محمد عبد الرحمن يونس - الفساد هو الآفة الكبرى في المجتمعات العربية المعاصرة

يعدّ الفساد الآفة الكبرى في المجتمعات العربية المعاصرة، وهو الذي يسهم إسهاما كبيرا في تخلفها المعرفي والفكري والإنساني والثقافي، والحضاري، وهو السبب الرئيس في تعاسة المواطن العربي وتراكم الهموم عليه، وهو من أهم تردي الأوضاع الأخلاقية وانهيارها في هذه المجتمعات. ولا يمكن أن يكون العالم العربي من الدول الراقية معرفيا وحضاريا إن لم يسهم الناس جميعا في مكافحة الفساد بكل بنياته المعرفية والاجتماعية والفكرية والسياسية ، والوظيفية .

لقد دبّ الفساد، وانتشر انتشارا مخيفا في مفاصل الوطن العربي ، وفكره وثقافته وعاداته وسلوكياته، وأخلاقياته التي يمارسها كل يوم. وعمّ الفساد دوائر العالم العربي الوظيفية ومؤسساته العامة والخاصة، حتى بات نسقا متعارفا عليه في علاقات بني البشر، ودوائر مؤسساتهم الحكومية، وعلى الرغم من بعض الجهود الشريفة لمكافحة الفساد، التي يقوم بها بعض المسؤولين الشرفاء الذين لم تتلوث أياديهم بالمال الحرام والرشوة والاختلاس، والفساد بشتى صوره، إلا أن هذه المحاولات، على المستوى العملي، لم يكتب لها النجاح، وهي فردية جدا، ومحاولات أصحابها الشرفاء لم تكلل بالنجاح، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى العام، لأن ظاهرة الفساد المستشرية كالسرطان كانت أكبر من كل محاولات الإصلاح النبيلة والطيبة ، فالشرفاء جد قلائل، أمّا المفسدون فلهم القدرة على التطاول كاللبلاب ، ولهم القدرة على الانتشار السريع كتدفق سيل عرم، والظاهرة المخجلة الآن التي تسود بيوت كثير من الأسر العربية: إن على المرء الناجح, أو على ربّ البيت الديناميكي أن يكون قادرا على الثراء بأقصر الطرق، ولا يهم إن كانت هذه الطرق فاسدة، أو منحلّة أو وضيعة، أو قائمة على المراباة والمسمرة، وجميع أشكال الطرق غير المشروعة.

وقد يتجرأ بعض أفراد المنزل على ربّه قائلين: أنت أب ضعيف مسكين، وغبي، لا تعرف كيف تجعلنا أثرياء، و من علية القوم. وتسهم بعض الزوجات المندفعات وراء المال واستهلاكه الشره، واكتنازه باتهام أزواجهن بالجهل، وعدم القدرة على مواكبة تطورات العصر وضروراته، وعدم احترام رغباتهن وسعارهن نحو الثراء، وبالتالي هم أزواج غير أكفاء لأنهم غير قادرين على تأمين متطلبات منازلهم، وهم مقصرون في حقوقهم وواجباتهم تجاه أسرهم، تسهم هاته النساء في دفع أزواجهن للفساد والرشوة واكتساب المال الحرام وبأي طريقة كانت. حتى يكون هذا الزوج أو ذاك كفؤا وأبا، ورب بيت مثاليا. وقد صرح لي أحد الآباء أن ابنته الجامعية طلبت منه طلبات تفوق قدراته المالية، وعندما أكّد لها أنه عاجز عن تلبية طلباتها،اكفهرت، واتهمته بالتقصير، واللامبالاة،وعجزه عن مواكبة روح العصر ومتطلباته، فقال لها: إنه لا يمدّ يده إلى الحرام، ولا يلوثها بالرشوة والفساد ولو مات جوعا، ويريد أن يقابل ربه نظيفا طاهرا. عندها سخرت به،وبأخلاقياته، وقالت : إن علاقات المجتمع، ودوائره ومؤسساته كلها حرام بحرام، وعلى الرجل الذكي العاقل أن يكون مثل غيره من الرجال، وأن يتصرف مثلهم، وينهل من الحياة، ويجمع المال، وليس شرطا أن يكون مالا حلالا. ولم يستطع هذا الرجل الكريم أن يقنع ابنته بخطر المال الحرام ، ودوره في الفساد والإفساد فانطوى حزينا على همومه ومصائبه، وفقره ، واحتقار أهل بيته له.

إن الفساد بأشكاله المتعددة في عالمنا لعربي هو السبب في تدني قدرات الدولة والأفراد، وتدني اقتصادها المالي والمعرفي، وهو السبب في وجود طبقات ثريّة جدا، تعبث بالثروة والمال، وتمارس أشكال البطر والفساد كافة، في حين أن طبقات أخرى غير قادرة على تأمين متطلبات حياتها من المأكل والمشرب والملبس، وبأبسط أشكالها المتواضعة.

وقد ضرب الفساد في عالمنا العربي جميع مفاصل حياته، وبنياته ، وأسسه ، وتركيبته الاجتماعية والوظيفية، والمؤسساتية. هذا وتعدّ مؤسستا التعليم والقضاء أكثر المؤسسات العربية الرسمية فسادا، وقد انتشر فسادهما ليصيب كثيرا من المؤسسات الحكومية الأخرى. إذ قلما نجد مؤسسة قضائية عربية نظيفة، وقلما نجد جامعة عربية تشيد مبدأ العلاقات النظيفة والعادلة بين موظفيها، وأساتذتها، حتى تكون قادرة على خلق جيل علمي يرفع شعار المعرفة والبحث العلمي الرصين، أمين في تطلعاته وسلوكه الوظيفي المستقبلي، قادر على تطبيق مبدأ النظافة الأخلاقية في التعامل مع أموال الدولة، والشعب بنزاهة وصدق.

إن محاربة الفساد والتشهير به، و برجاله ، وممارسيه، وأساليب فسادهم ضرورة أخلاقية، وإنسانية، ترضي الله سبحانه وتعالى، وتسهم في بناء أمّة قوية متماسكة أخلاقيا وإنسانيا، يعيش فيها الناس آمنين، تغمرهم الطمأنينة، والأمان والتفاؤل. ولا يمكن أن يسود الأمن والأمان والسلام في أمة من الأمم إلا بمحاربتها أشكال الفساد كافة، ورفعها شعار العدل ، والتكافؤ في الفرص والوظائف، والحقوق والواجبات، والعيش الإنساني الكريم.


د. محمد عبد الرحمن يونس
  • Like
التفاعلات: علي سيف الرعيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى