بوزيد الغلى - الرحلة إلى قرى الأطلس الصغير الوادعة..

قال لي بصوت منشرح : اخفض سرعة السيارة ، وانظر أعلى الجبل ، على يسارك . التفتت يسارا. سررت برؤية منازل "حديثة الطراز" على قنة الجبل أو قمته . ذكرتني رؤيتها بقصر بديع توقفت عند أبوابه مشدوها مندهشا من جمال هندسته التي زانتها أزاهير الأقحوان المزهرة من حوله في مرتفع يثوي فوقه مثل هرم شامخ . ذاك القصر ، لم يكن قصر أمير ، وإنما فندق قناص ماهر للسياح الغربيين الذين تنتشر "عرباتهم الشبيهة بالمنازل المجهزة المتحركة " على امتداد السهل الذي تحفه الجبال من كل جانب ، و تتوسطه مدينة من مدن الأطلس الصغير ، لا شية فيها سوى أشعة الشمس اللاهبة عند الظهيرة . إنها " تافراوت" . جئتها عاشقا رؤية الربيع الذي لم تفسد جماله و بهاءه لوثات دخان السيارات و المصانع التي جعلتني أفر من ضواحي الرباط .....
" في الطريق إلى تافراوت ، انتابني انتشاء خادع بأن الطريق سالك ، وليس وعرا و لا حزنا بربوة ، ذلك أن شطره الأول معبد على نمط الطرق الحديثة التي تتسع لعربتين تسيران في اتجاه معاكس ، لكن ضيق شطره الأخير أذهب ظن العناية بالطريق الذي نسبته ، وهماً، لأبناء البلدة الذين تسنموا مراكز عليا في الدولة بعد الربيع العربي ، فاضطررت مرارا للانتحاء بالسيارة جنب الطريف كيلا أصطدم بالعربات القادمة من الاتجاه المعاكس ، خاصة تلك التي تمر مرّ السحاب سريعة ، كأن أصحابها من طول ارتيادهم هذا الطريق الهش قد أمنوا على أنفسهم أخطاره المحدقة التي وجدت لها أثرا في منعرج يقع على ارتفاع شاهق ، حيث اصطدمت اصطداما خفيفا ، عربتان ، لم يصب ركابهما بأذى ، لكن سائقيهما ، فضلا انتظار مجيء الدرك كي يسجل محضر الحادثة الطفيفة ...
وافيت مدينة "تافراوت" الناعسة عند قدم الجبل السامق ظهرا ، طالعتني بنايات حديثة ، فخلت أن معظم أهل البلد على جانب من اليسر أو لنقل على وعي بهندسة و تدبير الموارد ، ولو شحت ، كي تسعف في بناء منازل مناسبة للسكن في هذا الفضاء الذي يتنفس صيفا أهله الصعداء من شدة الحر الذي لامست جلدي بعض سياطه الخفيفة مذكرة إياي ببلدتي الصحراوية (أسا) التي تنام عند قدم جبل باني .
أخذتني جولة بين شوارع المدينة التي زينت بعض واجهات منازلها أصص الأزهار خلافا لكثير من مدننا التعيسة بكمّ الاسمنت و الحديد الذي يزيدها في حمارة القيظ لهبا على لهب ، و صرفت العين إلى محطات الوقود التي يعود نفعها للوزير الذي تمتلك عائلته الشركة التي لا أود تسميتها بخلا على مروجي الإشهار بالمجان ، أحصيت في هذا الفضاء الصغير خمس محطات تزود بالوقود ، و ألفيت عند ناصية شارع فسيح شاحنة صهريج ضخمة تملكني العجب كيف تتلوى عبر الطريق الضيق كي تصل إلى هذه المدينة الوادعة التي قد تشكو ربها ، لو نطقت من هذه الروائح المنبعثة من هذه المحطات التي ازدحمت و انحشرت في بقعة بين جبلين. لا ينكر فضل المواصلات إلا جاهل ، لكن فائض محطات البنزين المنتشرة ، أقرفني ، لم يغنني عن تذكر همة الأسلاف الذين كانوا يتنقلون عبر مضايق هذه المسالك مشيا على الأرجل أو على ظهور المطايا ، و الحمير الصبورة التي رأيت لأول مرة عند العودة قافلة منها تحمل متاع عائلة ، و أبصرت الأم ، وقد تخلفت قليلا عن الركب المكون من ستة دواب ، لا بغل فيها ، تمتطي حمارها الذي تبدو بردعته حديثة قشيبة . سألني صاحبي كي يخبرني بمغزى مرور الركب و غيره من الراجلين بمحاداة الطريق المعبد ، لماذا ، في نظرك ، لا ينتبذون طريقا آخر غير معبد لا يتهددهم فيه خطر حوادث السير ؟ , قلت : ربما عرفوا أن أقصر الطرق وأكثرها أمانا ، هو هذا الطريق المعبد الذي لن يعترضهم فيه قطاع طرق أو لصوص مفترضون . قال : بل ،لأن هذا الطريق هو الطريق الذي مهدته أقدامهم و حوافر دوابهم منذ ما قبل شيوع وسائل النقل ، كان الأجداد يعبرون من هنا ، وهم على خطاهم سائرون .
لست أدري لماذا ، كلما تذكرت هذا الطريق الذي سلكته متجها إلى إفران ، تهجم علي مشاهد من رواية اليهودي المغربي " اشر كنافو " الذي أبهرني سرده لأحداث هجرة اليهود بإفران بعد مأساة ما سماه " محرقة إفران " التي لم أجد لها أثرا في وثائقنا الشحيحة و مصادرنا الغميسة ، إذ لم أجد سوى شذرات توثق ما حدث إثر تمرد بوحلاسة في أوائل عهد مولاي سليمان ، ذلك التمرد الذي أنهاه من سماهم " كنافو" الرجال الزرق ، ومن هنا ، ربما ، تسمية آخر يهود وادنون " صراف مرداشي "(بردخاي) المتوفى عام 2017 ، فندقه الذي يتوسط شارع إفني بكليميم ، فندق الرجال الزرق ، بينما يقر المعسول من خلال وئئقه بأن التمرد أنهاه عبيد الله أوسالم ، جد أهل بيروك ....

اتجهت شرقا ، أبصرت عربات السياح المجهزة تربض وسط النخيل الوارف الظليل . ألقيت نظرة خاطفة على لائحة كتب عليها بالفرنسية : camping، تلصصت من طرف خفي ، فرأيت امرأة شقراء قرب سيارتها . تبدو قد بلغت من الكبر عتيا ، تذكرت فندقا بواحة تغمرت ، لا يستأجر السياح غرفه ، وجلهم ممن فات السبعين أو زرف على التسعين ، و إنما يكترون ساحته المسيجة كي ينعموا بالأمان داخل عرباتهم التي تحمل متاعهم ، وفيها يأكلون و يشربون ... قال صديقي بتافروات : لا نجني من هؤلاء البخلاء سوى النفايات التي يضعونها بسلام في حاويات أزبالنا ،حتى الماء يجلبونه من بلادهم!.
دلفت إلى السوق ، تفرست في وجوه قلة من الباعة الذين لم يغادروا محلاتهم لأخذ قسط من الراحة وقت الظهيرة ، مررت بمحلين وضعا عصيا متقاطعة تمنع رمزا الزائر من ولوج المحل الخالي من صاحبه . أمارة تنعم بالأمان المفقود في كثير من المدن المكتظة بالنشالين الذين لا تكاد تخرج محفظة نقودك حتى يخطفوها منك في لمح البصر!.
ألقيت عصا التجوال في السوق الصغير عند باب محل اسكافي تقليدي ، ألقيت السلام على صاحبه ، فرد التحية . كان شابا في مقتبل العمر ، سألته عن ثمن نعال جلدية معروفة عند الأمازيغ . أجلت عيني أبحث عن نعل يشبه نعل جدتي الأحمر . ذاك النعل الذي لم يفارق مخيلتي. وصفت له غايتي : فهم المقصود ، فافتر ثغره عن بسمة صافية ، وقال :" لا نصنع سوى نعال الرجال ؟،"، قلت : و الأطفال ؟ . قال : هاته عينات من نعال الأطفال . اشتريت منها زوجين ، ونعل رجل بعد مماكسة طفيفة.
لم أبرح محل التاجر اللطيف إلا بعد أن سألته عن الطريق المؤدية إلى إفران الأطلس الصغير و تيمولاي فأجاب بلطف : لقد زرت إفران مع فريق كرة القدم منذ أيام ، فأنا لاعب بالفريق المحلي هنا ، و قد سلكنا طريق " تهلالة" . هل تعرفها؟ . قلت : لا ، لكني بصرت بهذا الاسم مكتوبا على لائحة تشوير أثناء قدومي من تزنيت . خمنت أن الشاب لن يسطيع ن يدلني ، وهو قابع بين جدران محله على الطريق الذي ينبغي أن أسلكه ، فعاجلته بسؤال عن مطعم بلدي (يقدم وجبات شعبية) . قال باختصار : من الأفضل أن تذهب إلى مطعم الزردة في الزقاق المجاور.
مررت قدام المطعم المذكور ، فرأيت قلة من الزبائن ، حملت قلتهم على ضعف الخدمات ، فآثرت أن أبحث بنفسي عن مطعم آخر ، بحثت ، لم أجد سوى محلات بيع أكلات سريعة لا آمن غوائلها ، فركنت إلى راي التاجر اللطيف ، و ألقيت بنفسي على كرسي في الطابق الأرضي من المطعم . تناولت صحن دجاج بثمن لم يخرج عن معهودي ، ثم طلبت من النادل أن يحضر "برّاد أتاي" ، قررت ألا اتناوله إلا في شرفة الطابق العلوي من المطعم الصغير التي تطل على المدينة الهادئة من أعلى .)

" سألت عن الطريق إلى إفران كرة أخرى النادلة التي تبدو على ملامحها أنها بنت هذه الأرض ، رغم أن ملابسها ووزرتها العصرية أخفت وشم انتمائها الأمازيغي الذي عرفته ممن مررت بهن من النساء؛ وهن يصطحين صغارهن عائدين من المدارس التي يبدو أنها أضحت في هذه المدينة الوادعة علامة تمييز فاقعة على التفاوت الإجتماعي ، فقد رأيت بأم عيني سيارات نقل مدرسي تسلك الطريق نفسه الذي سلكته ، مع أبنائهن ، النساء الملتحفات لباساً يغلب عليه البياض ، لا تخفى هويته التراثية الأمازيغية .
بانت عدم دراية النادلة بالطريق إلى إفران ، فابتلعت لساني حتى أجد من آنس بأنه خريت ماهر بمسالك الطريق ...، لم أر بأساً من سؤال حارس السيارات في الشارع المقابل للمطعم ، وجدته أخرس يرطن بكلام لم أتبين مقصوده ، فصرفت عنه النظر باحثا عن سائق سيارة عمومية . ألفيت بمقهى غير بعيد ثلة من السائقين دلني عليهم بسخاء و تطوع رجل مربوع القامة أسمر اللون ، ما إن شرعت أسائلهم عن الطريق حتى طلع رجل قصير القامة ، لا يطولني سوى بنصف متر تقريبا ، بدت عليه أمارات التقدم في السن ، رأسه أشيب إلا قليله ، جبهته كستها التجاعيد ، صافحني قبل أن ينهي شيخ السائقين أو أكبرهم سنا كلامه عن الطريق ، إذ قال ، وقد فغر فاه حتى بدت فجوة بائنة تتوسط أسنانه : ها من يصطحبك حتى يبلغك غايتك . تبسمت بسمة فاترة ، فما كنت متحمسا لاصطحاب غريب . .. زالت دهشة التعرف على الغريب بعد أن سارع إلى بث الطمأنينة في قلبي ، فقد بادر دون طلب إلى إشهار بطاقتين تحملان صورته نفسها ، طالعت البطاقة الوطنية ، واكتفيت منها بقراءة اسمه بالعربية : درويش ، و قال بصوت خفيض قبل أن ألقي نظرة على البطاقة الأخرى : هذه بطاقة تعريفي الألمانية . لي جنسيتان . مغربية ألمانية . إنني الآن مقيم بألمانيا ، وإنما أتيت إلى هنا من أجل تسوية أمور إدارية .

" تهللت أسارير وجهي ، عرفت الرجل على هويتي ، و ما إن علم بمقدمي من الرباط حتى طفق يستعيد لحظات من سيرته الدفينة . لقد ولد لأبوين من أيت سملال بمكناس ، عاش سنواته الأولى بمدن الشمال التي كان من أفضالها عليه الالتحاق المبكر بالمدرسة ، وكان من أوائل الأطر التي اشتغلت في ميدان التعليم قبل أن يحزم حقائبه ويهاجر إلى فرنسا عقب انقلاب الصخيرات الفاشل مطلع السبعينات ، ليعود منها بعد فترة وجيزة ، ثم يقرر بعدها الهجرة مرة أخرى ، حيث قر به القرار في ألمانيا التي يحرص بين الفينة و الأخرى على ذكر كلمات منها لا أفهم معانيها إلا بعد أن أسأله عن معناها . أيقنت حينها أن من يتحدث لغة زائدة عن لغته الأصلية ، كمن يملك لسانين ! . كان صاحبي الذي أزال بروح دعابته كل سأم محتمل ، يحفظ كثيرا من الشعر القديم . لا ، بل ةأتحفني بقصائد جميلة للمتنبي قبل أن ينعطف به التذكر إلى أبي نواس و خمرياته ...، قال بصوت المنتشي بمحفوظاته الثمينة : الشعر جميل ، وأجيال اليوم لا تحفظ منه إلا القليل !,
سرنا عبر مسالك ضيقة حتى وافينا منطقة " تهلالة " ، أراني بإشارة الأصبع مركز إداريا بالمنطقة (لعله مقر الجماعة) ، ولم ينطق اسمها إلا على إيقاع قهقة ساخرة : " تهلالة ، لا ، لا ، لا دين لا ملة ". عندها بادرته بالسؤال عن يهود المنطقة و مقابرهم و آثارهم ، وقد وضمت في مخيلتي صورة كتابات و نقوش يهودية بمنطقة تهلالة ، أبدع في التعريف بها مقدم برنامج أمودو الذي أنصتت إليه بشيء من اللهفة و الشوق إلى المعرفة حين ولجت متجرا بتافراوت يبيع بعض التحف الموجهة للسياح ، وبطائق بريدية تتضمن صورا بعض معالم المدينة . لم يقف صاحبي بما ليس له به علم من تاريخ يهود " تهلالة" ، وإنما اكتفى بالقول : كان اليهود المغاربة بقرى الأطلس الصغير أفضل تعاملا من بعض المسلمين ! ، ثم أردف : عندما يعرف أنك مغربي تتحدث الأمازيغية ، لا يتردد في الحديث معك بالأمازيغية ، وجلهم حرفيون مهرة !. أدركت أنه عرف بعضهم قبل أن يهاجروا بعد نكبة فلسطين ، لكنني آثرت أن أغير مجرى الحديث قليلا كي أعيد الساحرة تافراوت إلى دائرة الكلام ، فعاجلته بسؤال عن معلم طبيع ي جميل ، ينتصب على ربوة عن يسار الداخل إلى تافراوت قادما من تزنيت . فانشرح ، وتكلم بشيء من البهجة قائلا : إذا حق للمصريين أن يفاخروا بالأهرام ، فيحق لأمازيغ تافراوت الافتخار بهذا الهرم الذي نحتته الطبيعة . ذكر لي اسمه بالأمازيغية ، لكنه ضاع من غربال الذاكرة التي لم تحتفظ إلا بترجمته للإسم بالعربية : قفا الأصبع . قالها ، وقد أار إلى أصيعه مثيرا في مخيلتي كم تترك مهنة التعليم على المعلمين من حب للإيضاح . لقد غادر هذا المهاجر ميدان التعليم باكرا ، لكن ، بقيت آثار المهنة بادية راسخة تعلن عن الظهور في كمّ محفوظاته من الشعر ، و مهارته في إيضاح المعنى بالإشارة و التشخيص . ذكرني ، في الواقع ، بمقالة محام بارع في الدفاع ، عندما أعجبته طريقة تقديم محاضرة أيام التجربة اليتيمة (الجامعات الشعبية) ، فقال : أدركت أنكم ، يا رجال التعليم ، أقدر على البيان منا نحن المحامون !

وصلنا إلى قرية "جمعة أيت سملال ، فافتر ثغر صاحبي عن بسمة عريضة . ما نشب أن قال : هذا موطن أجدادي. هنا ينعقد سوق أسبوعي كل جمعة ، يوافيه الناس من كل المداشر المجاورة . هممت بالتوقف . فطن صاحبي ، فقال من فوره : تابع مسيرك . لم أصل بعد إلى منزلي الواقع في مدشر صغير خلف ذاك الجبل ! .
همزت دواسة السرعة . صعدت الجبل حتى إذا بلغته موضعا وسطا واطئا ، أشار صاحبي علي بالتوقف هنيهة كي نرى "جمعة أيت سملال من عل ! . كان المشهد رائعا ، لكنه بدا لي متعبا لثلاثة من الشباب رأيتهم يصعدون الجبل مشيا على الأقدام ، فأشفقت لحالهم . استأذنني صاحبي في أن نركبهم معنا ، فأبديت موافتي طربا غير متردد. تطوع صاحبي قبل استئناف السير بأخذ صورة لي تظهر القرية الثاوية خلف الجبل الذي كسته أعشاب خضراء لا تخطئ العين نضارتها .
سألت صاحبي بشيء من الفضول : هل هذه القرية تنمى إليها أصول السملاليين الذين أسسوا إمارة إيليغ ؟ . اكتفى بجواب مقتضب : لست أدري ، فجال في خلدي أن السؤال عن إمارة زالت بما لها و ما عليها غير ذي بال ، عند صاحبي ، و ما رسخ في ذاكرتي عن قصور النظر الذي رمى به الصحفي المخضرم مصطفى العلوي بعض السملاليين الذين رضوا بإطلاق سراح الشريف في صدر قيام الدولة العلوية لن ينشرح صدر صاحبي لمناقشته كما حدث لي يوما حين سألت زوجة الراحل محمد عزيز لحبابي عن رأيها فيما كتبه الصحفي نفسه عن " آل الجامعي" و أسباب إبعادهم عن حمى البلاط أيام زمان ، فلم تزد الأستاذة الجامعة الذكية على القول : كلام صحف و حساد!
وافيت المدشر الصغير بعد مسير يقل عن نصف ساعة ، انتهزها صاحبي للإشادة بهمة هؤلاء الشباب الذين اصطحبناهم ، وهم ليسوا سوى طلبة يتلقون العلوم الشرعية بإحدى المدارس العتيقة . يقطعون الطريق جيئة وذهابا مساء الأربعاء ، كي يتمتعوا برؤية أهلهم في عطلتهم الأسبوعية يومي الخميس و الجمعة خلافا للعطلة الرسمية في الإدرات و المدارس العمومية . و للخميس في مأثوراتنا الشعبية شأن لطيف و مريب : " لخميس ما يقرا غير الحمار بوتليس !"
حللنا بالقرية الصغيرة التي ينحدر منها صاحبي ، رفيق السفر الذي لم تذهب سنوات غربته الطويلة بألمانيا فصاحة لسانيه العربي والأمازيغي ، لم ينزل من السيارة إلا بعد أن رسم لي على ظهر ورقة معالم الطريق الموصل إلى " مجاط" ثم " إفران"، ألح علي ألا أنعطف يمينا ولا يساراً حتى أبلغ قوسا عتيقا لم يأل جهدا في شرح معالمه، ودعته، وقد بدا منزله الطيني على بعد أمتار ، عاود دعوتي لاصطحابه إلى هذا البيت العتيق ، كي نشرب كأس أتاي ، فاعتذرت ، لأنني أوثر أن أبلغ إفران قبل غروب الشمس . أكملت السير على الطريق المعبد الضيق ذي الحواف الحادة . مررت بطرق تتفرع يمينا و يسارا ، فأدركت معنى إلحاح الرجل علي ألا أنعطف بالسيارة حتى أبلغ القوس القديم . كان يخشى أن تتفرق بي السبل المتفرعة المؤدية إلى مداشر شتى أتخيلها مبثوثة موزعة بين هذه الجبال الشاهقة . وافيت القوس المذكور، فوجدته قديما تآكل بفعل عاديات الزمن ، جاوزته ، ثم انعطفت شمالا سيرا على النهج الذي اختطه صاحبي على ظهر الورق . مررت بدواوير متجاورة حتى بلغت قرية تدعى " تيغرت" . توفقت قبالة صف من الدكاكين و الحوانيت الصغيرة . اشتريت من أحدهم قنينة ماء .فاجأني أن الثمن لا يزيد عن ثمنها بالمدن ، فاستبشرت خيرا ، لأن هؤلاء البسطاء لا يزيدون في أثمان السلع كما يفعل كثير ممن يعميهم الجشع و الطمع ، فينتهزون وجود محلاتهم على الطريق التي يمر منها المسافرون ، فيضاعفون أثمان كل ما يعرضونه للبيع من سلع و مأكولات... ولا تسأل عن محطات الاستراحة على الطريق السيار ، فقد يخيب ظنك ....
تحدثت مع التاجر قليللا ، كان شابا متوسط القامة ، لا يزيد عمره على العشرين ، يتحدث بطلاقة لم أعهدها فيمن غلبت عليهم لغة الأم . سألته عن منطقة " مجاط" ، فقال : كل هذا المجال الذي مررت منه يدعى مجاط ، وتيغرت هذه أكبر قرى مجاط . سألته عن باعة " البنزين " ، فقال : يباع هنا البنزين المهرب كما يباع بكثير من مداشر سوس و الصحراء . لكن أنصحك إذا كان بحوزتك مقدار ما يوصلك لإفران ، أن تبتاع البنزين من هناك ، إذ أن الثمن هنا يزيد بقليل . تفهمت الموضوع ، لأنني أعرف أن بعد المسافة و مصاريف الشحن يبرران زيادة سعر اللتر الواحد . سألته غير راغب في التزود بالوقود ، و إنما فاجأني وجود براميل متوسطة الحجم أمام أحد المحلات ، خمنت أنها مخصصة للبنزين المهرب . مظهر لم أجد له أثرا في تافراوت التي تسيطر على سوق الوقود بها شركة معلومة ...
سرحت ببصري على امتداد سهل خصيب ، تكسوه خامات زرع كثيفة . استدرت شمالا ، فرأيت قطعانا من الضأن و الماعز ترعى . جال في خلدي أن تعلق قلبي برؤية مجاط ، يعود إلى قصة دفينة من تاريخ عائلتنا و عشيرتنا البدوية التي كانت إلى ما قبل حرب الصحراء تنتجع حيثما هطل المطر ...

" عادت إلى الطفو على سطح ذاكرتي حكايات أبي عن سر تسمية " امجاجيط" بهذا الاسم ، بينما تكمن في مكان ما من سجلات الذاكرة مرويات مقتضبة للضابط الفرنسي الذي يعود إليه الفضل في تعرفنا على شيء من تاريخ بلدتنا المغمورة " أسا" الموصولة في التفكير الصوفي الذي يمثله الإبريز بمجمع الصالحين أو ديوان الأولياء. تحدث منصور فانسان مونتاي رحمه الله عن مجيء إداومستر من أمسترا ضواحي إفران الأطلس الصغير دون أن يذكر قصة ارتباط امجاجيط بمنطقة مجاط . قد تكون ذاكرتي الغربال قد خانت أو ضيعت بعض تفاصيل صاحب كتاب "تقييدات حول تكنة" ، لكنني على مثل اليقين أن قصة أمجاجيط لم تخذل منها شيئا . فلقد قال الراوي : إن جد امجاجيط ، و كان اسمه الحقيقي " امحند"، قد ضاق ذرعا من دفع الديات و المظالم التي تحكم بها أيت لربعين على أخيه الذي لا ينفك عن اقتراف جرائم ، كان آخرها قتل عبد ، طالب أولياء دمه بديته ، فبخل الرجل الموسر الذي يمتلك قطيعا ، هو أغلى رأس المال و أعلاه حينذاك ، فقرر أن يتغرب ، أو لنقل بلسان الراوي : إزوك ، يصير أمزواك ، بمنزلة المبعد المغترب إن شئنا تقريب المعنى .
ساق قطيعه بعد أن حمل على الحمير خيمته و جميع متاعه ، و ألفى قبل أن يبرح مضارب قومه رجلا ، استطاب حديثه ، و أسر إليه بما حمله على ترك قبيلته التي لم ينشأ أن أطلع الرجل تحت طلبه على أحوالها و تأهب فرسانها للقتال إذا نادى منادي الغزّي (الغارة) . لم يمض وقت طويل حتى تركه رفيقه الذي طلع في سفره كما يطلع الغريب في بعض الأحلام و الأفلام ، و عاد بعد فترة ، وقد استقدم الفرسان الذين بعثوه على سبيل الاستطلاع قبل شن هجوم على حين غفلة من الخصوم . أحاطوا بالرجل و أهله إحاطة السوار بالمعصم ، فملئ منهم ذعرا. استأمنوه على نفسه وعياله ، وتركوا له كل الحملان دون أمهاتها و ما ملكت يمينه من الحمير التي تحمل متاعه ، و أخبروه أنهم إنما يسلبونه ردا على سلب قومه قافلة لهم ذات إغارة . وقع في حيص بيص. سار بأهله وما تبقى من قطيعه ( اللاغو/صغار الماعز...) ، و مضى يحمل غصة على غصة حتى ألقى عصاه بمنطقة مجاط . ضرب خباءه أو نصب خيمته ، و استأنف حياة جديدة وسط هذا السهل الذي بدا لي حين وافيته عصرا خصيبا أخضر.. أما أبناؤه الذين خالطوا جيرانهم الجدد، وأضحوا يتكلمون بلسانهم، ويقلدون صنائعهم ويتعلمون حرفهم حذو القدة بالقدة ، فقد صاروا من أعلم الناس و أمهرهم بإنباط الآبار و حفرها . مضت السنون سراعا ، و بلغ الرجل من الكبر عتيا ، فجمع أبناءه حوله ، وقد صار منهم رب العائلة الذين يعيل صغارا، فقال لهم : أي أولادي ، إنما ناديتكم ، وقد بلغت من الكبر عتيا ، ولست أدري هل ينسأ الله في عمري أم يقبض روحي ، و أردت ألا تعيشوا أغرابا بين هؤلاء القوم الكرام الذين أكرموا وفادتنا، لم يضايقونا ، ولم يسلبونا مالا ، ولا أعانوا على سلبنا و الاعتداء علينا ، وما قصروا في حقنا . لقد أزمعت على موافاة أهلي بأسا ، كي تعرفوا أصولكم و يؤوب الغصن إلى الشجرة التي تفرع عنها ...
عاد الرجل وبنوه إلى العشيرة، فأضحوا على سنة البدو الذين يحتقرون الصنائع ، يلمزونهم ب: حهارين الحسيان أي "حفارو الآبار" . أما أنا ، فقد ودعت التاجر خفيف الظل بتيغرت ، بعد أن القيت نظرة وامق على السهل القشيب، وتمتمت: لمثل هذا المنظر البهي، حط جدي " الإسمي" الرحال هنا!.

" تطابقت وصايا صاحبيّ الذين التقيتهما بتافراوت و تيغرت على وجوب تحري الحذر أثناء المرور من منعرج جبلي حاد يقع على الطريق بين تيغرت و إفران ، جاوزته حذرا ، وقد أدركت معنى وصيتهما و إلحاحهما على وجوب الحذر ، فالمنحدر يشرف على الهاوية ، و لا وجود لحاجز ، ولو من الحجر أو الزنك أو الإسمنت يفصل حاشية المنحرج الحاد عن الحافة التي لا تعني سوى جرف هار ، يمكن أن ينهار بمن يسير فوقه ... تنفست الصعداء لما جاوزته إلى طريق واطئة لا عوج فيها و لا منعرج ، تبسمت لما تذكرت أبيات ابن رومي التي أتحفني بها رفيق العودة من تافراوت:
" إن تطل لحية عليك وتعرض = فالمخـــــالي معروفة للحمير
علق الله في عذاريك مخـــــلاة = و لـكـنـهـا بـغـيـر شـعـيـــــر
لو رأى مثلهـــــا النبي لأجرى = في لحى الناس سنة التقصير

قالها ساخرا لما ذكر سماحة تعامل يهود منطقته السابقين مقارنة مع بعض المسلمين الذين لا يتورعون عن تفجير أنفسهم وسط الأبرياء ....
مررت بتنكرت ، فجالت في خلدي أسماء أعلام؛ فقهاء و شعراء مروا من هنا ، لا نعرف عنهم إلا سيرهم التي طارت شهرتها في الآفاق . منهم محمد الطاهر الإفراني الذي قارنت سابقا بين مديحياته و نظائرها التي خلفها الشيخ محمد المامي ، علامة تيرس الشهير .
وافيت إفران وقد خرج تلاميذ محمد المختار السوسي من المؤسسة عند تمام السادسة مساء . رأيت مشهدا لا يختلف عن انصراف تلاميذ المدن الكبرى إلى بيوتهم في نهاية حصة المساء . اقتربت من تلميذ بدا مهذبا ، سألته عن السوق القديم بإفران الأطلس الصغير . دلني بإشارة الأصبع إلى التقدم رأسا نحو وسط القرية الكبيرة التي تزدان بأشجار الزيتون . لم تكن لي غاية في السوق سوى أن أتحسس أثر شخصيات رواية " صبي من إفران" ، و أرى بأم عيني ذكاكين السوق القديم التي تضم دكان اليهودي الذي ينصرف إليه خلسة " بولحسن" ، المسلم الذي يحتسي معه الخمر في الدكان إذا جن الليل...
بدت لي الدكاكين قصيرة من طابق واحد لا تختلف في شيء عن هيئة دكاكين سوق كليميم كبرى حواضر وادنون التي يجاورها ملاح اليهود .
لم أسأل عن الملاح بإفران ، فقد رأيت في السابق تصميما في ملحق بحث جامعي يرسم موقعه ، كما لم أسأل عن " المعارة "المقدسة" التي تثوي بها جثامين من عرفتهم الذاكرة اليهودية بالنسرافيم أو شهداء المحرقة التي راودتني في حقيقتها شكوك عززتها رواية المعسول لأخبار أحداث المتمرد بوحلاسة الذي يروي محمد المختار السوسي أن مصرعه كان بقرية تيمولاي خلافا لما ضمنه الروائي كنافو روايته البديعة " صبي من إفران". و لأمر ما خطر ببالي إمكان الجمع بين الروايتين عندما وصلت " تيمولاي " التي لا تبعد عن إفران سوى ببضع كيلومترات ...


* د. بوزيد لغلى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى