يقول الصوت: من عادات أهل قرية ميناء أن يجتمعوا كل صيف ليلا تحت زيتونة، يتبادلون أطراف الحديث في مواضيع شتى، فيروي كل منهم ما وجد من أخبار وما علم من أحاديث وأن يقص حكايات وأقاويل وقد شاع عن بعض أهل القرية، أن شيوخها كانوا قد خرجوا، إثر غرق عدد كبير من البحارة، منذ عشرين سنة انقضت، ليجتمعوا تحت أقدم شجرة بالقرية، حتى يلتف حولهم الناس، ويستمعوا إلى حكاياتهم وأحاديثهم، فيلهيهم ذلك عن حزنهم، ويدفعهم إلى العمل من جديد، فأصبحت منذ ذلك التاريخ مواسم الحكي عادة من عادات أهل قرية ميناء.
وشاع عن شق آخر من أهل القرية، أن شيوخ القرية كانوا يتداولون بعض الأخبار والأحاديث، قبل ذلك التاريخ، يروونها للأجيال من بعدهم حتى لا تنسى ثم سهوا عن عاداتهم ولم يعودوا إليها إلا بعد تلك الحادثة.
أما عن سلمى فقد كانت تتابع باهتمام مواسم الحكي منذ صغر سنها، تلتقط ما جد وما حدث، وتعيد روايتها على أترابها، وكانت أثناء المواسم تجلس صامتة تتعلم فنون الحكي من شيوخه، ثم انتشرت أخبار تقول إنها تتحدث لغة غريبة، لا أحد يعرف مصدرها، وتروي حكايات لم يسمع عنها من ذي قبل.
وفي صائفة ألفين وإثنين، اجتمع أهل قرية ميناء تحت قدم شجرة، وكانت سلمى قد تهيأت لتروي ما تعلمته، فأمرتها "فاطمة" أن تنسحب من حلقة النساء حتى لا تجلب إليها غضب الساهرين، فغادرت المكان تتبعها ثلة من الفتيات والفتيان الراغبين في سماع حديث لم يسمع من ذي قبل.
مــا قالته سلمى:
تقول سلمى:
ذات يوم أحجم إبني أحمد عن مخاطبتي بالإشارة وأصبح شريد الفكر مهموما، حاولت أن أعلم ما حل به، لكنني عجزت بقيت أرقبه باهتمام، أجلس إليه كل صباح أحدثه بالإشارة، وأسأله عن سبب حزنه وانزوائه، وكان يمتنع عن إجابتي ويطلب مني أن أتركه وحيدا، فما زادني امتناعه غير إلحاح، حتى أصبح يخاطبني بإشارات متعددة، متشعبة المعاني استعصى علي فهمها.
كان لا بد لي أن أتابع ما يدور حولي، علني أفهم معاني الإشارات، فتقبلت الصمت، ودخلت عالم الشكل والحركة، فغابت عني جميع القصص والحكايات التي قضيت أعواما أجمعها، واكتشفت مملكة الحكي خارج ما يسمح به الكلام، لأقرأ لغة أخرى منها يكون بعض من فرحنا وحزننا وبكائنا ولوعتنا.
هذه بعض تفاصيلها:
"تصوروا أن هذه الحياة صامتة، رميت تحت أقدامنا في عالم دون ريح ودون ضجة، دون نغم ودون حس ودون لغة، غريبة عنا لا يعنيها أن تخاطبنا بأية لغة ولا يعنيها أن ترشدنا عن مصيرها.
تصوروا العالم حركة صماء مستمرة تغتالنا دون أن تقول شيئا ! جحيم هي أليس كذلك؟
ترى ما عساها أن تقول لو كتب لها أن تنطق وكتب لنا أن نسمع لغتها؟
لا أعلم كيف استطاع أحمد أن يستنبط الإشارة ليعيد للأشياء لحنها، ويحدثني عنها بلغة المحبة.
لو كتب للعالم أن يكون صامتا يا سادة، لاختلقنا المحبة حتى تكون لغة تجعلنا نتحد، فالإشارة لغة دون صوت وتروي لنا ما يجمع الحجر بالماء، وما كان من الطيور المهاجرة، سحر هي ، إعجاز يفوق معاني ما نقوله بل ويتجاوزها، وهو يبتدع جميع اللغات دون أن يسمعها.
وفي تلك الليلة، كان أحمد جالسا قريبا من سلمى، وكانت من حين إلى آخر ترسل إليه إشارات متعددة، وكان يتابعها والدموع تسيل على خديه.
تقول سلمى:
" حين غاب عني السيد دون سبب، وانقطعت عني أخباره، كنت أرسل إليه مكاتيب دون أن أتلقى منه ردا. لن أقص عليكم ما كان بيني وبينه أيام الشوق والوئام، بل ما حل بي ساعة فراقه، كأنني أصبحت غريبة عن الكون حين فارقت السيد ،ربما لأن لغة الحب هي التي كانت تجمعني بمن حولي.
حين طالت به ليلي السهد والأرق ولم أجد إلى نسيانه طريقا ولا منفذا ولا لألمي نهاية، كان يخيل إلي آنذاك أن الحب وهم وغربتي عن الكون هي الحقيقة الوحيدة، وأحيانا أخرى يبدو لي أن الحب هو الحقيقة الوحيدة وأن غربتي هي الوهم الأكبر. كان لا بد أن أفك رموز السر وأن أتبين أنني كنت أخاطب الكون بلغة غير لغته، وأنه لم يكتب لنا أن نلتقي. مثلت يوما أمام الشجر، أمام الأرض، أمام السماء، دون أن أشعر بحاجة ملحة إلى تسميتها، وحملني الصمت إلى منابع معرفة مدفونة في منذ زمن بعيد كنت أجهلها، فتوضحت لي حروف مكتوبة بلغة أخرى غريبة عني. ومن شدة دهشتي، نسيت السيد ونسيت كل ما تعلمته كأنني فقدت الذاكرة، ثم رويدا رويدا بدأت أتطلع إلى قراءة ما كتب في الكون من حروف.
تقول سلمى:
ألم يدر بخلدكم أن تتساءلوا: ما الذي يجمع الأضداد يا ترى؟
الماء المتدفق والشمس المسافرة؟ أليست الشهوة الصارخة وهي تتدفق، تنتظر الاكتمال دون بلوغه، فتفنى وتتكرر.
ما الذي يجمع عود القصب بالوديان، والسحب بالنهار، والشمس بالبرد والأمطار؟ ما الذي يجمعها جميعا: البحار والرمال، الأرض والجبال؟ أليست المحبة؟
فالهواء حرف، والماء حرف، والأرض حرف، والنار حرف، جميعها اجتمعت بفعل المحبة.
انظروا الى المدى كيف اقترن بالأرض وبالسماء. انظروا الى الشجر، ؟إلى الماء، جميع حروفه مترابطة، ما ترويه لنا الصور من المحبة. ثم انظروا إلى البحر، إلى شواطئه المترامية، إنها تقص عليكم صيرورتها. ألم تروا، أن العين تهيم بما يهبه مشهد الوجود؟ تكاد جميع الكائنات، تنام وتستفيق، على نفس الوتيرة، وهي تقرأ ما لم نقرأه على صفحة السماء، كأنها تسكين وهي تستمع إلى ما يقال لها.
تقول سلمى:
أما عن المحبة فهي سر من أسرار الكون، مثلها مثل الفناء، قوية، عنيدة، شبيهة بالوديان المتدفقة، سر مسكون بالشهوة، يطمح إلى أن يكون، يسيل ليجابه العدم، حتى إذا ما نضب استعاد قوته من جديد، فهو لا يبلي أبدا. نحن لا نعرف من الحروف سوى تلك التي نكتبها، ومن الأصوات سوى تلك التي نطلقها. حروف المحبة، حروف أخرى، لا تخضع لقاموسنا، خيوط لا نراها، تتسرب بين السماء والأرض والنور والريح والماء، كل خيط حامل لرسالة يذرفها على مساحات أخرى. وحروف المحبة شبيهة بالنبل المتأهب لاختراق قلب الوجود، وإذا ما لمسته انطلق ليوحد كل ما تنبض به الحياة من لغة، فحرف المحبة فيه نشوة وغيرة وحمى وجنون، يخترق النظام ليستعمله ويخضعه حتى يكون.
إذا وعظكم حرف المحبة فاتبعوه، فهو الذي يتلف بقايا العدم، كالريح إذا هبت أزاحت عن طريقها أوراق الخريف المتساقطة.
تقول سلمى:
إذا ما أصابكم حرف المحبة كمرض أوهنكم فأنهك قواكم وشل إرادتكم، لا تقولوا إنه ذهب بعقولنا، فالحياة لا تنبع من النظام فقط ولا مما يدركه العقل، الحياة تنبع من حرف المحبة.
المحبة لا توهن أبدا، لأنها أغنية الخلود، لا شيء يسكتها سوى خوفنا وجهلنا لذلك فهي تواصل شدوها خارجا عنا. إذا سمعتم حرف المحبة يغني، فاستمعوا إليه. ألم تروا سعادة الصبيان، وهم يمرحون. ألم تدركوا سر براءتهم، وإنهم لا يكترثون.
انظروا إلى عيونهم، وستعلمون أنهم مازالوا يعتقدون، أن هذا العالم تسوده المحبة، وهم في ذلك مخطئون. لكن عقيدة المحبة من شدتها، جعلتهم مرحين.
تقول سلمى:
ليس لي أن أسرد عليكم تاريخ المحبة، لأن المحبة حالة، مستمرة، لا تبلى مثلها مثل الأزل، ليبست للمحبة تاريخ أو ماض، لأنها أبدا فاعلة، إذا ما حلت بشيء غيرته. ولأن المحبة معجزة، فهي تجمع بين الزهر الذي نبت منذ أيام، والشجر الذي نشأ منذ سنين، بين الصخر القديم والمطر النازل منذ حين. والمحبة معجزة، لأنها تمنح العالم أنفاس مولده في كل لحظة. فالسماء حرف من الظلمة وحرف من النور، كتب لهما العشق على الدوام، وكتب عليهما أن لا يلتقيا إلا عند طلوع الشمس أو غروبها ليفترقا. أو لم تروا أن العشاق يقرؤون دون دراية أو علم ساعة اللقاء تلك، عند الغروب وساعة الفجر.
تقول سلمى:
" وفي الطبيعة فوضى غريبة تجعل من الأشجار مظلات تنبت في جميع أنحاء الأرض، فتغطي الجبال، وتنغمس في قلب الحجر، وتخرج كرؤوس من جميع المنعطفات والمنعرجات كي تنشر الخضرة وتخفف من حر الشمس والبرد، لتبوح لنا من حين لآخر بقاموس نظامها وتعلمنا أن الجمال قد يكون عفويا، وأن جميع لهجات الكون من لون وشكل وصوت وصورة مهما اختلفت أو تصارعت يمكنها التحاور.
وتبتسم سلمى ثم تواصل:
"ونحن ماذا ابتدعنا نظاما صارما لمدن وقصور وحدائق، لا تقول شيئا، سوى أننا نتعامل مع الأشياء من منطق المنفعة، وأننا لا نستطيع أن نتحاور إلا بلغة واحدة، ولا أن نتفق إلا إذا كان مقياسنا عددا واحدا ونظاما واحدا نضعه لفهم العالم، أما إذا اختلفت مصالحنا فالحرب والهلاك ينتظرنا "
قراءة ما يكتب في صفحات الكون يا سادة، يدفع على النشوة، لأنه يتحدث في ألف زهرة، وألف صخرة، وألف شجرة، وألف نهر، وألف جبل، عن معجزة المحبة، تلك التي تسكن حروفها الكائنات، تلك التي تسكب قطرات خمرتها، هنا وهناك، تذيب النور في الظلمة، والنار في الماء. لو تدرون كيف تشفي المحبة من كل أذى، لو تدرون كم تغني عن أي كسب أو رغبة، لأن المحبة التي توهب إلينا مفقودة بيننا، ليست تلك التي يقتل من أجلها، ولا تلك التي تزرع فينا هوس التملك. أتدرون أن المحبة التي يتحدث عنها الكون كلما أعطت زادت ثراء، شبيهة بالخمرة التي لا ينتهي سكرها، عطاء متجدد، غير قابل للعد لا يخضع لأي حرف من حروفنا.
مفتاح هي للجنة،
لأنه يفتح على باب العطاء المتجدد،
الذي يتجاوز الفناء.
تقول سلمى:
كيف لي أن أقرأ عليكم معاني الشجرة التي التوى جذعها، وانحنت أغصانها تلامس الأرض، وبرزت جذورها منغمسة في التربة كعجوز نتأت عروقها، رميت هناك وسط أرض بور وحيدة تعاني من ويلات شيخوختها. كل شيء فيها يصرخ أن يكون: الغصن، الجذع والجذور جميعها انحنت، ملتوية كي تهب الأرض الجافة شيئا من روحها وتقص عليها ليالي البرد الطويلة وأيام الصيف الحارة.
كيف لي أن أقرأ لكم، معاني الشجر المرمي قريبا من قمة الجبل، وقد انغمس في الحجر يناغي السماء، كيف لي أن أقرأ معاني عيون الماء المتفجرة من الصخر، كيف لي أن أقرأ الصخر الذي يجابه البحر، والبحر الذي رمي تحت مساحات الفضاء. يبدو لي من الحروف المكتوبة على صفحات هذه الصور، أن الشوق لا ينبع إلا من عناد طويل، وأن الشقاء ليس قدرا محتوما، وأن الزهر قد ينبت على رأسه الشوك.
اعذروني، يا سادة إن كنت أقرأ عليكم، حروف الكون بحروف أخرى، ليس لي الخيار، عساني أبين لكم معاني ما يقال حولنا، فحديثي ليس إلا إشارة لما هو أرحب.
آلاف اللغات التي خلقناها ليست إلا صورا مختلفة لما هو الوجود، كأني بأصواتنا المتعالية وهي تتحدث لغات متباينة، تدق بشدة أبواب العالم، كي تطأ أقدامنا دنياه وتكتشف عيوننا أسراره.
آلاف اللغات، منها كانت آلاف الحروف والنبرات والتصورات، منها كانت آلاف الكلمات، آلاف التآويل والأحاديث، جميعها تتغير، تتجدد، وهي تتقدم عساها تمتلك سر الحياة الأعظم، فما كان لها ذلك...، ما كان لها ذلك.
إذا أردتم، تقصي لغة الكون، فلا ترموا بشباك كلماتكم على الوجود، لا ترموا بشباك كلماتكم على الوجود، لن تنالوا سوى فتات أحلامكم، لأن الوجود أرحب، والوجود أوسع، والوجود أرحم.
تقول سلمى،
" أن نحب من أجل الحب، والعدل من أجل العدل، والجمال من أجل الجمال، ضرب من ضروب العبادة. قد يجيبني بعضكم، أن محبة الشيء لذاته لا طائل منها ولا منفعة، سوى أن تدمر حياتنا وتضيع جهودنا دون جدوى.
اعلموا إذا أن حياتنا فاقدة لكل معنى، إذا ما انتظرنا في كل لحظة أن يكلل سعينا بنجاح فنحصل على ما نبتغي في توه.
ترى ماذا سيبقي لنا؟ لا شيء، سوى أن نسعى للمنفعة من أجل المنفعة فيصيبنا القلق ويتحول سعينا عبثا ودمارا.
وتسكت سلمى، فيقترب منها سليمان ويهمس:
" سلمى لقد قرر شيوخ القرية أن ترحلي من هنا دون عودة، أسرعت لأخبرك حتى لا تباغتي بالخبر.
فتبتسم سلمى وتجيب:" أعلم أن لا مكان لي بينكم، فأنا مسكونة بلغة أخرى، حاولت جاهدة أن أكشف لكم بعض أسرارها.
سأرحل الآن، فقدري أن أعيش غريبة حيثما حللت..
يعم الصمت، فينهض سليمان، ليطفئ النار التي أشعلها الفتيان قرب الشاطئ، ويغادر الساهرون المكان، فينصرف كل إلى حاله، وتغيب سلمى صحبة أحمد بين الثنايا دون رجعة. كان ذلك بعد أسبوع من المواسم، وأهل القرية مازالوا مجتمعين تحت زيتونة، يتبادلون الحديث، ويقصون شتى الحكايات.
