تجربة رفعت سلام تنحت نهار الشعر الآتي

" النهار الآتي" محاولة للتحاور مع الشعر والنقد والحياة، من خلال ثمانٍ وعشرين دراسة كتبها خمسة وعشرون ناقدا عربيا.
الخميس 2019/07/04
1_1.jpg

شاعر يحاول سلك طرق جديدة
تعتبر تجربة الشاعر المصري رفعت سلام من أبرز التجارب الشعرية العربية المعاصرة، حيث ساهم في تجديد الخطاب الشعري عموما ولا المصري فحسب بل وحتى العربي، سواء من خلال نصوصه التي تعد مغامرة جمالية يقودها وعي حادّ بمعالم النص الشعري الحديث، أو من خلال تراجمه لأهم شعراء العالم.
حينما يطمح الشعر إلى أن يبقى، وأن يؤدي وظائفه، وأن يعبد دربا للمستقبل، يصبح النهار الآتي، هذا ما يقوله الكاتب أحمد سراج في مفتتح كتابه عن تجربة الشاعر رفعت سلام التي يصفها بأنها تجربة واعية، ووفية، وصبورة، ومثابرة، ومتطورة. والكتاب الذي جاء بعنوان “النهار الآتي” محاولة للتحاور مع الشعر والنقد والحياة، من خلال ثمانٍ وعشرين دراسة كتبها خمسة وعشرون ناقدا عربيا، يجمعون فيها بين إبداع الشعر والنقد، وينتمون إلى مذاهب واتجاهات نقدية مختلفة.
في مقدمة الكتاب يصف الناقد محمد عبدالمطلب تجربة رفعت سلام، بأنها “شعرية مغايرة، وتجربة مفارقة، فكل ديوان له يمثل مغامرة جديدة، أي أنه في حاجة إلى قراءة جديدة بتقنيات مغايرة”. وهي أيضا كما يقول شعرية المغامرة التجريبية المستمرة، كما أنها موغلة في انتمائها إلى صاحبها، فهي شعريته الذاتية في طبيعتها المباشرة وغير المباشرة.

[SIZE=5]مفارقة الجماعة[/SIZE]
يذهب محمود أمين العالم إلى أن المنتمين إلى جماعة إضاءة تبنوا مفهوما للفن يرفض ثنائية الشكل والمضمون، ويرى في الفن إدراكا جماليا للواقع لا يعكسه آليا بل يخلق موازاة رمزية له، لكن ذلك لا يعني أن كل هؤلاء يتوحدون في نسق فكري جمالي واحد، فقد تمايزت رؤاهم الجمالية والدلالية، وكان رفعت سلام واعيا لذلك الاختلاف، وكان يحمل بحسب تعبير العالم “رؤية اجتماعية جذرية ملتحمة برؤية جمالية تشكيلية جذرية”.

ويلمـح العالم تماثلا بين شعر رفعت سلام وشعر عفيفي مطر رغم الاختلاف الشديد بين رؤيتيهما للعالم، ففي عالميهما الشعريين ذلك اللقاء الحميم بين الذاكرة والحلم والواقع الملموس المرفوض، بين كليات الأشياء وجزئياتها البسيطة، فضلا عن العنف والحدة في التعبير عند كليهما.

ويكتشف الناقد الراحل شريف رزق في تجربة سلام حرصا على تأسيس خطاب شعري خالص، تتكامل حلقاته عبر الدواوين المتتابعة، لتشكل معالم خطاب شعري يشدد على البنية المجازية، وعلى طاقات اللغة، وعلى موقف المبدع المفارق للجماعة سياسيا وشعريا، ويتسم بالملحمية والدرامية والأبعاد البصرية داخل البنية الشعرية الغنائية.

شاعر أسس لتجربة مختلفة في قصيدة النثر المصرية والعربية جاعلا من نصوصه مغامرة دائمة في اللغة وبها

بينما يرى الناقد والشاعر المغربي صلاح بوسريف في رفعت سلام واحدا من الشعراء الذين وعوا الكتابة، باعتبارها شرطا شعريا جماليا، وأيضا باعتبارها من خواص الحداثة، وقد شرع سلام في خوض مغامرة الكتابة بداية من ديوانه الثاني “إشراقات”، كما أن الكتابة عنده تشرع في الذهاب نحو النص غير النوعي الذي ينفتح على كل أشكال الكتابة وأنواعها. فنحن في تجربة سلام لسنا أمام خطاب، بل نحن أمام نص ونسج، والعمل الشعري فيها كتاب مفتوح، وكل ديوان يسلمك إلى الآخر من خلال التوالج الذي هو من سمات الحداثة. لكن لا عمل عنده يستعيد الآخر، فكل عمل هو توقيع شخصي سواء في الشكل أو في البناء، رغم مافي الدلالة من تجاوب.

ويتوقف بوسريف كذلك عند المنحى الأسطوري العجائبي عند سلام، مشيرا إلى أن الشاعر لا يستخدم مكونات الأسطورة كقناع تختفي خلف حمولته الإيحاءات والرموز والدلالات، بل استعمالها جاء في سياق بناء نصه الشعري كسرد من اختلاقه، فأضفى على نصه شعرية مضاعفة.

ويتفق أبواليزيد الشرقاوي في استعراضه للقيم الفنية في تجربة رفعت سلام مع ما ذهب إليه بوسريف عن فكرة “كتابة الكتابة” فرآها في مجملها قصائد تحتفي باللا موضوع وتصنع منه موضوعا وتدور حول الفراغ وتمتدح الفوضى وتجسدها معتمدة على التكثيف اللغوي والدلالي معا، مفككة عن قصد فلا يوجد ما يجبر القارئ على البدء من نقطة محددة في القصيدة، أو حتى الاتفاق على نص واحد، وهي شعرية تستفز قراءها، لأنها تبدو دائرة في فعل الكتابة لكن بصياغات حداثية.

[SIZE=5]حداثتان مختلفتان[/SIZE]


4_32.jpg

ثمان وعشرون دراسة كتبها خمسة وعشرون ناقدا عربيا، يجمعون فيها بين إبداع الشعر والنقد، حول تجربة رفعت سلام


ترى اعتدال عثمان أن الطموح الأساسي لرفعت سلام يتمثل في بلورة مسارات جديدة في الحركة الشعرية المصرية والعربية، فهو يعتبر في طليعة أبناء جيل السبعينات الذي حمل راية التمرد والرفض الطامح في الوقت نفسه إلى إعادة بناء عالم، والانغراس في أرضه، بالرغم من فداحة المعاناة المتمثلة في أن جيل الشاعر ممزق بين وقتين؛ وقت البحث ومساءلة الذات، وطرح الأسئلة على الواقع دون الوصول إلى إجابة. لذلك تلح على الشاعر صور بعينها وأهمها الدق أو الطرْق على صخور الوقت أو على باب المدى. وتنبع رؤية الشاعر في ديوانه “وردة الفوضى الجميلة” من موقف الاحتجاج فتنزع إلى التحرر من البلاغة التقليدية، لذا جاءت لغته حادة ومسنونة، غير حافلة بالزخرفة أو التهويم العاطفي، كما أنها تنزع إلى نوع من الخشونة المتعمدة، ويشوبها لون من القتامة.

ويلمس أمجد ريان في شهادته الاختلافات بين الحداثة التي طرحتها مجلة “شعر” اللبنانية في الستينات، والحداثة التي عبرت عنها مجلة “إضاءة” المصرية في السبعينات.

ويؤكد ريان على أن حداثة مجلة “شعر” كانت ذات مرجعية غربية بالأساس، بينما الحداثة المصرية رغم استفادتها من تنظيرات مجلة “شعر” ومن المنجز الأوروبي إلا أنها تفاعلت مع الموروث الفكري والإبداعي بكل أشكاله، وانتمت إلى تراثها الشعبي، ومرجعياتها العربية والإسلامية، كما أنها عملت على تفجير اللغة لتنهي حالتها السكونية السائدة، ورغم تنوعاتها الإبداعية إلا أنها أكدت قضية محورية الإنسان.

وأخيرا فقد أسهم تعدد وتجاور الدراسات والقراءات -وقد تم إعداد أغلبها خصيصا من أجل “النهار الآتي”- في تقديم صورة وافية ليس فقط عن تجربة الشاعر بل أيضا عن كيفية تعامل النقاد مع النص الشعري، فمنهم من نفذ إلى عمق التجربة كاشفا عن ثراء مكنونها، ومنهم من أحالها إلى معادلات صماء أجهزت على طاقة الحياة في النص.

في اعتقادي أن هذا السفر القيم ما زالت تنقصه لبنة رئيسة تتمثل في شهادة إبداعية للشاعر نفسه كان يجب أن يضمّها الكتاب.

تجربة رفعت سلام تنحت نهار الشعر الآتي | أحمد رجب | صحيفة العرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى