ـ 1 ـ
للكتابة النسائية طابعٌ متميز . فبالرغم من التحايل على الذات و الموضوع ، يظل أدبُ المرأة ذا خصوصية ، تجعله متفردا في رؤيته للعالم . و به فهو يطل ـ أي الأدبُ ـ على عوالمِ المرأة الحميمية في مواجهتها الدأوب ، لمتطلبات الحياة الاجتماعية ؛ المادية والمعنوية . فالنظرة ذات البعد الفيزيولوجي ، عند المرأة ، غالبا ما تـُبوصل ، و تـُبئـِّر النشاط الإبداعي من خلال سبر أغوار التجربة في الحياة . وفي هذا المضمار ، كانت لجسد المرأة حظوةُ أسْنى في مساحة الإبداع ، وذلك عبر التفافها على إيقاعاتها الأنثوية . إلا أن ما يطرأ على تضاريس الجسد من تبدلات و تغيرات فيزيولوجية و نتوءات حالمة ، كانت ولازالت مادة دسمة في أدبها ؛ للإثارة ولفت انتباه القارئ إلى عالمها القرمزي الفاتن ، وما تشيده من عوالمَ ساحرة ٍ.
غير أن المتخيل الإبداعي ، في الكتابة النسائية ، تجاوز هذه الرؤية الموضعية المحدودة للجسد ، بل تخطاها ليلامسَ جوانبَ أكثر إثارة في سيرورتها الإبداعيَّة . بالمقابل كانت هناك صحوة المتخيل عند المرأة المبدعة ، خصوصا ، مع موجات التحرر التي اجتاحت الأدب العالمي وتخلصه التدريجي من أدب الوصاية ، سيما وقد أدرك المتخيلَ وعيٌ خطيرٌ بأهمية التطوير والإبدال نحو منافسة حقيقية ، واقتحام لا مشروط لعوالمَ ثقافيَّةٍ كانت حِكرا على الرجل . فمهما كان الابداع الذي يدمر الواقع ، بنفس خشن الملمس ، تجيء ثقافة الذكورة حاملة طاقة كلها حيويَّة ، من أجل تغيير الأماكن و الأدوار . حيث أضحت اللغة مادة لينة ومطواعة ، تصف عوالم الجنسين معا بحميمية و إخلاص . إلا أن القاسم المشترك بين ما هو ذكوري و ما هو نسويٌّ ، يظل بؤرة حمئة يتقاسمها الوازعُ الإنسانيُّ على حد سواء ، فضلا عن طموحه ـ أي الوازع الإنساني ـ نحو مكاشفة الواقع ، ورفع الستار عن حياة ظلت ملتبسة وغامضة .
ـ 2 ـ
فمن خلال مبدعات مغربيات وعربيات ، اللواتي بدأن مسيرتهن الإبداعية على إيقاع الثورة على أقنوم الجسد ، في غمار ذلك ، يتضح مدى إصرارهن الكبير على قلب الطاولة على الجمود الفني والجمالي في الكتابة النسائية . علاوة على بحثهن الجامد والمستمر عن ضفاف أثيلة ، تتحقق فيها ذواتهن العطشى إلى التميز والانفراد . فمهما كان الحديث ، عن التجربة الإبداعيَّة ، بما هي تظهر تلك الخصوصية والتفرد ، لا على مستوى الذات فحسب ، بل حتى على مستوى الموضوع ، فإن المتغيرات الجسدية عند المرأة تظل الوتر الحساس و السَّمفونيَّة الطروب ، التي يعزفها الإبداع النسائي ؛ مما يبعدها كل عن إدانتها للواقع الذي تعيشه . ففي سنة 1999 نشرت الكاتبة المغربية زهرة زيراوي نصا قصصيا في مجلة الثقافة المغربية ، والتي كان يديرها آنذاك الكاتب المغربي عبد الحميد عقار ، يحمل عنوانا ؛ " دورة تكاد تكتمل " . تقول فيه :
" مدفوعا أخرج من رحم أمّي ...
أن أهبط أصوات مختلفة تتصاعد من حولي ... ربي يعاونك
تتعلق يداي ست مرات في اليوم بزجاج بارد ... حبل السُّرة لم يعد ، الآن ، يقينا ... ".
فالخروج من رحم ، يراصفه ألم و مخاض ؛ طقوس تعيشها المرأة لوحدها . فهي كائن راكم تجربة الألم و المعاناة و المكابدة عبر مسيرة عمرية طويلة ، بعيدة كل البُعد عن أن يكون الرجل مشاركا لها في ذلك . فمن خلال نص زهرة زيراوي ، يتضح أن هذه الأخيرة دخلت مناطق لا تتسع دوائرُها إلا للإبداع النسائي فقط . فمن الطبيعي أيضا أن يكون لهذا العمل تداعيات جمَّة لا على مستوى الإبداع فحسب ، بل أيضا على مستوى بحثها الحثيث عن الحرية الذاتية ، التي تدافع عنها المرأة في كتاباتها الإبداعيَّة . إن الهروبَ إلى الخصوصية الإبداعية ، عند المرأة ، شطحٌ من شطحاتها في منتصف النهار ، حيث وفرت المجال الأرحب لبلورة تجربتها في الكتابة ، بعيدة عن أعين الرجل ؛ الذي أصبح إبداعه ، من منظورها ، أسير الإدانة الشديدة للواقع و الاحتجاج عليه فقط . غير أن هذا الاختيار الواعي ، الذي سلكه الإبداع النسويُّ ، لم يعد حبيس تلك الرؤية الضيقة لتفاعلها اللامشروط مع الذات ، وإنما استطاعت من أن توسع من رؤيتها للعالم بنفس جديد ، دون التفريط قيد أنملة في خصوصيتها الأنثوية . فما كانت لواعج الشوق و الأحاسيس الفياضة للأنثى إلا مجالا خصبا لهذا التميز والانفرادية ، علاوة على مسحة الشعور بالأمومة ، كأحد الأعمدة والمنصات ، التي تبني عليها صرح الإبداع عند المرأة . ففي سنة 2008 نشرت الكاتبة القطرية دلال خليفة مجموعتها القصصية " الخيل و فضاءات البنفسج " ، تحكي الكاتبة في القصة ، التي تحمل عنوان المجموعة نفسَه ، عن علاقتها الحميمية بالمزرعة ، التي أهديت لها من طرف الأب ؛ حيث إن الأفراس ترتاع في ربوعها و مروجها بين أشنـَّة و غياض غدير . ولعل في سرْد دلال ما يجعلنا نحس و نشعر ، فعلا ، أننا نودع معها جزءا من ذاكرتها ، التي تختزن لحظات حنين ممزوج بوجع و ألم دفينين . على اعتبار أن فك ارتباطها براشد ، زوجها السابق ، سيقابله تنازل نهائيٌّ عن المزرعة وخيولها . علاوة على تقمصها صفة الأمومة لمختلف الأفراس ، ودربتها معها ، التي نشأت و ترعرعت في رحاب هذا البستان الفسيح و شبَّت بين عرائشه الظليلة . تقول دلال خليفة في " الخيل وفضاءات البنفسج " : " وهذه أحلامُ ، ألطف الأفراس لديَّ ، كثيرا ما تستأجر في المناسبات ليركبها الأطفال ... لو سمعت يوما أن أحد الملائكة قد هبط إلى الأرض و تحول إلى فرس لظننت أنه أحلام . السن لها احترامها حتى إن كان المسن حصانا ؛ لو تعلمين يا نور كم أكن من التقدير لهذه الفرس ... إنها جدة كل هذه الخيول تقريبا ... هل تصدقين أنني أشعر أنها جدتي أنا أيضا؟"
فيض الإحساس و شعور الأنثى بالألم ، يصاحبه لظى الفراق ، كل ذلك يُترجمُ إلى لغة تنساب مضاءة ، كنبع يسرق ضوءَ القمر . فلدلال أوصاف تطفح أنوثة من خلال مقاربة برؤية متخيل الكتابة النسائية ، علاوة على مغامرتها في الإدانة الشديدة لجشع الرجال والوصاية المزعومة ، التي يحاولون إجبار المرأة على الخضوع لها في استسلام ووداعة ؛ لأنه ، في نظرهم ، أضحى قدرا ماضيا و صامتا كأبي الهول .
غير أن الكاتبة السورية غادة السَمان ، في باكورتها القصصية الأولى " عيناك قدري " ، قد سلكت طريقا آخرَ ، قانت فيه بين رؤيتين ، بل بين جنازتين تنشدان هزيمة نكراء َ للمرأة أمام مجتمع عربي لا يؤمن و لا ينصت إلا لنبض الفحولة و الذكورة المتنمِّرة . تصور في " عيناك قدري " ضياع أنوثتها في أتون مبهمة و غامضة و سديمية ، و في ظل مستقبل يتشظى أمامها ويذوب كالثلج . فضلا عن تسليعها في مزاد زواج فاشل لا يحترم ناصيتها الأنثوية ، وميولها العاطفي و الجسدي . ومما زاد في تعميق جرح هذا الموقف هو توظيفها لعنصر السخرية اللاذعة من عقلية القبيلة والعشيرة السائدة في مجتمع عربي متزمت ، لا يؤمن بتكافؤ الفرص و الحظ بين الرجل والمرأة . تقول غادة السمان في قصة " رجل في الزقاق " ، والتي ترجمت إلى اللغة الأنجليزية : " لا فرق لدى أبي سواء نجحت أم رسبت . درست أم أهملت ... المهم انتظار الرجل الذي يخلصه مني ، من مصيبته الرابعة المغروسة أمام النافذة ... مني أنا " . ولعل ما يزيد في انخساف القرح ، هو تلك الرؤية التي انطبعت على الجنس الآخر ، باعتباره سَجََّانا و جلادا للجسد ، وجهان لعملة واحدة ، سواء كان الآخرُ أبا أو زوجا أو أخا أو عمّا . حيث يعمل هؤلاء جميعهم على تحنيط المرأة ، وجعلها مومياء من زمن مصري قديم و بائد ، تقول الكاتبة : " لو كان لي بعض حريتي لأدركت منذ زمن طويل أن أحمد الذي سحرني بشاربيه الرفيعين ، رجل متزوج وشبه أمِّي. وأن هوايته تحنيط النساء . و لجنبت الفرحة البلهاءَ يوم جاءت أمه تخطبني زوجة ثالثة ، بعد أن سحرته غمزاتي ، وإشاراتي السخيفة عند هذه النافذة " . فمن الشجاعة أن تستنهض الكاتبة هممَها ، وتستعيد بعضا من جبروتها كأنثى ، كي تعود إلى الحياة من جديد . وترمي وراءها عقودا من التخلف و التحنيط ، الذي شل قدراتها و طاقاتها الحيوية . وتسير على درب الحرية و العلم ، مراصفة الرجل في تقلد مناصب حساسة كانت حِكرا على الرجاجيل ، وتخلق منها شيئا آخر . فلم تعد ذلك الكائن الذي احترف ثقافة البكاء على الطلل و الإذعان لجبروت الواقع ، تقول السَمان في القصة نفسها : " انفجر البركان ... انسكب المطر ... هدرت السيولُ ... انهض و الشرر يتطاير من مسامي و شعري وأناملي ... نظرات أبي المذعورة تستوقفني قبل أن أخرج من الغرفة صارخة " لن أتزوج من هذا الرجل ... أريد أن أتمم دراستي ... أحمد يتضاءل أمامي ... يتضاءل ... يستحيل إلى قزم ... يتسلل من دارنا مع أمه ، وأنا أردد بلذة محمومة : أريد ... أريد ... للمرة الأولى أتجرأ على أن ألفظ كلمة " أريد ... " .
إن لهذه الثورة ، في وجه هذه الثوابت البالية ، التي رسمها المجتمع العربي بعامة والمجتمع الدمشقي بخاصة منذ القديم ، لجُرءة ً تكسر من خلالها أغلالا و أصفادا ظلت تعمل على إقصائها الدائم و المستمر من بناء مجتمع متكافئ وديمقراطي ، يؤمن بقوة الحرية و العلم . ومنه فإن الكاتبة غادة السمان سلكت سمتا مليئا بالحفر ، و طويلا من النضال ، معلنة انضمامها إلى طابور من الكاتبات العربيات ، اللواتي احترفن تعرية الواقع العربي من طابوهات ، التي اعتبرنها مجرد قناعات تخفي غابات من تسلط و استبداد وسلب الحرية ، و في مقدمتهن ليلى بعلبكي و كوليت خوري و ليلى العثمان ، وفاتحة مورشيد وخديجة مروازي و مليكة الصوطي ... و غيرهن كثيرات .
وأخيرا ، يطول بنا الحديث عن تجربة المرأة في الكتابة و الإبداع ، ويَبْقى لِبَانُ الحكي مُلقى على غريب التخييل ، وعلى طاقة مفعمة حيوية بالحلم و الاستيهام . إلا أن الكتابة النسائيَّة تبقى إحدى اللبنات الأساسية ، التي يشد عندها اكتمال صرح الإبداع في تجلياته الإنسانيَّة الرَّفيعة ، فمن دون رقة و لمسة جنون و حنين و حب كالبلسم الشافي ، لا نستطيع أن نعلن عن عبير المرأة كعبير ورد في الكتابة . فمهما حاول الرَّجلُ فرض سطوته على مجالات الإبداع ، يظل عاجزا ، بل تتكسر مراياه عند هذه الأنامل المتمردة ... التي احترفت سرقة القمر ... فمن دون هذا الأخير لن نعرف للإبداع معنى و لا مغزى
للكتابة النسائية طابعٌ متميز . فبالرغم من التحايل على الذات و الموضوع ، يظل أدبُ المرأة ذا خصوصية ، تجعله متفردا في رؤيته للعالم . و به فهو يطل ـ أي الأدبُ ـ على عوالمِ المرأة الحميمية في مواجهتها الدأوب ، لمتطلبات الحياة الاجتماعية ؛ المادية والمعنوية . فالنظرة ذات البعد الفيزيولوجي ، عند المرأة ، غالبا ما تـُبوصل ، و تـُبئـِّر النشاط الإبداعي من خلال سبر أغوار التجربة في الحياة . وفي هذا المضمار ، كانت لجسد المرأة حظوةُ أسْنى في مساحة الإبداع ، وذلك عبر التفافها على إيقاعاتها الأنثوية . إلا أن ما يطرأ على تضاريس الجسد من تبدلات و تغيرات فيزيولوجية و نتوءات حالمة ، كانت ولازالت مادة دسمة في أدبها ؛ للإثارة ولفت انتباه القارئ إلى عالمها القرمزي الفاتن ، وما تشيده من عوالمَ ساحرة ٍ.
غير أن المتخيل الإبداعي ، في الكتابة النسائية ، تجاوز هذه الرؤية الموضعية المحدودة للجسد ، بل تخطاها ليلامسَ جوانبَ أكثر إثارة في سيرورتها الإبداعيَّة . بالمقابل كانت هناك صحوة المتخيل عند المرأة المبدعة ، خصوصا ، مع موجات التحرر التي اجتاحت الأدب العالمي وتخلصه التدريجي من أدب الوصاية ، سيما وقد أدرك المتخيلَ وعيٌ خطيرٌ بأهمية التطوير والإبدال نحو منافسة حقيقية ، واقتحام لا مشروط لعوالمَ ثقافيَّةٍ كانت حِكرا على الرجل . فمهما كان الابداع الذي يدمر الواقع ، بنفس خشن الملمس ، تجيء ثقافة الذكورة حاملة طاقة كلها حيويَّة ، من أجل تغيير الأماكن و الأدوار . حيث أضحت اللغة مادة لينة ومطواعة ، تصف عوالم الجنسين معا بحميمية و إخلاص . إلا أن القاسم المشترك بين ما هو ذكوري و ما هو نسويٌّ ، يظل بؤرة حمئة يتقاسمها الوازعُ الإنسانيُّ على حد سواء ، فضلا عن طموحه ـ أي الوازع الإنساني ـ نحو مكاشفة الواقع ، ورفع الستار عن حياة ظلت ملتبسة وغامضة .
ـ 2 ـ
فمن خلال مبدعات مغربيات وعربيات ، اللواتي بدأن مسيرتهن الإبداعية على إيقاع الثورة على أقنوم الجسد ، في غمار ذلك ، يتضح مدى إصرارهن الكبير على قلب الطاولة على الجمود الفني والجمالي في الكتابة النسائية . علاوة على بحثهن الجامد والمستمر عن ضفاف أثيلة ، تتحقق فيها ذواتهن العطشى إلى التميز والانفراد . فمهما كان الحديث ، عن التجربة الإبداعيَّة ، بما هي تظهر تلك الخصوصية والتفرد ، لا على مستوى الذات فحسب ، بل حتى على مستوى الموضوع ، فإن المتغيرات الجسدية عند المرأة تظل الوتر الحساس و السَّمفونيَّة الطروب ، التي يعزفها الإبداع النسائي ؛ مما يبعدها كل عن إدانتها للواقع الذي تعيشه . ففي سنة 1999 نشرت الكاتبة المغربية زهرة زيراوي نصا قصصيا في مجلة الثقافة المغربية ، والتي كان يديرها آنذاك الكاتب المغربي عبد الحميد عقار ، يحمل عنوانا ؛ " دورة تكاد تكتمل " . تقول فيه :
" مدفوعا أخرج من رحم أمّي ...
أن أهبط أصوات مختلفة تتصاعد من حولي ... ربي يعاونك
تتعلق يداي ست مرات في اليوم بزجاج بارد ... حبل السُّرة لم يعد ، الآن ، يقينا ... ".
فالخروج من رحم ، يراصفه ألم و مخاض ؛ طقوس تعيشها المرأة لوحدها . فهي كائن راكم تجربة الألم و المعاناة و المكابدة عبر مسيرة عمرية طويلة ، بعيدة كل البُعد عن أن يكون الرجل مشاركا لها في ذلك . فمن خلال نص زهرة زيراوي ، يتضح أن هذه الأخيرة دخلت مناطق لا تتسع دوائرُها إلا للإبداع النسائي فقط . فمن الطبيعي أيضا أن يكون لهذا العمل تداعيات جمَّة لا على مستوى الإبداع فحسب ، بل أيضا على مستوى بحثها الحثيث عن الحرية الذاتية ، التي تدافع عنها المرأة في كتاباتها الإبداعيَّة . إن الهروبَ إلى الخصوصية الإبداعية ، عند المرأة ، شطحٌ من شطحاتها في منتصف النهار ، حيث وفرت المجال الأرحب لبلورة تجربتها في الكتابة ، بعيدة عن أعين الرجل ؛ الذي أصبح إبداعه ، من منظورها ، أسير الإدانة الشديدة للواقع و الاحتجاج عليه فقط . غير أن هذا الاختيار الواعي ، الذي سلكه الإبداع النسويُّ ، لم يعد حبيس تلك الرؤية الضيقة لتفاعلها اللامشروط مع الذات ، وإنما استطاعت من أن توسع من رؤيتها للعالم بنفس جديد ، دون التفريط قيد أنملة في خصوصيتها الأنثوية . فما كانت لواعج الشوق و الأحاسيس الفياضة للأنثى إلا مجالا خصبا لهذا التميز والانفرادية ، علاوة على مسحة الشعور بالأمومة ، كأحد الأعمدة والمنصات ، التي تبني عليها صرح الإبداع عند المرأة . ففي سنة 2008 نشرت الكاتبة القطرية دلال خليفة مجموعتها القصصية " الخيل و فضاءات البنفسج " ، تحكي الكاتبة في القصة ، التي تحمل عنوان المجموعة نفسَه ، عن علاقتها الحميمية بالمزرعة ، التي أهديت لها من طرف الأب ؛ حيث إن الأفراس ترتاع في ربوعها و مروجها بين أشنـَّة و غياض غدير . ولعل في سرْد دلال ما يجعلنا نحس و نشعر ، فعلا ، أننا نودع معها جزءا من ذاكرتها ، التي تختزن لحظات حنين ممزوج بوجع و ألم دفينين . على اعتبار أن فك ارتباطها براشد ، زوجها السابق ، سيقابله تنازل نهائيٌّ عن المزرعة وخيولها . علاوة على تقمصها صفة الأمومة لمختلف الأفراس ، ودربتها معها ، التي نشأت و ترعرعت في رحاب هذا البستان الفسيح و شبَّت بين عرائشه الظليلة . تقول دلال خليفة في " الخيل وفضاءات البنفسج " : " وهذه أحلامُ ، ألطف الأفراس لديَّ ، كثيرا ما تستأجر في المناسبات ليركبها الأطفال ... لو سمعت يوما أن أحد الملائكة قد هبط إلى الأرض و تحول إلى فرس لظننت أنه أحلام . السن لها احترامها حتى إن كان المسن حصانا ؛ لو تعلمين يا نور كم أكن من التقدير لهذه الفرس ... إنها جدة كل هذه الخيول تقريبا ... هل تصدقين أنني أشعر أنها جدتي أنا أيضا؟"
فيض الإحساس و شعور الأنثى بالألم ، يصاحبه لظى الفراق ، كل ذلك يُترجمُ إلى لغة تنساب مضاءة ، كنبع يسرق ضوءَ القمر . فلدلال أوصاف تطفح أنوثة من خلال مقاربة برؤية متخيل الكتابة النسائية ، علاوة على مغامرتها في الإدانة الشديدة لجشع الرجال والوصاية المزعومة ، التي يحاولون إجبار المرأة على الخضوع لها في استسلام ووداعة ؛ لأنه ، في نظرهم ، أضحى قدرا ماضيا و صامتا كأبي الهول .
غير أن الكاتبة السورية غادة السَمان ، في باكورتها القصصية الأولى " عيناك قدري " ، قد سلكت طريقا آخرَ ، قانت فيه بين رؤيتين ، بل بين جنازتين تنشدان هزيمة نكراء َ للمرأة أمام مجتمع عربي لا يؤمن و لا ينصت إلا لنبض الفحولة و الذكورة المتنمِّرة . تصور في " عيناك قدري " ضياع أنوثتها في أتون مبهمة و غامضة و سديمية ، و في ظل مستقبل يتشظى أمامها ويذوب كالثلج . فضلا عن تسليعها في مزاد زواج فاشل لا يحترم ناصيتها الأنثوية ، وميولها العاطفي و الجسدي . ومما زاد في تعميق جرح هذا الموقف هو توظيفها لعنصر السخرية اللاذعة من عقلية القبيلة والعشيرة السائدة في مجتمع عربي متزمت ، لا يؤمن بتكافؤ الفرص و الحظ بين الرجل والمرأة . تقول غادة السمان في قصة " رجل في الزقاق " ، والتي ترجمت إلى اللغة الأنجليزية : " لا فرق لدى أبي سواء نجحت أم رسبت . درست أم أهملت ... المهم انتظار الرجل الذي يخلصه مني ، من مصيبته الرابعة المغروسة أمام النافذة ... مني أنا " . ولعل ما يزيد في انخساف القرح ، هو تلك الرؤية التي انطبعت على الجنس الآخر ، باعتباره سَجََّانا و جلادا للجسد ، وجهان لعملة واحدة ، سواء كان الآخرُ أبا أو زوجا أو أخا أو عمّا . حيث يعمل هؤلاء جميعهم على تحنيط المرأة ، وجعلها مومياء من زمن مصري قديم و بائد ، تقول الكاتبة : " لو كان لي بعض حريتي لأدركت منذ زمن طويل أن أحمد الذي سحرني بشاربيه الرفيعين ، رجل متزوج وشبه أمِّي. وأن هوايته تحنيط النساء . و لجنبت الفرحة البلهاءَ يوم جاءت أمه تخطبني زوجة ثالثة ، بعد أن سحرته غمزاتي ، وإشاراتي السخيفة عند هذه النافذة " . فمن الشجاعة أن تستنهض الكاتبة هممَها ، وتستعيد بعضا من جبروتها كأنثى ، كي تعود إلى الحياة من جديد . وترمي وراءها عقودا من التخلف و التحنيط ، الذي شل قدراتها و طاقاتها الحيوية . وتسير على درب الحرية و العلم ، مراصفة الرجل في تقلد مناصب حساسة كانت حِكرا على الرجاجيل ، وتخلق منها شيئا آخر . فلم تعد ذلك الكائن الذي احترف ثقافة البكاء على الطلل و الإذعان لجبروت الواقع ، تقول السَمان في القصة نفسها : " انفجر البركان ... انسكب المطر ... هدرت السيولُ ... انهض و الشرر يتطاير من مسامي و شعري وأناملي ... نظرات أبي المذعورة تستوقفني قبل أن أخرج من الغرفة صارخة " لن أتزوج من هذا الرجل ... أريد أن أتمم دراستي ... أحمد يتضاءل أمامي ... يتضاءل ... يستحيل إلى قزم ... يتسلل من دارنا مع أمه ، وأنا أردد بلذة محمومة : أريد ... أريد ... للمرة الأولى أتجرأ على أن ألفظ كلمة " أريد ... " .
إن لهذه الثورة ، في وجه هذه الثوابت البالية ، التي رسمها المجتمع العربي بعامة والمجتمع الدمشقي بخاصة منذ القديم ، لجُرءة ً تكسر من خلالها أغلالا و أصفادا ظلت تعمل على إقصائها الدائم و المستمر من بناء مجتمع متكافئ وديمقراطي ، يؤمن بقوة الحرية و العلم . ومنه فإن الكاتبة غادة السمان سلكت سمتا مليئا بالحفر ، و طويلا من النضال ، معلنة انضمامها إلى طابور من الكاتبات العربيات ، اللواتي احترفن تعرية الواقع العربي من طابوهات ، التي اعتبرنها مجرد قناعات تخفي غابات من تسلط و استبداد وسلب الحرية ، و في مقدمتهن ليلى بعلبكي و كوليت خوري و ليلى العثمان ، وفاتحة مورشيد وخديجة مروازي و مليكة الصوطي ... و غيرهن كثيرات .
وأخيرا ، يطول بنا الحديث عن تجربة المرأة في الكتابة و الإبداع ، ويَبْقى لِبَانُ الحكي مُلقى على غريب التخييل ، وعلى طاقة مفعمة حيوية بالحلم و الاستيهام . إلا أن الكتابة النسائيَّة تبقى إحدى اللبنات الأساسية ، التي يشد عندها اكتمال صرح الإبداع في تجلياته الإنسانيَّة الرَّفيعة ، فمن دون رقة و لمسة جنون و حنين و حب كالبلسم الشافي ، لا نستطيع أن نعلن عن عبير المرأة كعبير ورد في الكتابة . فمهما حاول الرَّجلُ فرض سطوته على مجالات الإبداع ، يظل عاجزا ، بل تتكسر مراياه عند هذه الأنامل المتمردة ... التي احترفت سرقة القمر ... فمن دون هذا الأخير لن نعرف للإبداع معنى و لا مغزى