سعيد جدا بحضوري هنا بمدينة بنسليمان، وهي تحتفي في مهرجانها الوطني الخامس للزجل، بأحد الوجوه الزجلية التي بصمت بقوة لنفسها مكانا متميزا في المشهد الزجلي المغربي ألا وهو الزجال "رضوان أفندي"، كما أني سعيد بهذا الحضور البهي وبهذا الاهتمام الرائع بالزجل، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على المكانة التي أصبح يحتلها الزجل في قلب المشهد الثقافي المغربي، وصدقوني القول أني كلما حضرت لقاء زجليا إلا وجدتني أغرق في الطقوس الرائعة والدافئة التي تجمع معشر الزجالين، ووجدتني أحاول معرفة هذا السر الذي يختزل هذا البهاء، لأهتدي في نهاية المطاف إلى أن مقام الحرف هو ما يجمع الزجالين، فهنيئا للزجالين والزجالات بمقامهم هذا وليدم العرس الزجلي باستمرار يروي الأعماق ويطهر النفوس، وحتى لا أطيل سأدخل في الموضوع مباشرة، وسأنطلق من أرضية تنبني على سؤال شعرية الكتابة الزجلية وآفاقها الإبداعية والجمالية؟ وهذا السؤال الجوهري بالطبع هو من أكثر الأسئلة الملحة اليوم لتأكيد مدى النضج والاكتمال وأيضا الإدهاش والمتعة التي أصبحت تحضا به القصيدة الزجلية خصوصا بل والكتابة الزجلية عموما في تأثيث المشهد الإبداعي المغربي، لا من حيث الجانب الكمي لإصدارات الزجالين المغاربة إن تنظيرا أو إبداعا أو نقدا، و لا من حيث الجانب النوعي حيث خوض الزجالين المغاربة لعوالم كتابة زجلية عنوانها مغامرة التجريب والبحث عن آفاق جديدة للكتابة.
وعليه فإن استعادة سؤال الكتابة الزجلية ورهانات التغيير هو في حد ذاته إستراتجية معرفية خالصة لفهم وتفسير ما تحبل به بنية هذه الكتابة من تشكيل أسلوبي وبلاغي، وما يفيض عنها من معاني ودلالات، وما تكتنزه من رؤى حول الذات والحياة والوجود، وكذلك هو السؤال عن آفاق الكتابة الزجلية، هو لحظة للحفر في معدن اللغة الزجلية لإعادة صياغة مادتها الأولى ولإعادة تشكيلها بما يفيض من ماء الأعماق، إشراقات الروح وفتوحات الرؤيا لتخرج اللغة بذلك عن معانيها المألوفة والعادية إلى لغة مسكونة بالأحاسيس ومشحونة بالانفعالات، ومادامت اللغة الزجلية هي اللغة الأ، فإن ما تختزنه من تجارب صادقة موصولة ببراءة البدايات الساحرة، وزخم الهموم الحياتية الضاغطة، وصدق المواقف الانطولوجية الحكيمة يجعل منها بحق اللغة القادرة على تحقيق التداول السليم بين مجموع المتلقين وتحقيق الأثر المنشود، كما يجعل منها اللغة القادرة على تصريف وترجمة ذائقة المبدع إلى إبداع يحتفي بالذات والحياة والوجود، ويعبر عما يشتعل في رأسه وفي دهاليز ذاكرته من هواجس منفلتة وأسئلة وجودية مقلقة ضاربة في أعماق اللاشعور، ولأن اللغة عندما تكون وشما للذاكرة وصوتا للأعماق فإن إمكانياتها اللامتناهية للتعبير تكون أكبر لاقتحام آفاق لامحدودة من عوالم الذات المنسية، جغرافية الوجود المجهولة وتواريخ الحياة الماكرة، وليس والحالة هذه من إمكانية لاستغوار هذه الآفاق إلا برؤية متبصرة لما وراء البصر، والنبش في الكلام الذي يأتي ما بعد الكلام.
وتأسيسا على هذا فإنه كمحاولة بحثية للخوض في شعرية القصيدة الزجلية بالمغرب واستجلاء آفاقها ومختلف التغييرات التي أصبحت تسمها وترفع بالتالي من قيمتها الجمالية والإبداعية لابد من الاستناد إلى الكم الهائل من الدواوين الزجلية التي أصبحت تعج بها المكتبة المغربية للتأكيد على المقام الكبير والمكانة المتميزة التي أصبحت تحتلها القصيدة في خارطة المغربي بعد تجاوز وتخطي النظرة الاقصائية التي كانت ترى في الزجل مجرد لغة سوقية و عامية عاجزة على نحث لغة شعرية ترقى بالمعاني إلى مراتب الدهشة والمتعة، و أيضا لغة التداول اليومي، تفتقد للأبعاد التاريخية والرمزية والميتولوجية والملحمية التي تجعل منها لغة قادرة على الترميز و الأسطرة والتكثيف، وبالتالي غير مؤهلة أن تكون لغة راقية لكتابة إبداعية راقية.
وفي هذا السياق، وعند حديثنا عن اللغة عموما، لابد من التأكيد على أنه ليست هناك بالضرورة لغة شعرية خالصة ولغة أخرى غير شعرية، بل أن الكتابة الإبداعية كما يذهب منذر عياشي تعبير بالعلاقات لا بالكلمات والأشياء. ذلك لأنها إذا كانت لا تحل في الكلمات التي تتسمى بها، فإنها لا تحل أيضا في الأشياء التي تخبر عنها، ثم إن الكتابة صانعة لقوانينها، وهي أيضا المتحكمة في شروط إنتاج القيم الجمالية والفنية، ومن هذا المنطلق فإنه لا آفاق للقصيدة الزجلية بالمغرب لكي تحقق التغيير المنشود دون ثورة جذرية تمس شكلها ومضمونها، وأيضا دون الإدراك المسبق بماهية اللغة الزجلية وقدراتها الكامنة على إنجاز التغيير فإن القصيدة الزجلية ستظل تتخبط في أسئلتها المؤرقة- سؤال اللغة وخصوصيتها، الصورة الشعرية وأبعادها، الإيقاع ودرجاته- دون أن تتمكن من استيعاب درس الحداثة الشعرية، وإذن والحالة هذه فإنه لامناص أمام القصيدة الزجلية ومن خلالها الزجالون المغاربة لكي يتبثوا جدارتهم على القول الشعري الزجلي الخلاق والراقي إلا بالاحتفاء باللغة، فكما أن المتصوفة يعتبرون الذات هي من يفيض عنها العالم، فكذلك على الزجالين أن يعتبروا أن اللغة هي مبتدأ ومنتهى العملية الإبداعية، وعليه فإن اختبار قدرة اللغة الزجلية على اقتحام هذا التجريب من خلال استثمار أساليب جديدة لرؤية الواقع والشهود على العالم، وأيضا استخدام تقنيات أسلوبية وشكلية مختلفة ومغايرة ليمثل أفقا مفتوحا لترسيم معادلة التغيير والتي لا يمكن أن تتحقق إلا باستيعاب دلالة التمرد والاختلاف كمنطلقين وأساسين للتأكيد على الثورة الإبداعية الكبيرة التي أصبحت تعرفه القصيدة الزجلية بالمغرب وعن الآفاق الرحبة التي أصبحت ترتادها لإثبات حيويتها وقدرتها على التجدد والتحول بما يستجيب و شرط الحداثة الشعرية القاضي بأن الشيء الذي لا يتغير يموت، ولهذا لابد أن يرتبط التغيير الذي تهدف إليه القصيدة الزجلية بالمغرب بالمضي في تفجير اللغة وتثوير أبعادها الدلالية والنحوية والإيقاعية والمعرفية، وهنا لابد من الإشارة إلى بعض التجارب الإبداعية الفارقة التي ساهمت بشكل كبير في إثراء القصيدة الزجلية بالمغرب، والرقي بها من مستوى الرؤية المحلية إلى مستوى النظرة الكـونية، و لايفوتني هنا أن أشير إلى شيخ الضو الزجال المغربي والعربي إدريس أمغار مسناوي الذي استطاع ببصمته الخاصة وأسلوبه أن ينتقل بالقصيدة الزجلية إلى مستوى التأمل الفلسفي والعشق الصوفي والعمق الأسطوري والتاريخي، الأمر الذي ساهم في السمو بالقصيدة الزجلية إلى مرتبة الرؤيا حيث مقام الكشف الباطني والمعرفة الاشراقية لعوالم الذات وهي تبحث عن فتوحاتها الإبداعية من خلال الفناء والتوحد في ذات الحرف و المعنى، ولعل المتتبع لهذه التجربة الباذخة لا يمكنه إلا أن يشيد بالتغيير الكبير أو ما يمكن أن أسميه بالمنعطف الإبداعي الذي أحدثه الزجال ادريس أمغار مسناوي في مسار القصيدة الزجلية المغربية بالشكل الذي سيساهم في تجذير الزجل بعمقه الإبداعي العميق في المشهد الثقافي المغربي، يقول الزجال الكبير معبرا عن هذا النفس الشعري الباذخ في ديوانه شهوة الضو:
أنا الكاين
المتحَوَّل بين السابق واللاحق
المخدوع بطيف اللحظة
المقطوع من ضو شجرَه
الوقت وقتي أنا الجامد به
السايل فيه
الَعمر عمري أنا الناقص منه
الزايد عليه
ثم لو شئنا المضي في تتبع التجارب الزجلية المفارقة التي أحدثت تغييرا ملحوظا لا يمكننا إلا أن نقف على تجربة الزجال المقتدر ادريس بلعطار الذي استطاع بفضل تشبعه بالثقافة الشعبية وقدرته على الاستفادة من لآلئ التراث أن يوقع كتابته الزجلية موشحة بعبق هذا التراث الشعبي الموصول بالوعي الجمعي وبأسئلته الانطولوجية الكبيرة، والذي كان ولا يزال حاضرا يؤثث مساحة لمعانقة الهم المشترك والمصير الواحد، ولم يخطئ الزجال الكبير محمد الراشق حين وصفه بشاعر الجماهير،يقول الزجال ادريس بلعطار في أحد أزجاله:
خاص لقلام ... ايلا عدوا
تكون حجر
خاص لمداد ...ايلا زهدوا
يكون بحر
قالها حرف
جا يوصف
شحال من نخصة في الروح
شحال من سكتة في البوح
و شحال من قرحة
في شحال من خاطر تنزف
وإذا انتقلنا إلى تجربة أخرى وأخص بالذكر تجربة الزجال محمد الراشق فسنجد أن ما يؤطر هذه التجربة هو تقاطعها وفن الملحون، فبحكم أن الزجال محمد الراشق هو باحث ومهتم بفن الملحون وفي نفس الوقت يكتب القصيدة الزجلية فإن بلاغة التأثير والتأثر الحاصلة ما بين فن الملحون والقصيدة الزجلية وخاصة في مقام الإنشاد تجعل من تجربة هذا الزجال توقيعا أخرا يستحضر طقوس الجذبة وبالتالي حصول التطهر، يقول الزجال محمد الراشق في إحدى قصائده:
سوّلوني
على مواجْ الحضرة
واللي حدّها توقفْ
على عتابْ مراسي
هدّها لغيابْ.
سولوني
على جرايا نجريهْ
وكون غيرْ قلتْ عييتْ
وتعلاتْ قدّامي عتبة،
سوّلوني
على وجوهْ الكتبة
ومنينْ تنمحيها جدولْ
وتنشربها حروفْ
قمرتها بانتْ
ومتعتْ الشّوفْ.
وهكذا إذا ومن خلال التجارب التي أشرنا إليها يتبدى لنا سياق للمغايرة والاختلاف الذي أصبح يسم الكتابة الزجلية بالمغرب، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على قيمة التعدد من حيث أنه وعي خالص بقيمة التجارب الزجلية المختلفة في إغناء الكتابة الزجلية، وأيضا من حيث أنه هو التعدد إثبات و بالملموس أن الزجالين المغاربة تؤطرهم وتحكمهم حساسيات إبداعية مختلفة انطلاقا من مرجعياتهم الفكرية وذائقتهم الإبداعية ووعيهم بمناطق الكتابة وحرارتها، ولهذا فإن هذا التعدد هو ديالكتيك التحول ورهان التغيير الذي ينبني على مبدأين جوهريين اثنين، أولهما مبدأ الحرية باعتبارها الدافع للانعتاق من صنمية الفكر ووصاية النموذج، وثانيهما مبدأ التجريب باعتباره الاختبار الحقيقي الوحيد لقدرات الذات على اكتشاف القارة الجديدة للكتابة أو بعبارة أخرى العالم المتوارى خلف عتمة الواقع و فوضى الوجود، فالحرية والتجريب هما إذن وجهان لعملة واحدة ألا وهي عملة الإبداع الحقيقية لا المزيفة، بحيث أنه لا مجال لاستشراف مستقبل القصيدة الزجلية بالمغرب وربح رهان التغيير إلا بوعي الزجالين المغاربة بقيمة الحرية وذلك من خلال تمثل أبعادها الكونية ودلالاتها الانطولوجية كمحرك لحركية الإبداع، وأيضا بجرؤتهم على التجريب كمغامرة إبداعية مدهشة، وعليه فإن هذه المغامرة إما أن تؤدي إلى النجاح أو الفشل، ولهذا فلكي ينجح الزجالون المغاربة في مغامراتهم الإبداعية وهم يركبون أهوال الكتابة في سفر روحي و وجداني باذخ إلا أن يتشبثوا باليقين، وألا يفقدوا الأمل في الكتابة وفي الإبداع مهما كانت مخاطرة الكتابة وعواقبها، فالشاعر ألكسندر بوشكين كما أقر ذات حديث عن الكتابة وأسئلتها المؤرقة بأنه عندما يفقد الشاعر اليقين يفقد القصيدة، وفي هذا الصدد وفي سياق حديثنا عن القصيدة الزجلية فاليقين هنا له وجهان: أولهما اليقين في قدرة الذات على الخلق والابتكار، وثانيهما اليقين في إحداث التغيير المؤسس لقصيدة زجلية حداثية تزخر بمعانيها الكونية ودلالاتها المتعدد بحيث تظل هذه الأخيرة متوهجة، كلما استغرقت في الزمان ورحلت في المكان ازدادت توهجا وفاضت أنوارا.
وختاما، فالقصيدة الزجلية بالمغرب قد قطعت أشواطا مهمة في طريق تثبيت شعريتها، وأصبحت تستأثر باهتمام الكثير من المهتمين والنقاد، وهذا ما يجعلنا نؤكد على أن كسب رهان التغيير أصبح ممكنا، وما على الزجالين إلا أن يستبشروا بمستقبل واعد للزجل، هذا المستقبل الذي ناضل لوضع لبنته زجالون مقتدرون، والآن يأخذ منهم المشعل شباب مبدعون منغمسون في فتنة القول الزجلي وواعون برهانات الكتابة وأسئلتها الكبرى...
نورالدين بوصباع
* مداخلة الكاتب المغربي نورالدين بوصباع في المهرجان الوطني الخامس للزجال بمدينة بنسليمان يومي 21 و22 ماي 2011
وعليه فإن استعادة سؤال الكتابة الزجلية ورهانات التغيير هو في حد ذاته إستراتجية معرفية خالصة لفهم وتفسير ما تحبل به بنية هذه الكتابة من تشكيل أسلوبي وبلاغي، وما يفيض عنها من معاني ودلالات، وما تكتنزه من رؤى حول الذات والحياة والوجود، وكذلك هو السؤال عن آفاق الكتابة الزجلية، هو لحظة للحفر في معدن اللغة الزجلية لإعادة صياغة مادتها الأولى ولإعادة تشكيلها بما يفيض من ماء الأعماق، إشراقات الروح وفتوحات الرؤيا لتخرج اللغة بذلك عن معانيها المألوفة والعادية إلى لغة مسكونة بالأحاسيس ومشحونة بالانفعالات، ومادامت اللغة الزجلية هي اللغة الأ، فإن ما تختزنه من تجارب صادقة موصولة ببراءة البدايات الساحرة، وزخم الهموم الحياتية الضاغطة، وصدق المواقف الانطولوجية الحكيمة يجعل منها بحق اللغة القادرة على تحقيق التداول السليم بين مجموع المتلقين وتحقيق الأثر المنشود، كما يجعل منها اللغة القادرة على تصريف وترجمة ذائقة المبدع إلى إبداع يحتفي بالذات والحياة والوجود، ويعبر عما يشتعل في رأسه وفي دهاليز ذاكرته من هواجس منفلتة وأسئلة وجودية مقلقة ضاربة في أعماق اللاشعور، ولأن اللغة عندما تكون وشما للذاكرة وصوتا للأعماق فإن إمكانياتها اللامتناهية للتعبير تكون أكبر لاقتحام آفاق لامحدودة من عوالم الذات المنسية، جغرافية الوجود المجهولة وتواريخ الحياة الماكرة، وليس والحالة هذه من إمكانية لاستغوار هذه الآفاق إلا برؤية متبصرة لما وراء البصر، والنبش في الكلام الذي يأتي ما بعد الكلام.
وتأسيسا على هذا فإنه كمحاولة بحثية للخوض في شعرية القصيدة الزجلية بالمغرب واستجلاء آفاقها ومختلف التغييرات التي أصبحت تسمها وترفع بالتالي من قيمتها الجمالية والإبداعية لابد من الاستناد إلى الكم الهائل من الدواوين الزجلية التي أصبحت تعج بها المكتبة المغربية للتأكيد على المقام الكبير والمكانة المتميزة التي أصبحت تحتلها القصيدة في خارطة المغربي بعد تجاوز وتخطي النظرة الاقصائية التي كانت ترى في الزجل مجرد لغة سوقية و عامية عاجزة على نحث لغة شعرية ترقى بالمعاني إلى مراتب الدهشة والمتعة، و أيضا لغة التداول اليومي، تفتقد للأبعاد التاريخية والرمزية والميتولوجية والملحمية التي تجعل منها لغة قادرة على الترميز و الأسطرة والتكثيف، وبالتالي غير مؤهلة أن تكون لغة راقية لكتابة إبداعية راقية.
وفي هذا السياق، وعند حديثنا عن اللغة عموما، لابد من التأكيد على أنه ليست هناك بالضرورة لغة شعرية خالصة ولغة أخرى غير شعرية، بل أن الكتابة الإبداعية كما يذهب منذر عياشي تعبير بالعلاقات لا بالكلمات والأشياء. ذلك لأنها إذا كانت لا تحل في الكلمات التي تتسمى بها، فإنها لا تحل أيضا في الأشياء التي تخبر عنها، ثم إن الكتابة صانعة لقوانينها، وهي أيضا المتحكمة في شروط إنتاج القيم الجمالية والفنية، ومن هذا المنطلق فإنه لا آفاق للقصيدة الزجلية بالمغرب لكي تحقق التغيير المنشود دون ثورة جذرية تمس شكلها ومضمونها، وأيضا دون الإدراك المسبق بماهية اللغة الزجلية وقدراتها الكامنة على إنجاز التغيير فإن القصيدة الزجلية ستظل تتخبط في أسئلتها المؤرقة- سؤال اللغة وخصوصيتها، الصورة الشعرية وأبعادها، الإيقاع ودرجاته- دون أن تتمكن من استيعاب درس الحداثة الشعرية، وإذن والحالة هذه فإنه لامناص أمام القصيدة الزجلية ومن خلالها الزجالون المغاربة لكي يتبثوا جدارتهم على القول الشعري الزجلي الخلاق والراقي إلا بالاحتفاء باللغة، فكما أن المتصوفة يعتبرون الذات هي من يفيض عنها العالم، فكذلك على الزجالين أن يعتبروا أن اللغة هي مبتدأ ومنتهى العملية الإبداعية، وعليه فإن اختبار قدرة اللغة الزجلية على اقتحام هذا التجريب من خلال استثمار أساليب جديدة لرؤية الواقع والشهود على العالم، وأيضا استخدام تقنيات أسلوبية وشكلية مختلفة ومغايرة ليمثل أفقا مفتوحا لترسيم معادلة التغيير والتي لا يمكن أن تتحقق إلا باستيعاب دلالة التمرد والاختلاف كمنطلقين وأساسين للتأكيد على الثورة الإبداعية الكبيرة التي أصبحت تعرفه القصيدة الزجلية بالمغرب وعن الآفاق الرحبة التي أصبحت ترتادها لإثبات حيويتها وقدرتها على التجدد والتحول بما يستجيب و شرط الحداثة الشعرية القاضي بأن الشيء الذي لا يتغير يموت، ولهذا لابد أن يرتبط التغيير الذي تهدف إليه القصيدة الزجلية بالمغرب بالمضي في تفجير اللغة وتثوير أبعادها الدلالية والنحوية والإيقاعية والمعرفية، وهنا لابد من الإشارة إلى بعض التجارب الإبداعية الفارقة التي ساهمت بشكل كبير في إثراء القصيدة الزجلية بالمغرب، والرقي بها من مستوى الرؤية المحلية إلى مستوى النظرة الكـونية، و لايفوتني هنا أن أشير إلى شيخ الضو الزجال المغربي والعربي إدريس أمغار مسناوي الذي استطاع ببصمته الخاصة وأسلوبه أن ينتقل بالقصيدة الزجلية إلى مستوى التأمل الفلسفي والعشق الصوفي والعمق الأسطوري والتاريخي، الأمر الذي ساهم في السمو بالقصيدة الزجلية إلى مرتبة الرؤيا حيث مقام الكشف الباطني والمعرفة الاشراقية لعوالم الذات وهي تبحث عن فتوحاتها الإبداعية من خلال الفناء والتوحد في ذات الحرف و المعنى، ولعل المتتبع لهذه التجربة الباذخة لا يمكنه إلا أن يشيد بالتغيير الكبير أو ما يمكن أن أسميه بالمنعطف الإبداعي الذي أحدثه الزجال ادريس أمغار مسناوي في مسار القصيدة الزجلية المغربية بالشكل الذي سيساهم في تجذير الزجل بعمقه الإبداعي العميق في المشهد الثقافي المغربي، يقول الزجال الكبير معبرا عن هذا النفس الشعري الباذخ في ديوانه شهوة الضو:
أنا الكاين
المتحَوَّل بين السابق واللاحق
المخدوع بطيف اللحظة
المقطوع من ضو شجرَه
الوقت وقتي أنا الجامد به
السايل فيه
الَعمر عمري أنا الناقص منه
الزايد عليه
ثم لو شئنا المضي في تتبع التجارب الزجلية المفارقة التي أحدثت تغييرا ملحوظا لا يمكننا إلا أن نقف على تجربة الزجال المقتدر ادريس بلعطار الذي استطاع بفضل تشبعه بالثقافة الشعبية وقدرته على الاستفادة من لآلئ التراث أن يوقع كتابته الزجلية موشحة بعبق هذا التراث الشعبي الموصول بالوعي الجمعي وبأسئلته الانطولوجية الكبيرة، والذي كان ولا يزال حاضرا يؤثث مساحة لمعانقة الهم المشترك والمصير الواحد، ولم يخطئ الزجال الكبير محمد الراشق حين وصفه بشاعر الجماهير،يقول الزجال ادريس بلعطار في أحد أزجاله:
خاص لقلام ... ايلا عدوا
تكون حجر
خاص لمداد ...ايلا زهدوا
يكون بحر
قالها حرف
جا يوصف
شحال من نخصة في الروح
شحال من سكتة في البوح
و شحال من قرحة
في شحال من خاطر تنزف
وإذا انتقلنا إلى تجربة أخرى وأخص بالذكر تجربة الزجال محمد الراشق فسنجد أن ما يؤطر هذه التجربة هو تقاطعها وفن الملحون، فبحكم أن الزجال محمد الراشق هو باحث ومهتم بفن الملحون وفي نفس الوقت يكتب القصيدة الزجلية فإن بلاغة التأثير والتأثر الحاصلة ما بين فن الملحون والقصيدة الزجلية وخاصة في مقام الإنشاد تجعل من تجربة هذا الزجال توقيعا أخرا يستحضر طقوس الجذبة وبالتالي حصول التطهر، يقول الزجال محمد الراشق في إحدى قصائده:
سوّلوني
على مواجْ الحضرة
واللي حدّها توقفْ
على عتابْ مراسي
هدّها لغيابْ.
سولوني
على جرايا نجريهْ
وكون غيرْ قلتْ عييتْ
وتعلاتْ قدّامي عتبة،
سوّلوني
على وجوهْ الكتبة
ومنينْ تنمحيها جدولْ
وتنشربها حروفْ
قمرتها بانتْ
ومتعتْ الشّوفْ.
وهكذا إذا ومن خلال التجارب التي أشرنا إليها يتبدى لنا سياق للمغايرة والاختلاف الذي أصبح يسم الكتابة الزجلية بالمغرب، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على قيمة التعدد من حيث أنه وعي خالص بقيمة التجارب الزجلية المختلفة في إغناء الكتابة الزجلية، وأيضا من حيث أنه هو التعدد إثبات و بالملموس أن الزجالين المغاربة تؤطرهم وتحكمهم حساسيات إبداعية مختلفة انطلاقا من مرجعياتهم الفكرية وذائقتهم الإبداعية ووعيهم بمناطق الكتابة وحرارتها، ولهذا فإن هذا التعدد هو ديالكتيك التحول ورهان التغيير الذي ينبني على مبدأين جوهريين اثنين، أولهما مبدأ الحرية باعتبارها الدافع للانعتاق من صنمية الفكر ووصاية النموذج، وثانيهما مبدأ التجريب باعتباره الاختبار الحقيقي الوحيد لقدرات الذات على اكتشاف القارة الجديدة للكتابة أو بعبارة أخرى العالم المتوارى خلف عتمة الواقع و فوضى الوجود، فالحرية والتجريب هما إذن وجهان لعملة واحدة ألا وهي عملة الإبداع الحقيقية لا المزيفة، بحيث أنه لا مجال لاستشراف مستقبل القصيدة الزجلية بالمغرب وربح رهان التغيير إلا بوعي الزجالين المغاربة بقيمة الحرية وذلك من خلال تمثل أبعادها الكونية ودلالاتها الانطولوجية كمحرك لحركية الإبداع، وأيضا بجرؤتهم على التجريب كمغامرة إبداعية مدهشة، وعليه فإن هذه المغامرة إما أن تؤدي إلى النجاح أو الفشل، ولهذا فلكي ينجح الزجالون المغاربة في مغامراتهم الإبداعية وهم يركبون أهوال الكتابة في سفر روحي و وجداني باذخ إلا أن يتشبثوا باليقين، وألا يفقدوا الأمل في الكتابة وفي الإبداع مهما كانت مخاطرة الكتابة وعواقبها، فالشاعر ألكسندر بوشكين كما أقر ذات حديث عن الكتابة وأسئلتها المؤرقة بأنه عندما يفقد الشاعر اليقين يفقد القصيدة، وفي هذا الصدد وفي سياق حديثنا عن القصيدة الزجلية فاليقين هنا له وجهان: أولهما اليقين في قدرة الذات على الخلق والابتكار، وثانيهما اليقين في إحداث التغيير المؤسس لقصيدة زجلية حداثية تزخر بمعانيها الكونية ودلالاتها المتعدد بحيث تظل هذه الأخيرة متوهجة، كلما استغرقت في الزمان ورحلت في المكان ازدادت توهجا وفاضت أنوارا.
وختاما، فالقصيدة الزجلية بالمغرب قد قطعت أشواطا مهمة في طريق تثبيت شعريتها، وأصبحت تستأثر باهتمام الكثير من المهتمين والنقاد، وهذا ما يجعلنا نؤكد على أن كسب رهان التغيير أصبح ممكنا، وما على الزجالين إلا أن يستبشروا بمستقبل واعد للزجل، هذا المستقبل الذي ناضل لوضع لبنته زجالون مقتدرون، والآن يأخذ منهم المشعل شباب مبدعون منغمسون في فتنة القول الزجلي وواعون برهانات الكتابة وأسئلتها الكبرى...
نورالدين بوصباع
* مداخلة الكاتب المغربي نورالدين بوصباع في المهرجان الوطني الخامس للزجال بمدينة بنسليمان يومي 21 و22 ماي 2011