شطّ يلفّ المدينة ومرايا تعانق الشاطئ.. وطريق السانية يحتضن الغابة الممتدة من سيدي بلعباس إلى وهران . جلسنا معا .. كنا أربعة ..أخوها وزوجته . مسكت كأس البيرة في خمارة البطّ البلدي .. بدا وجهها نقيا شفافا , رسم حزمة نور داخل الكأس وسافر إلى البحر . هل تحبين البحر؟
مدّت عينيها صوب الأفق. كانت ساحرة . وأخذت الشمس تعانق ضوء البحر بتلذذ وكسل فاترين .. ثمّ أخذت تغني مقطعا من أغنية وهرانيّة . بدا شعرها كعيني القبرة.
ـ هل لي أن ألمس شعرك؟
قلت لها ولم أنتظر موافقة .. كان طريا كزجاجة (( نواس )) الجزائرية .. وكان يسافر بين مساماتي شعرا وأغاني ورماداً .. ما أجمل حضور اللحظة !
مشينا على شاطئ السانية .. كمشت قبضة رمل ورششتها في وجه الموجة .. تأملت عينيها .. صافيتين كانتا .. وما أشدّ جمال بريقهما ! .. و ضبطني البحر .
قالت : هل أنت مشتاق إليّ ؟
ما أصعب أن ينتظر الفرد امرأة يعشقها حلما وخيالا لخمس سنوات. كان شوقي ملعب جياد فقدت أسرجتها.. حاورت النجمة .. لكنّ النجمة غطّت وجهها ولوّحت، وفرشت ظهرها ، وسرعان ما ركبها البحر وسافر .
أخذت يدها .. اشتعل في قلبي فانوس علاء الدين . وكان أخوها يعانق زوجته غير بعيد عنا. كنا وحيدين , وكان المساء يغفو والسانية ترقص آخر مواويلها.. احتضنتها .. لا أدري كيف تمّ ذلك . ارتعشت الصخرة التي كنا نجلس عليها . نادانا صوت أخيها : عيب .. احتشما .. حارس الشاطئ يراقبكما .
سأخطبك الليلة .. كوّرت رأسها الجميل ودفنته في وجه الأفق ، وابتسمت . وكان كل ما فيها يلفّ رداءه الجميل حول جسد المدينة .
ـ يا خالتي سعيد أن أطلب سميرة .. يا خالتي تسافر الأحلام وتبقى الألفة .. يا خالتي تكنّس الريح طرقات سيدي بلعباس .. يا خالتي العسل والمنقار .. يا خالتي الشطّ والجسد .. الوجه والفراشات .
ـ صدّقني نحن نحبّك يا خالتي .
وفي الصباح قبّلتها .. وركبت حصاني ويممت شطر فاس .. لم أر سميرة بعدها .. رفرفت .. حلّقت .. كتبت رسائل إلى أسرتي . أين الوجه والصدى والذكريات يا سميرة ؟.
غابت سميرة وأدخلوني السجن المركزي بحي حسان بالرباط بتهمة ملفقة ولئيمة ، وهي إسهامي في زرع بذور الفساد الاشتراكي الذي يهدد القيم والمعتقدات والدين الإسلامي الحنيف . وما أقسى سجن الرباط المركزي !.. الجدران والسجون والقلاع .. وجلسات التعذيب الكهربائية .. الجسد وسيّاط السجان الذي تدرّب في أعرق أكاديميات واشنطن وشيكاغو .. شهورا وأنا أرسم شارات ورموزا ونخلا وسروا على جدران سجن الرباط المركزي .
غابت سميرة وكبرت موجات الندى .. وعندما عدّت إلى بلدي محطّما ، وجدت رسالة .. كان الهمس الشفيف ممرا إلى قلب السانية . قالت : ابنتي الصغيرة تقبّل (( عمّو )) ، وتهديه أحرّ تحياتها.
د. محمد عبد الرحمن يونس - وضبطني البحر - قصة قصيرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارات
ـ السانية ووهران وسيدي بلعباس: مدن جزائرية جميلة جدا . زارها كاتب هذه القصة مرات عديدة .
ـ حي حسّان: من أحياء مدينة الرباط المغربية التي عاش فيها كاتب هذه القصة .