أدب السجون محمد علي الشبيبي - ذكريات الزمن القاسي.. العهد الملكي - الحلقة الاولى

بعد ان انهيت امتحانات البكالورية للصف السادس الابتدائي صيف 1958، كما انتهى الجميع من امتحاناتهم اعددنا السفر لمغادرة كربلاء الى النجف، حيث اعتادت العائلة في كل عطلة صيفية السفر الى النجف والبقاء هناك في بيت جدي الشيخ محمد ألشبيبي. كانت فرحتنا نحن الصغار مضاعفة، فقد انتهينا من الجو المدرسي وما يتطلبه من تحضير وواجبات مدرسية مرهقة تكاد تكون سببا في تهرب الكثيرين من المدارس، كذلك سنلتقي باقارب العائلة من الخالات والعمات وابناؤهن، وسنتمتع وخاصة انا بحب وحنان جدي شيخ محمد. كان رحمه الله يكن لي حبا خاصا و يدعوني بتحبب فيصغر كلمة جدو ويناديني بتحبب (جديدو). ألسفر الى ألنجف كل عطلة صيفية او شتوية كانت من عادة العائلة، حتى عندما كنا نسكن مدينة الناصرية والتي تبعد اكثر من 300 كلم عن النجف، وعندما انتقلنا من الناصرية الى كربلاء صيف 1956 أصبحت زيارات العائلة للنجف حتى في ايام العطل الاسبوعية.
في النجف يوميا صباحا كنت ارافق جدي الشيخ للسوق، بعد ان يفطر ويشرب قهوته العربية التي تقوم باعدادها عمتي وسيلة رحمها الله. اسير معه في أزقة النجف الضيقة بدءً من بيته في محلة العمارة عبر ازقة محلة العمارة ومن ثم عبر السوق الصغير وحتى السوق الكبير واحيانا يصل الى مقهى عبد ننه في باب الولاية. يسير ببطء وقد بان عليه الكبر وارهقته متاعب الحياة وشارف على نهاية العقد الثامن من عمره، وهو يستعين في سيره بعصاة يتكأ عليها ذات مقبض نصف دائري من الكهرب ألأصفر. يوقفه البعض من حين الى اخر يحيوه ويسألوه عن صحته وعن اخر الاخبار والمستجدات، يحاول البعض تقبيل يده فيسحبها بشدة رافضا، وانا اقف بقربه معجبا بكثرة معارفه ومحبيه واشعر بالفخر لذلك.
خلال حركة جدي اليومية والرتيبة من البيت الى السوق الكبير، يضطر فيها للتوقف للاستراحة وتبادل الاحاديث مع بعض اصحاب المحلات من الأصدقاء في السوق الصغير وكذلك في السوق الكبير. عندما يسأله احدهم عني يجيبهم بفصاحته الخطابية ذات النغمة الحسينية هذا هو محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن الشيخ شبيب. رحلته اليوميه هذه ذهابا وايابا تستغرق ثلاث ساعات، يعود بعدها للبيت متعبا فيستريح في سرداب(1) الضيوف المخصص للرجال وهو احد اكبر ثلاثة سراديب في البيت.
تشتهر مدينة ألنجف عن غيرها من ألمدن ألعراقية بسراديبها العميقة والمؤثثة لتكون صالحة لاستقبال الضيوف خاصة وقت الظهيرة وما بعدها حيث يشتد الحر فتكون هي الملاذ للنجفيين من شدة الحر صيفا. اضافة لهذه السراديب، تحتوي البيوت النجفية القديمة على سراديب اعمق من السرداب العادي، حيث يتجاوز عمقه 15م، ويدعى سرداب السن. وسرداب السن غير صالح للسكن لشدة رطوبته وإنخفاض درجة الحرارة في جوه ويستعمل لخزن الفاكهة وخاصة الرقي والبطيخ. تحتوي سراديب ألسن في النجف على ابار وأقنية مرتبطة ببعضها، حيث يمكن التنقل من بيت لبيت ومن محلة لمحلة من خلال هذه الاقنية، ويقال ان ثوار ثورة العشرين استغلوا تلك الاقنية لمهاجمة الانكليز وهم في مقراتهم في البيوت النجفية. كما أن سرداب الضيوف المخصص للرجال يرتبط بسرداب النساء بواسطة السرداب الصغير. في ارضية السرداب الصغير يوجد شباك يطل على البئر الموجود في سرداب السن، ويسمح هذا الشباك لضوء النهار بالوصول الى سرداب السن. ويكون النزول الى سرداب السن عبر درج من سرداب النساء. اما النزول لسرداب الضيوف يكون من الممر (المجاز) من دون المرور بالحوش ويخصص هذا الدرج للضيوف ، ويوجد درج اخر للسرداب من الحوش ويمر بجانب المطبخ ويستعمل للعائلة، ومن خلال هذا الدرج تقدم الخدمات لجدي وضيوفه في السرداب. وهناك درج ثالث من الحوش ايضا يؤدي الى سرداب النساء. وتوفر السراديب لنا نحن الاطفال مكانا للعب واللهو بعيدا عن الازقة التي تكثر فيها حركة الناس من المارّة.
كنا نحن الاطفال نفرح كثيرا عندما يرسل جدي مايتسوقه للبيت من رقي وبطيخ وفاكهة وخضروات محملة على دابة، وكان من عادة جدي ان يشتري كمية كبيرة من الرقي والبطيخ بكل انواعهما تكف لأيام، وعندما تصل الحمولة للبت نكلف نحن الصغار بنقل الرقي والبطيخ لسرداب السن، وكنا نتعمد بإسقاط بعض الرقي من ايدينا ليتهشم وننتظر كلمات اللوم والنقد من الكبار لعدم اهتمامنا ثم يعرضون علينا تناول ماتم تهشيمه.
اهتم ألمعماريون ألنجفيون في هندسة السراديب لكي تؤدي وظيفتها الجمالية والخدمية بشكل جيد. كما لم ينس المعماري (البادكيرات) عند بناء ألسرداب. والبادكيرات عبارة عن تجويف متواصل في جدار السرداب، يخترق ألجدار من ألأسفل وحتى نهاية ألطابق العلوي للبناء، تكون فتحته ألسفلى على ارتفاع (1ـ1.4)م من أرضية ألسرداب بعرض متر اواكثر وسمك يزيد عن 10سم ويمتد هذا الفراغ مخترقا البناء الى مافوق ألطابق ألعلوي لتكون فتحته ألعلوية محمية من ألأمطار. تؤدي ألبادكيرات مهمة تهوية السرداب والتقليل من تأثيرات الرطوبة في ألسرداب. الانارة في السراديب هي الاخرى أيضا من اهتمامات المعماري، فمعظم السراديب لها شبابيك لايصال الضوء لإنارة ألسرداب، كما انها تساعد في دورة الهواء.
يتوسط سرداب الضيوف عمودان ضخمان من الطابوق الاصفر قطر الواحد منها يزيد على 60سم، ورغم ضخامة العمودان فانهما يضفيان على جو السرداب جمالا فنيا يخيل لك انهما نخلتان باسقتان في وسط ذلك السرداب، فزخرفة السقف بالطابوق الاصفر بشكل محدب والتحامه بالاعمده يخيل لك كسعف متشابك للنخلتين باسقتين.
كانت عمتي وامي تقومان يوميا بتنظيف السرداب ورشه بالماء المخلوط بالاسفنيك(مادة سائلة ذات رائحة زكية) فتنتشر رائحة عبقه تتميز بها سراديب النجف، ولم تنس عمتي ان تملأ الجرار ألفخارية (ألشراب) بالماء وتضعها تحت فتحة البادكير لكي يبرد الماء متأثرا بدورة الهواء وعملية التبخر الناتجه عن ذلك. واحيانا نكلف نحن الصغار بفرش الافرشة والمساعدة في عملية ترتيبها، بعد ان نأخذ قسطا من اللعب والمزاح والعراك بالمخاديد والفراش، وكم مرة نضطر الى ترتيب الافرشة بسبب مانحدثه من تخريب في ترتيبها.
بعد عودة جدي ظهرا الى البيت، يكون قد اتعبه ألمسير وكثرة ألتوقف بالطريق للرد على تحية ألمحبين وألإجابة على تساؤلاتهم واستفساراتهم عن اخر الاخبار. حيث كان بيت ألشيخ مصدرا لتناقل الاخبار ويلتقي فيه الكثير من نشطاء الحزب الشيوعي والاصدقاء من وطنيين وديمقراطيين، لذلك يتعرض البيت في احيانا كثيرة وبشكل مفاجئ الى حملات من المداهمات والتفتيش، من قبل اجهزة امن الحكم الملكي. كنا نعرف بوصوله من سعاله ألمعتاد عند مدخل ممر البيت وهي سعلة مفتعله على ألأرجح ليُعلِم من في البيت بوصوله. تستقبله عمتي وسيلة رحمها الله وتساعده بخلع عباءته وتتناول منه مايحمله من مشتريات ومن ثم مساعدته في نزع جبته وتبديل ملابسه. بعد ان يغير جدي ملابسه ويرتدي قميص البيت الأبيض والواسع بشكل مبالغ فيه، مبررا ذلك بأن سعة الثوب (القميص) تساعده على تهوية جسمه وتحميه من حرارة الصيف حتى أنه يترك أزرار قميصه مفتوحة. يجتمع الكل في السرداب، جدي ووالدي والضيوف إن وجدوا ويتبادل الجميع ألأخبار، كان جدي يستمع للأخبار والأحاديث وهو ممدد على فراشه، مستعينا بمخدة خاصة يستعملها للإتكاء. يحتل فراشه احد جوانب ألسرداب ويكون بمحاذاة البادكير لكي يتمتع بدورة الهواء المنعش. يستسلم ألجميع للقيلولة بعد تناول ألغداء و فاكهة الصيف من رقي الرحبة المفضل بالنسبة لجدي، حيث كان يحب تناول رقي الرحبة بإضافة ماء الورد والسكر اليه، مما يجعلنا نحن الاطفال نتخاصم فيما بيننا على تناول بقايا رقيته.
بعد ألقيلولة يصعد ألجميع للطابق ألأرضي، واذا كان ألحر شديدا يلجأ جدي الى ألإستحمام بماء ألحب (أواني من الفخار يزيد حجمها عن 500 لتر لخزن وتبريد ألماء ألخاص بالشرب)، حيث يوجد في ألبيت مكانا خاصا ومعزولا يحتوي على مجموعة من ألأحبوب. وبعد الاستحمام يأخذ مكانه المعتاد في الطارمة (تسمى طارمة لأنها من ضمن الحوش ولكنها مسقفة) المطلة على الحوش بجانب ألمجاز (الممر)، والطارمة مرتفعة عن الحوش بـ 40 سم، وبذلك يكون الجلوس على حافتها كالجلوس على كرسي، حينها يتناول الشاي والأركيلة، ويراقب حركة الاطفال وهم يلعبون ويمرحون في وسط الحوش، ويتندر معهم.
إذا لم يكن جدي مرتبطا باي مجلس حسيني يبقى في البيت ولايغادره، فيؤدي صلاته في ألبيت، فتكون صلاة ألعصر في ألحوش أما صلاة ألمغرب والعشاء فيؤديها في ألسطح صيفا، وفي البراني شتاء. كنت اسمع صلاته وهو يتلو ايات كريمة وادعية فاحس برهبة وصدق دعواته. من قوة إيمانه وصدقه كان يرفض أن يُعَلِم جبينه كدليل على جدية ألعبادة وكثرة ألسجود، كما يفعل بعض ألمنافقين من المتدينين، وكان يعلق ويقول وقد صرح بذلك في احد مجالسه الحسينية: اصلي منذ كان عمري ثمانية سنوات فلم تترك التربة أثرا على جبيني أما هؤلاء ألذين طبعوا جبينهم ببقعة سمراء غامقة فهم يحاولون إقناع ألبسطاء كونهم من المؤمنين الملتزمين حتى يسهل لهم خداع الناس بإيمانهم الكاذب، ولكن الله سبحانه وتعالى يعرف من هو المؤمن ومن هو ألمنافق!! يقضي مساءه في ألسطح حتى انه يستقبل زواره هناك ويحب تناول عشاءه على ضوء القمر من دون ألإستعانة بالمصابيح ألكهربائية.
لم تكن زياراتنا للنجف في الشتاء كثيرة بسبب قصر ألعطلة الشتوية، وتكون الزيارة قصيرة وفي ألحالات ألإضطرارية، كالمرض. كان جدي يستقبل ضيوفه شتاءً في (ألبراني)، والبراني مصطلح يطلقة ألنجفيون على صالة ألضيوف ألخاصة للرجال فقط، وسميت بالبراني لأن ألوصول أليها لايمر عبر ألبيت حيث تجتمع ألنسوة. والبراني في ألبيت يقع في الطابق ألأول، والوصول إليه يكون عبر ألمجاز (ألممر ألفاصل بين ألباب ألخارجي والبيت) مباشرة من دون المرور بالحوش، حيث يواجه الباب الخارجي ألدرج المؤدي ألى البراني. يجلس في ألزاوية ألتي تقابل ألباب ألرئيسي للبراني، حيث يكون في مواجهة ضيوفه حال صعودهم للطابق العلوي. وألزاوية التي يحتلها تطل على زقاقين متقاطعين، والشرفة (ألاُرسي) الخارجة قليلا عن البراني تسمح له أن يرى ويعرف من هو ألضيف بمجرد طرقه على ألباب. يجلس في ألشتاء وهو يحيط جسمه بفروة صفراء مطرزة بعناية مصنوعة من جلد ألخراف. وامامه (منقلة) فيها من ألجمر ألضروري للتدفئة ولحفظ سخونة دلال ألقهوة وهي معمرة بالقهوة ألعربية، ومن حين لاخر تراه ينقل الجمرات ليحافظ على توهجها. لايشتري جدي ألقهوة جاهزة، فهو يشتريها ويحمصها ويطحنها في ألبيت، وتقوم عمتي وسيلة يرحمها الله بطبخها وتهيئتها. وكان ضيوفه من ألمعممين المتفتحين والمثقفين وحتى من الشباب.
يخرج جدي مساءً عندما يكون مرتبطا بأحد ألمجالس ألحسينية، فيتهيأ في إرتداء جبته ويعيد لف عمامته، وكنت اراقبه بإنبهار وهو يلف عمامته بإهتمام ودقة مستعينا بركبته، وكانت عمتي وسيلة تقف بجانبه تساعده في إرتداء ملابسه. حينها كنت أخرج وأقف عند باب ألبيت أنتظر واسطة نقله للمجلس وهي عبارة عن دابة (حمار) لعدم إمكانية وصول السيارة بسبب ضيق ازقة محلة العمارة، وهذه صفة تتصف بها كل شوارع النجف ألقديمة.



1 ـ ألسرداب بناء تحت ألطابق ألأرضي، تتميز به مدينة ألنجف، ويكون بعمق يصل ألى 10م ويزيد أحيانا عن ذلك.


* محمد علي الشبيبي - ذكريات الزمن القاسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
659
آخر تحديث
أعلى