مجلس الشيخين
الليلة الأولى:
الشيخ مصطفى جالس قبالة الشيخ محسن تحت الزيتونة في ليلة مقمرة بعد أن أحاط بهما الساهرون.
وفجأة علا صوت محسن آمرا: قص عليهم يا شيخ مصطفى ما كان من تاريخ هذه القرية."
فيحول مصطفى نظره إلى الساهرين ويقول بصوت هادئ، متأن:" اعلموا، يا سادة، يا كرام أن سفينة غرقت، فلم ينج منها سوى رجل حملته الأمواج إلى شواطئ هذه القرية.
وتقول الحكاية إنه كان يدعى" عبد القادر" وأنه عند حلوله بها، لم يكن يسكنها سوى نفر قليل من الناس جمعهم حوله، وأمر بصنع سفينة كبيرة تربط القرية ببلاد ما وراء البحر فسماها" الميناء" وبنى قريبا من البحر أبدع القصور وأروعها..
فيرد عليه الشيخ محسن:" لكنني سمعت والله أعلم، أن قرية ميناء قد اختارها ملك الملوك وكان يدعى آنذاك زياد بن عباد بن نافع المعروف بولعه الشديد بالبحر، وباهتمامه بالمدن والقرى القريبة منه، كي تكون مركزا إستراتيجيا لحروبه وغزواته، ويقال إنه صنع في عصره أسطولا ضخما، وجمع من حوله أمهر البحارة وأكثرهم تمرسا وأغدق عليهم مالا كثيرا، حتى يساعدوه على معرفة طرق البحر ومخاطره وأسراره، واختار هذه القرية الصغيرة كي تكون مركزا من مراكز نفوذه وسلطته.
فيقول مصطفى:" الحقيقة يا سادة، يا كرام، أننا لا نعلم مدى صحة هذه الروايات، فقد ابتدعت انطلاقا من حجر الميناء، وهو حجر قديم، لم تكن " ميناء" موجودة، لأن البحر كان يقع قريبا من الجبل الواقع خلف القرية. نحن لا نعلم إذا، متى تراجع البحر ومتى قدم " عبد القادر" الى القرية. تقول الرواية إنه كان وسيما، ذكيا، قويا، وإنه قتل في النهاية من قبل أحد خدمه تنكيلا وخدعة، وذلك عندما عظمت سلطته وزاد نفوذه.
يقول محسن:" وتؤكد روايات أخرى، أن عبد القادر كان أرسله ملك الملوك زياد بن عباد بن نافع، صحبة عدد كبير من البحارة كي يكتشفوا شواطئ ميناء، فغرقت سفينتهم وشاءت الأقدار ألا ينجو منها سوى عبد القادر وأن يحقق حلم ملك الملوك، وكان ذلك منذ ألف سنة تقريبا، حين تراجع البحر وامتدت شواطئ " ميناء" فسمي عبد القادر واليا عليها، وعندما عظمت سلطته وازداد نفوذه وتحولت " ميناء" الى محطة لأكبر السفن فكاد له حساده مكيدة لدى ملك الملوك زياد بن عباد بن نافع واتهموه باطلا بالخيانة فبعث له الملك من قتله.
هذا، يا سادة، يا كرام، بعض ما سمعنا وما حفظنا عن قصة قرية " ميناء" ولحديثنا بقية.
الليلة الثانية:
قال سعيد، يسعدني، يا سادة، يا كرام، أن أقص عليكم هذه الليلة بعض الطرائف التي شاعت حول الكهف، فقد شاءت الصدف أن أحصل منذ أشهر تقريبا من أحد البحارة، ويدعى" سالم " على خريطة قديمة، قال إنه وجدها في إحدى الصناديق.
وكان قد رسم بتلك الخريطة دوائر كتبت عليها حروف أبجدية، ودار بخلدي أنها ربما تكون إحدى الخرائط المؤدية إلى الكنز المخفي بحديقة النجمة، والذي شاعت حوله منذ القديم كما تعلمون عدة حكايات وأساطير. حرصت إذا على أن لا أخبر أحدا بأمر الخريطة، وأن أسعى بنفسي على فهم رموزها، فانهلت على الكتب القديمة، أقرأ ما جاء فيها وأتصفح خرائطها، إلا أنني لم أفهم فحواها. وذات ليلة جالست حارس المقبرة " العم رمضان " وكان على ما يبدو على دراية كاملة بكل ما يهم " آثار القرية " وأعدت عليه رسم الخريطة فأعلمني أنها تهم الكهف.
والغريب في الأمر، أن كتب التاريخ التي قرأتها، قد اختلفت أشد الاختلاف في أسباب بناء الكهف، فذكر البعض أن عبد القادر هو الذي شيده كي يكون سجنا للمتمردين، بينما ذكرت مراجع أخرى، أن الكهف قد بني بعد قرن من وفاته، وقد أمر ببنائه الملك وليد بن قيس بن أبي الحارث لحماية القرية من هجوم القراصنة، وذلك بأن جعل الكهف معسكرا خفيا، به منفذ يؤدي إلى شواطئ البحر.
يقول نور الدين: " اعلموا، يا سادة، يا كرام، أن لا أحد إلى اليوم عالم بهندسة الكهف، فبعضهم يقول إنه دائري الشكل، وبعضهم يقول إنه بني على شكل خطين متقاطعين. يقال إن الولاة الذين حكموا هذه القرية، قد جعلوا بالكهف سراديب عميقة تمنع كل من أراد اكتشاف جميع أنحائه من تحقيق مبتغاه، وأن العديد من المغامرين كانوا قد لقوا حتفهم به، لذلك فإن الخريطة التي عثر عليها الشيخ سعيد هي في غاية الأهمية".
يقول سعيد: " اعلموا، يا سادة، أنني نزلت الكهف من المنفذ المفتوح بقصر النجمة وبيدي قنديل، وكم كانت دهشتي كبيرة، عندما وجدت بالجزء الذي طفت به، أرائك وطاولات ليس لها مثيل، هناك من ينزل بالكهف ليقيم به مجالس سهر وخمر، واستغربت لذلك أشد الاستغراب لصعوبة التنفس وقلة الهواء والضوء به، واصلت السير، وأنا أتابع رسوم الخريطة، إلا أنني أخطأت الطريق، وخلت أني تهت، وتملكني الخوف من أن أسقط في أحد سراديبه، بقيت أسير ساعتين دون جدوى، إلى أن بدأت أستنشق رائحة البحر، فعلمت أني قريب من المنفذ المؤدي للشاطئ، فأخذت أتابع اتجاه الهواء النافذ من الهوة، إلى أن وجدت نفسي أمام درج حملني إلى الشاطئ فعرفت أن هندسة الكهف المرسومة بالخريطة قد تغيرت.
يقول نور الدين: " لقد سمي الكهف " مقبرة الأحياء "، وسمي أيضا "أعجوبة العجائب"، إذا لا أحد يعلم كيف شيد جزء منه تحت شاطئ البحر كل ما نعلمه يا سادة، عن أسرار بنائه، أنه شيد من صخر البحار، وهو صخر صلب قادر على التصدي للماء، كثيرا ما استعمل لبناء المواني القديمة. ويقول العلامة عبد العزيز بن محمد الحكيم في أحد الكتب التي ألفها حول الكهف: " لقد أراد الولاة أن يجعلوا من قرية " الميناء " جنة فوق الأرض لجمالها وانزوائها، وفساحة البحر المحيط بها، فأقاموا بها كهفا، أبدعوا في هندسته كي يدفنوا فيه جرائم أهلها والحروب التي شنوها والمظالم التي ارتكبوها لكنهم لم يوفقوا لأن تاريخ الكهف هو تاريخ القرية بأسرارها".
يقول سعيد: " اخترنا أن نقص عليكم الحكايات التي صيغت حول الكهف، كي تكونوا على علم ببعض من تاريخ قريتنا.. يا سادة يا كرام".
الليلة الثالثة:
يقول الشيخ مصطفى: " تقول الحكاية، وسطع نجم " عبد القادر" حين وجد مغمى عليه قريبا من شاطئ " الميناء" فما أن فتح عينيه حتى رأى النجم الأقصى يشع من الجهة الغربية للقرية".
وحين استعاد قوته بعد أن أسعفه أحد البحارة، كتب إلى ملك الملوك زياد بن عباد بن نافع ليعلمه بغرق السفينة ومن عليها وبنجاته ووصوله إلى القرية، ثم أخذ يمدح البحارة الذين أسعفوه ويذكر له ما بذلوه من جهود لانقاذه وإيوائه ويصف له جمال القرية وبعد أشهر سماه الملك واليا عليها فشيد قصر النجمة، ويقال والله أعلم إن عبد القادر حرص عند تشييده على أن يكون مكانه بالجهة التي لاح له بها شعاع النجم الأقصى أو هكذا كان قد سماه لدى ثلة من أقاربه وحاشيته.
يقول الشيخ محسن:.." لكن الرواة لم يجمعوا على صحة حكاية النجم الأقصى، فقد نفى بعضهم ظهوره بحجة أن غرق السفينة كان بسبب رداءة الطقس. والرأي عندنا، يا سادة، يا كرام، أن القصر سمي باسم إمرأة أحبها عبد القادر وتزوجها وكانت تدعى " النجمة" ".
يقول الشيخ مصطفى: " لكن ' عبد القادر' لم يصل إلى شواطئ البحر إلا بعد يومين إثنين من غرق السفينة، لذلك فإن نفي بروز النجم الأقصى لرداءة الطقس ليس حجة كافية... أما عن قصة الحب التي جمعته بإمرأة تدعى النجمة، فما زالت موضع شك، لأن النجمة كانت ابنة أحد أعيان مدينة العالية المجاورة للقرية، وقد كان زواج عبد القادر منها بغية التقرب من أهل المدينة والحصول على موافقتهم كي يتولى أمر قرية ميناء.
يقول الشيخ محسن:" بعد بضعة أشهر من نجاته، التقى عبد القادر صدفة بنجمة وهي تتجول مع خادمتها على حافة الشاطئ، فما أن رآها حتى أعجب بها وقرر الزواج منها".
يقول الشيخ مصطفى:" اليوم.. كما ترون يا سادة، يا كرام فإن الجزء المطل من القصر على البحر مازال يحتفظ ببعض غرفه بعد أن أعاد بناءه عدة مرات الولاة الذين تولوا الحكم بعد عبد القادر وكذلك للمسافة الهامة التي تفصله عن البحر أما الجزء الخلفي منه فقد تهدم بعضه، ومهما يكن من أمره.. فإن قصر النجمة أصبح جدرانا قديمة تهدد بالسقوط من حين الى آخر بعد أن اصبح مهجورا. تخترقه من حين إلى آخر رياح البحر".
ولقد جاء بكتب التاريخ أن قصر النجمة كان من أروع ما انجز بهذه البلاد.
ترجح بعض الحكايات أن عبد القادر كان قد التقى بالنجمة وهي تتجول صحبة خادمتها على حافة الشاطئ وحين سمع بإسمها عادت إليه ذكرى رؤية النجم الأقصى، فعقد العزم على الزواج منها وبناء قصر بمكان ظهور النجم.
الليلة الرابعة:
يقول الشيخ سعيد: " لقد تصفح الشيخ اسماعيل الخريطة التي عثرت عليها، وأعلمني يا سادة، يا كرام، أن الكهف يعود بناؤه الى الفترة التي تولى فيها الحكم عبد القادر وقد بناه حسب الهندسة المبنية بالخريطة حتى يضمن السيطرة على قرية ميناء ولا يباغت بثورة أهل مدينة العالية".
فقد كان يحلم بتشييد قرية بحرية لا يسكنها إلا البحارة وأن يبني وسطها قصرا عظيما، وأن يجلب إليها أعظم السفن، ولكي يحقق حلمه، كان لا بد له من مكان يحميه ويحمي جماعته فبنى الكهف وبنى سراديبه، ووضع له هذه الخريطة.
يقول نور الدين: " لقد كان هدف ملك الملوك زياد بن عباد بن نافع أن يجعل من قرية الميناء مركزا هاما دون أن يجلب إليها الأنظار وتبعث من حوله المخاوف، فأمر عبد القادر أن يقيم كهفا على حافة البحر يكون شبيها بمعسكر صغير".
يقول الشيخ سعيد: " لم يحدثنا التاريخ عن ثورات داخلية قامت للاستيلاء على قرية ميناء لأن نفوذها بدأ يتزايد شيئا فشيئا ولم يتحقق حلم ملك الملوك إلا بعد مرور قرن تقريبا، لا تنسوا يا سادة، يا كرام، الدور الذي لعبته شخصية عبد القادر الفذة.. يروي أنه كان داهية، لم يكن يظهر ما كان يضمر كي يتقدم بخطى ثابتة وقد نجح في أن تكون قريتنا الصغيرة هذه منطلقا لأكبر الحروب ومركزا من أكبر وأعظم مراكز العالم منذ ألف سنة تقريبا، وما عليكم إلا أن تفتحوا كتب التاريخ للتثبت من ذلك، لقد عرفت هذه القرية مجدا كبيرا".
يقول نور الدين:" فلنطوي صفحة الماضي، ولنفكر في الحاضر، عسى أن نكون قادرين على إعادة مجدنا يا سادة يا كرام، فتصبح قريتنا من أعظم مراكز العالم مجدا وسلطة يتحدث عنها القريب والبعيد..
الليلة الخامسة:
حلقة الطلاب:
في الليلة الخامسة يقول محمد المنضم إلى حلقة الطلاب:" لم استطع أن استمع إلى كل ما قيل من حديث، فقد جلس أهل القرية، حلقات ( حلقة الطلبة وحلقة النساء وحلقة الشيوخ..وحلقات أخرى) تحت شجرة زيتون لأنها كانت أقدم شجرة بالقرية فتفرع حديثهم وطالت سهراتهم.
جلست إلى فتيان القرية وكانت حلقتهم تضم بعض الطلاب والمتعلمين فانضممت إلى مجلسهم وأتابع بعض ما جاء فيه:
يقول سعيد:" جمال هذه الدنيا فتنة إذ هو كحبل يشدنا إلى جحيمها، تصوروا هذه الدنيا من غير جمالها، قبيحة، قاسية خالية من كل معنى، تصوروا أن لا شمس تشرق، ولا قمر يطلع، ولا طيور يغني.
تصوروا أننا نعيش في دنيا من غير فتنة، سيحل بنا حتما الجنون، وربما تمنينا أن يسعفنا الموت في توه فنرحل، ويتنهد ثم يواصل: أغرتني فتنتها، أغرتني.. حتى سقطت في جحيمها فماذا أفعل؟
أحيانا يعتريني القلق الشديد فأتمنى الموت رغم الفتنة، أواسي نفسي أترجاها أن تنهل من متعة الدنيا.. لكنني عبثا كنت أطارد قلقي، فما بالكم يا سادة، ما بالكم لو كانت الدنيا.. فاقدة لكل فتنة، ترى ما الذي سيحل بي؟
ويرفع حاتم رأسه ويقاطعه ليقول:" اعذروني يا سادة، إذا كان منطلق تفكيري هو جسدي فمن العورة، تنبع اللذة، ومنها الولادة، ومنها العفن والفواضل، غريب أننا لم نفقه أن للموت وللحياة مصدرا واحدا.
أعتقد أننا أخفينا حقيقة أنفسنا وانطلقنا نبحث عنها خارجا عنا، كي نغتر بجهلنا". (ونبتسم).
تقول ليلى: "كثيرا ما نظن أن الكمال يكمن في اكتمال الأشياء وليس في تقابل أضدادها، ولا حتى في فنائها لذلك خلقنا أشياء شبيهة بالأصنام لا روح فيها".
يقول علي: " أتدرون لم اخترت البحر ملجأ ومأوى و بلدا؟ لأني حلمت بالمدى وكنت أطمح الى مجابهة موتي وإلى السفر للوصول إلى المطلق، إلى المستحيل".
كنت أود أن يكون الليلة حاضرا معنا السيد، خاصة بعد أن علمت أنه عاد من عزلته، لكنه لم يأت هذه الليلة ثم يلتفت إلى خليل ويقول:" هل ذهبت إلى بيته لتسأل عن أحواله؟" فيجيبه خليل:" نعم.. لقد قابلته فبدا لي منهك القوى، شاحب الوجه ولما طلبت منه أن يلتحق بنا اعتذر وأعلمني أنه في حاجة إلى شيء من الراحة ووعدني بالمجيء في الليلة المقبلة".
تقول ليلى: " أتلهف شوقا لمعرفة ما آلت إليه عزلته، فيبتسم مسعود من جديد ويجيبها: أنا على يقين من أن عزلته لن تؤول إلى شيء، فالسيد مصاب بداء الشك".
يقول خليل: " لا أظن أن رجلا في مقامه وفي صفاته، تضعفه العزلة، بل بالعكس، لعل العزلة هي التي أنارت بصيرته، وأزالت عنا شيئا من الجهل والعمى. أما ما تسميه الشك، فهو ليس بداء، إنه سعينا الدؤوب في أن تكون لنا دراية بأنفسنا، بالآخرين وبالعالم من حولنا، يقيننا بجل الأمور وهم.. يا مسعود ما عدا أننا وجدنا.. اليوم لنحيا وأننا غدا سنموت".
يقول مسعود: " عشرات من إخواننا الصيادين يموتون غرقا كل عام، لأن السفن التي يخرجون بها لا تضمن لهم مواجهة الرياح أو النجاة من الغرق، وشيوخنا يتحدثون عن مجد القرية وتاريخها، بينما نتحدث نحن.. عن الشك واليقين".
فيجيبه خليل: هلا علمت أن البحر هو حقلنا، وهو مقبرتنا.. إنه الماء.. المتدفق الذي منه خلقنا.. وإليه سنعود.
فيقول مسعود: نعم .. إليه نعود.. لا غرقا في عز الشباب.. ونحن قادرون على العطاء..
الليلة السادسة:
يقول محمد: حين اقتربت من حلقة النساء سمعت فاطمة تقول: " يبدو أن سلمى أخذت تحرض فتيات القرية وفتيانها على انتهاك عاداتها وتقاليدها بعد أن غادرت الحلقة حتى لا تجلب غضب بعض الشيوخ إليها، يقال أيضا إنها تشجع الفتيان على أن ينتهجوا ما تسميه بمنهج المحبة وتزين لهم الفقر والكسل".
تجيب زينب: " لكن بعض من فتياننا وفتياتنا اتبعوها ومكثوا معها خلال الأيام الفارطة، لا بد لهذه المرأة أن ترحل عن قريتنا حتى لا تتسبب في بث الفوضى والانحراف".
تقول مريم:" يقال إنها تابت وأصبحت تقول الحكمة".
فتجيب فاطمة:" أية حكمة لإمرأة تشجع أبناءها على الكسل وتزين لهم الفقر، أنسيت الأخبار التي شاعت عن قصتها مع السيد؟".
تقول زينب:" لقد بدا لي الغضب على وجوه الرجال، خلال اليوم الأول من المواسم، أظنهم لم يجرؤوا على طردها من القرية لأنها أرملة لا عائل لها".
تقول فاطمة:" لكنهم عازمون على طردها عاجلا أم آجلا، فلا مكان بيننا".
تقول مريم:" لن تذنب هذه المرأة في حق أحد، أحبت السيد بعد انفصاله عن زوجته، أعتقد أنها تدعو إلى المحبة وإلى السلام".
فتجيبها فاطمة:" لا تدافعي عنها، سمعت أن شيوخ القرية قد قرروا طردها نهائيا".
الليلة السابعة:
يقول الشيخ مصطفى:" اعلموا يا سادة، يا كرام أننا كنا قد آزرنا السيد خلال السنوات الفارطة وساعدناه على تجاوز محنته عند وفاة ابنه الصغير، وكلفناه بمهمة التحكيم بين البحارة حتى لا يتنازعوا في أسعار البيع والشراء، واعتبرناه من خيرة أبناء هذه القرية، إلا أنه جمع بعض الشبان حوله، وأخذ يبث فيهم الشك، وقد قررنا اليوم أن نسمي غيره حكما على البحارة، ونضع حدا لمنهج الشك الذي ما انفك يدعو إليه.
فيقول خليل: " لكن السيد لم يدع إلى أي منهج وكان في كل مرة يعتزل ليدعو إلينا ويساعدنا على حل مشاكلنا، ولم يبث لا منهج الشك، ولا أي منهج آخر، لقد اجتمعنا حوله، لأنه كان قادرا على التحاور معنا ومساعدتنا والاهتمام بمشاغلنا".
يقول محسن:" نحن نعلم أن هذا الرجل، لم يخلص بعد إلى حل أو إلى جواب، ليس بمستطاعنا أن نوليه أمورنا.. ما لم يقتنع بيقين".
يقول خليل:"لكن الحقيقة مرجاه، مبتغاه، هدفه وحلمه فكيف لا نطمئن لرجل ليس له من هدف ولا من مبتغى سوى أن ينصر الحق".
يقول مصطفى: "إنه عاجز على أن يحسم الأمور، وأن يفرض قراراته ويجعل الآخرين ينصاعون إليها.."
يقول خليل:" ذلك غير صحيح، إنه يحاول دائما الاستماع إلى جميع الأطراف حتى يوفق بين مصالحهم ويزيل خلافاتهم، لا يمكن لك أن تنكر يا مصطفى أنه نجح في مهمة التحكيم التي عهدت إليه".
يقول محسن:" لا يمكن أن تعهد مهمة التحكيم لرجل يخير العزلة حتى لا يفقد الناس ثقتهم به، أفهمت الآن يا خليل، لن يكلف السيد مرة أخرى بأية مهمة مهما علا شأنه في نظركم ومهما فعل، نحن في حاجة إلى رجل قادر على أن يمسك بزمام الأمور، لا برجل متقلب المزاج، غامض، يشك في كل شيء".
فيجيبه خليل غامضا:" السيد ليس رجلا متقلب المزاج، إنه يهوي الحياة، يبحث عن حقيقة نفسه، ومعنى وجوده وهو أمر مشروع، أنت تعلم قدرته على الإقناع، هدوءه وحبه للعدل وتريثه صبره على تحمل المكايد وتجلده وشجاعته.. لا فائدة في أن أعدد خصاله، فأنت مدرك لها جميعا وإلا فلم وافقت على تكليفه بمهمة صعبة مثل التحكيم؟".
فيجيبه مصطفى:" لقد قرر شيوخ القرية أن تعهد هذه المهمة إلى غيره، انتهى المجلس، سأعلن الخبر غدا قبل نهاية المواسم".
وبينما كان خليل جالسا، يتحدث مع الشيخ مصطفى، جذبه علي إلى خارج الحلقة وهمس في أذنه: هيا بنا، يبدو أن السيد غادر بيته منذ يومين ولا أحد يعلم إلى أين ذهب، فالتفت إليه خليل وقال: " لعله اختار العزلة مرة أخرى". فأجابه علي:" للأسف لا، لأنه كان في كل مرة يعلم أقاربه وأصدقاءه.. أخشى أن يكون قد أصابه مكروه هيا بنا نبحث عنه".
يقود السيد مركبه وسط البحر، متجها إلى القرية، فتلوح له من بعيد أضواؤها يتمايل مركبه وهو يرتطم بالموج.
لقد قضى ليلة البارحة بالبحر، ورغم الريح والبرد لم يخف الغرق ولا الموت، هو الآن يتقدم، يجر البحر والسماء جرا حاملا المدى على كتفيه، لا هم له سوى أن يتقدم، متخذا طريق القرية كي يعود إلى عالمه البشري ويتقبله بهمومه ومآسيه ومرارته وآهاته.
يقترب السيد شيئا فشيئا من الشواطئ، سيصل قبل حلول الفجر سيفتح الميناء غازيا، ويدق أبوابه بعنف ليضع حدا لحداد أهل القرية وحزنهم.
صراخ منبعث من الشواطئ، آت من الكهف، يخترق الفضاء ليصل إليه، يدفعه أن يتقدم بسرعة، لعل أحدا من أبناء القرية نزل إلى الكهف ليكتشف مسالكه، فتاه ولم يجد طريق الخروج فسقط بأحد السراديب.
لم لم يفكر أهل القرية في إزالة الكهف حتى يسكتوا الصراخ المنبعث منه؟ لم أبقوه ألف سنة؟ لم لم يوقف أحد منهم عجلة التاريخ عن الدوران كي لا تعاد نفس المآسي؟ أتعاد نفس الأخطاء التي ارتكبت منذ ألف سنة، ألف سنة وأهل قرية ميناء لم يغيروا شيئا وهم يحلمون بمجد مضى فلا يحاولون بناءه أبدا.
سيفتح الميناء غازيا ويسكت الصراخ المنبعث منه ويزيل الكهف، ويرمي بأساطير وخرافات أهل القرية في البحر، مادامت لم تجدهم نفعا ولا ساعدتهم على نسيان خوفهم وبؤسهم وفشلهم.
سيفتح الميناء كي يجعله أفقا مفتوحا يستقطب جميع السفن، محطة يأوي إليها كل من أراد السفر وراء الأفق أو في البحر.
وتهب الريح، فيتمايل المركب، ويواصل السيد التقدم بثبات تجاه القرية، سيفتح الميناء، تلك هي مهمته لم يعد يعنيه أن يكون حكما بين الصيادين لا بد أن تكون لمسيرة أهل القرية وماضيهم معنى أن لا يجلسوا كل عام تحت زيتونة ليعيدوا سرد ما كان من ماضيهم..
ويشعر بفرح شديد يستولي على كيانه، وهو يقترب، لم يعرفه منذ أن فارق سلمى وهو ينتظر بفارغ الصبر الوصول إلى القرية، يتلهف إلى سماع همس أهلها وضحكتهم، وبكاءهم، وفرحهم، وحزنهم، لقد اشتاق إليهم، لن يعود إلى عزلته ثانية، لن يعود، هو الآن لا يطمح إلا إلى تحقيق أمنية واحدة.
أن يمنح تاريخ القرية معنى، كي يعيد إليها الأمل ويخلص أهلها من بؤسهم ويأسهم.. أن يتصالح معهم.. مازال الصراخ متواصلا، منبعثا من الكهف.. السيد يقترب من الشواطئ ، هناك قريبا من الميناء.. لاح له طيفان، ينزل، منهك القوى، إذا بأمينة وخليل ينتظرانه.. فيتمتم:" مللت الغربة، وكان لا بد لي من الرجوع إليكم."
.. بعيدا عنه، كانت سلمى تتمشى على الشواطئ يصاحبها أحمد، تقول: "إلى أي بلد سأرحل؟ إلى أي بلد؟ لا وجود لبلد المحبة إلا في قلوب الصبيان، تبا لها من عقيدة شردتني ! .. تبا لها من عقيدة شردتني". فتنحني الأمواج لرجليها حتى تلامس قدميها وهي تروي لغة المحبة..
ويطير شعر سلمى.. مع الريح.. وبقربها يرسل أحمد إشارت الفرح.. والحبور.
هذا ما قاله الصوت وهو يختم قصة الغريبين.