خرج الرجل العازب، بعد تردّدٍ وتخطيط مضجرين، إلى بقّالة قريبة لشراء نصف كيلو من البندورة ونصف كيلو خيار؛ ظنّاً منه أن تقليلهما طريقة ممتازة لتوفير المال! توفيرٌ يحرج المرءَ والمرأةَ، وهو نوعٌ قسري ما بعد حداثي من أنواع المساواة الإجبارية الجديدة. أحرجَتْه قلّة حيلته، ومكوثه دون عملٍ طوال شهور مخزية، وتأرجحه من يأس إلى يأس، دون رحمة، دون مخرج.
قصيرة هي المسافة، لا تتعدى خمسين خطوة، وهذا الأمر يناسبه، ليعود بسرعة ويختبئ داخل لعابه الجاف وجوعه المهين، وخوفه من الاختلاط مع البشر، وهو واحد منهم على أيّ حال.
لقد استبدّ به المرضُ الساري، وما عاد يحسّ بما يرى، قدر ما تختلط لديه الأماكن والوجوه والكلمات، فلا يعود منها بشيء قطّ. خواءٌ يحفر بلاهةً جليلة تجوِّفُ نظرة عينه؛ تظل عالقة بأي شيء عابر، أي شيء: عجوزٌ تحدّق في وجهه وتنصحه بالزواج، بالحب، دون سبب أو تبرير؛ صديقة تحضنه فينام على الفور، مما يضحكها.
الخواء الذي يحفر حجرَ أيامه يحفر في الوقت نفسه ثقوباً سوداء داخل النظرات التي تحاصره، وسرعان ما تحطّم رغبته في أيّ كلام، فلا يدري إنْ كانت ملائمة أو مهمة أحاديثُهُ المشتتة وملاحظاته عن الصحة، أو عن أمور أخرى تحوّل الملاحظة إلى هذيٍ خالصٍ!
لديه ثلاثة أرغفة، سمراء من بقايا قشور قمح مجروش. يقال إنها أنفع للصحة من الخبز الأبيض؛ فالأخير بلا ألياف، هذا ما يقوله الأطباء وخبراء النصائح؛ التي تبقى نصائح، مما يجعلها مهمّة ومطلوبة وخالدة خلودَ روثٍ سماويّ، ويمكن لأيٍّ كان أن يرميها بثقةٍ إلى أيّ كان. ثلاثة أرغفة كاملة. أليست كافية للفطور والغداء، إذا ما دهَنَها بمثلثات الجبنة الرخيصة، ذات الغطاء الورقي الأحمر الرقيق!
أثناء هبوطه دعسات الدرج المعتم الواصل سبعة طوابق ببعضها، فكّر بلون حبات البندروة، وإذا ما كانت للخيار رائحة نضوج الصيف، وإذا ما كانت المبيدات والأدوية الحديثة قد لمَّعت قشرتها فبدت حمراءَ خضراءَ ناصعة. وفي الوقت ذاته تذكّر نصيحة والدته أن يضيف الملح إلى الماء، الملح أو مسحوق الحامض المعقّم، في الصحن الذي ينبغي أن يترك فيه كل ما يشتريه من الخضار، ربعَ ساعة على الأقل!
ترى ماذا تفعل الوالدة الآن؟
لا شكّ أنها نظفت صالة الجلوس، ومشَّطت العتبة أسفل وخزات شمسٍ لاهبة، بمكنسة القش الغليظة ذات الأعواد المضمومة، وسقَتْ شجيرة الورد الصغيرة داخل ممرٍ ضيق طويل. وهي الآن على الهاتف، متسرّعة، تطلب لحماً وعظاماً مسلوخة كي تجعلها أسفل أوراق العنب الممتلئة رزّاً مصرياً. آهٍ، أمّهاتٌ مرضعاتٌ حتى آخر نَفَسٍ فيهنّ، لكنّهن حزينات، حزينات، ولا شيء أقسى من حالة أمّ تتذكر ابناً غائباً، فيما هي تشيخ بسرعة بسبب التذكر والغياب في وقت واحد، والندم ينهشُ قلبَ الابن، فيما هي تنظر في وجهها أمام المرآة واقفةً كما لو كانت نصفَ امرأة ونصف حنين، ولا تدري أيهما تنادي الأخرى! قبل أن تضيء شمسُ النهار خدّيه، ويهب نسيم خفيف على ذراعه المكشوفة حتى الكتف.
تلمّس جيب بنطاله ليتأكد من حمله مفتاحَ الحجرة، ولتذكير نفسه بعدم استعمال المصعد لأن الكهرباء تنقطع فجأة، ولا أحد يمكنه مساعدته حينها إذا ما بقي لوحده داخل مصعد معطل تزحف صراصير زاهية أعلى رفوفه القذرة. وفي الوقت نفسه، بحث عن موبايله، وأطمئن إلى وجوده داخل جيبه الأيمن. حسناً حتّى إن أخطأتُ، خمّنَ، ودخلتُ حجرة المصعد، وانقطعت كهرباءُ لبنانَ، عن كسل وخطأ ونسيان، وهي ثلاث حالات ترافقني معاً، فإن الموبايل سينقذني في الوقت المناسب.
الشكر كلُّ الشكر لنجدات الاتصالات الحديثة، إذ إنها تظل مع المرء أينما كان، ولا تتخلى عنه لحظة واحدة، أبداً ، أبداً.
تخيّل أن كلّ من في الشارع الضيق سينظر إليه، مما يربكه، فلا يعود يعرف إن كان يرى أم يتكلم أم يمشي أم يتوهّم.
بعيدٍ كوجه أمّه،
كمرآتها البعيدة، البعيدة جداً:
بُعْدَ الأمان، بُعْدَ الحنان.
* عن العربي الجديد