قال أبو العباس في كتابه ” أغلى الأنفاس في أخبار وأحوال الناس“: سافرنا، أنا والْخَليفة هارون الرشيد، إلى مكةَ الْمُكرّمة لنحُجَّ معا. وكنت ألازمه كظلِّه، لا أفارقه في حَلِّه وتَرْحالِه، إلا ليلا عندما يريد أن يَخْلُد للنوم!..وكان لايثق إلا في شخصي، ولايُفْشي سِرا كبيرا أوصغيرا إلا لِهذا العبد الفقير، ولايُخْفي عني شاذّة ولافاذّة. ولِهذا حسدني الكثيرون من حاشيته، وكَنّوا لي حقدا دفينا. لكن، والْحَقيقة تُقال، ظل يُحبني ويقرِّبني إلى مَجْلسه، ويتغاضى عن حُسادي، إلى أن لفظ نفسَه الأخير، رحمه الله، وأسكنه فسيحَ جِنانِه!..وياما تساءل عامّة الناس وخاصّتهم عن هذا الحب الكبير الذي جَمَعنا، نَحنُ الاثنين، حتى كادوا يَجْزمون بأنني سَحَرْتُ له، فملكتُ قلبه وعقله. وكنت بِما رزقني الله سبحانه من عقل وصبر وحكمة ونباهة، أتَجاهَلُهُم تَماما، فأعمل نفسي كأنّي لا أسْمَع، مكتفيا في الرَّد عليهم بقولِي: ذلك فضل الله يؤْتيه من يشاء!
ماعلينا، وحتى لاأطيلَ، أختصر لكم بِما قلَّ ودلَّ، ذلك أننـي ذات ليلة، بينما أنا في غرفتي، أغِطُّ في نوْمتي، إذا بي أسْمَع طَرْقا خَفيفا متَتابعا على الباب، فنهضت فَزِعا صائحا:
ـ مَنِ الطارق في هذا الْهَزيع الأخير من الليل؟!
أجابني بصوت حادٍّ:
ـ اِفْتَحْ، يَأَبا العبّاس، أنا هارون الرشيد؟!
فتحت البابَ غيرَ مُصَدِّق، ويداي ترتعشان:
ـ مَنْ أرى؟!..ولِيُّ نِعْمَتي الْخَليفة بلحمه وشحمه!
قال لي مضطربا:
ـ واللهِ، لَمْ يعد لِجِسمي لالَحْم ولاشحْم!..أغلقِ البابَ بالْمِرْتاج، وتعالَ إلى جَنْبي أسْتَشِرْكَ في أمر خطير!
أحْكَمْتُ إغلاقَ الباب داعيا:
ـ اللهُمَّ أسْمِعْنا خيرا!..لِماذا لم تُرْسلْ إليَّ فآتيَك قبل أن يرتَدَّ إليك طَرْفُك؟!
ـ اِسْمَعْني، يَأبا العباس، هذا ليس وقت الكلام والْمَلام!
قاطعته، وما عادتي أن أقاطع سيدي، ثُمّ أخرجت سيفي من الْغِمْدِ، وأشْهَرْتُهُ في الْهَواء:
ـ أفديك بدمي وروحي، وبسيفي أصُدُّ عنك من تُسَوِّل له نفسُه أن يَمَسَّك ولو بكلمة!
عانقني قائلا:
ـ أعرف يقينا أنك تفعلها، فليس لي في هذه الْحَياة من الْمُخْلصين سواك!..أين أمثالُك، يأبا العباس؟!..أنت عُمْلة صعبة في هذا الزمان الرديء، وما جئتك إلا لِتفْتِيَ عليّ ماينبغي عَمَلُهُ!..لقد رأيت في مايرى النائم، أنني أركب في بطن طائر ضخم من حديد، وورائي يقعد الوزراء والوُجَهاء والكُبَراء في غاية السرور والْحبور، كأننا جَميعا مدعوون إلى عُرْس. وفجأة، جاءتني شابة بيضاء رشيقة، مثل عود البانِ، وهَمَسَتْ في أُذني بصوت رقيق، ووجهٍ ضاحك كالقمر الْبَهِي في عِزِّ الربيع:
ـ مرحبا بك في طائرة الْعالِ!
سألتها ذاهلا:
ـ أجيبيني، يابْنَتي: هل يصحبها ذَكَرُها الطائر، كما تصحبني زوجتي زُبَيْدة بنتُ جعفر؟!
أجابتني ضاحكة:
ـ هذه مركبة تطير وتسير بسرعة فائقة في السماء، وليست حيوانا جويا، كما يُخَيَّل لك!..اُنظرْ من هناك!
اِلْتَفتُّ يَميني، فرأيت شُبّاكا زجاجيا صغيرا تتسلل منه أشعة الشمس. اقتربت قليلا، فشاهدت تَحْتي سُحبا وبَحرا وجبالا وسهولا كأنَّها لعب أطفال!..ثُمَّ سَمِعت صوتا ناعِما يقول:
ـ ارْبطوا أحزِمة الأمان، فالطائرة ستنزل بِمَطار القدْس الدولي!
ولَما توقّف بنا الطائر فوق الأرض، انفتح الباب وحده، ياسُبْحانَ الله!..فطقطقتُ عظامي، وقمتُ أنا الأول، ونزلت سُلّما، فبهرَنِي أن أرى حُشودا من بنِي قُرَيْظةَ، وبنِي قَيْنُقاع، وبنِي النَّضير، يصفقون لي، ويهتفون بحياتي، ويرحبون بي، حتى شعرت بِخدَّيَّ يتورّدان خَجلا!
لكن الذي أطار عقلي، هو أن هؤلاء ليسوا مقدِسيِّين، يرتدون سراويل طويلة، وقُمصانا ضيقة، تتدلى من أعناقهم خِرَق ملونة، كأنّها حبل من مَسَدٍ. ويتكلمون لغاتٍ مُخْتلفة، غيرَ العربية، ماسَمِعت بِها من قبلُ ولامن بعدُ!
قال أبو العباس: لَمْ أشعرْ إلا وأنا أقاطعه:
ـ ألا يكون كلُّ هذا الذي شاهدته مُجرَّدَ أضْغاثِ أحلام؟..لا تنس أنك البارحة في العشاء، أكثرت من صَرْط اللحم بلامَضْغ، حتى كِدْت تَغُص، لو لَمْ أُبادِرْ إلى ضربة بيد الرحْمة على قَفاك!
اِعْتَرض جازِما:
ـ لا، لايذهب عقلك بعيدا، يأبا العَباس، دَعْني أُكْمِلْ، تَرَ عَجَبا عُجابا!.. ثُمّ تقدموا مني واحدا واحدا مادِّين أيْدِيَهُم ليسلموا عليَّ ويعانقوني، وهم يبُشّون ويَهُشّون، ويَحملون باقاتٍ من الورود والزهور الْعَبِقة، فأشار إليّ أحدُهم برأسه ألاّ أعملَ، وفعلا لَمْ أعْمَلْ، لأن قلبي أعلَمني أن في كل هذه الْبَهْرجة سِرّا خفيا، وأن ذلك الذي حرّك لي رأسه يبدو عربيا من لونه، وقسمات وجهه، ولباسه، ينادونه بـ)صلاح(!..الْمُهِم أن يدي لَمْ تلمَس يدا منهم، ظلت نقيةً إلى أنِ استيقظت من نومي، وتَخلّصتُ من حلمي!
ـ وأين تكْمُنُ الْمُشْكلة، وأنت لَمْ تُعَبِّرْهُم بالْمَرّة؟!
ـ اِصْبِرْ صَبْرا جَميلا، ولاتَكُنْ عَجولا، سآتيك بالبقية!..سرتُ بين الْحُشود، منكَّسَ الرأس، ذابلَ العينين، مكسورَ الخاطر، لا أدري من أين تسلّطتْ عليّ هذه الْمُصيبة؟!..ووجدتُني في غرفة فخمة، مستطيلة الْحَجم، لَها أربعة جدران لانِهاية لَها، تليق بِمَقامي كخليفة الله على أرضه. وتتوسّطها زربية عثمانية، وأرائك يونانية، وموائد جِرْمانية، عليها أباريق وأكواب فضية، وفواكه شهية، وهاتِ يالَحمَ نَعام وحَمام!
وفي إحدى زواياها وُضِع صندوق صغير مستطيل الشكل، وجهه من بِلَّور. بين الفينة والأخرى، يُظْهِرني هابِطا سُلَّمَ الطائر الْحَديدي، والشاعر السَّمَوأل يَمْدحني، ويدعو كافّة الْخُلفاء أن يَقْتدوا بي فيصِلوا الرّحِمَ بأهله ويُطَبِّعوا معهم. وهذا إن دل على شيء، فإنّما يدل على أنّهم بارعون في فن السِّحر، إذ كيف يحملني الطائر في بطنه، أنا ووزرائي؟!..وكيف يُصَغِّرونني، ويظهرونني على شاشة ذلك الصندوق، أنا الخليفة هارون الرشيد، ومن لايعرفه من أدنى الأرض إلى أقصاها؟!.. ثم كيف يستنسخون السَّمَوْأل ليَمْدحني، وهو الذي عاشَ في العصر الجاهلي؟!..لالا، يَأَبا العباس، علينا، عندما نرجع من مكةَ إلى بغدادَ، أن نُعيد النظر في ما نلقِّنه لأبنائنا، فِلْذاتِ أكبادنا، فلا أظن أن عاقلا يقبل أن يطير بنو قريظة في السماء، بينما، نَحنُ أمّةَ اِقرأْ، نسير على الأرض!
اِنفرجتْ شفتاي عن ابتسامة خفيفة:
ـ ولكن، سيدي، هذا ليس إلا حلما!..فلاتَعْبأ به، وتشغل بالَك، فتحرِمَ نفسَك النومَ!
ـ يبدو لي أنك لم تسمع ماقاله الأوّلون؟!
ـ أفِدْني، سيدي، ماذا قالوا؟!
ـ مَنْ خَلُصَتْ نِيتُهُ، صَدُقَتْ رُؤْيَتُهُ!
أطرقتُ أفكر، وأُدير في رأسي الفكرةَ تلو الأخرى، إلى أن لَمَع ببالي أن الأمر، فعلا، خطير، لاينبغي السكوت عنه:
ـ سيدي!..ليس لِهَذا الْحُلم إلا تفسير واحد، مادامت نيتك خالصة، وهو أن فلسطين ستُحْتَلُّ، لكن عينك بصيرة ويدك قصيرة!
سألني باحتداد:
ـ ماذا تقول، يأبا العباس؟!..أهناك في هذه الدنيا مايستحيل على هِمّة الخليفة هارون الرشيد؟!..تبّتْ يدايَ مثلما تبَّتْ يدا أبِي لَهَب، وأُصْلى نارا ذاتَ لَهَب، إن لَمْ أحْمِ أرضَ العرب!
طأطأتُ رأسي، وأجبته بصوت خافت:
ـ لالا، سيدي!..إن الْحُلم لايعنيك الآن، ولن يقع منه شيء في عصرك الزاهر، وإنّما يبشِّرك بأن زمَنا بعيدا سيأتي، فتجتمع فيه القبائل التي رأيتَها، لتحتل فلسطينَ كلَّها، وتطردَ سكانَها، وتشتتَهم على سائر البلدان العربية والإفرنْجية. والباقي منهم تعذبه وتسجنه تارة، تنفيه تارة وتُقيم عليه الْحصارَ تارة، على مَرْأى ومَسْمَع من العالْمِ!..فقِرَّ عَيْنا، وطِبْ نفسا، سيدي، لن ترى في عهدك مايَهُمُّك ويَغُمُّك، أويُلْحقُ بك أذًى، وردِّدْ مع الشاعر امْرِئ القيس:“اليوم خَمرٌ وغدا أمرٌ“.
ـ والله لن يهدأ لي خاطر، حتى أطمئنَّ على حال أمّتي، سواء في هذا العصر أوالعصور القادمة!
قال أبو العباس: ونَحنُ كذلك، كلمة مني،كلمة منه، إذ بشبح شخص يتسلل من الْجِدار، فراعنا شكله ولونه. وبقينا قاعدين في مكاننا، نُمْعنُ النظرَ إليه في دهشة وذهول، وننتظر ماذا سيفعل، وماذا سيقول؟!
وفي رواية أخرى، قرأت أن أبا العباس، لَمّا لَمَح الشبح، ارْتعدت فَرائصه، فطار من موضعه، واختبأ وراء الخليفة هارون الرشيد، الذي صرخ في وجهه حانقا:
ـ أين حَماستُك وشجاعتُك وبطولتك، يأبا العباس؟!.. وأين حُسامُك الْحادُّ؟!..مالك تَختبئ خلفي كالصبي الْمَذعور؟!
أجابه مُتَمْتِما:
ـ إن سيفي يَحْسِم الأمورَ مع الإنسان، لامع الْمَلائكة والْجان!
ماعلينا، لنكملْ حديثنا:
أخرج الشبحُ كتابا أبيضَ ناصعا، وسأل:
ـ مَنْ مِنْكُما هارون الرشيد، أيها الرجلان؟!
أظهر أبوالعباس رأسه، وأشار إلى الخليفة:
ـ ها..هو..سيدي!
قال هارون الرشيد مستغربا:
ـ أتَخَذِلُني، يَأَبا العَباس، وأنا ولِيُّ نعمتك؟!
نطق الشبح بصوت عال:
ـ اِنْطِقْ بالشهادة، يارجل، فأنا مَلَك الْمَوتِ!
قال أبو العباس:
ـ واللَّهِ لم أرَ في حياتِي دمعةً تنزل من عين هارون الرشيد إلافي تلك الليلة، عندما أخذ يتوسل إلى الْمَلَك أن يأخذَنِي بدلا منه، أو يرفقَ به، فيتركَه حيا إلى ذلك الزمان البعيد الذي سيأتي، ليحميَ فلسطين من القبائل الغازية. فاعترض الْمَلَك قائلا:
ـ كن عاقلا، يارجل!..لا تستطيع أن تظل حَيا، تنتقل من عصر إلى عصر، والأجيالُ تولد وتفنى، حتى تَحُلَّ نكبة 1948 ثُمّ نكسة1967 لأن كل نفس لَها أجَل مَحْدود لايُؤخَّر، ولوكان صاحبُها مَنْ كان!..فقيرا أوغنيا، قويا أوضعيفا، عالِما أوجاهلا!..قال تعالَى: “إذا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ“..عَجِّلْ حينا بالشهادة، قبل أن ينفَدَ صبري، فهناك أرواح أخرى تنتظرني الليلةَ في اليمن وبُخارى والْهند وزانْجِبار والْحَبشة وصقلية!
وأحس هارون الرشيد بِحَشْرجة في حلقه، فأدرك أن خَدَر الْمَوت يسري في أوصاله، وألا مَفَر منه، مصداقا لقوله تعالى: “أينما تكونوا يُدْركْكُمُ الْمَوْتُ“. حينئذ لَمْ يَسَعْه إلا أن ينبس بشفتيه: فلسطين، فلسطين، فلسطين!..أي نعم، ثلاثَ مرات، وعيناه تغرورقان بالدموع، ثم نطق بالشهادة، وأسلم روحه إلى بارئها!..وتلك كانت وفاته، كما حضرتُها بنفسي وشاهدتُها بعينِي، ليلةَ السبتمُستهَلَّ جُمادى الآخرة، سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومائةٍ، عن خَمسٍ وأربعين سنةً!
فهل حقاًّ سيتحقق حلمُ هارون الرشيد، فتَحتَلّ القبائلُ السالفةُ الذِّكْرِ فلسطينَ؟..وهل ستتَوحّد كلمة العرب ليُحرِّروها من أبناء عُمومتهم؟!..هذا ما لاعِلْمَ لي به، لأنه من أحداث الْمُستقبل الذي لايعلمه إلا الله سبحانه!
ماعلينا، وحتى لاأطيلَ، أختصر لكم بِما قلَّ ودلَّ، ذلك أننـي ذات ليلة، بينما أنا في غرفتي، أغِطُّ في نوْمتي، إذا بي أسْمَع طَرْقا خَفيفا متَتابعا على الباب، فنهضت فَزِعا صائحا:
ـ مَنِ الطارق في هذا الْهَزيع الأخير من الليل؟!
أجابني بصوت حادٍّ:
ـ اِفْتَحْ، يَأَبا العبّاس، أنا هارون الرشيد؟!
فتحت البابَ غيرَ مُصَدِّق، ويداي ترتعشان:
ـ مَنْ أرى؟!..ولِيُّ نِعْمَتي الْخَليفة بلحمه وشحمه!
قال لي مضطربا:
ـ واللهِ، لَمْ يعد لِجِسمي لالَحْم ولاشحْم!..أغلقِ البابَ بالْمِرْتاج، وتعالَ إلى جَنْبي أسْتَشِرْكَ في أمر خطير!
أحْكَمْتُ إغلاقَ الباب داعيا:
ـ اللهُمَّ أسْمِعْنا خيرا!..لِماذا لم تُرْسلْ إليَّ فآتيَك قبل أن يرتَدَّ إليك طَرْفُك؟!
ـ اِسْمَعْني، يَأبا العباس، هذا ليس وقت الكلام والْمَلام!
قاطعته، وما عادتي أن أقاطع سيدي، ثُمّ أخرجت سيفي من الْغِمْدِ، وأشْهَرْتُهُ في الْهَواء:
ـ أفديك بدمي وروحي، وبسيفي أصُدُّ عنك من تُسَوِّل له نفسُه أن يَمَسَّك ولو بكلمة!
عانقني قائلا:
ـ أعرف يقينا أنك تفعلها، فليس لي في هذه الْحَياة من الْمُخْلصين سواك!..أين أمثالُك، يأبا العباس؟!..أنت عُمْلة صعبة في هذا الزمان الرديء، وما جئتك إلا لِتفْتِيَ عليّ ماينبغي عَمَلُهُ!..لقد رأيت في مايرى النائم، أنني أركب في بطن طائر ضخم من حديد، وورائي يقعد الوزراء والوُجَهاء والكُبَراء في غاية السرور والْحبور، كأننا جَميعا مدعوون إلى عُرْس. وفجأة، جاءتني شابة بيضاء رشيقة، مثل عود البانِ، وهَمَسَتْ في أُذني بصوت رقيق، ووجهٍ ضاحك كالقمر الْبَهِي في عِزِّ الربيع:
ـ مرحبا بك في طائرة الْعالِ!
سألتها ذاهلا:
ـ أجيبيني، يابْنَتي: هل يصحبها ذَكَرُها الطائر، كما تصحبني زوجتي زُبَيْدة بنتُ جعفر؟!
أجابتني ضاحكة:
ـ هذه مركبة تطير وتسير بسرعة فائقة في السماء، وليست حيوانا جويا، كما يُخَيَّل لك!..اُنظرْ من هناك!
