أمل الكردفاني - آيدولوجيا السماء-معابد بلا آلهة

"سوف تدخل آلاف المعابد ولن تجد داخلها سوى بشراً ، مع ذلك فسوف تذهب لأيِّ مكان على هذه الأرض وستجد معبداً".


. . .

من ألاعيب الكهنة في مصر القديمة ؛ أنهم وضعوا أقنعة للآلهة. والملك (أو ما أسمته التوراة إيهاماً بفرعون) كان مقدساً ليس كإله مباشر ولا كابن بيولوجي للآلهة وإنما كمن حلت على جسده وروحه القوة الإلهية.

الملك ملزم في الأعياد المقدسة بأن يزور المعابد كلها ؛ وكان هذا يعني تنقلا مستمراً من أقصى الشمال لأقصى الجنوب. لقد تفتقت أذهان كهنة آمون عن حيلة الأقنعة فالفرعون يتم إلباسه قناعاً مقدساً عند زيارة المعبد. وهكذا كان بإمكانه زيارة جميع المعابد تحت ذلك القناع في وقت واحد.

إن القوة السماوية منحت الملك معجزة التواجد في أكثر من مكان في وقت واحد.

. . .

جلس الشامان على الأرض وجلست قبالته سيدة هرمة لتقابل روح إبنها الذي توفى قبل خمسة وعشرين عاماً هكذا فجأة بلا سبب..لقد منحها الشامان غليوناً بدائياً لتدخن منه فتات عشب سيعينها على مقابلة الأرواح.

العجوز لم تجب الشامان عندما سألها عن مبرر رغبتها في العودة لذكرى ربع قرن مضت. لقد احتفظت بالسر لنفسها. لذلك أخذت تدخن بصمت..وتتأمل وجه الشامان الطفولي.

الشامان كان يراقب بؤبؤي عينيها ، فهما دليله على بداية ولوجها لعالم الأرواح...لم تكن العملية سهلة لأن بعينيها بقعتان من الماء الأبيض..لكنه اعتاد على سبر الحدقات لعقود. رفعت العجوز رأسها حين نفثت الدخان من منخريها..كانت خبيرة في التدخين. أغمضت عينيها ورأت تاريخها يتتداعى في الذاكرة المشوشة...كان خليطاً عجيباً من الأحداث والأشخاص المتداخلين.. كان هناك ظلٌّ عرفت أنه ظل ابنها...كان يختفي ويظهر وكان عليها اصطياده... (توقف..) قالت... (أرجوك..) .. ظِلٌ صغيرٌ كذبابة...أرهقها بالمتابعة .. وميضٌ يلمع فجأة وداخله نقطة الظل تنتقل من مكان لآخر تختفي وتظهر.. ذلك ابنها .. الوعي يشير لها بذلك دون أن تعرف السبب...وبدون صوت... الظل الذبابي سريع الطيران يومض في مكان ثم يومض في مكان آخر...كانت صابرة لأنها تعرف صعوبة الإفلات من ذلك البعد اللا مادي. حثت نفسها هي أيضاً لتركز كينونتها كنقطة ظل..لتتمكن من الالتقاء بالظل الذبابي لروح ابنها.. تمكنت نقطة ظلها من ملاحقة ومضات نقطة الظل الأخرى..ثم استطاعت أخيراً أن تلتصق بها... سمعت صوت ابنها متقطعا وكأنه يخرج من مقبرة داخل كهف ثم صَمَتْ...أرسلت له اسئلة بصمت...وتلقت أجاباته بصمت....ثم تسارع الظلان لينفلتا من بعضهما.

بعدها قدمت بقايا ساقي دجاجة بمخالبهما للشامان ليسلقهما ويأكلهما في فطوره..ثم غادرت...

وتلقى الشامان زيارات أخرى وتقدمات أخرى أمَّنت له طعامَ يومه...فدخن بدوره غليونه بصمت...ورأى ظلا ذبابياً لروح دجاجة المرأة العجوز.

. . .

في العصر الحجري أي قبل حوالى ثلاثة عشر ألف سنة تقريبا قبل الثورة النيوليتية (الزراعية) بأربعة آلاف عام ، لم تكن هناك آلهة مركزية للإنسان الحجري...لقد كان تائهاً وضائعاً وهو يحاول إرضاءَ كل عناصر الطبيعة عندما تجزعه الكوارث....كان كل شيء يحمل سره في جوهره.. كانت اليهولى منغمرةً في كل روحٍ وجسد....لأنه يحتاج لها كلها.. يحتاج للسحالي بقدر احتياجه للماء...فكل الطبيعة إذن مُسخَّرةٌ لخدمته وللانتقام منه عندما يجحد نعمائِها عليه.

غير أن رجلاً واحداً فقط .. رجلاً ..واحداً فقط...غَيَّر كل تاريخ البشرية.. دون أن يقصد من ذلك سوى اشباع شغفه بالفن. في رأس الهلال الخصيب ؛ حيث الأرض لا زالت طازجة بطهارتها الأولى...قام ذلك الرجل بقطع صخرة ضخمة..ثم بدأ في الدفع بها إلى البعيد....لقد كان لديه حُلمٌ قديمٌ بأن يمارس النحت على الصخور...نحت كل الوجود..بكل عناصر الطبيعة....ولم يكن يعرف حينها أن ذلك سيدعى بعد آلاف السنين بالفن...

لم يعرف سكان المعمورة في ذاك الوقت شيئاً عن المعادن ولم يمارسوا الرعي ولا الزراعة....ولم تتكون لديهم مؤسسات إجتماعية.... كان الكون منتثرا في فضائه كمخلفات انفجار نجمي...

نحتَ الفنان الصخرة بالحجر ... نحن السحالي والضفادع والأسود والغزلان والأيائل والأشجار والأزهار والضباع....نحت الشمس والقمر والنجوم ... غير مكترثٍ بأي قبول جماهيري لما يفعل..كانت إرادته تتغذى على روح الفن فقط. وكغيره من أبناء ذلك العصر الحجري لم يعتمد إلا على صيد الأرانب البرية وبعض الأسمالك والكثير من الثمار. لقد كان عصراً تتحقق فيه العزلة بطبيعتها لكل البشر الحجريين..وكان هو كفنان أكثر من استفاد من تلك الخاصية.

بعد أعوامٍ قليلةٍ من موته منكفئاً فوق منحوتته وجد بعض الصيادين هيكله وشاهدوا جميع آلهتهم المتنوعة موجودة في منحوتته تلك...لقد ظنوا حينئذٍ أنَّهم وجدوا أرض الآلهة المقدسة حيث التجلِّي الأوَّل لها.. وهكذا بدأ الحجيج يتوافدون على النصب ، ليكون أوَّل معبدٍ يُمركز فيه الإنسان جهود دعائه للآلهة...تلك الأرض المقدسة كانت ملجأً لجميع المتعبين من الضعفاء والمرضى والخائفين... وهناك تعلموا الاستقرار وبدأ عصر التوطن عبر الزراعة.

بعدها توسع البشر في بناء المعابد ونحت النصب فكثرت وتوزعت وانتشرت حتى ذلك العصر. غير أن الاستقرار الزراعي خفف من ارتباط الانسان بالنصب وبدأ المزارعون في تحطيم حجارة النصب لاستخدامها في أغراضهم الدنيوية. كان ذلك يتم بسرية وتغافل عن المؤمنين الذي كانوا يشاهدون أرضهم المقدسة تتآكل يوماً بعد يوم , فقاموا بردمها حماية لقداسة الأرض حيث تجلت فيها الآلهة لأول مرة.

في عام 1994 كان عالم الآثار الألماني كلاوس شميدت يسير بصعوبة فوق الأرض الجبلية ذات التضاريس المعقدة ، مع ذلك فلم تمنعه تلك الصعوبة من تأمل الطبيعة وهو يعلم بأنها تخفي تاريخ الإنسان في كل حصاة وتحت كل صخرة...كان يسير ودفء الأرض التركية الجنوبية يمنحه الحماسة الكافية ليستمر في التنقيب عن الماضي ، إلى أن توقف أمام تلك النصب التي تبدو كصنيعة بشرية بلا أدنى ريب. كانت منحوتات الطيور والثعالب والأسود والأفاعي التي رسمها ذلك الرجل الحجري أمام نظره مباشرة .. بكل عنفوان الفن..وبعد فحص طويل أدرك علماء الآثار أن موقع غوباكلي تيبي هو أول حرم مقدس بُني لتركيز عبادةِ الآلهة التي كانت من قبل متنافرة ومشتتة في طواطم بدائية يعتتقد كل رجل حجري أنها تحوي سر الكون.



. . .​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى