيدة “ويُكتب الشعر”( ص:29).
إبداع الشاعر خالد شوملي متجدد وخاص, له بصمته الإبداعية التي تميزه عن غيره من المبدعين, يكتب عن إدراك ويقين بنضج تجربته الشعرية, وبأن مواضيعه متجددة لم تستهلك, يقول في قصيدة “قطاف”:
يا صاحِبي الأشْعارُ حانَ قِطافُها
فَثِمارُها أَسْقَيْتُها دَمْعَ الْمُقَلْ
مِنْ أَلْفِ عامٍ قيلَ أَلْفُ قَصيدَةٍ
لكِنَّ أُغْنِيَةً لِشَعْبِيَ لَمْ تُقَلْ
(ص: 60)
ويقول في قصيدة “لن يفهمني أحد” ص: 21:
فَأنا الْمُتَجَدِّدُ في لُغَتي
الْمُتَنَهِّدُ مَعْ نَفَسِ الْبُرْكانِ
(ص:21)
لغة الشاعر أنيقة تتميز بخصائص مختلفة, نجده يعبر عن ارتباطه بوطنه بلغة الحب والحنين الشفيفة, يقول في قصيدة “حنين”:
تَبوحُ الرّوحُ سِرًّا أوْ جِهارًا
فَحُبُّكِ ساطِعٌ فَوْقَ الْجَبينِ
وَلا أنْساكِ حَتّى في مَنامي
فَهذا الْحُبُّ يَجْري في الْوَتينِ
(ص:70)
ويعتمد لغة إيحائية رمزية تصويرية عندما يعبر عن المعاني البعيدة العميقة لتكثيف دلالة عمق جراح المنفى والبعد عن الوطن, وبشاعة الخيانة والمآمرة والجرائم المرتكبة على أرض الوطن..
وأختم هذه القراءة ببطاقة وطنية من قصيدة “ضيق منفاك” يصل فيها حب الوطن إلى الذروة عندما تصبح العودة مطلبا مقدسا, حيث أرض الوطن تبعث الحياة والروح في جسد الشاعر في حالة عودته إليها في كفنه, يقول الشاعر:
أَيُّ حُلْمٍ سَوْفَ يَحْمِلُني
بُلْبُلًا حُرًّا إلى غُصُني
بَيْنَنا شَوْقٌ وذاكِرَةٌ
وَهَوىً في السِّرِّ وَالْعَلَنِ
حاضِرٌ في كُلِّ أُغْنِيَةٍ
عابِرُ التّاريخِ وَالزَّمَنِ
وَطَني إنْ عُدْتُ في كَفَني
سَتَدِبُّ الرّوحُ في الْبَدَنِ
وَطَني في الْمَجْدِ عِشْ أَبَدًا !
فأَنا لَوْلاكَ لَمْ أَكُنِ
د. زهور بن السيد
وتحضر تيمة الوطن في ديوان “ضيق منفاك”, موضوع الدراسة, بشكل قوي ومهيمن, حيث يحتفي فيه الشاعر بوطنه فلسطين, يجعله في قلب الشعر والخيال والتفكير وفي قلب الأحداث, هو المحور المركزي وفي فضائه الأنا والجماعة روحا وجسدا.
إن بعد الشاعر عن وطنه يولد في نفسه مشاعر متضاربة, يولد حبا وحنينا وخوفا وامتعاضا وقلقا وآمالا وأحلاما… ويولد شعرا صادقا عميقا يعيد الصواب والمنطق إلى الأشياء التي فقدت قيمتها وبوصلتها للوصول إلى بر الوطن وأمنه وسلامه..
تطالعنا تيمة الوطن في الديوان منذ عتبة العنوان “ضيق منفاك” إذ تحيلنا مباشرة إلى الغربة والعيش في المنفى بعيدا عن الوطن والأهل, وتحيلنا كذلك إلى الإحساس بالضيق في الوطن الذي حط فيه الشاعر رحاله, لكن دلالة العبارة أعمق وأوسع من ذلك, إذ تخفي وراءها هما ثقيلا, ففي نبرة صوت الشاعر وهو يوجه الخطاب إلى ذاته, مشاعر الحسرة والحزن العميق والحنين والشجن… ويدعونا من خلال هذه العتبة الأولى, إلى أن ندرك ونحس بعمق ما تكتوي بناره الذات في بعدها القسري عن وطنها السليب, وفي صراعها المرير من أجل العودة والتحرر.
أما قصائد الديوان فنجدها مبسوطة على أرجاء الوطن, تكشف عن حس وطني غني وعميق, وتوثق للارتباط الأبدي بين الشاعر ووطنه من خلال التيمة المركزية (الوطن/ فلسطين), وتيمات أخرى تدور في فضاء الوطن وتلتقي عنده وهي: الغربة والمنفى والضيق والحزن والقلق والحب والحلم…
قلب الشاعر مجروح وبه لوعة وشجن, لا ينعم براحة البال في الوطن الذي حط فيه رحاله, مهما اتسع ورحب, ومهما حقق للمغترب من استقرار وحياة هادئة, فإن الشاعر يحس بضيق شديد, لن يخرجه منه إلا تربة الوطن التي لا تضاهيها كنوز الأرض, يقول في قصيدة “ضيق منفاك”:
ضَيِّقٌ مَنْفاكَ كَالْكَفَنِ
آهِ ما أغْلاهُ مِنْ ثَمَنِ
كُلُّ ما في الْكَوْنِ مِنْ ذَهَبٍ
لا يُضاهي تُرْبَةَ الْوَطَنِ
(ص: 39)
تتأجج العواطف وتلتهب المشاعر مع قوة الإحساس بضيق المنفى ووطأة الفقد والبعد عن الأرض, وتتحول إلى أسئلة مؤرقة وإحساس بالضياع:
لَمْ أَفْتَقِدْ أحَدًا سِواكِ فَأيْنَ أَنْتِ وَكَيْفَ ضاعَ هَواكِ. مُنْذُ عَرَفْتُ عُمْري حينَ لامَسْتُ الْقَصيدَةَ في يَديَكِ تَحَوّلَتْ أَشْواكُ مَنْفاها مَدًى وَوُرودَ حُبٍّ. كَمْ كَبُرْنا عَنْ تَفاصيلِ الْكلامِ وَلَمْ نَبُحْ إلّا إذا أغْمَضْتِ عَيْنيْ بابْتِسامِ الضَّوْءِ في ثَغْرِ الطَّبيعَةِ. أَيْنَ أَنْتِ لِتَرْسُميني مِنْ جَديدٍ طائِرًا أَوْ شاعِرًا لِنَلُمَّ أَلْوانَ الْمَعاني مِنْ بِحارِ الْمُسْتَحيلِ أَنا وَأنْتِ.
(ص:31)
فلسطين في شعر الشاعر هي المعادل الموضوعي لوجود الذات, فرغم البعد والغربة, فالصلة لا تنقطع بين الشاعر ووطنه, يغيب الوجود الفعلي والاتصال الواقعي بالوطن, ويحل محله وجود داخلي وجداني, فالوطن في الأعماق, في فلدة الكبد, يحيلهما الحب ذاتا واحدة, فهما نصفان متصلان ومترابطان لا ينفصل أحدهما عن الآخر. يقول الشاعر في قصيدة “نصفان”:
أنا الْغَريبُ الْبَعيدُ عَنْ بَلَدي
وَأَنْتَ حُبِّي الْوَحيدُ لِلْأَبَدِ
وَسِحْرُ نَجْمٍ يُضيءُ لي حُلُمي
وَأَنْتَ وَرْدٌ في رَوْضَةِ الْجَسَدِ
نِصْفانِ وَالْحُبُّ نَحْنُ يُكْمِلُنا
فَعِشْ عَميقاً في فِلْذَةِ الْكَبِدِ
(ص: 69)
وهكذا لا يتوانى الشاعر في أداء دوره الوطني والنضالي, يشخص الوضع ويقرؤه, ويقدم الدروس والعبر ويستنهض الهمم والعزائم ويحث على التضحية والفداء من أجل تحرير الوطن, فالحرية مطلب عظيم لن يتأتى إلا بتقديم ما هو عظيم.. يقول الشاعر في قصيدة: “جنون العصر”:
وحُرِّيَّةُ الْإنْسانِ لَيْسَتْ هَدِيَّةً
مَخاضٌ عَسيرٌ وَالضّحايا مَشاعِلُ
تَضيعُ حُقوقٌ لَمْ يُطالَبْ بِنَيْلِها
سَيَغْفو جَوابٌ إنْ تَرَدّدَ سائِلُ
(ص: 44)
وفي قصيدة “شامات السماء” يرثي الشاعر القدس, ويدعوها للانتفاضة ورفع الظلم عنها, يقول:
لَقَدْ حانَ الْأَوانُ لِكَيْ تَطيري
فَغَنّي الْآنَ أُغْنِيَةَ الْفِداءِ
(ص: 46)
القدس تستمد طاقة المقاومة والصمود من وفاء أبنائها بالرغم من إبعادهم عنها, الشاعر يجدد وفاءه للأرض التي أنجبته, يقول:
وَمَهْما اللّيْلُ شَتَّتَنا بَعيدًا
أَنا باقٍ عَلى عَهْدِ الْوَفاءِ
(ص: 47)
وهكذا يشهر الشاعر غضبه ولاءاته في وجه التآمر والعبث بمصير الوطن وبأبنائه, ويقاوم على كل الجبهات, جبهة العدو الصهيوني المتسلط الذي استبد بالأرض وعاث فيها فسادا وظلما, وجبهة الذات (الجماعية) التي تعمل على خراب نفسها بنفسها نتيجة الطيش والجهل والغباء.. وهو ما حول وطن المحبة والسلام إلى مسرح للتقتيل والقمع… لقد امتلأت نفس الشاعر حسرة وآلاما على وطن يعصف بأمنه عبث الجميع, يقول في قصيدة “كم لا” :
كَمْ لا سَتَنْتَصِفُ الْكَلامَ لِتُنْصِفَ الْمَعْنى
إذا غَرِقَتْ عُيونُ الشَّمْسِ في بِئْرِ الرَّدى
كَمْ مَرَّةٍ سَتَموتُ سُنْبُلَةُ الْحْياةِ
بِفَأسِ طَيْشِ الرّيحِ في وَطَنِ الْمَحَبّةِ وَالسّلامِ
وَتَشْهَقُ الْكَلِماتُ آخِرَ ما تَبَقّى مِنْ حنانٍ لِلحِجارَةِ
في بِلادٍ يُقْتَلُ العُصْفورُ فيها إنْ شَدا
يا مَوْطِني جُنَّ الْجَميعُ وَأَنْتَ وَحْدَكَ عاقِلُ
أنْتَ الضَحِيّةُ وَالْجَميعُ الْقاتِلُ
يا موطني يا موطني يا موطني
(ص: 55)
وبسراج الوعي والحكمة يدين صراع الإخوة وقتل بعضهم لبعض, ويحذر من هذه الظواهر العنيفة السيئة على مسرح الوطن, يقول في قصيدة: “لعل سواي”:
خَرابُ الْبِلادِ سَريعُ الْخُطى
وَفَرِّقْ تَسُدْ شُغْلُهُ الشّاغِلُ
دَمارٌ هُنا وَهُناكَ انْفِجارٌ
هُنا لِأخيهِ أَخٌ قاتِلُ
إذا ما اسْتَمَرَّ شخيرُ الْبِلادِ
سَيَحْضُرُها النَّبَأُ الْعاجِلُ
(ص: 59)
وأسئلة مضنية ترهق الروح, والإجابات الشعرية حقائق صادمة تزيد من حزن الذات وحرقتها على الوطن, يقول في قصيدة “الطائر”:
ألا أيُّها الطّيْرُ هَلْ زُرْتَها
وَهَلْ يَرْجِعُ الزَّمَنُ الْغابِرُ ؟
فَقالَ: ألا أيُّها الشّاعِرُ
مَليءُ السَّوادِ هُوَ الْحاضِرُ
رَديءٌ بَذيءٌ هُوَ الظّاهِرُ
وَأسْوَأُ مِنْهُ هُوَ الضّامِرُ
يَعيثُ الْعَدُوُّ بِأَوْطانِكُمْ
وَيَطْعَنُكُمْ زَمَنٌ غادِرُ
(ص: 61 ـ 62)
ما حدود الوطن في شعر خالد شوملي؟
فلسطين في قلب الشاعر وفي قلب شعره, لكن في لحظات شعرية قوية تذوب الحدود ويتمدد الوطن وتتسع جغرافيته ليشمل كل الأوطان العربية التي اكتوت بنار الفتن، والتي تعيش حالة من اللامنطق واللامعقول بسبب ما استجد فيها من أحداث مأساوية, تستدعي الوعي بالوحدة وبوطن عربي كبير ينتصر للإنسانية والأمن والسلام..
يضعنا الشاعر في زخم الأحداث الراهنة وأسئلة الحاضر الكبرى التي تمزق سكينة النفس وتعكس قلق الذات الشاعرة ومعها كل الوطنيين والإنسانيين, بسبب ما آل إليه حاضر الأوطان العربية, فلسطين والعراق والشام واليمن وتونس, في ظل ربيع استحالت خضرته المأمولة والمُرَاهن عليها إلى سواد لا يُعلم متى يزول, يقول الشاعر في قصيدة “ضيق منفاك”:
ها هيَ الْأوْطانُ قَدْ غَرِقَتْ
بِبِحارِ الْجَهْلِ وَالْفِتَنِ
أَبْحَرَتْ في طَيشِ زَوْبَعَةٍ
لَمْ تَصِلْ ميناءَها سُفُني
تَتَهاوى الآنَ أشْرِعَتي
في عِراقِ الْمَجْدِ وَالْيَمَنِ
وَدُموعُ الْقُدْسِ هادِرَةٌ
فَوْقَ خَدِّ الْعالَمِ الْخَشِنِ
وَمُروجُ الشّامِ بِئْرُ أسًى
تَرْتَدي ثَوْبًا مِنَ الْحَزَنِ
مِنْ مَعينِ الْعَيْنِ أَدْمُعُها
دَمُها الشّلّالُ في سَنَنِ
تونسُ الْخَضْراْءُ شاحِبَةٌ
وَحِصانُ الفَجْرِ بِالرَّسَنِ
(ص: 40 ـ 41)
تصطدم الذات بدوامة الدمار والخراب التي لا تنتهي, التاريخ يعيد نفسه والدمار يرجع مرة أخرى إلى العراق والشام وينتشر في أرجاء الوطن العربي, يقول الشاعر:
قَدْ عادَنا ” هولاكو ” بِصُحْبَتِهِ
مُرْتَزِقُ الإسْمِ مِنْ أبي لَهَبِ
لِيَحْرِقَ الْأَرْضَ والسَّماءَ بِنا
يَصُبّ نارَ الْغَباءِ في الْكُتُبِ
إنَّ بِلادي تَهْوي عَلى عَجَلٍ
وَحُمْقُ قَوْمٍ يَزيدُ مِنْ غَضَبي
(ص: 63 ـ 64)
الأحلام بديل مؤقت عن واقع البعد عن الوطن واستمرار احتلاله وتبدد يقين العودة والأمن والسلام, يجد الشاعر نفسه تائها, منقادا وراء طائر الأحلام, لكنه يرتاب ويتوجس من أحلامه ويخاف أن تنتهي نهاية مأساوية, لأنه لا يعرف إلى أين تتجه به, كل ما يدركه هو حدود واقعه الضيقة, ولا صور تثير الخيال.. يقول في قصيدة: “يا طائر الأحلام”:
يا طائرَ الْأحْلامِ أيْنَ تَقودُني
وَأنا الضّريرُ
في غُرْفَتي الظّلْماءِ أعْرِفُ مَنْ أنا
هذا سَريري. حَوْلَهُ الْأشْياءُ قُرْبَ يَدي
وَأوْجاعي مُرَتّبَةٌ
وَذاكِرَتي مُهَمّشَةٌ بِدُرْجي
ولكنه لا يفقد الأمل في الحلم, ينتظر بكل يقين أن يتحقق, يقول في قصيدة: “ألا أيها الخيل من طوعك”:
ألا أَيُّها الْخَيْلُ لا بُدَّ لِلْحُلْمِ أَنْ يَهْزِمَ الْوَهْمَ كَيْ أُرْجِعَكْ
لا لحن إلا لحن الوطن ورنة الحنين إليه, كل هذه السنين الخالية والآتية يظل مفتاح القدس معلقا بين العيون, بعزم كبير وصبر لا يعرف الملل وولاء للأرض التي أنجبتهم, يسير أبناء هذا الوطن الجريح إلى فلسطينهم, والأمل يضيء طريق العودة التي لا محالة متحققة, يقول الشاعر في قصيدة “جواب القصيدة” التي أعتبرها نشيدا وطنيا:
وَتَمْضي السِّنونَ وَمِفْتاحُنا
نُعَلِّقُهُ حُلُمًا في الْمُقَلْ
نَسيرُ بِعَزْمٍ لِأَوْطانِنا
وَلا يَعْرِفُ الصَّبْرُ فينا الْمَلَلْ
سَنَرْجِعُ نَحْوَ فِلِسْطيننا
يُضيءُ لَنا الدَّرْبَ نورُ الْأَمَلْ
(ص:67 ـ68)
عديدة المعاني والدلالات التي تكشف عن هذه الوطنية العميقة في الديوان, وعديدة أيضا الأساليب التي اعتمدها خالد شوملي في تعبيره الشعري عن قضاياه وأفكاره ومشاعره, ومنها الحكمة, حيث يوقد الشاعر مصابيح الحكمة والمثل العليا في شعره, ليهتدي بنورها أبناء الوطن وأحرار العالم في طريقهم إلى تحرير أوطانهم والخروج بها من مستنقعات الاستعمار والجهل والتنافر والاقتتال, وإعادة بنائها على أسس المحبة والتواصل والعدل والسلام … تارة بلهجة الانتقاد الشديد, وتارة بالتوجيه والنصح والإرشاد للحث على النضال وتصحيح عالم الصداقة والتعامل الإنساني الراقي ورأب الصدع بين الإخوة الخصوم…
ولأن الشعر إنجاز لغوي وجمالي, فإن شعر خالد شوملي يحقق متعة جمالية كبيرة, بما يعتمده من خصائص فنية وأساليب متنوعة, غير أنني سأكتفي بالإشارة إلى بعضها لأن دراسة الخصائص الفنية في ديوان “ضيق منفاك” تحتاج إلى وقفة طويلة ومتأنية.
كتب الشاعر في القصيدة العمودية, وقصيدة التفعيلة, في وقت يعرف فيه الشعر موجة عارمة من تجديد الأشكال الشعرية والخروج عن قواعد القصيدة العمودية, وهذا يدل على أن الشاعر يتمتع بالحرية الكاملة والوعي والميول الفني والجمالي لاختيار الشكل الفني المناسب لاحتواء مادته الإبداعية, إضافة إلى قناعته بأن القصيدة العمودية لم تستنفذ بعد طاقتها التعبيرية, فهي قادرة على استيعاب المضامين الجديدة التي يفرضها الواقع العربي والإنساني عامة, من قضايا الأوطان والإنسان والإنسانية والوجود…
شعر الشاعر متجدد بما يضفيه عليه من أحاسيس وأفكار ومواقف وإبداع وتشكيل لغوي وتصوير بلاغي وإيقاعات موسيقية تنسجم مع انفعالاته ومواضيعه, وتؤثر في النفس عميقا.
وقد أولى الشاعر خالد شوملي عناية خاصة للكفاية الشعرية وحدد تصوره عن النص الشعري وأوصافه والحرية في كتاباته, ونجد ذلك في عدد من القصائد: “النص يكتب نفسه” (ص:25), وقصيدة “النص يولد عاريا” وقصيدة “ويُكتب الشعر”( ص:29).
إبداع الشاعر خالد شوملي متجدد وخاص, له بصمته الإبداعية التي تميزه عن غيره من المبدعين, يكتب عن إدراك ويقين بنضج تجربته الشعرية, وبأن مواضيعه متجددة لم تستهلك, يقول في قصيدة “قطاف”:
يا صاحِبي الأشْعارُ حانَ قِطافُها
فَثِمارُها أَسْقَيْتُها دَمْعَ الْمُقَلْ
مِنْ أَلْفِ عامٍ قيلَ أَلْفُ قَصيدَةٍ
لكِنَّ أُغْنِيَةً لِشَعْبِيَ لَمْ تُقَلْ
(ص: 60)
ويقول في قصيدة “لن يفهمني أحد” ص: 21:
فَأنا الْمُتَجَدِّدُ في لُغَتي
الْمُتَنَهِّدُ مَعْ نَفَسِ الْبُرْكانِ
(ص:21)
لغة الشاعر أنيقة تتميز بخصائص مختلفة, نجده يعبر عن ارتباطه بوطنه بلغة الحب والحنين الشفيفة, يقول في قصيدة “حنين”:
تَبوحُ الرّوحُ سِرًّا أوْ جِهارًا
فَحُبُّكِ ساطِعٌ فَوْقَ الْجَبينِ
وَلا أنْساكِ حَتّى في مَنامي
فَهذا الْحُبُّ يَجْري في الْوَتينِ
(ص:70)
ويعتمد لغة إيحائية رمزية تصويرية عندما يعبر عن المعاني البعيدة العميقة لتكثيف دلالة عمق جراح المنفى والبعد عن الوطن, وبشاعة الخيانة والمآمرة والجرائم المرتكبة على أرض الوطن..
وأختم هذه القراءة ببطاقة وطنية من قصيدة “ضيق منفاك” يصل فيها حب الوطن إلى الذروة عندما تصبح العودة مطلبا مقدسا, حيث أرض الوطن تبعث الحياة والروح في جسد الشاعر في حالة عودته إليها في كفنه, يقول الشاعر:
أَيُّ حُلْمٍ سَوْفَ يَحْمِلُني
بُلْبُلًا حُرًّا إلى غُصُني
بَيْنَنا شَوْقٌ وذاكِرَةٌ
وَهَوىً في السِّرِّ وَالْعَلَنِ
حاضِرٌ في كُلِّ أُغْنِيَةٍ
عابِرُ التّاريخِ وَالزَّمَنِ
وَطَني إنْ عُدْتُ في كَفَني
سَتَدِبُّ الرّوحُ في الْبَدَنِ
وَطَني في الْمَجْدِ عِشْ أَبَدًا !
فأَنا لَوْلاكَ لَمْ أَكُنِ
د. زهور بن السيد