اِلْتَفتُّ يَميني، فرأيت شُبّاكا زجاجيا صغيرا تتسلل منه أشعة الشمس. اقتربت قليلا، فشاهدت تَحْتي سُحبا وبَحرا وجبالا وسهولا كأنَّها لعب أطفال!..ثُمَّ سَمِعت صوتا ناعِما يقول:
ـ ارْبطوا أحزِمة الأمان، فالطائرة ستنزل بِمَطار القدْس الدولي!
ولَما توقّف بنا الطائر فوق الأرض، انفتح الباب وحده، ياسُبْحانَ الله!..فطقطقتُ عظامي، وقمتُ أنا الأول، ونزلت سُلّما، فبهرَنِي أن أرى حُشودا من بنِي قُرَيْظةَ، وبنِي قَيْنُقاع، وبنِي النَّضير، يصفقون لي، ويهتفون بحياتي، ويرحبون بي، حتى شعرت بِخدَّيَّ يتورّدان خَجلا!
لكن الذي أطار عقلي، هو أن هؤلاء ليسوا مقدِسيِّين، يرتدون سراويل طويلة، وقُمصانا ضيقة، تتدلى من أعناقهم خِرَق ملونة، كأنّها حبل من مَسَدٍ. ويتكلمون لغاتٍ مُخْتلفة، غيرَ العربية، ماسَمِعت بِها من قبلُ ولامن بعدُ!
قال أبو العباس: لَمْ أشعرْ إلا وأنا أقاطعه:
ـ ألا يكون كلُّ هذا الذي شاهدته مُجرَّدَ أضْغاثِ أحلام؟..لا تنس أنك البارحة في العشاء، أكثرت من صَرْط اللحم بلامَضْغ، حتى كِدْت تَغُص، لو لَمْ أُبادِرْ إلى ضربة بيد الرحْمة على قَفاك!
اِعْتَرض جازِما:
ـ لا، لايذهب عقلك بعيدا، يأبا العَباس، دَعْني أُكْمِلْ، تَرَ عَجَبا عُجابا!.. ثُمّ تقدموا مني واحدا واحدا مادِّين أيْدِيَهُم ليسلموا عليَّ ويعانقوني، وهم يبُشّون ويَهُشّون، ويَحملون باقاتٍ من الورود والزهور الْعَبِقة، فأشار إليّ أحدُهم برأسه ألاّ أعملَ، وفعلا لَمْ أعْمَلْ، لأن قلبي أعلَمني أن في كل هذه الْبَهْرجة سِرّا خفيا، وأن ذلك الذي حرّك لي رأسه يبدو عربيا من لونه، وقسمات وجهه، ولباسه، ينادونه بـ)صلاح(!..الْمُهِم أن يدي لَمْ تلمَس يدا منهم، ظلت نقيةً إلى أنِ استيقظت من نومي، وتَخلّصتُ من حلمي!
ـ وأين تكْمُنُ الْمُشْكلة، وأنت لَمْ تُعَبِّرْهُم بالْمَرّة؟!
ـ اِصْبِرْ صَبْرا جَميلا، ولاتَكُنْ عَجولا، سآتيك بالبقية!..سرتُ بين الْحُشود، منكَّسَ الرأس، ذابلَ العينين، مكسورَ الخاطر، لا أدري من أين تسلّطتْ عليّ هذه الْمُصيبة؟!..ووجدتُني في غرفة فخمة، مستطيلة الْحَجم، لَها أربعة جدران لانِهاية لَها، تليق بِمَقامي كخليفة الله على أرضه. وتتوسّطها زربية عثمانية، وأرائك يونانية، وموائد جِرْمانية، عليها أباريق وأكواب فضية، وفواكه شهية، وهاتِ يالَحمَ نَعام وحَمام!
وفي إحدى زواياها وُضِع صندوق صغير مستطيل الشكل، وجهه من بِلَّور. بين الفينة والأخرى، يُظْهِرني هابِطا سُلَّمَ الطائر الْحَديدي، والشاعر السَّمَوأل يَمْدحني، ويدعو كافّة الْخُلفاء أن يَقْتدوا بي فيصِلوا الرّحِمَ بأهله ويُطَبِّعوا معهم. وهذا إن دل على شيء، فإنّما يدل على أنّهم بارعون في فن السِّحر، إذ كيف يحملني الطائر في بطنه، أنا ووزرائي؟!..وكيف يُصَغِّرونني، ويظهرونني على شاشة ذلك الصندوق، أنا الخليفة هارون الرشيد، ومن لايعرفه من أدنى الأرض إلى أقصاها؟!.. ثم كيف يستنسخون السَّمَوْأل ليَمْدحني، وهو الذي عاشَ في العصر الجاهلي؟!..لالا، يَأَبا العباس، علينا، عندما نرجع من مكةَ إلى بغدادَ، أن نُعيد النظر في ما نلقِّنه لأبنائنا، فِلْذاتِ أكبادنا، فلا أظن أن عاقلا يقبل أن يطير بنو قريظة في السماء، بينما، نَحنُ أمّةَ اِقرأْ، نسير على الأرض!
اِنفرجتْ شفتاي عن ابتسامة خفيفة:
ـ ولكن، سيدي، هذا ليس إلا حلما!..فلاتَعْبأ به، وتشغل بالَك، فتحرِمَ نفسَك النومَ!
ـ يبدو لي أنك لم تسمع ماقاله الأوّلون؟!
ـ أفِدْني، سيدي، ماذا قالوا؟!
ـ مَنْ خَلُصَتْ نِيتُهُ، صَدُقَتْ رُؤْيَتُهُ!
أطرقتُ أفكر، وأُدير في رأسي الفكرةَ تلو الأخرى، إلى أن لَمَع ببالي أن الأمر، فعلا، خطير، لاينبغي السكوت عنه:
ـ سيدي!..ليس لِهَذا الْحُلم إلا تفسير واحد، مادامت نيتك خالصة، وهو أن فلسطين ستُحْتَلُّ، لكن عينك بصيرة ويدك قصيرة!
سألني باحتداد:
ـ ماذا تقول، يأبا العباس؟!..أهناك في هذه الدنيا مايستحيل على هِمّة الخليفة هارون الرشيد؟!..تبّتْ يدايَ مثلما تبَّتْ يدا أبِي لَهَب، وأُصْلى نارا ذاتَ لَهَب، إن لَمْ أحْمِ أرضَ العرب!
طأطأتُ رأسي، وأجبته بصوت خافت:
ـ لالا، سيدي!..إن الْحُلم لايعنيك الآن، ولن يقع منه شيء في عصرك الزاهر، وإنّما يبشِّرك بأن زمَنا بعيدا سيأتي، فتجتمع فيه القبائل التي رأيتَها، لتحتل فلسطينَ كلَّها، وتطردَ سكانَها، وتشتتَهم على سائر البلدان العربية والإفرنْجية. والباقي منهم تعذبه وتسجنه تارة، تنفيه تارة وتُقيم عليه الْحصارَ تارة، على مَرْأى ومَسْمَع من العالْمِ!..فقِرَّ عَيْنا، وطِبْ نفسا، سيدي، لن ترى في عهدك مايَهُمُّك ويَغُمُّك، أويُلْحقُ بك أذًى، وردِّدْ مع الشاعر امْرِئ القيس:“اليوم خَمرٌ وغدا أمرٌ“.
ـ والله لن يهدأ لي خاطر، حتى أطمئنَّ على حال أمّتي، سواء في هذا العصر أوالعصور القادمة!
قال أبو العباس: ونَحنُ كذلك، كلمة مني،كلمة منه، إذ بشبح شخص يتسلل من الْجِدار، فراعنا شكله ولونه. وبقينا قاعدين في مكاننا، نُمْعنُ النظرَ إليه في دهشة وذهول، وننتظر ماذا سيفعل، وماذا سيقول؟!
وفي رواية أخرى، قرأت أن أبا العباس، لَمّا لَمَح الشبح، ارْتعدت فَرائصه، فطار من موضعه، واختبأ وراء الخليفة هارون الرشيد، الذي صرخ في وجهه حانقا:
ـ أين حَماستُك وشجاعتُك وبطولتك، يأبا العباس؟!.. وأين حُسامُك الْحادُّ؟!..مالك تَختبئ خلفي كالصبي الْمَذعور؟!
أجابه مُتَمْتِما:
ـ إن سيفي يَحْسِم الأمورَ مع الإنسان، لامع الْمَلائكة والْجان!
ماعلينا، لنكملْ حديثنا:
أخرج الشبحُ كتابا أبيضَ ناصعا، وسأل:
ـ مَنْ مِنْكُما هارون الرشيد، أيها الرجلان؟!
أظهر أبوالعباس رأسه، وأشار إلى الخليفة:
ـ ها..هو..سيدي!
قال هارون الرشيد مستغربا:
ـ أتَخَذِلُني، يَأَبا العَباس، وأنا ولِيُّ نعمتك؟!
نطق الشبح بصوت عال:
ـ اِنْطِقْ بالشهادة، يارجل، فأنا مَلَك الْمَوتِ!
قال أبو العباس:
ـ واللَّهِ لم أرَ في حياتِي دمعةً تنزل من عين هارون الرشيد إلافي تلك الليلة، عندما أخذ يتوسل إلى الْمَلَك أن يأخذَنِي بدلا منه، أو يرفقَ به، فيتركَه حيا إلى ذلك الزمان البعيد الذي سيأتي، ليحميَ فلسطين من القبائل الغازية. فاعترض الْمَلَك قائلا:
ـ كن عاقلا، يارجل!..لا تستطيع أن تظل حَيا، تنتقل من عصر إلى عصر، والأجيالُ تولد وتفنى، حتى تَحُلَّ نكبة 1948 ثُمّ نكسة1967 لأن كل نفس لَها أجَل مَحْدود لايُؤخَّر، ولوكان صاحبُها مَنْ كان!..فقيرا أوغنيا، قويا أوضعيفا، عالِما أوجاهلا!..قال تعالَى: “إذا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ“..عَجِّلْ حينا بالشهادة، قبل أن ينفَدَ صبري، فهناك أرواح أخرى تنتظرني الليلةَ في اليمن وبُخارى والْهند وزانْجِبار والْحَبشة وصقلية!
وأحس هارون الرشيد بِحَشْرجة في حلقه، فأدرك أن خَدَر الْمَوت يسري في أوصاله، وألا مَفَر منه، مصداقا لقوله تعالى: “أينما تكونوا يُدْركْكُمُ الْمَوْتُ“. حينئذ لَمْ يَسَعْه إلا أن ينبس بشفتيه: فلسطين، فلسطين، فلسطين!..أي نعم، ثلاثَ مرات، وعيناه تغرورقان بالدموع، ثم نطق بالشهادة، وأسلم روحه إلى بارئها!..وتلك كانت وفاته، كما حضرتُها بنفسي وشاهدتُها بعينِي، ليلةَ السبتمُستهَلَّ جُمادى الآخرة، سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومائةٍ، عن خَمسٍ وأربعين سنةً!
فهل حقاًّ سيتحقق حلمُ هارون الرشيد، فتَحتَلّ القبائلُ السالفةُ الذِّكْرِ فلسطينَ؟..وهل ستتَوحّد كلمة العرب ليُحرِّروها من أبناء عُمومتهم؟!..هذا ما لاعِلْمَ لي به، لأنه من أحداث الْمُستقبل الذي لايعلمه إلا الله سبحانه!