غير بعيد حائط طيني أجلس، ربما لأنقذ كلامي الذي يدور داخل فمي لا غير، لكن البلادة سيّدة نهاري الجديد. بردٌ يموج حول جذع الرمّانة النحيلة. تربتها جافة. يضرب الضوء نصف جذعها العلوي، حائلاً، يسيل بحمرة خفيفة. ألمس وجهي. وجه بلا عمر ليس دليل براءة.
أحقاً أنا دمية مدفونة! حسناً، ما السيئ في عالم الدمى الثابت اللطيف؟ ألا يشبه حياتي المنطوية مثل بذرة قاسية داخل رحم عقيمة؟ لكن الدمى لا تصرخ، الدمى لا تسيء ولا تكذب ولا تقتل. أنا دمية حياتي. ثم إن الدمى ليست علامات براءة. إنها روابط يأس بين طفولة لينة وإدراك ناضج خائف. وإن كانت الدمى ألعاباً، ألسنا ممّن بدّد الألعاب كلها حتى بتنا نملّ كل لعبة؟! من الأفضل لي ترك عمري لجذع الرمّانة. صحيح أن نموّها بطيء، لكنها تواصله في نعيم البطء منسية خفيفة. توقع أبي السنة الماضية أنها ستهلك. وها هي تزهر من جديد. يتدفأ التراب حول جذورها. عمري ثلاثون سنة. أقول في صمت للرمّانة النحيلة إن عمري ثلاثون، وفمي بردان، أنظر إلى الحائط كمن ستكون حرارة الحائط الأبكم المصبوغ بضوء الصباح السائل، آخر ما يحس. أخشى لمس الرمّانة. يا لابتهاج عيني بتفتح زهور الرمّان! أتراني أفضّل عمل عيني، زاهدة منكمشة، على جهد يدي؟ العين لا تؤذي، لا تلمس أي شيء، اليد طمّاعة شرهة ومسيئة. أخجل من تذكّر ربط الكرم باليد. متى كان الكرم يداً لا تقتل ولا تكذب؟ اليد امتداد خشن، إنها مجبولة على إحداث شرخ خارجها. لا تعي أنها جرح لا يكفّ عن مد آلامه إلى الغير. الطمع يؤذي ويجلب الشرور. الطمع لا يحس بالمصافحة التي تحس بها العين وهي تمسك الحياة من دون أن تلمسها. عليَّ الاهتمام بعيني. على يدي أيضاً أن ترضخ لعيني، على يدي أن تفهم أن العين هي التي يجب أن تطاع. أشكّ في أخلاق عيني، فسلوكها من سلوك مخبر وضيع. تفضل رؤية الرمّانة عارية ممنوحة بلا ثمن لأنها أكثر نهماً من يدي. أفكر في يدي ضعيفة ومترددة وخاملة. لذلك لا تجرؤ على لمس الرمّانة. أنظر في يدي لا تعي رعبي وهلعي. يد مترددة. أفكر في وجهي. ما الذي يبديه وجه بلا عمر وبلا طموح. أيّ وجه هذا الذي لا يعرف إن كان يخدم عينه أم يديه؟ أهو لي أنا فقط؟
أتراها أحبّت وجهي؟ قالت لأختها الوحيدة الجميلة إن خطّي صغير. إنه ناعم كخطّ البنات. ثمّة روح أنثوية ترتعش داخل يدي وهي تسكب الكلمات على الورق. هل الأنوثة فقط ترتعش؟ أيّ حاسة تناسب الأنوثة؟ لقد فضّلت خطّ يدي على ملامح وجهي. فضّلته لأنه يشبه خط البنات. لكنها لم تقل ذلك علانية. قالته كأنها تريدني أن أتشمّم رائحة الحبر. قالت: خطّه صغير كخطّ البنات، وابتسمت. كانت من أجمل الوجوه التي رأيتها تبتسم. لم تقل إنها تحب نوعاً كهذا من الخط. الآن بعدما أرسلت عشرات الرسائل، أتراها تتخيّل الكلمات كيف يمكن أن تبدو إذا ما كتبتها بخطّ يدي. لم أعد استعمل القلم. حتى عين تلك الفتاة لا تلمس الكلمات. إنها تفهمها وتردّ عليها فقط. لكنها لا تلمس مما تفهم شيئاً. يا لبخل العين التي لا تريد صاحبتها أن تلمس كلمات عيني. تفضّل البنات من يتشابه عليهن فيبدين الرضوخ العذب لتشابه غير مفهوم. ترى كيف يمكن لصوتٍ أن يغري؟ هل ينبغي لي البحث عن كتاب حول مراتب الصوت المغرية. أيمكن أن يوجد كتاب كهذا. وإذا وجد فهل سيكون مؤلفه موسيقياً أم منجّماً. أحياناً أنجّم أنا أيضاً. إحدى صديقاتي الجديدات تلتذّ بي لأني أنجّم لها على فنجانها. تباً. كيف سمحت لنفسي بعمل أخرق محتال كهذا. الأفضل أن أعود بسرعة إلى الكتب إلى أرض الكلاب اللاهثة. أطيل النظر في جذع الرمّانة. إنه نحيل، ويتطاول. لا شك إنه مرن. لم ألمس الجذع لأتأكد. غداً سألمس الجذع.
* * *
إنني أتكلم عن نفسي وهي وحيدة، تكاد تخنقني. هاكم ما يحدث لي. بتّ أنسى أقرب الحوادث والأسماء وأكثر أرقام الهاتف التي أتكلم مع أصحابها كل يوم. عندما أنادي أخي أنطق باسم أختي، فتضحك أمّي من حالي التي تخيفني. تقول: أنظرْ. لا أحد ينظر إليك، فأنت لم تنفع أحداً، ولا حتى نفسك، أيها المخبول. أقول في سرّي: هذا هو عين الصواب، يا أمّي، هذا هو عين الصواب. أمثالي لا ينبغي أن يكونوا محلّ رعاية من أحد. عندما قبّلتُ فم تلك الأرنبة الشهي في بيت صديقي، نسيتُ إن كانت هي نفسها التي أفكر فيها على الدوام. قطعاً لم تكن. مع ذلك فقد عضّت الأرنبة اللدنة على باطن ساعدي عضة طويلة مبهجة. أتراني كائناً حسياً أخرق أفكر في طول مدة العضّ الليّن ولا أحس بقلب صاحبة الأسنان المرحة. أتراها وضعت قلبها المكروب بين أسنانها، وإذ عضّتني فإنما كانت في الوقت نفسه تعضّ قلبها الذي رصّته مقاطع سنية مبرية على ساعدي. أفكر فيها فقط من خلال أسنانها المصفرة القاسية. لأتذكرها علّي أتذكر العضة. تقول أمّي: كثرة من المحامين والموظفين يحسنون التصرف في أوقات سيئة كهذه. أما أنت فلستَ محامياً نشطاً ولا موظفاً مدعوماً. ادفعْ رشوة وتوظفْ أيها المخبول. أقول: الكثرة مخزية أمّاه، الكثرة مخزية. كانت تبكي. لم أر الدموع. هل كل بكاء يدمع مثلما كل شجرة تزهر. ثمة أشجار بلا زهور. صاحبة الأسنان القوية اللطيفة المصفرة شجرة لا تزهر، إنها تختنق مثلي. كانت خائفة. ما كانت لتعضّني إن لم تكن خائفة. لو كانت وحيدة في ذلك الوقت، وحيدة داخل غرفتها الترابية النائية بين أشجار الريف المهملة، لعضّت هواء أنفاسها وظلال المساء الأخرس وشراسة أقدام التراب المنثور، ولسحقت نظرات أهل المدينة البائسة المسحوقة الذين عاقبوها بالوحدة والأرق كما يعاقب سجين بريء، ولكان قلبها هواءً مخنوقاً كحال عيني، كجبال قلبي. صاحبة القلب الهوائي المختنق ظفرت بلحم ساعدي الأملس البارد مطيعاً بين متموجات شعيرات قصيرة، فوجدته جديراً بالعضّ بدل الهواء الذي يعبر صدرها مثلما يعبر الليل معابر من ظلام. لمَ لمْ تتكلم، واكتفت فقط بالعضّ. لا شك أنها تكلمت. لا أتذكر كلماتها. من يفكر في الأسنان العضّاضة ينسى مقاصد الكلمات المعضوضة مثل لحم داخل لقمة سهلة. قالت مثلاً: لمَ أتيتَ بي إلى هنا. قلت مثلا: أنتِ التي جئت. أنا فقط دللتكِ. لم أمش بالقدمين التي مشيت إلا إذا كان عقلكِ لا يخضع لغير قدميكِ، وأنني في اللحظة التي اقترحتُ فيها عليكِ المجيء، فكرتِ على الفور بعدد الخطوات اللازمة لتكوني بين ذراعيَّ. أسكتْ أنت وقح، وقح ومخادع. هي تعرف تماماً أنني لست وقحاً، ولم أخدعها. الخداع يحتاج إلى قصد سابق مبيَّت داخل روح ميتة. لا أستطيع التفكير في كل هذه الأمور القصية المتعبة الميتة عندما أتحدث إلى فتاة مجهولة العواطف. يمكنني فقط تخيّل ملمس بشرتها، أو حنينها الغامض إلى بيت يخصّها وحدها، وكذلك بلا شك أفكر في أنهن دائماً يعتقدن أنهن مخدوعات، وأن الرجال سيّئو الطوية أشرار. البيت العائلة. إنها أفكار مجنونة، العائلة بداية الجنون. إنها أفكار أناس هلعين مذعورين يظنّون أن امتلاك بيت سينقذهم من الوحدة. إن البيت نفسه كملكية فردية حرة ليس سوى أردأ أشكال الخوف من الفقر. ما الفقر على كل حال؟ أهو فقدان البيت؟ إنهن لا يصبرن على فكرة البيت قطّ. وبدل أن يبنين بيتاً من أفكارهن يسرعن إلى إيجاد بيت يحمي أفخاذهن من الهياج المسعور، ولوك الألسن السخية بقذف المحصنات الجميلات. الخوف فقط يمكن أن يكون سبب إقامتنا في البيوت، لكن، ألم أكن أنا واحداً من الخائفين، من أولئك اللائكين لحم نساء ضعيفات، غير تلك النساء النبيهات، وهن من صنف آخر خطير، لا يضيّعن فرصة تمنحهن وجوداً لائقاً داخل بيت هو بيتهن فقط. أتكون كل النساء أنانيات؟ أليست الغيرة هي هذا الشكل المنحط من غريزة الأنانية؟
* * *
ترنحت الليالي من حولي بعدما قالت لي، طبعاً برقة يجب أن تقول، لكن الأخفى هناك بين الكلمات التي قيلت برقة أنها كانت تتوقع حصولها على إطراء جسدي، إذْ بالغتْ في ضمّ وشدّ وتقريب وتمسيد طرفي سترتها الجينز القصيرة إلى صدرها الصغير الضاحك: إنك متواضع هادئ ولطيف. فهمتُ على الفور؛ وصفاً كهذا يليق بدودة رخوة. وإنها لترغب في حملي إليها بالسهولة والخفة التي تحمل بها دودة لتتحول إلى طعم، أي طعم. إن مرافقة النساء تذكّرني بعوالم الحيوان الدافئة. مرافقتهن من دون تصديق إبدائهن المعرفة المهولة ورفعة الذوق الطرية الرنانة، تعيدني إلى دفق عالم الخليقة الأول. يا له من عالم طريف الصفات! خيالهن الحسي يحرّضني على تخيّل العالم البدائي. لِمَ لا تدفعني المرافقة الثقيلة إلى تخيّل المستقبل، اللحظة التي تحتضن النار من دون خوف ومن دون حساب. ربما يكنّ أكثر ذكاء مما أتوقع. حرصهن وبطؤهن علامتا خشية حكيمة. قد يصحّ اعتبار الارتياب اليقظان ورغبة التملك الجامحة ملمحَي ذكاء عائلي وحصافة تدبير ناجع. لا شك. أحيانا يحلو لي اعتبارهن كذلك.
* * *
كيف يمكنني التصالح مع أبي على أنني رجل بلا غاية، بلا قوة طموح عام مغرور؟! أي طموح لا يسقط هنا في شرك الدناءة العزيزة الملهمة؟ كيف يمكنني التمتع بالعزلة صافية ناعمة، غافلاً دروب الشاكي الضعيف؟ والتمنع عن أفضال الربّ الجزيلة على العالم، ما لم أكن أنا أيضاً سمة من سمات الربّ الطفولية العابثة، أو فضلة من عقاب جثة حياة مسحوقة. أي عدوى بغيضة ستصيبني عما قريب. أعود فأنظر في عين أمي: أيمكن صاحبة هاتين العينين السريعتي النحيب أن تدرك أنني أحيا كطيف، كجوار شبحي مهان؟! أتذكر الجرو المغبر، روح الجرو الصغيرة المطاردة، الجرو الملهوث الذي قُتل أمامي وأنا أتعرق من رياضة جري إجبارية وخاوي البطن في صباح صخري جاف، صباح جاف بارد من صباحات خدمة العلم الشنيعة. لأمّي ذكاؤها المرتاب. ثقل وطول وتشنّج مداومات الخوف تجعلها ذكية ومحتاطة. الأصحّ إنها محتارة مترددة ومتسرعة. الخوف من الفقر سرّع وكثّف كل مخاوفها دفعة واحدة، فصارت تنبح وهي تختنق ضيقاً وتحسراً. تباً للمازوت ألف مرة. ليخرج المازوت من حياتنا إلى الأبد كما دخلها الرعب إلى الأبد. أين الموسيقى يا أمّي. أين العشب تحت حافري بوزنكو الأماميتين ذي الابتسامة الدلفينية الزائغة. أين قلبي المتكسر بين أسنان الخوف والفقر، أين صوت الحب – صوت الموسيقى ذات الأسى اللانهائي. أعتقد، بعد طول تأخر ودوام خمول كريهين، فكل ما أصل إليه كون قد تجاوزني وتلفظني، أن أمّي على صواب. ألا يجدر بي أن أخاف وأحتاط وأتدبر شؤون عيشي ومقبل أيام زواجي العجيبة. ألا يجدر بي اقتراض بعض المال من ثمن حلى أختي المريضة، ووضعه في سوق الأغنام العامر. ماذا لو كان رصد المال في لحم الغنم متأخراً؟ أتراني أجبن من جديد فلا أقوى على أي فعل؟ ربما يكون في الجبن شيء من التعقل. ألا يمكن الوقاحة أن تنفذ إلى العقل بملاذ ما، براحة ولو موقتة وعابرة. الوقاحة أو التهور أو الطيش. خوف أمي يهذّب خيالي. كيف يمكن الخيال أن يوفق بين الخوف والتهذيب في آن واحد؟ أعلم الآن بما تفضي إليه ندوات المراكز الثقافية العفنة. إنها تلبّي الدافع إلى الخوف بالكلام عن المحبة والتأدب والأخلاق بحيث أننا في المحصلة النتنة العقيمة لا نرى من الخوف سوى هاوية من التهذيب اللعين. تباً. كل هواء مهذّب هواء وضيع. أعود بنظري إلى جذع الرمّانة. لن ألمس الجذع. فقط سأنظر حتى تتحول عيناي إلى جذع مرن بهيج. كنت شغوفاً بأنني لا شك سأعرف المستقبل وأنال من دوار الزمن النتن. آتي عيني ينهار عبر ضوء النهار الشاسع. هناك السماء. لم أخبر أمّي أنني سماء قديمة عاجزة عن النظر إلى الأرض الجديدة. ما الذي يمكن أن يجلبه ضوء النهار سوى العزلة. كنت آمل أن يُنتقَم مني، أن أُجلَد بجذع الرمّانة المزهرة، ذلك أنني منهار بطنين الله الطبيعي، بالخليقة المشوّهة والمدهشة بين فخذيَّ، ومن لم يتألم بسبب ماء فخذيه العاريتين، بسبب عقله المنتصب الحزين، وظنّه أن العقل وحده يحكم أفعاله. إنني ألهو أيتها الرمّانة المنسية. ألهو حدّ العبث بجسمي المحروم. أفي وسعك البقاء بريئة ولاهية الأغصان؟ ما يدفعني فأصنّفك في عذاب أخلاقي؟! أفي وسعنا اللعب النزيه من دون أن يؤذي أحدنا الآخر، من دون ازدراء باهت، بلا جموح خاسر لئيم؟ كيف لك مواصلة النموّ، أيتها النحيلة، يا مَن طوتك حيرتي بين عينيها الخاملتين العنيفتين، أمام عينين مدمّرتين، عينَي حيوان ميت؛ ليس سواه يقدر، يلهو مثلكِ، يتضرع بلمسكِ مرةً، ويصمت أبداً صمتَ ثور ودلفين رائعَين نافقَين. ما كان من نجاة لي سوى تخيّلي صديقهما الغائب مطحوناً بأنياب البؤس والخوف. الأشباح تنهض يا أمّي، الأشباح أناسُ نهوضٍ خفاف. ليس لي سواهم، داخل منظر رمّانة مسلولة الجذور.
أحقاً أنا دمية مدفونة! حسناً، ما السيئ في عالم الدمى الثابت اللطيف؟ ألا يشبه حياتي المنطوية مثل بذرة قاسية داخل رحم عقيمة؟ لكن الدمى لا تصرخ، الدمى لا تسيء ولا تكذب ولا تقتل. أنا دمية حياتي. ثم إن الدمى ليست علامات براءة. إنها روابط يأس بين طفولة لينة وإدراك ناضج خائف. وإن كانت الدمى ألعاباً، ألسنا ممّن بدّد الألعاب كلها حتى بتنا نملّ كل لعبة؟! من الأفضل لي ترك عمري لجذع الرمّانة. صحيح أن نموّها بطيء، لكنها تواصله في نعيم البطء منسية خفيفة. توقع أبي السنة الماضية أنها ستهلك. وها هي تزهر من جديد. يتدفأ التراب حول جذورها. عمري ثلاثون سنة. أقول في صمت للرمّانة النحيلة إن عمري ثلاثون، وفمي بردان، أنظر إلى الحائط كمن ستكون حرارة الحائط الأبكم المصبوغ بضوء الصباح السائل، آخر ما يحس. أخشى لمس الرمّانة. يا لابتهاج عيني بتفتح زهور الرمّان! أتراني أفضّل عمل عيني، زاهدة منكمشة، على جهد يدي؟ العين لا تؤذي، لا تلمس أي شيء، اليد طمّاعة شرهة ومسيئة. أخجل من تذكّر ربط الكرم باليد. متى كان الكرم يداً لا تقتل ولا تكذب؟ اليد امتداد خشن، إنها مجبولة على إحداث شرخ خارجها. لا تعي أنها جرح لا يكفّ عن مد آلامه إلى الغير. الطمع يؤذي ويجلب الشرور. الطمع لا يحس بالمصافحة التي تحس بها العين وهي تمسك الحياة من دون أن تلمسها. عليَّ الاهتمام بعيني. على يدي أيضاً أن ترضخ لعيني، على يدي أن تفهم أن العين هي التي يجب أن تطاع. أشكّ في أخلاق عيني، فسلوكها من سلوك مخبر وضيع. تفضل رؤية الرمّانة عارية ممنوحة بلا ثمن لأنها أكثر نهماً من يدي. أفكر في يدي ضعيفة ومترددة وخاملة. لذلك لا تجرؤ على لمس الرمّانة. أنظر في يدي لا تعي رعبي وهلعي. يد مترددة. أفكر في وجهي. ما الذي يبديه وجه بلا عمر وبلا طموح. أيّ وجه هذا الذي لا يعرف إن كان يخدم عينه أم يديه؟ أهو لي أنا فقط؟
أتراها أحبّت وجهي؟ قالت لأختها الوحيدة الجميلة إن خطّي صغير. إنه ناعم كخطّ البنات. ثمّة روح أنثوية ترتعش داخل يدي وهي تسكب الكلمات على الورق. هل الأنوثة فقط ترتعش؟ أيّ حاسة تناسب الأنوثة؟ لقد فضّلت خطّ يدي على ملامح وجهي. فضّلته لأنه يشبه خط البنات. لكنها لم تقل ذلك علانية. قالته كأنها تريدني أن أتشمّم رائحة الحبر. قالت: خطّه صغير كخطّ البنات، وابتسمت. كانت من أجمل الوجوه التي رأيتها تبتسم. لم تقل إنها تحب نوعاً كهذا من الخط. الآن بعدما أرسلت عشرات الرسائل، أتراها تتخيّل الكلمات كيف يمكن أن تبدو إذا ما كتبتها بخطّ يدي. لم أعد استعمل القلم. حتى عين تلك الفتاة لا تلمس الكلمات. إنها تفهمها وتردّ عليها فقط. لكنها لا تلمس مما تفهم شيئاً. يا لبخل العين التي لا تريد صاحبتها أن تلمس كلمات عيني. تفضّل البنات من يتشابه عليهن فيبدين الرضوخ العذب لتشابه غير مفهوم. ترى كيف يمكن لصوتٍ أن يغري؟ هل ينبغي لي البحث عن كتاب حول مراتب الصوت المغرية. أيمكن أن يوجد كتاب كهذا. وإذا وجد فهل سيكون مؤلفه موسيقياً أم منجّماً. أحياناً أنجّم أنا أيضاً. إحدى صديقاتي الجديدات تلتذّ بي لأني أنجّم لها على فنجانها. تباً. كيف سمحت لنفسي بعمل أخرق محتال كهذا. الأفضل أن أعود بسرعة إلى الكتب إلى أرض الكلاب اللاهثة. أطيل النظر في جذع الرمّانة. إنه نحيل، ويتطاول. لا شك إنه مرن. لم ألمس الجذع لأتأكد. غداً سألمس الجذع.
* * *
إنني أتكلم عن نفسي وهي وحيدة، تكاد تخنقني. هاكم ما يحدث لي. بتّ أنسى أقرب الحوادث والأسماء وأكثر أرقام الهاتف التي أتكلم مع أصحابها كل يوم. عندما أنادي أخي أنطق باسم أختي، فتضحك أمّي من حالي التي تخيفني. تقول: أنظرْ. لا أحد ينظر إليك، فأنت لم تنفع أحداً، ولا حتى نفسك، أيها المخبول. أقول في سرّي: هذا هو عين الصواب، يا أمّي، هذا هو عين الصواب. أمثالي لا ينبغي أن يكونوا محلّ رعاية من أحد. عندما قبّلتُ فم تلك الأرنبة الشهي في بيت صديقي، نسيتُ إن كانت هي نفسها التي أفكر فيها على الدوام. قطعاً لم تكن. مع ذلك فقد عضّت الأرنبة اللدنة على باطن ساعدي عضة طويلة مبهجة. أتراني كائناً حسياً أخرق أفكر في طول مدة العضّ الليّن ولا أحس بقلب صاحبة الأسنان المرحة. أتراها وضعت قلبها المكروب بين أسنانها، وإذ عضّتني فإنما كانت في الوقت نفسه تعضّ قلبها الذي رصّته مقاطع سنية مبرية على ساعدي. أفكر فيها فقط من خلال أسنانها المصفرة القاسية. لأتذكرها علّي أتذكر العضة. تقول أمّي: كثرة من المحامين والموظفين يحسنون التصرف في أوقات سيئة كهذه. أما أنت فلستَ محامياً نشطاً ولا موظفاً مدعوماً. ادفعْ رشوة وتوظفْ أيها المخبول. أقول: الكثرة مخزية أمّاه، الكثرة مخزية. كانت تبكي. لم أر الدموع. هل كل بكاء يدمع مثلما كل شجرة تزهر. ثمة أشجار بلا زهور. صاحبة الأسنان القوية اللطيفة المصفرة شجرة لا تزهر، إنها تختنق مثلي. كانت خائفة. ما كانت لتعضّني إن لم تكن خائفة. لو كانت وحيدة في ذلك الوقت، وحيدة داخل غرفتها الترابية النائية بين أشجار الريف المهملة، لعضّت هواء أنفاسها وظلال المساء الأخرس وشراسة أقدام التراب المنثور، ولسحقت نظرات أهل المدينة البائسة المسحوقة الذين عاقبوها بالوحدة والأرق كما يعاقب سجين بريء، ولكان قلبها هواءً مخنوقاً كحال عيني، كجبال قلبي. صاحبة القلب الهوائي المختنق ظفرت بلحم ساعدي الأملس البارد مطيعاً بين متموجات شعيرات قصيرة، فوجدته جديراً بالعضّ بدل الهواء الذي يعبر صدرها مثلما يعبر الليل معابر من ظلام. لمَ لمْ تتكلم، واكتفت فقط بالعضّ. لا شك أنها تكلمت. لا أتذكر كلماتها. من يفكر في الأسنان العضّاضة ينسى مقاصد الكلمات المعضوضة مثل لحم داخل لقمة سهلة. قالت مثلاً: لمَ أتيتَ بي إلى هنا. قلت مثلا: أنتِ التي جئت. أنا فقط دللتكِ. لم أمش بالقدمين التي مشيت إلا إذا كان عقلكِ لا يخضع لغير قدميكِ، وأنني في اللحظة التي اقترحتُ فيها عليكِ المجيء، فكرتِ على الفور بعدد الخطوات اللازمة لتكوني بين ذراعيَّ. أسكتْ أنت وقح، وقح ومخادع. هي تعرف تماماً أنني لست وقحاً، ولم أخدعها. الخداع يحتاج إلى قصد سابق مبيَّت داخل روح ميتة. لا أستطيع التفكير في كل هذه الأمور القصية المتعبة الميتة عندما أتحدث إلى فتاة مجهولة العواطف. يمكنني فقط تخيّل ملمس بشرتها، أو حنينها الغامض إلى بيت يخصّها وحدها، وكذلك بلا شك أفكر في أنهن دائماً يعتقدن أنهن مخدوعات، وأن الرجال سيّئو الطوية أشرار. البيت العائلة. إنها أفكار مجنونة، العائلة بداية الجنون. إنها أفكار أناس هلعين مذعورين يظنّون أن امتلاك بيت سينقذهم من الوحدة. إن البيت نفسه كملكية فردية حرة ليس سوى أردأ أشكال الخوف من الفقر. ما الفقر على كل حال؟ أهو فقدان البيت؟ إنهن لا يصبرن على فكرة البيت قطّ. وبدل أن يبنين بيتاً من أفكارهن يسرعن إلى إيجاد بيت يحمي أفخاذهن من الهياج المسعور، ولوك الألسن السخية بقذف المحصنات الجميلات. الخوف فقط يمكن أن يكون سبب إقامتنا في البيوت، لكن، ألم أكن أنا واحداً من الخائفين، من أولئك اللائكين لحم نساء ضعيفات، غير تلك النساء النبيهات، وهن من صنف آخر خطير، لا يضيّعن فرصة تمنحهن وجوداً لائقاً داخل بيت هو بيتهن فقط. أتكون كل النساء أنانيات؟ أليست الغيرة هي هذا الشكل المنحط من غريزة الأنانية؟
* * *
ترنحت الليالي من حولي بعدما قالت لي، طبعاً برقة يجب أن تقول، لكن الأخفى هناك بين الكلمات التي قيلت برقة أنها كانت تتوقع حصولها على إطراء جسدي، إذْ بالغتْ في ضمّ وشدّ وتقريب وتمسيد طرفي سترتها الجينز القصيرة إلى صدرها الصغير الضاحك: إنك متواضع هادئ ولطيف. فهمتُ على الفور؛ وصفاً كهذا يليق بدودة رخوة. وإنها لترغب في حملي إليها بالسهولة والخفة التي تحمل بها دودة لتتحول إلى طعم، أي طعم. إن مرافقة النساء تذكّرني بعوالم الحيوان الدافئة. مرافقتهن من دون تصديق إبدائهن المعرفة المهولة ورفعة الذوق الطرية الرنانة، تعيدني إلى دفق عالم الخليقة الأول. يا له من عالم طريف الصفات! خيالهن الحسي يحرّضني على تخيّل العالم البدائي. لِمَ لا تدفعني المرافقة الثقيلة إلى تخيّل المستقبل، اللحظة التي تحتضن النار من دون خوف ومن دون حساب. ربما يكنّ أكثر ذكاء مما أتوقع. حرصهن وبطؤهن علامتا خشية حكيمة. قد يصحّ اعتبار الارتياب اليقظان ورغبة التملك الجامحة ملمحَي ذكاء عائلي وحصافة تدبير ناجع. لا شك. أحيانا يحلو لي اعتبارهن كذلك.
* * *
كيف يمكنني التصالح مع أبي على أنني رجل بلا غاية، بلا قوة طموح عام مغرور؟! أي طموح لا يسقط هنا في شرك الدناءة العزيزة الملهمة؟ كيف يمكنني التمتع بالعزلة صافية ناعمة، غافلاً دروب الشاكي الضعيف؟ والتمنع عن أفضال الربّ الجزيلة على العالم، ما لم أكن أنا أيضاً سمة من سمات الربّ الطفولية العابثة، أو فضلة من عقاب جثة حياة مسحوقة. أي عدوى بغيضة ستصيبني عما قريب. أعود فأنظر في عين أمي: أيمكن صاحبة هاتين العينين السريعتي النحيب أن تدرك أنني أحيا كطيف، كجوار شبحي مهان؟! أتذكر الجرو المغبر، روح الجرو الصغيرة المطاردة، الجرو الملهوث الذي قُتل أمامي وأنا أتعرق من رياضة جري إجبارية وخاوي البطن في صباح صخري جاف، صباح جاف بارد من صباحات خدمة العلم الشنيعة. لأمّي ذكاؤها المرتاب. ثقل وطول وتشنّج مداومات الخوف تجعلها ذكية ومحتاطة. الأصحّ إنها محتارة مترددة ومتسرعة. الخوف من الفقر سرّع وكثّف كل مخاوفها دفعة واحدة، فصارت تنبح وهي تختنق ضيقاً وتحسراً. تباً للمازوت ألف مرة. ليخرج المازوت من حياتنا إلى الأبد كما دخلها الرعب إلى الأبد. أين الموسيقى يا أمّي. أين العشب تحت حافري بوزنكو الأماميتين ذي الابتسامة الدلفينية الزائغة. أين قلبي المتكسر بين أسنان الخوف والفقر، أين صوت الحب – صوت الموسيقى ذات الأسى اللانهائي. أعتقد، بعد طول تأخر ودوام خمول كريهين، فكل ما أصل إليه كون قد تجاوزني وتلفظني، أن أمّي على صواب. ألا يجدر بي أن أخاف وأحتاط وأتدبر شؤون عيشي ومقبل أيام زواجي العجيبة. ألا يجدر بي اقتراض بعض المال من ثمن حلى أختي المريضة، ووضعه في سوق الأغنام العامر. ماذا لو كان رصد المال في لحم الغنم متأخراً؟ أتراني أجبن من جديد فلا أقوى على أي فعل؟ ربما يكون في الجبن شيء من التعقل. ألا يمكن الوقاحة أن تنفذ إلى العقل بملاذ ما، براحة ولو موقتة وعابرة. الوقاحة أو التهور أو الطيش. خوف أمي يهذّب خيالي. كيف يمكن الخيال أن يوفق بين الخوف والتهذيب في آن واحد؟ أعلم الآن بما تفضي إليه ندوات المراكز الثقافية العفنة. إنها تلبّي الدافع إلى الخوف بالكلام عن المحبة والتأدب والأخلاق بحيث أننا في المحصلة النتنة العقيمة لا نرى من الخوف سوى هاوية من التهذيب اللعين. تباً. كل هواء مهذّب هواء وضيع. أعود بنظري إلى جذع الرمّانة. لن ألمس الجذع. فقط سأنظر حتى تتحول عيناي إلى جذع مرن بهيج. كنت شغوفاً بأنني لا شك سأعرف المستقبل وأنال من دوار الزمن النتن. آتي عيني ينهار عبر ضوء النهار الشاسع. هناك السماء. لم أخبر أمّي أنني سماء قديمة عاجزة عن النظر إلى الأرض الجديدة. ما الذي يمكن أن يجلبه ضوء النهار سوى العزلة. كنت آمل أن يُنتقَم مني، أن أُجلَد بجذع الرمّانة المزهرة، ذلك أنني منهار بطنين الله الطبيعي، بالخليقة المشوّهة والمدهشة بين فخذيَّ، ومن لم يتألم بسبب ماء فخذيه العاريتين، بسبب عقله المنتصب الحزين، وظنّه أن العقل وحده يحكم أفعاله. إنني ألهو أيتها الرمّانة المنسية. ألهو حدّ العبث بجسمي المحروم. أفي وسعك البقاء بريئة ولاهية الأغصان؟ ما يدفعني فأصنّفك في عذاب أخلاقي؟! أفي وسعنا اللعب النزيه من دون أن يؤذي أحدنا الآخر، من دون ازدراء باهت، بلا جموح خاسر لئيم؟ كيف لك مواصلة النموّ، أيتها النحيلة، يا مَن طوتك حيرتي بين عينيها الخاملتين العنيفتين، أمام عينين مدمّرتين، عينَي حيوان ميت؛ ليس سواه يقدر، يلهو مثلكِ، يتضرع بلمسكِ مرةً، ويصمت أبداً صمتَ ثور ودلفين رائعَين نافقَين. ما كان من نجاة لي سوى تخيّلي صديقهما الغائب مطحوناً بأنياب البؤس والخوف. الأشباح تنهض يا أمّي، الأشباح أناسُ نهوضٍ خفاف. ليس لي سواهم، داخل منظر رمّانة مسلولة الجذور.