ابن وكيع التنيسي - المنصف للسارق والمسروق منه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وبه نستعين قال أبو محمد، الحسن بن علي بن وكيع: أما بعد، حمداً لله والصلاة على رسوله الكريم وعلى آله المصطفين الأخيار الطيبين الأبرار فإِنه وصل إليّ كتابك الجليل الموضع اللطيف الموقع، تذكر إفراط طائفة من متأدبي عصرنا في مدح أبي الطيب المتنبي وتقديمه وتناهيهم في تعظيمه وتفخيمه، وإنهم قد أفنوا في ذلك الأوصاف وتجاوزوا الإِسراف حتى لقد فضلوه على من تقدم عصرة عصره وأبرّ على قدرة قدره وذكرت أن القوم شغلهم التقليد فيه عن تأمل معانيه فما ترى من يجوز عليه جهل الصواب في معنى ولا إعراب، وذكرت أنهم لم يكتفوا بذلك حتى نفوا عنه ما لا يسلم فحول الشعراء من المحدثين والقدماء منه، فقالوا: ليس له معنى نادر ولا مثل سائر إلا وهو من نتائج فكره وأبوا عذره وكان بجميع ذلك مبتدعاً ولم يكن متّتبعاً ولا كان لشيء من معانيه سارقاً بل كان إلى جميعها سابقاً فادعوا ذلك ما ادعاه لنفسه على طريق التناهي في مدحها لا على وجه الصدق عليها فقال:

أنا السابقُ الهادي إلى ما أقولُهُ ... إذا القولُ قَبْلَ القائلينَ مَقُولُ

وهذا تناه ومبالغة منه كاذبة، وقد يأتي الشاعر بضد الحقائق، ويتناهى في الوصف وهو غير صادق وذكرت أنك عارضت دعواهم بأبيات وجدتها في شعره مسروقات فادعوا فيها اتفاق الخواطر ومواردة شاعر لشاعر واحتجوا عليك بامرئ القيس في قوله:

وُقُوفاً بها صَحْبي عليَّ مطّيهُم ... يقُولونَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجمَّلِ

فوافق خاطره خاطر طرفة في قوله:

وُقُوفاً بها صَحْبي عليَّ مطَّيهُم ... يقُولونَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَّلدِ

وأحببت إنهاء ما عندي إليك غير متحيَّف لك ولا عليك.

قال أبو محمد: فأقول والله الموفق للصواب: إن القوم لم يصفوا من أبي الطيب إلا فاضلاً، ولم يشهروا بالتفريط منه خاملاً بل فضلوا شاعراً مجيداً وبليغاً سديداً ليس شعره بالصعب المتكلّف ولا اللين المستضعف بل هو بين الرقة والجزالة، وفوق التقصير ودون الإِطالة، كثير الفصول قليل الفضول لكنه بعد هذا لا يستحق التقديم على من هو أقدم منه عصراً وأحسن شعراً كأبي تمام والبحتري وأشباههما فإني لا أزال أرى من منحلي الأدب من يعارض شعريهما بشعره، ويزن قدريهما بقدره من غير انتقاء للشعر، أستعمل فيه كدّ فكره ولا استقصاء نظره وإنما قلد الخطوة الرافعة والشهرة الذائعة، والنفوس مولعة بالاستبدال، والنقل لهجة بالاستطراف والملل ولكل جديد لذة فلما كان شعره أَجدَّ فيهم عهداً كانوا له أشدَّ وِدّاً، وهبنا أغضبنا لهم عن تفضيلهم إياه على من لا يشق غباره ولا يعشر مقداره مع علمنا في ذلك أن مذهبهم أوضح فساداً من أن تطلب لهم المعارضة أو تتكلف من أجلهم المناقضة فكيف بالإِغضاء عن نفيهم عنه ما لا يسلم منه بدوي أو حضري جاهلي أَمْ إسلامي من استعارة الألفاظ النادرة أو الأمثال السائرة وإذا كانت الألفاظ مستعملة في أشعار جميع الناظمين من القدماء والمحدثين وسلمنا لهم نفيهم عن أبي الطيب ذلك كنا قد سلمنا لهم أنه أفضل أهل الشعر في كل أوانٍ وعصر، وهذه دعوى لا بد من كشف أسرارها وإظهارها وهي بالعناية أولى من الأولى لأن تلك دعوى خصّت طائفة وهذه تعم جميع القائلين من الأولين والآخرين ولقد ادعى قائلها إفكاً واسعاً وظل للحق فيها دافعاً، لأنه ادعى وقوع جميع الشعراء فما سلم أبو الطيب منه، وفقرهم إلى ما غني عنه وهذه تتجاوز الصفات وتكاد تشبه المعجزات ولو علم صدقها أبو الطيب من نفسه لجعلها آية له عند تنبيئه ودلالة على صحة ما ادعاه من نبوته يتحدى بها أنها دعوته. أو لم يسمع الباقون عنه أخذ الكلام من النثر والنظام قول الفرزدق:) نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة ( أو ما سمعوا من قول الحكماء:) من العبارة حسن الاستعارة (. وما شيء بأعجب من وقوع جملة الشعراء في أمر يشترك فيه قديمهم ومحدثهم من استعارة الألفاظ والمعاني على مرّ الزمن بتحكيك الفحول منهم الشعر وتنقيتهم إياه حتى إنهم يسمون قصائدهم الحوليات لأنهم كانوا يعيدون فيها النظر حولاً قبل ظهورها، فلم يعصمهم طول النظر وكدّ الخواطر والفكر من أن يلمَ بعضهم بكلام بعض ثم لا يرضى مقرض أبي الطيب حتى يدعي له السلامة الكاملة من عيبٍ لم يتكامل في أحد قط تكامله فيه وأتى له بالسلامة من ذلك، وقد جاء على ساقة أهل الشعر بعد استيلاء الناس على حلو الكلام ومرّه ونفعه وضره، وهذا الظلم الواضح الفاضح وسأدلُ أولاً على استعمال القدماء والمحدثين أخذ المعاني والألفاظ ثم أعود إلى تنخل شعر أبي الطيب ومعانيه وإثبات ما أجده فيه من مسروقات قوافيه التي لا يمكن فيها اتفاق الخواطر ولا تساوي الضمائر لأن ذلك يسوغ في النزر القليل ويمتنع في المتواتر الكثير وسأنْصفه في كل ذلك فما أستحقه على قائله سلّمتهُ إليه وما قصر فيه لم أدع التنبيه عليه لئلاّ يظن بنا الناظر في كتابنا خوراً في قصد أو تقصيراً في نقد وذلك يلزمنا إلحاق ما فيه عيب غير السرقة بالمسروق خوفاً من أن يقول قائل قد تجاوز عن أشياء من الغثاثات واللحون والمحالات كانت أولى من الذكر للمسارقات، هذا إن لم يعبر عنا بالغفلة عنها إلا لتجاوز لها وينبغي إذا عملنا على تسليم ما له من السرقات إليه وردّ المقصّر منها عليه، إن أثبت لك وجوه السرقات محمودها ومذمومها وصحيحها وسقيمها وأعرّفك ما يوجب للسارق الفضيلة وما يلحقه الرذيلة ليكون ما نورده له وعليه مقيساً على أُسٍ قد أحكمناه ونهج قد أوضحناه وما غرضنا في ذلك الطعن على فاضل ولا التعصب لقائل وإنما غرضنا إفادتك ما استدعيناه وكفايتك الفحص عما استكفيناه لتظهر على خصمك وتزداد قوة في علمك، وبالله نستعين وعليه نتوكل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

هذا باب تفسير وجوه السرقات اعلم وفقنا الله وإياك للسداد، وقرن أمرك بالرشاد، أن مرور الأيام قد أنفد الكلام فلم يبق لمتقدم على متأخر فضلاً إلا سبق إليه واستولى عليه فأحذق شعرائنا من يخطي المنظوم إلى المنثور لأن المعاني المستجادة والحكم المستفادة إذا وردت منثورة كانت كالنوادر الشاردة وليس لها شهرة المنظوم السائر على ألسنة الراوين كالمحفوظ على قائله كالتدوين فالعارف بأخذ المنثور قليل والجاهل به كثير وقد نفى قائل الحكم المنثورة لسارقها من فضيلة النظم ما يزيد في رونق مائها وبهجة روائها فهي كالحسناء العاطلة حليها في نظامها فإذا حلاها النظم نسبت إلى السارق واستخفت على السابق والمعنى اللطيف في اللفظ الشريف كالحسناء الحالية، فقد استوفى بالنظام غاية الحسن والتمام فقد فاز قائلها بالحظين واستولى على الفضلين فلا يشركه السارق في فضلته ولا البارع في براعته إلا بوجوه أنا ذاكرها وهي عشرة أوجه:
الأول من ذلك: استيفاء اللفظ الطويل في الموجز القليل.
والثاني: نقل اللفظ الرّذل إلى الرصين الجزل.
والثالث: نقل ما قبح مبناه دون معناه إلى ما حسن مبناه ومعناه.
والرابع: عكس ما يصير بالعكي هجاء بعد أن كان ثناء.
والخامس: استخراج معنىً من معنى احتذى عليه وإنْ فارقَ ما قصدَ به إليه.
والسادس: توليد كلام من كلام لفظهما مفترق ومعناهما متفق.
والسابع: توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات.
والثامن: مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى لا يزيد نظام على نظام وإن كان الأول أحق به لأنه ابتدع والثاني أتبع.
والتاسع: مماثله السارق المسروق منه في كلامه بزيادة في المعنى ما هو من تمامه.
والعاشر: رجحان السارق على المسروق منه بزيادة لفظة على لفظ من أخذ عنه.
فهذه وجوه تغفر ذنب سرقته وتدل على فطنته فأما استيفاء اللفظ الطويل في الموجز القليل كقول طرفة:

أرى قَبْرَ نحّامٍ بخيل بمالهِ ... كَقْبرِ غويّ في البطالة مُفْسِدُ

اختصره ابن الزيعري فقال:

والعطَّياتُ خِساسٌ بيننا ... وسواءٌ قَبرُ مُثْرٍ وَمُقِلْ

فَقَدْ شغلَ صدر البيت معنىً، وجاء بيت طرفة في عجز بيتٍ أقصر منه بمعنى لائح ولفظ واضح ومن ذلك قول بشار بن برد:

مَنْ راقَبَ النَّاسَ لمْ يظفر بحاجتهِ ... وفازَ بالطَّيبات الفاتِكُ اللَّهيجُ

أخذه سَلَمُ الخاسر فقال:

مَنْ راقبَ النَّاس ماتَ غماً ... وفازَ باللذة الجسور

فلما سمع بشار هذا البيت قال: يعمد إلى معاني التي أسهرت فيها ليلي وأتعبت فيها فكري فيكسوها لفظاً أخف من لفظي فيروى شعره ويترك شعري والله لا أكلت اليوم ولا صمت. ومن ذلك قول أبي تمام يصف قصيدة:

يراها عياناً مَنْ يراها بسمعه ... ويَدنْو إليها ذو الحجى وهْوَ شاسِعُ
يَودّ وداداً أنَّ أعضاءَ جِسْمِه ... إذا أنشدتَ شوقاً إليها مسامِعُ

سمعه الثاني وهو للأخيطل في رواية ابن قتيبة في بعض القيان. فقال:

جاءتْ بوجهٍ كأنَّهُ قمر ... على قوامٍ كأنَّهُ غُصُنُ
حتى إذا ما استقرَّ مجلسُنا ... وصار في حِجْرها لها وثنُ
غنّتْ، فلم تَبْق فيَّ جارحةٌ ... إلاّ تَمنيتُ أنها أذُنُ

فأخذ بيت أبي تمام بلفظ قد استوفى طويله في أحسن نظامٍ وأوفى تمامٍ فهذا أول الأقسام. ويلي ذلك الثاني: وهو نقل اللفظ الرذل إلى الرصين الجزل.

منه قول العباس بن الأحنف:

زعموا لي أنها صارت تُحّمْ ... ابتلى الله بهذا مَنْ زَعمْ
اشتكت أكمل ما كانت كما ... يَشْتكي البدرُ إذا ما قيل تَمْ

هذا معنى لطيف أخذه ابن المعتز فقال:

طوى عارضُ الحمَّى سَناهُ مخالا ... وألبسه ثوبُ السَّقام هُزالا
كذا البدر محتوم عليه إذا انتهى ... إلى غايةٍ في الحسن صار هلالا

ومنه قول أبي العتاهية:

مَوتُ بَعْضِ الناس في الأرْ ... ضِ على بعض فُتوحُ

معناه لطيف، ولفظه ضعيف، قال بعض الأعراب:

لا تكنْ محتقراً شأن امرئٍ ... ربّما كانت من الشأن شؤونُ
رُبّما قَرّتْ عُيونٌ بشبحي ... مُرْمُضٍ قَدْ سَخنتْ منهُ عيونُ

أخذه أبو تمام فحول صيغته فقال:

وحُسْنُ مُنقلب تَبْدو وعواقُبُه ... جَاءتْ بشاشَتُهُ مِنْ قبح مُنْقلب

فهذا مثال كاف. القسم الثالث: نقل ما قبح مبناه دون معناه إلى ما حسن مبناه ومعناه من ذلك قول أبي نواس:

بُحّ صوتُ المالِ ما ... مِنك يَشكو ويصيحُ
ما لهذا آخذ ... فوق يَديْه أو نَصِيحُ معناه صحيح

ولفظه قبيح، أخذه مسلم فقال:

تَظلّم المالُ والأعداءُ مِنْ يَدِهِ ... لا زالَ للمالِ والأعْداء ظلاّما

فجود الصنعة وجميع بين تظلمين كريمين ودعا للممدوح بدوام ظلمه للمال والأعداء، وكل ذلك مليح جزل، نقل من ضعيف المبنى. وقال أبو العتاهية:

كأنَّها في حسنها دُرّةٌ ... أخْرجها اليّمُّ إلى السَّاحلِ

شبهها بالدرة بياضاً وحسناً ثم إن بقية البيت حشو، لأنها إذا خرجت إلى (1/107) الساحل أو غابت في اللج فليس ذلك بزائد في حسنها، والذي قال بشار من هذا أحسن، وذلك:

تُلقي بتسبيحةٍ من حُسْن ما خُلقت ... وتستقرُّ حَشى الرَّائي بإِرعَادِ
كأنّما خُلقتْ في قِشْرِ لُؤلؤةٍ ... فكلُّ أكتافها وَجْهٌ بِمرصادِ

وقد أخذ التشبيه البحتري فقال وجودّه:

إذا نَضونَ شُفوفَ الرَّبط آونةً ... قَشرْنَ من لُؤلُؤ البحرينِ أصْدافَا

هذا لفظ سديد ومعنى مفيد لا يفضل لفظه عن معناه.

القسم الرابع: عكس ما يصير بالعكس ثناء بعد أن كان هجاء، منه قول البلاذري:

قَدْ يرفعُ المرء اللئيمَ حجابُه ... ضعة ودونَ العرف مِنْه حِجَابُ

وقال البحتري:

وإنْ يحل بَيننا الحجاب فَلنْ ... يحجبَ عنّا آلاَءَهُ حُجُبهْ

ومثله: إنْ يحتجَب شخصُك عَنْ أعْيُنٍ ... عَنْك فَما جُودك بالمحتجِبِ

ومثله لابن الرومي:

ما شئت مِنْ مالٍ حِمىً ... يأوي إلى عِرْضٍ مباح معكوسة

قوله:

هو المرءُ أمّا ماله فمحلَّلٌ ... لِعافٍ، وأمّا عِرْضُهُ فمحرَّمُ

وهذا مثال كاف.

القسم الخامس: استخراج معنىً من معنىً احتذى عليه وإنْ فارق ما قصد به إليه، منه قول أبي نواس في الخمر:

لا ينزلُ الليل حيثُ حلَّتْ ... فليلُ شُرَّابِها نَهارُ

احتذى عليه البحتري وفارق مقصد أبي نواس فجعله في محبوب فقال:

غابَ دُجاها، وأيُ لَيلٍ ... يَدْجُو عَليْنا وأَنْتَ بَدْرُ؟

ومثله قول أبي نواس:

مِنْ شُراب كأنَّه كلَ شيءٍ ... يَتمنَّى مخَّيرٌ أن يكُونَا

احتذى عليه حبيب في صفة ممدوح

فقال: فَلَوْ صَوَّرْتَ نَفْسَكَ لم تَزدْها ... على ما فِيك مِنْ كَرمِ الطباع

قوله:) صَوَّرتَ نَفْسك (يشبه قول أبي نواس) مخيَّرٌ (في المعنى ومثل ذلك قول أبي تمام:

كَريمٌ متى أمْدحْهُ أمْدَحْهُ والورَى ... معي، ومَتى ما لمتُهُ لمتهُ وَحْدي

احتذى عليه المتأخر في محبوب

فقال: وإذا شَكوتُك لمْ أجدْ لي مسعداً ... ورُميتُ فيما قُلتُ بالبُهتانِ

فهذا مثال من هذا القسم كاف.

القسم السادس: توليد كلام من كلام لفظهما مفترق ومعناهما متفق، هذا من أدل الأقسام على فطنة الشاعر لأنّه جرّد لفظه من لفظ من أخذ منه وهو معناه متفق معه. من ذلك قول أبي تمام:

لأمْرٍ عَليهمْ أنْ تَتّمَّ صُدوره ... وليسَ عَليهمْ أنْ تَتِّمَّ عَواقِبُهْ

أخذه من قول بعض الحرب أنشد) نيه (أبي رحمه الله قال: أنشدنا أبو بكر بن دريد عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه:

غُلامُ وغى تَقَحَّمها فَأودى ... وقَدْ طحنته مراده طحُونُ
فإِن على الفتى الإِقدامُ فيها ... وَليسَ عليه ما جَنت المَنُونُ

المعنى متفق واللفظ مفترق وهذا المذهب دقة فطنة السارق ومثل قول أبي نواس في محبوب أعرض عنه ببعض وجهه:

يا قمر النصفِ مِنْ شَهرِنا ... أبدى ضياء لثمانٍ بقينْ

أخذه من قيس بن الخطيم في قوله:

تَصدّتْ لنا كالشمسِ تَحْتَ غَمامةٍ ... بدا حاجبٌ مِنْها وضنّتْ بِحاجبِ

القسم السابع: في توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات، هذا من أشد باب وأقله وجوداً وإنما قل وجوده لأنه من أحق ما أستعمل فيه الشاعر فطنته وكدّ فيه فكرته، فمنه قول أبي نواس:

واسْقينها من كُميتٍ ... تَدعُ اللْيلَ نَهارا

فاشتق من ذلك:

لا يَنزلُ الليلُ حَيثُ حَلّتْ ... فَليلُ شُرّابِها نَهارُ

وقال:
قال:) ابغني المصباحَ (قُلتُ لَهُ: ... ) أتئدْ حَسْبي وحسبُك ضَوؤُها مِصْباحَا
( فسكْبتُ مِنْها في الزُّجاجة شُرْبةً ... كَانتْ لَهُ حَتَّى الصَّباحِ صَباحَا

وكل هذه متقاربات وألفاظ مناسبات بمولد بعضها من بعض ومثل ذلك لغيره:

كأنَّ كؤوسَ الشرب والليلُ مُظلمٌ ... وجوهُ عذارى في ملاحفٍ سود

أشتق منه ابن المعتز وقال:

وأرى الثرّيا في أسماء كأنَّها ... قَدمٌ تَبدّتْ مِنْ ثِيابِ حِدادِ

فهذا مثال في هذا القسم كاف.

القسم الثامن: مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى لا يزيد نظام على نظام وإن كان أحق به لأنه أبتدع والثاني أتبع. من ذلك قول العكوك في فرس:

مُطردُ يرتّجّ مِنْ أَقطارِهِ ... كالماء جالتْ فيهِ ريح فأضطرب

فذكر ارتجاجه ولم يذكر سكوته فأخذه ابن المعتز فقال:

فكأنّهُ مَوْجٌ يَذوبُ إذا ... أطْلقتهُ وإذا حَبستَ جَمَدْ

فجمع بين الصفتين، وقول ديك الجن:

مُشعْشعةٌ مِنْ كَفَّ ظبيٍ كأنَّما ... تناولها من خَدِّهِ فأدارها

أخذه ابن المعتز فقال:

كأنّ سُلافَ الخمر من ماء خَدّهِ ... وعُنقودَها من شعره الجَعْدِ يُقْطَفُ

فزاد في ذلك تشبيهاً آخر في الشعر وهو من تمام المعنى ومثله:

كأنَّ سقوطَ الدَّمع في وَجَناتِه ... سقيطُ الندى أوْفى على ورَق الورْدِ

أخذه ابن الرومي فقال:

كأنَّ تلكَ الدموع قطر نَدى ... يُقطرُ مِنْ نَرجسٍ على وَردِ

فجاء بتشبيهين حسنين وزاد في المعنى ما هو من تمامه، ومثله قول البحتري في بركة:

إذا عَلَتْها الصَّبَا أبْدَتْ لها حُبُكاً ... مِثْلَ الجَواشنِ مَصْقولاً حَواشِيها

أخذه بعض المحدثين فقال:

إذا ما الريح هَبّتْ قلتُ: دَرْعُ ... وإنْ سكَنتْ فمرآةٌ صَقِيلُ

فزاد عليه في إيراد المعنيين والجمع بين الصفتين.

القسم التاسع: مماثله السارق المسروق منه في كلامه بزيادة في المعنى ما هو من تمامه، فمن ذلك قول أبي حيّة النميري:

فَألقتْ قناعاً دُونَه الشمس واتّقتْ ... بأحسن موصولين: كَفّ ومعصمِ

أخذه من النابغة في قوله:

سَقَطَ النصيفُ ولمْ تُرِدْ إِسقاطهُ ... فتناوَلَتْهُ وأتقتنا باليَدِ

فلم يزد النابغة على إخبارنا بإِبقائها بيدها وزاد عليه أبو حية بقوله:

) دونه الشمس (وخبر عن المتقى بأحسن خبر فأستحقه،

وقال الخريمي:

همامٌ عطاياُ بِدورٌ طوالعُ ... على آمليهِ في سوادِ المطالبِ

أخذه أبو تمام فقال:

وأحسنُ مِنْ نَورٍ تُفتّحهُ الصَّبا ... بياض العَطايا في سوادِ المطالبِ

فملح وخفى وقال بشار:

وَلَقَدْ جَريتُ مَع الهوى طلقَ الهوى ... ثُمَّ انثنيتُ فلم أَجدْ لي مَركضا

أخذه أبو نواس فقال:

جَريتُ مع الصِّبا طَلْقَ الجُموحِ ... وهانَ عليّ مأَثور القبيح

فطلق الجموح أشعر من طلق الهوى ولم يخبر بأنه ارعوى ولم يجد مركضاً، وتمم بيته بخبر ثان يليق بالأول. وهذا مثال كاف.

القسم العاشر: رجحان السارق على المسروق منه بزيادة لفظة على لفظ من أخذ عنه، من ذلك قول حسان بن ثابت:

إِنْ كُنت كاذبةَ الذي حَدّثتني ... فَنجوْتِ مَنْجى الحارث بن هشام
تَركَ الأحِبّةَ أنْ يُقاتِلَ دُونهمْ ... وَنجا برأسِ طِمّرة وَلِجام

أخذهُ حبيب فقال:

وَنَجا ابن خَائنةِ البُعُولة لَوْ نَجَا ... بِمُهفهف الكشحينِ والآطالِ

وبينا ذلك على أن البيت لجميل، حكى الزبير بن بكار بإِسناد ذكره، أنَّ طلحة بن عبد الله قال: أتى كثير الفرزدق فقال الفرزدق: يا أبا صخر أنت أنسب العرب حيث تقول:

أُريد لأنسى ذكرها فكأنَّما ... تمثلُ لي لَيلى بكلّ سَبيل

فقال له: وأنت يا أبا فراس أفخر العرب حيث تقول:

تَرى الناس ما سِرْنَا يَسيرونَ خَلْفَنا ... وإِنْ نَحْنُ أوْمأنا إِلى الناس وَقَّفُوا

والبيتان جميعاً لجميل سرقه الفرزدق واحداً وكثير الآخر، فقال له: ما أشبه شعرك بشعري، أفكانت أمك أتت البصرة، قال: لا، ولكن أبي كثيراً ما يردها وينزل في بني دارم. قال طلحة: فعجبت من جواب كثير، وما رأيت قط أحداً أحمق منه، ولقد دخلت عليه في نفر من قريش وكنا كثيراً ما نهزأ به وكان يتشيع تشيعاً مفرطاً، فقلنا له وهو مريض: كيف نجدك يا أبا صخر؟ قال: بخير. فقال: هل سمعتم الناس يقولون شيئاً، قلنا: يقولون إنك الدّجال، قال: لأن قالوا أني لأجد في عيني ضعفاً منذ أيام. وقد أريناك مثالاً من هذا القسم كافياً.

القسم الثالث: نقل ما حسن مبناه ومعناه إلى ما قبح مبناه ومعناه من ذلك قول امرئ القيس:

ألمْ تَرياني كُلَّمّا جئت طارقاً ... وَجدتُ بها طيباً وإنْ لمْ تَطّيبِ

فأتى بما لم يعلم وجوده في البشر من وجود طيب ممن لم يمس طيباً وجاء بمراده في بيت حسن النظام مستوفي التمام. أخذه كثير فطول وضمن وقصر غاية التقصير فقال:

فَما روضةٌ بالحزنِ مُعشبة الربى ... يَمُجُّ الندى جَثحاثُها وعرارُها
بأطيب من أردانِ عَزَّةَ موهناً ... وَقَدْ أُوقدتْ بالمندلِ الرطبِ نارُها

فأخبر أن أردانها إذا تبخرت كالروضة في طيبها وذلك ما لا يعدم في أسهل البشر جسماً وأقلهم تنظفاً. وقال الآخر:

وريحها أطيب من طِيبها ... والطيب فيه المِسكُ والعَنبرُ

وقال بشار:

وإذا أدنيتَ بصلاً ... غَلب المسكُ على ريحِ البصلِ

فهذا غير اللفظ الوضيع النائي عن سمع السميع:

وفي هذا كفاية من هذا القسم.

القسم الرابع: عكس ما يصير بالعكس هجاء بعد أن كان ثناءً كقول أبي نواس:

فهو بالمال جوادٌ ... وهو بالعرْض شَحيحُ

عكسه ابن الرومي فقال:

مَا شِئتَ من مالٍ حمىً ... يَأوي إلى عِرضٍ مُباح

وكقول حسان بن ثابت:

بيضُ الوُجوه، كَريمةٌ أحسابهم ... شمُ الأنوفِ مِنْ الطرازِ الأَول

عكسه ابن أبي فنن فقال:

ذَهَبَ الزمانُ بِرَهْطِ حَسّان الأُولى ... كانَتْ مَناقِبهمْ حَديثُ الغابرِ
وَبقيتُ في خَلِفٍ تحلُّ ضيوفُهمْ ... فِيهمْ بمنزلةِ اللئيم الغادرِ
سُودُ الوجوهِ لئيمةٌ أحسَابِهمْ ... فُطَسْ الأُنوفِ مِن الطرازِ الآخرِ

وهذا مثال كاف. ويليه القسم الخامس: نقل ما حسنت أوزانه وقوافيه إلى ما قبح ونقل على لسان راويه، فمن ذلك قول أبي نواس:

دعْ عنكَ لومي فإنَ اللْومَ إِغراءُ ... ودَاوني بالتي كانتْ هِي الداءُ

فأبو نواس زجر عذوله عن لومه بألطف كلام وأفاد صدر بيته إغراء الملوم المحب بالحب، وشغل عجزه بمعنى آخر بكلام رطب ولفظ عذب، أخذه أبو تمام فقال:

قَدْكَ أتِئبْ أربيتَ في الغُلواءِ ... كَمْ تَعْذِلونَ وأَنتُم سُجَرائي

فزجر عذوله بصعود من الكلام وجذور يصعب على راويه ويقبح صدره وقوافيه ومثله قول مسلم:

قَدْ أَولعتْهُ بِطول الهَجْر غِرَّتهُ ... لوْ كَانَ يَعلمُ طول الهجَرْ ما هَجَرَا

أخذه أبو تمام فقال:

كُشِفَ الغِطاءُ فأَوقِدِي أو فأَخمدي ... لَمْ تَكْمدِي فَظنَنْتِ أنْ لمْ تَكْمدي

فهذا مثال من هذا القسم كاف ويليه: القسم السادس: حذف الشاعر من كلامه ما هو من تمامه منْ ذلك قول عنترة:

فإِذا سَكرتُ فإِنني مُستهلكُ ... مَالي وعرضي وافرٌ لم يُكْلم
وإذا صَحوتُ فما أقصر عن ندىً ... وكما علمت شمائلي وتكرَّمي

أخذه حسان فقال:

وَنَشْربُها فَتتركُنا مُلُوكاً ... وأَسداً ما يُنهِنهُنَا اللقَاءُ

فوفى عنترة الصحو والسكر صفتيهما، وأفرد حسان الإِخبار عن حال سكرهم دون صحوهم فقبض ما هو من تمام المعنى لأنه قد تمكن أن يظنَ ظانٍ بهم البخل والجبن إذا صحوا لأن من شأن الخمر تسخيته البخيل وتشجيع الجبان، ومن ذلك قول امرئ القيس:

نَظرتْ إِليكَ بعينٍ جَازئةٍ ... حَوراء حانيةٍ عَلى طِفْلِ أخذه المسيب

فقال:

نَظَرتْ إِليكَ بعينِ جازئةٍ ... في ظِلّ بَاردةٍ من السّدْرِ

وما يحسن عين الوحشية في ظل السدرة إلا مالها في غير ذلك ولامرئ القيس فضل السبق والحذق وذلك لأنه قال حوراء فأفاد صفة ثم قال: حانية على طفل وفي حنّوها على ولدها ما يكسب نظرها بنزوعها عليه وخوفها معنى لا يوجد عند سكونها وأمنها فقد سرق المعنى المسيب وحذق ما هو من تمام الكلام، ومن هذا الباب قول أبي نواس:

إذا مَا دَنتْ اللهاةِ من الفتى ... دعا همّه مِنْ صَدره بِرَحيلِ

أخذه ابن المعتز فقال:

إذا سكنتْ صَدْرُ الفتى زَالَ هَمهُ ... وَطَابتْ لَهُ دُنْياه وأتسعَ الضّنْكُ

فجاء أبو نواس في صفتها بما لا يعلم من فعلها شاربها وذلك أنه علم أنها قبل نزولها إلى صدره وبلوغها قلبه، يزيل همه وما يأتي منها دون اللهاة فهو أول جرعة من كأسها وكل هذا إفراط يحسن مثله في المنظوم، وابن المعتز سرق وخبّر بما لا يجهل من صفتها وفعلها بشاربها لأن في قوله) سكنت (أتساعاً للظّان لأنه يجوز أن يسكن صدره منها الكبير الذي يسكن مثله، وإن عارض معارض، فقال أبو نواس: قال: باطلاً وابن المعتز صدق قلنا له: إنّ الصدق غير ملتمس من الشاعر وإنما المراد منه حسن القول في المبالغة في الوصف والشعر وفي فنون الباطل واللهو أمكن منه فنون الصدق والحق دليل ذلك شعر حسان في آل جفنة في الجاهلية فإنه كان كثير العيون والفصول، قليل الحشو والفضول، فلما صار إلى الإِسلام طلب طريق الخالق واستعمال اللفظ الصادق فقل تناهيه وضعفت معانيه فهذه بلغة كافية من هذا المثال. القسم السابع: رجحان كلام المأخوذ عنه على كلام الآخذ منه، من ذلك قول عدي بن زيد:

لَوْ بِغْيرِ الماءِ حَلْقي شَرقٌ ... كُنْتُ كالغْصّان بالماءِ اعْتصارِي

أخذه النامي فقال:

غُصِصْتُ مِنْكَ بما لمْ يَدْفَعُ الماءُ ... وصحَّ هَجْرُكَ حَتَّى مَا بهِ دَاءُ

فأتى بمعنى عدي بن زيد في صدر بيته وأتى في عجزه بمعنى آخر بلفظ فائق ومعنى رائق، ومن ذلك قول مسلم:

أما الهجاء فَدَّق عِرضُكَ دُونَه ... والمدحُ عَنْكَ كَما علمتُ جَليلُ
فأذهب فأنتَ عتيقُ عِرضك إنه ... عِرضٌ عَززتَ به وأنت ذَليلُ

أخذه أبو تمام فقال:

قالَ لي النَّاصحونَ وَهْوَ مِقَالٌ ... ذَمُ منْ كانَ جاهلاً إطراءُ
صَدقُوا في الهجاء رِفعةُ أقوا ... مٍ طغامٍ فليس عندي هِجاءُ

فبين الكلامين لون بعيد، وهذا مثال من هذا القسم.

ويليه القسم الثامن: نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي، من ذلك قول أبي نواس:

بِشَرهمْ قَبْلَ النوالِ اللاحقِ ... كالبرقِ تَبْدو قَبلَ جود دَافِق
والغَيثُ يخفى وقعة لِلوامِق ... إن لم تجده بدليل البارق

أخذه البحتري فقال:

كَانتْ بَشاشَتُك الأُولى الَّتي ابْتدأتْ ... بِالبشرِ، ثُمَّ اقْتبلنا بَعْدها النِّعما
كالمُزنِة اسْتُؤنفتْ أولى مُخيلتها ... ثُمَّ اسْتَهلَّتْ بغرب تابع الدِّيَمَا

فكلام أبي نواس أخصر وأعذب من كلام البحتري، ومن ذلك قول أبي نواس:

فَتَمّشَّتْ في مَفَاصِلهمْ ... كَتَمشِّي البُرء في السَّقمِ

فهذا الكلام أكثر ماء وأتم بهاء من قول مسلم إذ يقول:

تَجْري محبتها في قَلْبِ عَاشِقها ... جَرْيَ المعافاة في أعْضاء مُنتكسِ

فهذا مثال كاف في هذا القسم.

ويليه القسم التاسع: نقل ما يصير على التفتيش والانتقاد إلى تقصير أو فساد، من ذلك قول القائل:

وَلَقدْ أروحُ إلى التجّارِ مُرَجَّلاً ... مَذلاً بِمالي لينَ الأجيادِ

وإنما له جيد واحد وهذا يجوز عند بعض العرب وعند آخرين غير حميد ولا سديد، وقال آخر:

لما تَحاملت الخمُول حسبتها ... دوماً بأَيْلة ناعماً مَكْمُوما

ذكر أن الدوم مكموم وإنما يكمم النحل، فهذا مثال من هذا الباب كاف.

ويليه القسم العاشر: أخذ اللفظ المدعي هو ومعناه معاً، هذا القسم أقبح أقسام السرقات وأدناها وأشنعها فمن ذلك قول امرئ القيس:

وُقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم ... يَقولون لا تَهلكْ أسىً وتَجَمَّلِ

أخذه طرفة فقال:

وُقوفاً بها صَحبي عليَّ مطيَّهم ... يَقولون لا تهلكْ أسىً وتَجَلَّدِ

وقد زعم قوم أن هذا من اتفاق الخواطر وتساوي الضمائر وبازاء هذه الدعوى أن يقال بل سمع: فاتبع. والأمران شائعان والأولى أن يكون ذلك مسروقاً لأنا قد رأينا لهذين الشاعرين ما لم تدع فيه موافقة، وهو قول امرئ القيس:

وعَنْس كألواح الأرانِ نَسأتُها ... على لاحبٍ كالبُرْد ذي الحِبراتِ

وقال طرفة:

أمُونٍ كألواحِ الأَرَان نسأتها ... على لاحبٍ كأنه ظَهرُ بُرْجُدِ

فإن جوزوا أن يكون هذا مسروقاً فذاك مثله ودعوى الاتفاق في البيتين الأولين ينبغي من حاضر صنعة القصيدتين وقت صنعهما شاعراهما فخبر، بأنّ الزمان في قولهما وظهورهما للناس واحد وأن المكان الذي حضرا فيه وحضر معهما واحد وإلا فما يصل دعواه إلى إيضاح برهان كما لا نقطع عليهما نحن ببطلان، ومن ذلك قول الحطيئة:

إذا حُدّثتْ أَنَّ الذي بي قاتِلي ... مِن الحبِّ

قَالتْ: ثابِتٌ وَيزيد ُ سمعه جميل فقال: إذا قلتُ:

ما بي يا بثينةُ قاتلي ... مِن الوَجْدِ قَالتْ: ثَابتٌ ويزيدُ

وأظن جنايته على الحطيئة في هذا البيت سهل على الفرزدق وكثير مجاراته بمثل ما فعل فيما أخذ منه مما تقدم ذكره من بيته، ومثل قول مسلم:

يَقُولُ فِي قُومس صَحْبي وَقدْ أخَذتْ ... مِنَّا السُّرى وخُطا المهرَّبة القُودِ
يقول صَحْبي وَقَدْ جروا على عَجَلٍ ... والخَيل تَستن بالركبات في اللُجمِ
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت: كلا، ولكن مطلع الكرم

أخذه أبو تمام فقال:

يَقُولُ في قَومس صَحْبي وَقَدْ أخَذَتْ ... مِنا السُرَى وخُطا المَهْرَّبة القُودِ
أمَطْلعَ الشَّمْس تَنوْي أنْ تَؤمَ بنا ... فَقلْتُ: كلا، وَلكنْ مَطْلع الجُودِ

فهذه سرقة واضحة ودعوى فاضحة، وروى ابن قتيبة لبعض الأغفال:

أجارةَ بَيْتينا أبُوك عَسُوفُ ... ومَيْسورُ ما يُرْجَى لدَيك طَفيفُ
فإِنْ كُنْت لا حِلماً ولا أنتِ زَوْ ... جَة، فَلا بَرَحتْ دُوني لَديك سُجوفُ
وَجَاورتُ قوماً لا يُجاورَ بَينهم ... وَلا وَصْلَ إِلا أَنْ يَكُونَ وُقُوفُ

وذكر أن أبا نواس أخذه منه وما أظن أن أبا نواس يرضى لنفسه مثل هذا وهو لا يعجز عن قول مثل هذا الكلام، وابن قتيبة يذكر أنه لبعض الأغفال وإذا جهل قائله جهل زمانه والأجمل أن يظّن به أنه لمتأخر أخذ من أبي نواس والتأخر فيه بين في شعره، ألا ترى أن الغيرة أشبه ها هنا من العسف وأنّ الميسور مع المعسور أليق بجودة الصنعة من الطفيف فأما سجوف وستور فمتقاربان، وقوله: ولا وصل إلا أن يكون وقوف (يسود في هذا الموضع أوضح معنى وأجود في الصنعة فكيف يكون من أبي نواس مثل هذا، وهو ينكر من غيره ويستعدي عليه من مثل هذا، وذلك أنه بلغني أنه كان عند محمد بن زهير صاحب الشرطة يشرب حتى إذا بلغ إلى نهاية من سكره وكان إذا سكر لم يفق إلاّ بإِنشاد الشعر فأمر محمد بن زهير خيار بن محمد الكاتب أن ينشد أبا نواس فأنشده خيار أبياتاً أبو نواس قائلها وادعاها خيار وهي:

صَاحَ ما لي وللرسومِ القِفارِ ... ولنعتِ المطّيّ والأكوارِ
شَغَلتني المُدامُ، والقصف عنها ... وقراع الطُّنبُورِ والأوتارِ

ومضى في الشعر فوثب أبو نواس فتعلق به وبركا قدام محمد بن زهير وأنشأ يقول:

أعِدْني يا محمدُ بِنْ زهير ... يا عذابَ اللّصُوصِ والدعارِ
يَسرقُ السارقونَ لَيلاً، وهَذا ... يسرقُ الناس جهرةً بالنهارِ
صَار شِعْري قَطيعة لخيارِ ... لِم؟ لماذا؟ لِقلة الأشْعارِ
قل له فليغر على شعر حماد ... أخي الفتك أو على بَشارِ

فهذا الاستعداء والإِنكار لا يليق بما حكى عنه وما أشبه هذا الخبر بخبر عرفته عن أبي المعافي المزني حين مدح أبا العباس محمد بن محمد بن إبراهيم الإِمام بقوله:

إِليْكَ بِمدحتي يا خَيْرَ ... إِلاَّ رَسُولَ الله مِن تَلدُ النِّساءُ
ستأتيكَ المدائحُ مِنْ رِجالٍ ... وما كَفُّ أصابِعُها سَوَاءُ

فأخذه منه بعض الشعراء فقال:

إليك بمدحتي يا خير إلا ... رَسُولَ الله منْ تَلِد الرجال
شبابيك المدائح من رجالٍ ... كَما أختلفتْ إلى الغرض النبال

فاستعدى عليه أبو المعالي صالح بن إسماعيل وهو على شرطة محمد بن إبراهيم بالمدينة فقال:

ما سارقُ الشِّعْر فيه وَسْمُ صَاحِبه ... إِلا كسارقِ بيتٍ دُونَهُ غَلَقُ
بَلْ سارِقُ البيْتِ أخْفى حين يَسْرقُهُ ... والبيتُ يَسْتُرُه من ظُلمةٍ غَسَقُ

قال صالح فما تحب أن أفعل به؟ قال: تحلّفه عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا ينشد هذا الشعر إلاّ لي وقد قال ابن الحاجب في مثل هذا:

أفلا محنة يخبر مِنْ فَاض ... لنا في القريضِ والمفضولِ
مِحنة تفضحُ اللصوص وَتقضي ... بالذَي فِيهم قَضى التنزيلَ
سَارقُ المالِ تَقْطعُ الكفّ مِنْهُ ... واللسانُ السروق مِنْها بدليلِ
يَسودُ الذي يحق له السؤ ... دد مِننا ويَرذلُ المرذُولِ

وقد أكثر الشعراء ذم السرقة والسارق، فأول من ذمّ في ما روى طرفة فقال:

وَلا أُغيرُ عَلى الأشعار أسْرقُها ... عَنْها غَنيتُ وَشَرُّ النّاس من سَرَقا

وقد ضج أبو تمام من سرقة محمد بن يزيد الأموي شعره فقال:

مَنْ بَنو نجدل من ابن الحُبَابِ ... منْ بنو تغلب غَداةَ الكُلاب؟
منْ طُفيلُ وعَامِرٌ ومن الحا ... رثُ أم منْ قُتيبةُ ابن شِهابِ
إِنَّما الضَّيغمُ الهَصُورُ أبو الأش ... بل جَبَّارُ كُلِّ خِيس وَغَابِ
مَنْ غَدَتْ خيلُه على سَرْح ... شِعْري وهو للحِيْنَ راتعُ في كتابِ
غَارةُ اسخنتْ عُيُونَ المعاني ... واستباحَتْ حُمى الآدابِ
لَوْ تَرى مَنْطقي أسيراً لأصبح ... ت أسِيراً بعبْرةٍ وانتحابِ
يا عَذارى الأشعار صِرْتُنّ بع ... دي سبايا تُبعن في الأعرابِ
طَالَ رَغبي إليك يا رب يا رب ... وَرعني إِليكَ فأحفظ ثيابي

وكان البحتري قال قصيدة في العباس بن بسطام أولها:

من قائلُ للزمان، ما أربُهْ ... في خُلْقٍ مِنه قَدْ خَلا عجبه؟

فعارضه فيها (أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بقصيدة يمدح فيها الموفق أولها:

أجدُّ هذا المقال أمْ لعبه ... أم صِدْق ما قِيل فيه أمْ أكذبه

فاستعار من ألفاظها ومعانيها ما أوجب أن قال البحتري فيه:

لا الدَّهرُ مُستنفذٌ ولا عَجَبُهْ ... تَسومُنا الخسفَ كُلَّهُ نُوَبُهْ
نَالَ الرِّضا مادِحٌ ومُمتدحٌ ... فَقُلْ لِهذا الأمير: ما غَضَبُهْ
أحْلى لصوص البلادِ يَطْردُهم ... وظل لِصُّ القريضِ ينَتْهبُه
أردد علينا الذي اسْتعرت وَقُلْ ... قَولكَ يُعْرفْ لغالبٍ غَلَبُهْ

فضجّ من سرقة شعره، وقد ذمّ ابن الرومي البحتري بالسرقة فقال:

قُبحاً لأشياءَ يأتي البُحْتريُّ بها ... مِنْ شِعرهِ الغثّ بَعْدَ الكِدَ والتَّعبِ
كأنَّها حين يُصغي السامعون لها ... ممن يُمَيزُ بين النَّبَعْ والغَربِ
رُقى العقارب أو هذر النُباة إذا ... أضْحُوا على شَعْثِ الجدرانِ في صَخَبِ
سَمِينُ ما مَنحوه مِنْ هُنا وَهُنَا ... والغثُّ منه صَريحٌ غيره مؤتشبِ
يُسيء عفّاً، فإنَ ألدتْ مَسائله ... أجادَ لِصّاً شَديدُ البأس والكلبِ
حيٌّ يُغِيرُ على الموتى فيسلبُهم ... حُرَّ الكلام بجيش غير ذي نجبِ
ما إنْ تَزالُ تَراهُ لابساً حُلَلاً ... أسلاب قومٍ مَضَوا في سالف الحقَبِ
شِعْرٌ يُغيرُ عَلَيْه باسِلاً بطلاً ... وَيشدُ النَّاس إِيَّاهُ على رتبِ
حَتّى إذا كَفَّ عَنْ عاداته فَلَهُ ... شِعْرٌ يئن مقاسِيه مِن الوصبِ
شِعْرٌ كنافض حُمى الخمريِّ لَهُ ... بَردٌ وكربٌ فَمنْ يُرويهِ في كَرب؟
قُلْ للعلاء بن عيسى والَّذي نَصَلتْ ... بِه الدَّواهي نُصول الآل في رَجبِ
أيسْرقُ البحتُريُّ النَّاسَ شِعْرهُم ... جهلاً وأنْتَ نكالُ اللّص ذي الرّيبِ
وتارةً تُبرزُ الأَرواحَ مَنْطقُهُ ... فالخلْقُ ما بيْنَ مَقْتولٍ وَمُغتصبِ
تكّلهُ إن أناساً قَبْلهُ ركبُوا ... بِدُون ما قَدْ أتاهُ باسِقَ الخَشَبِ
إذا أجادَ فأوْجبْ قطع مقْوله ... فَقَدْ دَما شُعراء النَّاس بِالحَربِ
وإِنْ أساءَ فأوْجِبْ قَتْلَهُ قَوداً ... بِمَنْ أفات إذا أبْقى على السَّلبِ

أنظر إلى استساغ ابن الرومي من سرقة البحتري ومطالبه من له قدرة بعقوبته أو قتله عليها وإلى أنس أبي الطيب بها حتى غلبت على شعره والشاعر الذي لم يرض له ابن الرومي إلا بالقتل والصلب، ذكر محمد بن الجراح أنه ذكر له أحمد ابن أبي طاهر أنه أخرج له ستمائة بيت سرقة منها أربع مائة بيت للطائي فافتخر أحمد أنه قدر على إخراج مثل ذلك وأستكثره وشعر البحتري أكثر فليت أبا الطيب رضيّ بمثل هذه العدة من السرقة، ولكنه ظن أنه لا يهتدي إلى استخراج ما قال من السرقة غيره وأنّ سارقُ الشعر يستحقه بالسرقة والبحتري يقول فيه ابن الحاجب:

والفتَى البحتري سَارقُ ما قَا ... ل ابن أوسٍ في المدح والتَّشْبيبِ
كلُّ بَيتٍ لَهُ يَجودُ مَعَنا ... هُ فَمعناه لابن أوسٍ حَبيب

فجعل جيد شعره لحبيب وإنما أخذ منه على ما حكى ابن أبي طاهر أربع مائة بيت على كثرة شعر البحتري ولعل أبا الطيب قد أخذ من حبيب هذه العدة أو أكثر، وقد ذكر أبو بكر الصوليّ: أنّ رجلاً فضل أبا نواس على بشار، قال له أبو بكر: فرددت ذلك عليه وعرفته ما يجهله من فضله وتقدمه جميع المحدثين وأخذهم منه، فقال لأبي نواس معان قد سبق إليها وتفرد بها، فقلت له: ما منها، فذكر أشياء فجعلت كلّ ما منها، فذكر أشياء، فجعلت كلّ ما أنشد جئته بأصله فكان من ذلك قوله:

إِذا نَحنُ أَثْنينا عليك بِصالحٍ ... فأَنْتَ كما نُثني وَفوق الذي نُثْني
وإِنْ جرت الألفاظُ يوماً بِمدْحةٍ ... لغيرِكَ إِنْساناً فأَنْتَ الذي نَعْنِي

فقلت أما البيت الأول فمن قول الخنساء:

وَما بَلغَ المهْدُون في القولِ مِدْحةً ... وَلا صَدقُوا إِلاَّ الَّذي فِيكَ أفْضَلُ

ومن قول عدي الرقاع العاملي:

أُثنى فلا آلو وأعلمُ أنّهُ ... فَوْقَ الذي أُثْني بهِ وأَقُولُ

وأما البيت الثاني فمن قول الفرزدق لأيوب بن سلم بن عبد الملك:

ولا أَمَرْتني النَّفس في رحلةٍ لها ... فيأمرني إلاّ إِليكَ ضَميرها

فسلم ذلك.

قال أبو محمد: فلولا أن السرقة تبطل فضيلة الإحسان ما عورض بها من استحسن قول أبي نواس وإن كانت قد سهلت على أبي الطيب حتى كثرت في شعره. وقد عرفتك الآن وجوه السرقات محمودها ومذمومها لتسلم من الحيف عليه وتقضي في الحقائق بما له وعليه مما أوجبه حكم السرقات من الإنصاف ولقبنا كتابنا) المنصف (لما قصدنا من إنصاف السارق والمسروق منه. وقد آن لنا أن نذكر ما قصدناه من إظهار سرقاته، وإن مرّ بنا في أثناء ذلك معنى مستحيل أو بيت لفظه غث أو إعراب فاسد ذكرناه احتراساً من توهّم الغفلة علينا وما نأتي في كل ذلك إلا ما تنسب به إلى العدل ويقع شاهدة العقل ولسنا نضمن إيراد جميع سرقاته وإنما نذكر من ذلك ما بلغنا علمه من مأخوذه، ونحن نبرأ إلى الناظر في كتابنا من إدعاء الإحاطة بجميع ما سلبه ومعرفة جملة ما أغتصبه لأني أدّعي رواية جميع الأشعار ولكل عالم زيادة على ما أوردت أن يورد منها ما أغفلت غير طاعن عليّ ولا ناسب تقصيراً إليّ لأني حفظت ما لم يبلغه وحفظ ما لم يبلغني وأعوذ بالله من إدعاء ما لا يحسنه وتعاطي ما لا يتقنه على أنني لا أقضي على أبي الطيب بأن جميع كلامه مسلوب ولا كل فضله مغصوب وإذا جاء البيت الذي لم يبلغني من أين أخذه مما يستحسن سلمته إليه حتى يوجد له استخراج سرقة والله الموفق للصواب.

(1/147)

واعلم أن المحدثين أكثروا العجب بنوع من الشعر سموه البديع


يتبع
.../....





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى