أمل الكردفاني - شخصية الله في الديانات شبه التوحيدية الأربعة

هذا عنوان كتاب كنت أزمع كتابته ؛ لكنني بعد تأمل وجدت أنه لا يستحق أن يكتب لأنه أولا: ذو مضمون معلوم للكافة. وثانيا: لأن لدي مشاريع أكثر فائدة لنفسي وللآخرين. وثالثا: لأن فكرة الله نفسها بدأت تنحسر وأن المتخصصين في علوم الآثار والتاريخ أصبحوا يمتلكون أدلة قوية على ما يناقض ما جاء بالكتب المدعوة بالمقدسة وبالتالي فالله نفسه في سبيله للانحسار عن العالم. ولا أدل على ذلك من أن الشعوب المؤمنة اليوم باتت تفتح صدورها للرصاص من أجل تحقيق حلمها بالعدالة والحرية الفردية وحقوق الانسان والمساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات دون تمييز على أساس ديني أو عرقي أو ثقافي بوجه عام. وهذا ما كان من المستحيل مناقشته دون استخدام لغات فضفاضة تمويها على فروض الأديان التي لا تساوي بين المؤمن والكافر أو بين الرجل والمرأة بل وتبيح الغزو والسبي والاستعباد...الخ.
وإني أرى أن المؤمنين (بمختلف دياناتهم اليوم) باتوا يتجاهلون تلك الأوامر الصارمة الواردة في الكتب المتقدسة (بفتح الدال وتشديدها).
الحاخامات اليهود أصبحوا يعلنونها واضحة بأن أوامر التوراة لم تعد صالحة للتطبيق ؛ بابا الكاثوليك أعلن أن الجنة والنار مجرد رموز مجازية ، وأن العبرة في الرضى الإلهي بالمحبة والعمل الصالح...الخ.
وهكذا فشخصية الله كدراسة سيكولوجية ستضحى تحصيل حاصل ربما في أقل من عشرين عاما قادمات.
مع ذلك فلا مثلب في تناول رؤيتي العامة وغير الأكاديمية حول هذا الموضوع وهو شخصية الله في الأديان شبه التوحيدية. وأقول شبه توحيدية لأن هذه الأديان لم تخلو من وسمها الوثني التعددي ولو بتبريرات إلتفافية وليست خلوا من التحايل.
وبغض النظر عن كل ما سبق فإنني لن أطرح منهجية علمية لتناول هذا الموضوع وإنما سأعتمد على الصورة التي انطبعت في ذهني عند قراءاتي الطويلة للكتب المتقدسة فقط. وبالتالي فلا أملك أن أدعو إلى تبني هذه الانطباعات كحقيقة حاسمة.
وأبتدر الأمر في هذه العجالة بالتأشير على ما يرد بأسفار واصحاحات التوراة المتعددة دون أن أوثقها نصا تاركا أمر البحث عن التفاصيل والتعمق لمن يرى ذلك مهما.
فالتوراة تعتبر من أضخم الكتب المقدسة التي جمعت العشرات من الأسفار والتي ثار حولها جدل طويل سواء فيما يتعلق بموثوقيتها أو ما يتعلق بحقيقة شخوص أبطالها أو ما يتعلق حتى بنسبة الأسفار لأصحابها بلوغا لمرحلة إقصاء وتهميش أسفار أخرى لم يعتبرها اليهود ولا المسيحيون أسفارا قانونية معتمدة (الأبوكريفا).
امتلكت التوراة لغتها الخاصة التي اعتمدت على الإسهاب والتفصيل الذي لم يفقدها عنصر التشويق ، فيمكنك أن تعيش في سفر صامويل عالم العجائب والغرائب دون أن تمل ، وأن تشاهد الله والجنة والشجرة الملعونة والشيطان في سفر التكوين عبر قصة رائعة لم تخلو من سقطات كثيرة جدا ، تمت محاولات كثيرة لرفعها بالترقيع الإيماني الذي يبرر فيكون التبرير مشكلة أكثر من كونه حلا.
يمكننا أن نتلمس شخصية الله بوضوح في التوراة ؛ وأقصد بذلك تكوينه النفسي ، ردود أفعاله وتكيفه مع مخلوقاته ، أحكامه ومدى منطقيتها ، مدى استجاباته العصبية للمؤثرات الخارجية ، والتي يمكن عبرها تكوين صورة واضحة عن الله ؛ والتي ستنفي بلا شك الوجه الآخر الذي يتم تصديره ككينونة خارقة القدرات ولا مثيل لها بحيث تعتبر كاملة كمالا مطلقا. هنا تترادف شخصية الله God Personality بسايكولوجية الله.
ولا أجدني محتاجا - كما أسلفت عاليه- لإيراد نصوص كاملة من التوراة فهذه الأخيرة تعج بما لن يخفي عن عين قارئ محايد ، سيكتشف أن التوراة صبغت الله أو يهوه أو رب الجنود بصبغات قائد عسكري بشري أكثر من كونه إلها. وأنها لم تتوقف عند هذا الحد بل تجاوزته ليكون الرب قابلا للانفعال بأنشطة مخلوقاته سلبا وإيجابا فتارة (يحمى غضب الرب) ، وتارة (يستحسن الرب) وأخرى (ينتقم الرب) و (يكيد لبني إسرائيل) أو (يحابيهم على كافة شعوب الأرض) أو (يأمرهم بحسم (إبادة) البشر بل وأطفالهم وحيواناتهم وزرعهم وسلب أموالهم. أو يقوم بعمل (مقالب وشراك) لأنبيائه العاصين أو يصيبهم بالأمراض العقلية كما فعل بشاول أو يجعل من أنبيائه من أصحاب العلاقات الشاذة كعلاقة داود بابن شاول..الخ.
وهكذا فلا تخلو التوراة من حبكة صراع أزلي بين الله ومخلوقاته كصراع توم وجيري ، لكنه صراع مليئ بالدموية والعنف الذي يفوق كل تصور عقل بشري متزن وأخلاقي وضمير مستنير.
وعلى العكس من إله التوراة سنجد إله المسيح ؛ فالله محبة عند هذا الأخير ، غير أن هذا الأمر لا يدوم أبدا ؛ فحتى الأسفار الإنجيلية لم تخلو من بعض الزلات التي تعيدنا إلى النقطة الأولى فتصادر تصورنا عن تحسن شخصية الله إلى الأفضل.
لم تتوقف الكتب المتقدسة عن منح الله صفات شديدة التناقض دون أن تدعمها بمنطق واضح ؛ فالله محبة وهو نفسه يأمر بالقتل وكره الآخرين ويعتبر المرأة الكنعانية مجرد كلبة لمجرد اختلافها العرقي رغم إيمانها بالمسيح وهكذ يصبح الله عنصريا بامتياز ليتفق مع التوجه العنصري الذي ابتدرته التوراة حينما أسست لموضعة السود في درجة أدنى من البيض عبر قصة أبناء نوح حام وسام حينما انكشفت عورة نوح وهو نائم فضحك حام وغطاها سام فحكم نوح على أبناء حام (السود) بعبودية أبدية لأبناء سام (البيض) ، وذلك رغم أن التوراة نفسها عادت وأخضعت شعب إسرائيل السامي لشعب مصر الحامي فكأنما نسي كاتب التوراة حكم نوح القديم. وسنجد أيضا من المفارقات أن سفر التكوين بعد أن سرد قصة خلق آدم وحواء وهبوطهما من الجنة والأرض وقتل قايين لهابيل أن قايين حصل على وعد من الله بأن يمنحه علامة فلا يقتله أي شخص يلتقي به أثناء هجرته وهكذا وضح أن آدم لم يكن أول البشر بل كان هناك بشر يحاول قايين تجنب قتلهم له. وهكذا تتعدد التناقضات والتي اكتنفت شخصية الله قبل اكتنافها لشخصيات أبطال التوراة البشريين.
وهذه الانفعالات البشرية لم تخلو منها الكتب الأخرى ، فالله يغضب ويفرح وينتقم ويكيد بل أن الله يعذب من يحبه ل (يتأكد) من إيمانه به أو يمنح من لا يؤمن به (نعيما) كبيرا أو على العكس يمنح النعيم للمؤمن ويعذب غير المؤمن وكل هذا (في الدنيا) وليس في الآخرة..ولذلك فلا مندوحة من القول بأن شخصية الله اتسمت باضطرابات نفسية وعقلية هائلة جدا بحيث لا يمكن تجاهلها مما حدا ببعض اللاهوتيين إلى الاتجاه نحو نقل الكتب المقدسة من الحقيقة إلى المجاز ومن الواقعية إلى الرمزية ، ومن المقصوصات إلى الأمثولات.
مع ذلك فهذه المحاولات ظلت محل نقد بل وسخرية كما حدث للبابا بيندكت من قبل رجال الدين الكاثوليك بل والشعوب المسيحية الكاثوليكية بل وحتى أصحاب الأديان الأخرى ، عندما صرح البابا بأن كل قصص الكتاب المقدس ليست أكثر من حكايات رمزية فقط لدفع الإنسانية نحو الحق والخير والعدل والجمال.
لكن هل هذا كاف؟
في الواقع تعتبر تصريحات البابا نقلة كبيرة جدا بل وهامة في تطوير تكيف المسيحية مع متطلبات العصر ، مع ذلك فهذه اللا تأريخانية ستسلب الدين أسلحة كثيرة تمثل عماد سلطته وقوته ورساخة أركانه الإيمانية ، وهذا يذيب ألوان نسيج الدين ويحوله لمجرد دعاوى أخلاقية تنزع عنه سلطة الردع والتحكم في العقل البشري. وهكذا سيكون هناك دين أقرب إلى الأشعار الجمالية. أي دينا وضعيا بامتياز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى