محسن المحمدي - نماذج من السيرة الذاتية في التراث العربي يمكن حصرها في ثلاثة أنواع رئيسية

أصدرت «المجلة العربية» السعودية مع عددها الجديد كتابا (عدد 258) بعنوان: «السيرة الذاتية في التراث العربي» لمؤلفه الدكتور أسامة محمد البحيري، وهو أستاذ النقد الأدبي والبلاغة بجامعة طنطا المصرية، والكتاب صغير حجمه ولا تتجاوز أوراقه الثمانين صفحة، لكن رغم ذلك استطاع فيه مؤلفه أن يقف عند أنماط السيرة الذاتية في التراث العربي تعريفا وأنماطا. ويعرف المؤلف السيرة الذاتية بأنها رواية أو سرد يقوم به كاتب لأجزاء من حياته الشخصية بأسلوب أدبي، لينبهنا بعد ذلك أن التراث العربي حافل بالسير الذاتية والتي يمكن حصرها في ثلاثة أنواع رئيسية نذكرها تباعا:
- السيرة الذاتية الروحية: التي يصور فيها صاحبها تقلبات حياته الروحية ورحلته من الشك إلى اليقين، فيصف فيها تجواله بين الأديان والملل والمذاهب المتضاربة ليختار بعد ذلك خلاصا يخمد به مطرقة الريبة التي تعصف به... ومن نماذج ذلك يذكر: سيرة سلمان الفارسي وسيرة الحكيم الترمذي (ت 320ه)، وسيرة الحسن بن الهيثم (ت 430ه)، لكن تبقى الأكثر شهرة سيرة أبي حامد الغزالي (ت 505ه) في كتابه «المنقذ من الضلال» والذي سيخصص له فصلا كاملا.
- السيرة الذاتية السياسية: هي نوع من السيرة، يعمل فيها الكاتب على تسجيل الأحداث والوقائع التي عاشها والمتغيرات التي شهدها والمعارك الحربية التي خاضها والمناصب التي تولاها، وكذلك يذكر فيها أصحاب الجاه والسلطان الذين عاصرهم... ومن نماذج ذلك يذكر: سيرة المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي (ت 470ه) وسيرة الأمير عبد الله بن بلقين (ت 483ه) وسيرة أبي الحسن الحكمي اليمني (ت 569ه)، لكن المؤلف سيركز اهتمامه على نموذج بعينه هو: كتاب «الاعتبار» لصاحبه أسامة بن منقذ (ت 584ه) ليخصص له فصلا كاملا.
- السيرة الذاتية العلمية: هي سيرة يحكي فيها صاحبها نشأته العلمية، ويتعرض لشيوخه ومعلميه، كما يذكر فيها رحلاته العلمية وكذلك الإجازات التي حصل عليها من ذوي القيمة العلمية والمشهود لهم بالفضيلة والمشار إليهم بالبنان... ومن نماذج ذلك يذكر: سيرة أبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا (ت 428ه) وسيرة عبد اللطيف بن يوسف البغدادي (ت 629ه) وسيرة جلال الدين السيوطي (ت 911ه)، لكن المؤلف سيركز اهتمامه على سيرة مشهورة لابن خلدون (ت 808 ه) في كتابه: «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا».
قبل أن يعرض البحيري لنماذجه المختارة، يشير إلى أن السيرة الواحدة قد تتضمن في ثناياها كل الأنماط المذكورة، فالتقسيم منهجي فقط. فقد نجد حكيا روحيا وذهنيا ممزوجا بالسياسي والعلمي، والتصنيف يتم بحسب غلبة أحد هذه العناصر في المتن الحكائي.
نقرأ في الفصل الأول ملخصا لكتاب المنقذ من الضلال، لأبي حامد الغزالي والذي يصنف ضمن السيرة الروحية، حيث نجد الغزالي يسرد علينا تجربته الذهنية القاسية في طلب الحقيقة، فسيرته مليئة بالشك والحيرة والبحث المضني، والانتقالات الذهنية (السفر بين الفرق والمذاهب المتداولة في زمانه، بحثا وتعليما) والجسدية (بغداد، نيسابور، الشام، القدس، الخليل، مكة، المدينة...) والخلوة والعزلة (إحدى عشرة سنة). ليسرد لنا كيف أنه استطاع أن يغنم بخلاص في الصوفية.
إن الرائع في سيرة الغزالي الذهنية كما يرى المؤلف هو حواره العميق مع الذات وفي أحيان كثيرة بصيغة المتكلم، مما يجعل سيرته الذاتية تكتمل في شروطها، ناهيك على سيطرة الأسلوب الأدبي المتأنق على المتن وذلك راجع لنضج الغزالي لغويا وثقافيا، فالسيرة كتبت في أخريات حياته.
أما في الفصل الثاني، فيعطينا المؤلف إطلالة حول السيرة الذاتية السياسية لأسامة بن منقذ والتي جاءت في كتابه «الاعتبار» وهي سيرة حظيت باهتمام كبير من طرف المستشرقين والعرب منذ القرن التاسع عشر، كما ترجمت لعدة لغات أوروبية (الفرنسية، الألمانية، الروسية، الإنجليزية) نظرا لأهميتها في وصف جوانب من تاريخ الحروب الصليبية، بل تعد الوحيدة كمصدر في بعض التفاصيل الدقيقة الغائبة عن بقية الكتب الأخرى.
كتب ابن منقذ سيرته وهو ابن التسعين من العمر، الأمر الذي ضمن لنا أكبر كم ممكن من الأحداث التي عاصرها، حيث استطاع أن يسترجع وقائع الحروب والكثير من المغامرات والأهوال التي مر بها، والجميل أنه قدم ذلك في قالب قصصي مشوق إلى درجة أن محقق الكتاب «فيليب حتي» قال: «في بعض الأحيان كان الراوي يرش البهار على القصة لتحسينها».
إن سيرة ابن منقذ غنية لأنها تحكي أحيانا تفاصيل دقيقة عن سلوكيات الجنود، فيصف لنا ومن خلال أمثلة ملموسة شجاعة بعضهم في المعارك، لكن هم جبناء أمام الفئران)، وأيضا يتطرق لشخصية الإفرنج وكيف تغيب عندهم النخوة وتنعدم غيرتهم عن النساء وبالطبع ساردا قصصا عايشها هو شخصيا وأحيانا بقالب يغلب عليه حس الفكاهة والسخرية.
وحينما نصل إلى الفصل الثالث فإننا نجد أنفسنا مع النمط الثالث من السيرة الذاتية والمتعلقة بالسيرة العلمية والتي وقف فيها المؤلف عند مثال شهير وهو كتاب «التعريف» لصاحبه ابن خلدون الذي حاول فيه الدفاع عن نفسه بعد اتهامه بالنقص العلمي الذي لا يتلاءم ومناصبه، فنجده قد أطال القول والكلام في التعريف بأسرته وأساتذته والكتب التي درسها والإجازات التي حصل عليها ومن احتك بهم من الشخصيات العلمية، ذاكرا المناصب التي شغلها والمهام التي تولاها سياسيا وعلميا ودينيا. وكل ذلك قدمه ابن خلدون بأسلوب رصين جزل مرسل، بعيد عن الصنعة التي شاعت في عصره وهو ما مكنه أن يخاطب جمهورا واسعا، وكيف لا ؟ وهو كان يسعى إلى تحسين صورته في الأذهان جراء ما روجه عنه خصومه من قلة كفاءة.
إن الأنماط الثلاثة من السيرة التي قدمها المؤلف (الروحية، السياسية، العلمية) تؤكد على أن بتراثنا كنوزا علينا الوقوف عندها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى