محمد عبد الرحمن يونس - عداوة الشعر الحديث

بعد أن أنهى دراسته في السوربون ودرس بنيات الشعر الفرنسي والعربي الحديثين ، وأثبت تفوقاً واضحاَ في إبداع الشعر بالفرنسية والعربية في آن ، لاح له الوطن بعيداً نائيا وجميلا، كان ياسميناً وبحرا حركا في أعماقه كوامن الشوق . كتب عن الوطن أجمل قصائده، حمله في البؤبؤ والقلب ، جمعه قطرة قطرة ، وأخبأه في حناياه .

هذا الوطن الشفيف البعيد يلوح صفصافة ، وزورقاً يمخر عباب الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي . وكلما هبّت نسمة شعر بها تغني أرقّ أغنياتها للصيادين والبحارة والأحباب، تحمل معها رائحة وجه الأرض المجعّد بالتضاريس والرؤى المجدولة بالحنين ، وتقاطيع البحر الناعسة بين الشطوط ومنائر المرافئ، كان يشتعل شوقا وحنينا لمرابع الطفولة .

كانت الشانزي ليزي بالنسبة له واحة للأحلام التي لا تتحقق أبداً، وللصبابات التي تخبو أمام مسرح الليدو كلما فكرت بالهبوب . وأمام المسرح لمح فتاة شابة، كانت تترنح ثملة , وابتسمت له، وسرعان ما دعاها إلى ( كافي دو فرانس) ، فلبت الدعوة ، و في المقهى قرأ لها أشعاراً لبودلير ورامبو ورينيه شار ، وقالت الحسناء :

أنت شاعر إذاً ؟ وأخفى حياءه الرفيف تحت وطء ابتسامة شفيفة .

وطلبت منه أن يقرأ لها أشعاراً لشعراء بلاده . وقرأ أجمل الأشعار عن وطنه وبحره ومدنه التي انحبست أنفاسها تحت وطء الممنوعات والرقابة ،والمؤسسات الثقافية التي لا علاقة لها بالمعرفة والثقافة. المدن التي ظلت تحنّ ألف عام للسفن القادمة من المرافئ والجزر الخضراء .

كانت فرحته تعانق أبعد غيمة في السماء الشاسعة عندما أصدرت له دار غاليمار الفرنسية ديوانين شعريين من قصائده المخطوطة . ووجد الديوانان إقبالا واسعاً في الوسط الثقافي، وأثنى عليهما كثير من نقاد الشعر ومحبيه .

أنهى دراسته .. تأبط حقيبته .. كانت ذكريات شان ميشيل والسين تخطو فوق صفحات قلبه ، وتلاحقه بنظراتها الوارفة ، لكنّه لوّح لها مودعاّ: سأعود إلى وطني أيتها الذكريات الجميلة .

في مرفأ مرسيليا صعد الباخرة ( ليبرتي ) .. كان البحر هادئا ساحراً .. وكانت النوارس تشكّل مسارات دائرية فوق صفحة الماء .. ما أطيب رائحة البحر والمطر والوطن الأخضر النائي بعيداً ،وطن الشمس والنخيل ، وطن الآهات المكتومة والحنين الدافئ، والرمال الذهبية التي تفرش صدرها سجادة عطر للذين تعلموا فنون الرقص على أنغام الطبول والدفوف البلدية .

وعندما استقرّ في بلده، وبدأ يقرأ واصلا ليله بنهاره ، منقّبا في كنوز الشعر والمعرفة ، محلقا في سماء شعراء بلاده ، مبدعاً أجمل القصائد وأرقّها . تقدّم إلى إحدى الصحف اليومية في مدينته الجميلة . قابله المحرر الثقافي الذي رسب ثلاث سنوات في الثانوية العامة ، وما نالها في السنة الرابعة ، ومن وراء مكتبه الوثير قال له باستعلاء وامتعاض: ما ذا يريد الأخ؟ . وقدّم نصاً شعريا وأبدى رغبته في أن ينشر في الصفحة الثقافية . قطّب المحرر حاجبيه .. رمى النص بنظرة ثاقبة جامدة ، وقال : هذا شعر حديث تافه لم ينضج بعد .

وما يئس الشاب الذي درس عشر سنوات في السوربون وحضّر أطروحة دكتوراه في فنيات الشعر العربي المعاصر وخصائصه . وذهب وأبدع نصاً جديداً .. بذل أقصى طاقاته المعرفية لكي يكون لائقا بصحيفة مدينته . وعاد بعد شهر إلى الصحيفة، وقابله المحرر نفسه،. وعندما قُدّم النص إلى مشرحة النقد الصحافي قال له المحرر : نص سطحي يفتقر إلى الإبداع والعمق الفني .. حاول أن تكتب شعراً ذا مضمون جيد وقافية ووزناً سليمين.

وكيف له أن يكتب نصاً غير سطحي؟ وكيف يكون مضمون النص جيدا؟ ولم يكن قادرا على تشكيل نص جديد يرضى أن يتمدد ملوي العنق حتى يدخل القالب النقدي للمحرر الثقافي اللامع .

كوميض برق لاحت له الفكرة أخيراً ولم يكن مقتنعاً بها ، فقد علّمه البحث العلمي الأمانة والصدق ، لكن لا بدّله من نص جديد يحمل فرادته في الرؤية والإبداع حتى يكتشف به مدى قدرات الصحافي اللامع . وأخذ ديوان الشاعر الفرنسي لويس أراغون، واقتطع أجمل قصائده، وأخذ قصائد أخرى للشاعر المصري صلاح عبد الصبور وللعراقي بدر شاكر السياب ، وتوجّه إلى مكتب المحرر الثقافي ، وكالعادة قدّم النصوص وطلب نشرها . وما أن ألقى المحرر الثقافي النظرة الأولى على النصوص حتى صاح غاضبا متأففاً: قلت لك سابقاً : هذا الشعر النثري الغثّ لا مكان له في جريدتنا .. اكتب شعرا عميقا وموزونا .. اذهب واقرأ النابغة الذبياني و الفرزدق والأخطل واكتب كما يكتبون ، وعندها ستجد قصائدك طريقا إلى جريدتنا .

أخذ الشاعر نصوص شعرائه المفضلين وخرج .. قطع أزقة المدينة .. كان المطر الغزير يتساقط شلالا.. وأشجار السرو تتمايل طرباً على أنغام أغاني مدينته المحلية : ( يا لطيف .. يا لطيف .. يا لطفطف ) و ( نجمة قطبية طلت عقب الليل عليّ ) . وكان البحر كعادته يقيم طقوس البحارة الذين أخذوا يغازلون حورياته .

لاحت الشانزي ليزي وسان ميشيل كأشرعة سفينة أليفة تعانق منائر الميناء .. وأخذ يتأمل السفن المبحرة وينشد لها قصائده . وكان صوت المحرر الثقافي يطنّ صاخباً في أذنيه : شعر حديث تافه غث لا قيمة له .. اقرأ النابغة والفرزدق والأخطل .. اقرأ .. اقرأ .

د. محمد عبد الرحمن يونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى