مصطفى معروفي - الأديب و الالتزام

من الكلمات التي استخدمت واستهلكت كثيرا و أسيء استعمالها كلمة: "الالتزام"، فهي كلمة مجني عليها من الطرفين من طرف الأديب حينما يتحدث عنها و يقدم نفسه على أساس أنه كاتب ملتزم ، و من طرف القارئ حينما تقدم إليه هذه الكلمة من الأديب أو من غيره و لا يكلف نفسه عناء التأمل و التمعن في حمولتها و ما ترمي إليه.
عندما تتم مطالبة الأديب بالالتزام معناه هو أن هذا الأديب عليه أن يكون منحازا لجانب أو لجهة ضد جهة أو جهات أخرى للدفاع عن قضية أو قضايا تصب من حيث المصلحة في الجهة المنحاز إليها. لكن من يقوم بهذه المطالبة - مطالبة الأديب بالالتزام - ربما ينسى أنه قام بمساس حرية الأديب ، و بالتالي يقوم بدفعه إلى كتابة نصوص لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظره و أفكاره التي يعتنقها و يؤمن بها ، و هكذا بدل أن يكتب هذا الأديب أدبا نابعا من نفسيته و معبرا عن حقيقته سيكتب لنا أدبا مزيفا قد يتنصل من مسؤوليته منه في أقرب فرصة متاحة.
ثم إنه عندما يكون ثمة حديث عن الالتزام نادرا ما يتم الانتباه إلى أن الأدباء ليسوا على مستوى واحد من الفهم و الإدراك للواقع و من ثم للالتزام نفسه، فكل أديب له عالمه الخاص و له رؤيته الخاصة للكون، تتحكم في ذلك عدة عوامل منها ما هو ثقافي صرف و منها ما هو اجتماعي و أيديولوجي ...الخ.. و هي خلفيات يصدر عنها الأديب في نصوصه ، و تمنحه التصور للأدب و لوظيفته ، و لذا لا غرابة أن نجد مجموعة من الأدباء لا يكاد يجمعهم شيء على تصور واحد و وحيد للأدب ووظيفته، و حتى لو كان ثمة من تشابه في التصور فسنجد لا محالة بونا في الممارسة الفعلية للأدب بين أديب و آخر.
إن وظيفة الأدب متعددة ، و يبدو أن تعدد المدارس الأدبية بما فيها من نزعات و اتجاهات هي خير تعبير عن تعدد وظيفة الأدب ، و علاقته بالأديب و المتلقي و بالحياة ، فالتعبير عن قضايا المجتمع و ما يعج به من ظواهر ، أو التعبير عن الفرد أو الذات بما لها نزوع و طموح و هواجس و انشغالات كل ذلك يدخل في صميم و ظيفة الأدب بوصفه وسيلة ، ثم هناك الوظيفة الجمالية التي من بين أوجهها اتخاذ الأدب نفسه موضوعا لنفسه كما نرى ذلك في شعر الحداثة و ما بعد الحداثة و بعض قصائد التشكيل.
حين نطالب الأديب بالالتزام نكون في الواقع نمارس سلطة غير مخولة لنا ، فالأديب ينبغي أن يبقى موكولا لضميره و قناعته ، إذ هما المؤهلان و المخولان لأن يرسما له المسار الذي ينبغي أن ينهجه في كتاباته ، و إلا تحولت كتابته إلى مجرد نصوص مملاة عليه من الخارج أو كأنها مكتوبة من طرف شخص آخر، لا يجد فيها القارئ من سجية الكاتب و نفسه شيئا.
ترك الأديب إلى ضميره و قناعته يقودنا إلى مشكلة أخرى تتجلى واضحة في من يضمن لنا أن هذا الأديب سيبقى وفيا للخط الذي رسمه لنفسه و التزم به في نصوصه بحيث تطرح مسألة لا بد وجود إطار يؤطره حتى لا يقع في التسيب أو في التناقض الذي قد يودي بمصداقيته أمام القراء.
و في ظل وجود هذا الإطار هناك مشكلة أخرى ستنبري للأديب و القارئ معا، و هي أن الإطار إياه سيكون بمثابة مقنن إن لم نقل كابح لحركة الأديب و عنصر ضاغط عليه يرسم له النهج الواجب عليه اتباعه مما سيحد من حريته و يجعل خطواته محسوبة ، وهو مما يتنافى مع طبيعة الأدب و يكون معها على النقيض.
ما أشرنا إليه آنفا تزكيه ممارسة أو ممارسات أدباء راهنوا على نهج مسار معين متخذين من الالتزام مبدءا غير قابل للمساومة عليه ، لكن بعد لأي هبت رياح الصيرورة التاريخية فجعلت هؤلاء الأدباء يغيرون مراكبهم الشراعية فأبحروا في اتجاهات مخالفة و و مضادة لاتجاهاتهم التي كانوا عليها ، و بذلك تكشفوا عن انتهازية ميعت مفهوم الالتزام و أفرغته من محتواه ،و جعلت منه مجرد ذريعة لتحقيق طموحات آنية شخصية ضيقة، كما أكدت بالملموس أن تلك الشعارات التي كانوا يهتفون بها كانت زائفة رفعت من أجل الخداع فقط.
بعد كل هذا و لإثراء النقاش في هذا الموضوع نطرح سؤالين :
-هل نحن الآن مطالبون بإعادة النظر في معنى الالتزام و مطالبة الأديب به؟
-ما معنى أن يكون الأديب ملتزما؟
هذا و الله من وراء القصد و هو ولي التوفيق.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

الصديق المبدع السي مصطفى معروفي
صباح الخير والبركات

موضوع الالتزام من من العناوين العريضة التي شغلت الاجيال السابقة من الفلاسفة واهل الادب والفنون والموسيقا .. وانمحى نهائيا من قواميس اللغة .. حتى اضحت كلمة التزام كما التلفظ بشعارات الفكر الشيوعي والماركسي مسخرة ومراهقة سياسية باعتقاد اهل هذا الزمان .. وأصبح مفهوم الالتزام في ظل تطور الاشكال الادبية وبروز المدارس النقدية الحديثة وغياب الادباء الرواد ضربا من اليوتوبيا الفكرية والحنين للماضي
واعتقد ان شعار الاالتزام ظهر مع الواقعية الاشتراكية التي ابتدعها في ثلاثينيات القرن الفائت على ايدي أندري جدانوف وغوركي في حضرة العتيد جوزيف ستالين، وتطورت الفكرة التي خرجت من معطف الفكر الاشتراكي وتبرعمت لتنتشر في سائر الاداب الاخرى من ناظم حكمت وبابلو نيرودا وبول ايلوار وجاك لندن وحنا مينا والطاهر وطار
في المغرب برز مفهوم الالتزام مع جيل الرواد من الشعراء والقصاصين والروائيين حين كان الابداع مرتبطا بقضية الوطن والتغيير السياسي المأمول وهكذا ظهرت مجلة أنفاس التي كرست جل اعدادها لمناقشة قضايا مصيرية من هموم الطبقة الشغيلة الى القضية الفلسطينية وقضايا التحرير في افريقيا وطهرت افلام سينمائية اخردها سهيل بن بركة ومحمد الركاب والطيب الصديقي ومحمد عبد الرحمن التازي وفي الادب على يد عبداللطيف اللعبي وعبد الفتاح الفاكهاني ومحمد خير الدين ومحمد زفزاف واحمد المجاطي ترتبط جل اشعاره بقضايا ثورية اهداها لعبد الكريم الخطابي وعمر دهكون وانحاز لقضايا الشعب الشيء الذي حدا بالدكتور أحمد الإدريسي الى ان يقول في حق صديقه أحمد المجاطي : " إنما الشاعر المجاطي"


تحيات
 
تحية كبيرة لك الأستاذ المحترم السي المهدي،
كلمة الالتزام تعرضت للإساءة من طرف الانتهازيين و أولي المآرب الشخصية البعيدة كل البعد عن الأدب و عن الأخلاق أيضا،و كان الضحية هو الأدب من شعر و قصة وو ووو..و في هذا الإطار أتذكر أنني مرة ذهبت بقصيدة عمودية لإحدى الجرائد البيضاوية و قدمتها لرئيس التحرير فما كان منه إلا أن قال لي :هذه قصيدة تتحدث فيها عن نفسك..نريد منك قصيدة ملتزمة ـ كذا ـ تتحدث فيها عن العمال و الفقراء,,,و كأنني إذا تحدثت عن نفسي فأنا غير ملتزم...سحبت قصيدتي و في الغد قصدت مديرها مباشرة و وهو بالمناسبة زعيم سياسي كبير(الله يعمرها دار)فأخذها مني و حكيت له المشكل.
ما حدث هو أنه في اليوم الموالي طلعت القصيدة في الصفحة الثقافية للجريدة ،و لكن رئيس التحرير أصيب بالتذمر كما حكى لي المشرف على الصفحة بنفسه بعد ذلك.
هذا المفهوم المائع للالتزام ساهمت في تغوله كذلك سطحية المشرفين على المجلات و صفحات الأدب في الجرائد،فاغتيل الشعر و الأدب عموما على يدها.فكام الواحد منا لا يعثر على نص شعري أو قصة أدبية إلا بشق الأنفس و كأنه كان يبحث عن إبرة في كومة قش.لقد كانت هذه السطحية سببا أو من الأسباب التي جعلت أدباء حقيقيين يعانون التهميش و أعطت الأولوية لمن يسير في ركابها من أشباه الأدياء و النقاد،و البعض لم يصح من هذا الواقع إلا مؤخرا بعد أن كان منغمسا فيه إلى الأذقان و بعد أن تهاوى صرح الأوهام مع انهيار الاتحاد السوفياتي .
التحيات الزكيات مولانا.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى