عبد الحفيظ الشمري - ناصر الجاسم في مجموعته القصصية النوم في الماء

ناصر الجاسم في مجموعته النوم في الماء- قراءة: عبد الحفيظ الشمري

القاص والروائي ناصر الجاسم Nasser Aljasem 11:07 ص 0
في إهداء لا يخلو من حكائية مكابدة لفقد الماء.. رغم قدرات طبيعة تتمتع بها بيئة القاص ناصر الجاسم هي "مدينة العيون" تلك التي كانت مسرحاً لجل هذه القصص في مجموعته الجديدة والتي رسمها بعنوان "النوم في الماء".

نجد ما قد يصبح حقيقة استفهامية مدهشة.. إذ كيف بصاحب العيون المتدفقة أن يحتاج للماء؟ تماماً كحاجة بدوي في مفازات رمل بعيد إلا أن الذي يمكن لنا قوله كجزء من إجابتنا على هذا السؤال.. هو أننا نرى في فضاءات النص لكل قصة أمرين متلازمين هما: قاص يبحث عن ماء. وماء يبحث عن ذات.. وعلى هذا المنوال نصل إلى أن الجاسم ليس بحاجة مجردة للماء.. بل لربما من سأم الماء خرج هذا الفضاء القصصي المشحون بنوايا الماء.

وربما هناك استنتاج ضمني لجدلية حياة الماء في عقلية القاص وفضاء نصوصه يتلخص في أن مسيرة (الماء) ترسم لنا تفاصيل مشهدين متوأمين في اعتضادهما معا ويكونان سياقاً ومبرراً عقلياً لنمو هذه الجدلية العميقة في القصص بوجه عام..
يتلخّص المشهد الأول في نمو ظاهرة البحث عن فيزياء الأشياء داخل عالم الماء بما يسجله الحضور الواقعي للحياة حول الماء كحياة البحر، النهر، ماء البئر، المستنقع، العيون الجوفية، جداول الماء، ماء الجبل... وربما لوجود المكابدة الشاقة لحياة كهذه جعلت القاص يدفع بالراوي في قصص المجموعة إلى التقرب إلينا من خلال أسئلة الماء الجدلية والوجودية.

أما المشهد الثاني فإن الماء قد يتجاوز كونه ماء نلهو به ونسكت لهاث أجسادنا العطشى إلى حياة ماء أخرى يصل الوجود بعضه ببعض ولا يتخلى عن قدسيته وضروراته الحياتية كما في قصة "تأتأة الخفقة" المجموعة ص41.


جمل الدفاع عن الفطرة:

في قصص الجاسم "النوم في الماء" نلحظ اهتمامه- وبمثالية مفرطة- في الدفاع عن الفطرة الإنسانية.. بل وقبل ذلك الاهتمام بها وتأملها.. والفناء في عوالمها الخفية تلك التي لم تُطرق أبداً كما في قصص "#النوم_في_الماء" المجموعة ص35، "#يباب_البيدر_الآخر" المجموعة ص33، "#تأتأة_الخفقة" ص41.
ففي قصة النوم في الماء يمكن لنا أن ندرك الشفافية المتناهية التي جعلت الراوي، وهو البطل يمعن في إيذاء الحقيقة وإقلاقها حتى تفتح له قلبها، وصناديق أسرارها المائية.. ليحصي لنا بذور الفطرة وجواهر الحياة وسلاسل الماضي الموتور بواقعنا المقلق.


"حشرة الخوف" في القصة ذاتها يأمها هاجس وجودي يطغى على مجرد رغبة التعرف على أدق تفاصيل الحياة إلا أن هذا التأمل لا يخلو من مكابدة، وألم، وحصار أسئلة حتى تفرغ الحياة من وضع سؤالها الكبير أمام الراوي ذلك الذي يهرب من مخارج العلل والظنون.. والهواجس، والعجز الدائم.


"أخذتُ أعدّ بأصابع يدي وقدمي عُمرَ حشرة الخوف على سطح الأرض" قصة النوم في الماء ص35.


ولنا أن نقف عند قصتي يباب البيدر الآخر وتأتأة الخفقة لنلمح ذات الأسلوب الفطري في التعامل مع عبق الحياة، ورحيق الذات المتورد على الكائنات ليبقى شيء ينبئ عن فضائل البحث عن قضايا الحياة الأخرى، إلا أن قصة "التأتأة" تظهر شاعرية راويها الذي يغني بحب الماء والطين، والشجر الذي يشي بوجد تائق إلى المرأة ذلك التشابه الخلقي والعقلي بين قدرات الشجرة، والأنثى.. فالراوي هو القلب الطيب، والجسد الحاني، ذلك الذي يكشف لنا وبشيء من الألم اللذيذ سرّ وفطرية الحياة بين الراوي المرأة تينك المخلوقين اللذين يتقنان لعبة الحب وهو ما دأب على محاولة الإمساك به كمحسوس في عشرة أسطر من القصة.. حتى أنه تمنى وبأكثر من مشهد أنه لو عُقّم ضد فيروس الحب ليصبح أكثر توازناً وأهدأ حياة.
وفي هذا السياق ينمي القاص الجاسم عوالم خياله ليجعلنا أكثر قرباً وتعرفاً على أسرار آهاته تلك التي عبَرَتْ عليها أحذية النساء ولم تأبه بها.. تلك التي جعلتنا نستشرف حقيقة غائلة حب جنوني جامح أصيب به البطل ليصبح متأتأ لفرط خفقة قلب يتعشق الحياة (التأتأة ص42،43).

عطاء الضوء.. عتمة الرؤية:

في القصص الأخرى من مجموعة القاص الجاسم يمكن لنا القول عنها بأنها اجتياح فكري قلق لصورة مألوف القصّ المباشر.. فهو في سياقات القصص يدفع بالراوي إلى قول الحقيقة، وطرح الأسئلة الوجودية والفلسفية كمحاولة للقضاء على مخاوفه من الواقع القائم.. بل نحاول نقده كما أسلفنا والتقرب خطوة واحدة نحو غواية الجنون، والموت في سبيل فهم الأشياء.
ويمكن لنا أن نزاوج بين هذه المقولة وبين فضاء قصتي #عرس_الجن، و#ظل_الجنون، واللتين قامتا- فيما يبدو- على بناء استرجاعي لمشهد الحياة القائم على جدلية الحوار بينها وبين العالم الآخر، ذلك الذي يمدّ حبلاً طويلاً من أسئلة الحدس، والريبة، والظنون.

فصورة (الجن) كما يتخيلها الراوي في قصة "عرس الجن" (المجموعة ص61) هي بالفعل صورة غرائبية إلا أنها تقترب من الواقع لكونها ملامسة حقيقية لعناء الإنسان ذلك الذي تؤدي به ظروف الحياة إلى شيء من الهياج والاضطراب والرفض الذي يكون أقرب إلى صورة الجنون الفعلي. فيما القصة الثانية "ظل الجنون" (المجموعة ص65) هي اقتراب آخر من صور النمطية المعتادة لحياة (المجنون) تلك المشاعر المفعمة دوماً بدهشتنا فيما يقول أو يفعل، فانتظام الخيط الجنوني في القصتين يوحي لنا بأن الراوي- مدفوعاً بالطبع بقدرات القاص- ما فتئ يحاول تخييل الواقع في القصتين على عكس القصص السابقة في المجموعة تلك التي حالت كتابة الخيال بواقع يقترب من محاولة الفهم، فالقصتين (عرس الجن) و (ظل الجنون) تقفان كوحدة عضوية نافرة عن فضاء القصص إجمالاً وهذا ليس عيباً على الإطلاق وإنما كتابة أخرى عن واقع الحياة وعناء الذات، ذلك الذي يجعلك مدرباً على التعرف على تفاصيل ظلمات المستنقع الخاوية على ضفاف مدينة نائية ومهجورة (فضاء قصة عرس الجن ص 61).

ولأن القاص ناصر الجاسم لك يكن هو الأول والأخير ممن كتبوا في توثيق لغة الجنون الفائتة تلك التي تأسر الإنسان بفيض رنين صدقها إلا أن هناك تباعداً فيما يطرح حول صورة الجنون وأسرارها إذ إن الجنون صورة نمطية لم تأخذ حقها في الكشف ولعلّي أرى في تقارب النصين (المجنونين) فرصة لتنوع الكتابة حول هذا اللون من المحاول الجادة في رسم صورة استقصائية مدروسة تحقق لنا استفاضة لازمة.



__________
النوم في الماء، مجموعة قصصية، ناصر سالم الجاسم، نادي القصة السعودي- الرياض، ط1، 1998م.
الحرس الوطني/ رجب/ ع196/ السنة 20/ 1419/ 1998م.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى