في طفولتي صَعٌبَ علي تصديق الكثير من الهلوسات الخرافية التي توسوس بها الالسن, وتتناقلها القصص التراثية الكثيرة.. كان عالمنا عالماً يبدأ صباحه بصياح ديك العرش منادياً الشمس ان تشرق, وان تطرد بنورها الجن والعفاريت الى أسفل الارض.. فإن انخسفت الشمس, فذلك بفعل الحوت المرعبة التي تريد أكل الشمس اوالقمر.. ويهبٌّ الناس صياحاً وصراخاً على الحوت, ويدقون الطبول والقدور فوق السطوح وفي الشوارع, لكي لا يأكل الحوت الشمس اوالقمر.. كان عالم يفسر الظواهر الطبيعية بشكل أكثر خيالاً من حداثة التفسيرات العلمية.. أنه عالم يفسر لعامة الناس, الذين لا زالوا يعيشون على ارض مسطحة ومحمولة على قرني ثور هائل, بأن المطر ينزل بفعل احد الملائكة وهويضرب بسياطه على ظهر الغيوم التي ترعد صياحاً من الألم وتبكي مطراً.. عالم, اما تذهب للسوق فيه, اوياتي فيه السوق اليك.. بواسطة الباعه المتجولين.. كل يأتي منادياً, مغنياً لتسويق وأطراء جودة بضائعه بلحن خاص ومميز.. وقد يسمع من بينهم “سحّار” يعرض خدماته السحرية الخارقة, وتفتح له الابواب بكل ثقة, ليسحر للمهجورة رجوع زوجها, اوللمعلولة صحتها, اولمن اصابها “مسّ”, فيستخرج العفاريت من “بدنها”.. اوغيرها من الخدمات السحرية الكثيرة.. في العادة يستعين الساحر بالجن, الذين يحظرون بطلب من الساحر, فيامرهم بتنفيذ ما يريد زبائنه.. وينفذ الجن مطاليب الساحر بفروض الطاعة والولاء بحرفية عالية.. ويتقاضى الساحر أجراً على ذلك.. والكثير من هذا توارثناه من عمق حضارتنا السومرية..
في يوم ما جاء لزيارتنا مُجنّد من قريتنا التي تقع في جنوب العراق, في قلب سومر القديمة تحديداً, وكان الزائر شاباً, حديث عهد بحياة المدن وعاداتها.. وكان يسكن ثكنة الجيش.. وقد عرض عليه والدي العيش معنا, الامر الذي أسعدني كثيرا.. وكنت دائما ابحث واتمتع باريحية وطيبة اهلنا, وطرق طرحهم للامور, والقصص المشوّقة, التي تنتهي “بالربّاط” في اخر القصة لترتبط حبّات الخرز في القصة ويظهر للحديث نكهة فريدة ومعنىً واضح..
وأثمرت بيننا صداقة ومحبة لها طابع خاص, فكنت انتظر مجيئه مساءً بشغفٍ كبير لنتبادل أطراف الحديث.. كان يسرد لي حكاياته عن القرية وأحداثها, وقصصها, وبدوري كنتُ أعرّفه على معالم الحياة وجذور التقاليد في المدينة..
في امسية طال انتظاري لمجيئه, وتاخر الليل, ولم يأت.. عند رجوع ابي من المقهى, تشاورت معه في أمر غياب الشاب, ولم أجد لديه جواباً ولكنّه وعد أن يستفسر عن أمر الشاب في الغد الباكر, ولأن الدنيا تحفل بالأمان في ذلك الوقت فليس لي ان اقلق.. وقبل صلاة الفجر بقليل من اليوم التالي تهيأ لي اني سمعت مثل صوت خرمشة على باب بيتنا, فقفزت من الفراش وفتحت باب البيت, كان صديقي متكئا على جوانب الباب, مرتجف الاطراف, مطأطأ الراس, مترب المظهر, منفوش الهندام ويخرج صوتا مثل الحشرجة.. وعلى وقع صوتي المرتبك, جاء والدي مسرعا, وبنظرة سريعة للشاب وتفرس ملامحه, اخذه من كتفه لداخل احدى الغرف, واشار إليّ للبقاء خارجها, تاركني أموت ببطء أمام الغرفة, فضولا..ولكن.. لم يغب عن ذهني الانطباع الذي تركه قدوم الشاب بتلك الهيئة الغريبة, واخذ فكري يثير التساؤل عنها.. لقد فاحت, من الشاب رائحة غريبة, تشبه رائحة الكتب القديمة, في سراديب مدينة النجف.. ورغم ان ضوء الفجر لم يكتمل بعد, فانّي اجزم اني رأيت عيونه السود اصلا, تلونت بشكل رمادي باهت.. ثم انه بدا لي كما لوانه ليس الشخص ذاته.. لم يكن سكراناً, لاني كنت أميز السكران حينها من تجارب مراقبة الجيران..
وجاءت والدتي مسرعة لنداء والدي لها, وسمعتُهٌ يقول لها أن تأتيه بالحرمل والمنقلة وصندوق لم يتسن لي فتحه لأنه كان مقفلا دائما..
كان والدي يكلمه, وسمعت الشاب يقول لوالدي أنه لم ينم ليله, وكلام اخر لم يبد واضحاً لي.. ودعاه ابي ان ينام قليلاً, وانه سيدبر الأمور الاخرى مع العسكر..
كنت متلهفاً كل ثانية لاستيقاظه لأعرف منه ماذا حل به..
واخيراً أفاق من نومه, وبدا أنه أسترجع وعيه, مما يؤكد فعالية الحرمل وذاك الصندوق.. وبعد الحاح مني لا يمكن ان يطيقه احد, وبعد تردد واضح منه إإتمنني أخيراً وبعد أيام, بهذه القصة:
“” كنت في طريقي أليكم واخترت درباً بين الحقول لاختصار المسافة.. وكان القمح عالياً ويصل لحد الحزام.. لم يكن الدرب الا طريقا داسته بعض خطى أقدام.. كانت الشمس على وشك أن تغرب, وأذن الشفق بالمجيء, وقد لوّحَت مشارف الغسق.. فأسرعت الخطى كي لا تسبقني حلكة الظلام.. وبينما انا أسرع في خطاي, خُيّل لي من قرب ملامح إنسان صغير, كما لوأنه طفل يعبر جدار القمح قاطعاً الدرب, من جهة إلى أخرى.. ساورني القلق خشية أن يكون طفل اًقد ظلّ طريقه في الحقل, فصحتُ أن يأتيني..فانتظرت لكن دون جدوى.. ازداد قلقي بشكل ملحوظ وتساءلت فيما لوكنت قد رأيت تلك الهيئة فعلاً..
بعد لحظات, انتبهت إلى حركة مفاجئة خلفي فاستدرت ورأيت بوضوح تلك الهيئة تعبر الدرب بشكل خاطف , ثم تختفي في حقول القمح مرة أخرى.. فصحت عليه مجدداَ ليأتيني وسأوصله لأهله, فتجاهلني ثانيةً.. كنت في حيرة من الامر, وقد اثار قلقي شيء ما.. ذاك أنه تراءى لي ان هناك امرا غريباً في الهيئة ذاتها.. حيث ان راس ذاك الطفل, بدا لي, وبدون أي شك, أنه أكبر من الاعتيادي حجماً.. ورغم تلك الملاحظة المريبة, فأن قلقي على سلامة “الطفل” كان اكبر.. وأخذت بمناداته كرة أخرى: أن “تعال !”.. ولكن لا جواب..
وقلبت امري بين الشفقة على طفل تائه وذاك ألرأس غير المناسب كليا لمشاعر الخوف التي بدأت تأخذ تأثيرها عليّ, فلم أجد قرارا يريحني وأخذتني الحيرة, وسرت مترددا, متلفتاً حولي, أتفحص النظر بحثا عن ذاك الرأس الذي يقلقني.. ولولا إني أواجه المغرب لفقدت اتجاه سيري من كثرة الاستدارة والالتفات.. وبديت أدرك خفقان قلبي, وأشعر أرتعاش يداي, واحس جفاف فمي.. وبعد حين, انفلقت سنابل القمح بشكل فجائي أمام ناظري بصوت فيه نوع من الصفير وظهرت تلك الهيئة بسرعة لتعبر الدرب أمامي وعلى مسافة اقصر من المرة الماضية.. وقبل أن استرد ادراكي لذلك سمعت إن الهيئة تعبر السكة من خلفي أيضاً.. التفتُ لوقع الصوت فلم ارَ سوى حركة السنابل ترتصف بعد انفتاحها.. كنت في رعب لم أرد الأعتراف به أمام نفسي, ولكن مع حيرتي المتزايدة, أخترت تكذيب ما أشعر به ويهزني, متعللاً بسرعة ما يحدث وعدم التأكد منه وعدم عقلانيته كليا.. وأخترت أن اظنه لعباً طفولياً, وأرتحت لهذا الأختيار, وطويت كل أحتمال أخر, وأخذت تصديق ذلك تشجيعا لنفسي.. أن ألأمر لا يمكن ان يكون ألا مزاحاً صبيانياً..
وبقيت الحيرة فيما يجب عمله بهذا الطفل التائه ؟؟
ان كان طفلا..
ولم اسعد طويلاً بذلك الاختيار حتى تهاوت عليّ الافكار منذرة بان الهيئة في اخر ظهورها أكدت ليّ الظن, وبدون ريبة, أن الرأس الذي رأيته لا يمكن ان يكون بهذا الكبر المريب لاي طفل.. كائناً من كان.. اوحتى لرجل.. اوحتى لانسان..
وحتى لوقبلنا به راساً, فما هوتفسير هذه الاستدارة البيضاوية اللعينة ؟؟
فما يكون كل هذا ؟؟
عندها اخذت بالبسملة والتعوذ, وتذكرت أهازيج العشيرة وهي تمتدح شجاعة الرجال, فسارعت الخطى بثقة مهتزة.. ووجهت انتباهي لحلول الغسق على الدرب, وتضايقي من الدرب الذي كنت اضنه قصيراً, ولكنه أخذ يبدو وكأنه يمتد طولاً, ولا أرى نهاية له..
لم أفكر في الجري لكون كل القصة لم تكن واضحة تماماً..
ساورني بعض شك حول ما يحدث, فلربما له تفسير آخر, قد يختلف عن التفسير الذي يدور في خلدي في تلك اللحظات.. ولكن لم اكن متاكدا ما هوذاك الذي يدور بخلدي بالضبط ؟؟ لم اكن ادري تماما..
ولكني شجعت نفسي مجدداً مثلما يحدث عندنا في القرية لنستحضر تلك الشجاعة بذكر أسم الأخت, ثم صرخت “انا اخوك يا سليمة !”.. استجمعت شجاعتي وقبضت على ذاتي وجمعتها مشجعا: إنّي المحارب الذي لا يجد الخوف في قلبه مكاناً.. ومشيت خطواتي معتدا ضارباً الارض بحذائي العسكري الثقيل..
وظننت أنّي وجدت الحل للامور وابعدت الشكوك.. ومشيت خطوات مستهزئاً بكل القصة وغرابتها وما أثارت فيّ من شكوك والعياذ بالرب.. ومشيت خطوات جامعاً كُلي على وقع البسطال العسكري وحركة الذراعين الاستعراضية.. وبصدمة مفاجئة توقف الوجود كله.. كاني سمعت احدى الاوامر العسكرية الجديدة العهد علي: قف !!
توقفت تماما, وليس فقط بقدميّ, ولا بتنفسي ولا بقلبي بل بكل فكرة ايضا..
ما اوقفني هوظهور تلك الهيئة امامي بكل وضوح وبلا التباس, تلك الهيئة ذات الرأس الكبير, البيضاوي الشكل.. وهذا ليس كل شيء بل أضافة لذلك, لم يمكنني الا أن الاحظ ايضا, وبكثير من القلق, أن ليس الراس لوحده كبير فقط, ولكن العيون ايضا كبيرة بشكل لا يناسب الرأس على كبره.. كانت اكبر مما تتحمله حالتي القلقة, وتسمرت في مكاني رغم الصوت الداخلي الذي يصيح بيّ: اهرب !! ولكني استسلمت مهزوزا من الرعب, وبقيت.. هذه العيون المبحلقة التي كانت تخزرني بشكل مغناطيسي وعلى غير ارادة مني أنفتحت عيوني بسعة محاجرها وتجمد نظرها على نظر ذلك الهلع من عيون.. تعلق نظري بها.. عيوني لم تعد تتحرك, ولا ترمش, ولا اي شيء .. وانقطعت السيطرة عليها تماما.. اخذت اشعر بانه لا انفكاك لي من النظر إلا اليها.. ولم تكن عيوني وحدها من تجمدت بذلك الشكل بل كانت كل اعضائي, اما مشاعري فانها لم تتجمد بل كانت أسوأ حالا من مشاعر الاضاحي البشرية في طقوس الذبح هياجاً.. ونسيت البسملة والتعويذة, والهوسة.. وشل كياني وتسمرت في مكاني.. ولا بد أن الوقت لم يتوقف, ولكن ذلك ما بدى لي.. شعرت ان شيئا ما يفرغني مثلما تفرغ قنينة من محتواها, وبان شيئا اخر يستدر ارادتي, واخر يوشل معرفتي, واخر يزقني رعبا وهلعا, وكأن الكابوس يصبح اكل ثريد قياساً امام الحالة.. وبعد مرور زمن لا ادري ان طال اوقصر, شعرت بان هناك امراً ما اخذاً بالحدوث, وظننت انه لا يمكن ان يكون اكثر سوءً مما انا فيه.. ذلك انه تهيأ لي ان عيوني رغم انها باقية لا تحيد من نظرها للعيون التي امامي, تهيأ لي انها قد اخذت بالارتفاع في نظرها ولا بد ان راسي يميل الى الاعلى معها.. ولا تفسير هناك لذلك, الا اذا كانت رقبة الهيئة, ذات العيون الكبيرة تطول.. وتطول.. وكلما كانت الرقبة تطول, كانت العيون الكبيرة تقترب مني وتتسع وتخضر.. وأشعر وكأن اللون الاخضر يخترقني من عيوني ويرسل مثل موجات قوية من الارتعاش الى كل كياني.. كنت في شعور من الهلع والاستسلام لا يوصف.. بين ذلك كنت أستوعب سير النجوم السريع في السماء حول تلك العيون واشم رائحة الشونذر والقرنفل.. فجأة شعرت بارتطام ظهري وراسي على الارض بشكل مؤلم.. باثر ذلك صحوت قليلاً من حالة الاستلاب الكلي, وقفزت بسرعة راكضاً, متعثراً وساقطاً وعلى غير اتجاه, إلا الابتعاد والخلاص من تلك العيون.. وكلما كنت اتحرر بعيدا عنها كنت اشعر بألتفاف جسم مثل الحية حول خصري, واشعر بحرارته الجسمية حولي.. واتوقف من الحركة واجد نفسي مجددا امام تلك العيون.. ويتجدد ما مر بيّ سابقا باكثر استسلاما..
اخر المرات, وفي غيهب الغسق, كنت اركض بحثا عن مخرج من الحقل, وكلما وقفت من التعب والانهاك ولاسترداد انفاسي, كنت احس ان احدهم يضع اصبعه بين اردافي فاقفز راكضاً من جديد اتعثر حيناً وانكب اخر, في كل الاتجاهات..
الى ان ظهرت بوادر الصباح وشفقة.. عندها رايت معالم المكان واسرعت اليكم.. “”
وعند انتهاء قصته, فسر الشاب الامر على انه تقاطع طريق مع الطنطل..
كنت استمع للقصة وقلبي يرتطم متأثراً بها, لاني اصدقه, ولكن عقلي يرفضها لانها لا تلائم فكري..
لم أرد تكذيب قصة صديقي, وقلت:
لابد ان الطنطل مصاحب لمخيلة اهل القرى, لأني لا أجد له مكاناً بين اهل المدن..
شعر اني لا اصدق قصته, فاجابني متفكراً ونظره يتوجه بعيدا:
نعم, اننا اهل القرى, في احيان نادرة, قد نصادف الطنطل فنعرفه, وننفلت منه ببعض عناء.. ولكن هنا, في المدن, يترائى لي أن, الطنطل قد وجد مسكناً, ويلعب لعبه كيف يشاء, بدون دراية ولا معرفة من احد..
وسألته لم تردد في الاول من اخباري بقصته ونحن اصدقاء, فقال ان قص قصص الطنطل تعتبر تعميدا للسامع بها, وسيزوره الطنطل يوما..
في يوم ما جاء لزيارتنا مُجنّد من قريتنا التي تقع في جنوب العراق, في قلب سومر القديمة تحديداً, وكان الزائر شاباً, حديث عهد بحياة المدن وعاداتها.. وكان يسكن ثكنة الجيش.. وقد عرض عليه والدي العيش معنا, الامر الذي أسعدني كثيرا.. وكنت دائما ابحث واتمتع باريحية وطيبة اهلنا, وطرق طرحهم للامور, والقصص المشوّقة, التي تنتهي “بالربّاط” في اخر القصة لترتبط حبّات الخرز في القصة ويظهر للحديث نكهة فريدة ومعنىً واضح..
وأثمرت بيننا صداقة ومحبة لها طابع خاص, فكنت انتظر مجيئه مساءً بشغفٍ كبير لنتبادل أطراف الحديث.. كان يسرد لي حكاياته عن القرية وأحداثها, وقصصها, وبدوري كنتُ أعرّفه على معالم الحياة وجذور التقاليد في المدينة..
في امسية طال انتظاري لمجيئه, وتاخر الليل, ولم يأت.. عند رجوع ابي من المقهى, تشاورت معه في أمر غياب الشاب, ولم أجد لديه جواباً ولكنّه وعد أن يستفسر عن أمر الشاب في الغد الباكر, ولأن الدنيا تحفل بالأمان في ذلك الوقت فليس لي ان اقلق.. وقبل صلاة الفجر بقليل من اليوم التالي تهيأ لي اني سمعت مثل صوت خرمشة على باب بيتنا, فقفزت من الفراش وفتحت باب البيت, كان صديقي متكئا على جوانب الباب, مرتجف الاطراف, مطأطأ الراس, مترب المظهر, منفوش الهندام ويخرج صوتا مثل الحشرجة.. وعلى وقع صوتي المرتبك, جاء والدي مسرعا, وبنظرة سريعة للشاب وتفرس ملامحه, اخذه من كتفه لداخل احدى الغرف, واشار إليّ للبقاء خارجها, تاركني أموت ببطء أمام الغرفة, فضولا..ولكن.. لم يغب عن ذهني الانطباع الذي تركه قدوم الشاب بتلك الهيئة الغريبة, واخذ فكري يثير التساؤل عنها.. لقد فاحت, من الشاب رائحة غريبة, تشبه رائحة الكتب القديمة, في سراديب مدينة النجف.. ورغم ان ضوء الفجر لم يكتمل بعد, فانّي اجزم اني رأيت عيونه السود اصلا, تلونت بشكل رمادي باهت.. ثم انه بدا لي كما لوانه ليس الشخص ذاته.. لم يكن سكراناً, لاني كنت أميز السكران حينها من تجارب مراقبة الجيران..
وجاءت والدتي مسرعة لنداء والدي لها, وسمعتُهٌ يقول لها أن تأتيه بالحرمل والمنقلة وصندوق لم يتسن لي فتحه لأنه كان مقفلا دائما..
كان والدي يكلمه, وسمعت الشاب يقول لوالدي أنه لم ينم ليله, وكلام اخر لم يبد واضحاً لي.. ودعاه ابي ان ينام قليلاً, وانه سيدبر الأمور الاخرى مع العسكر..
كنت متلهفاً كل ثانية لاستيقاظه لأعرف منه ماذا حل به..
واخيراً أفاق من نومه, وبدا أنه أسترجع وعيه, مما يؤكد فعالية الحرمل وذاك الصندوق.. وبعد الحاح مني لا يمكن ان يطيقه احد, وبعد تردد واضح منه إإتمنني أخيراً وبعد أيام, بهذه القصة:
“” كنت في طريقي أليكم واخترت درباً بين الحقول لاختصار المسافة.. وكان القمح عالياً ويصل لحد الحزام.. لم يكن الدرب الا طريقا داسته بعض خطى أقدام.. كانت الشمس على وشك أن تغرب, وأذن الشفق بالمجيء, وقد لوّحَت مشارف الغسق.. فأسرعت الخطى كي لا تسبقني حلكة الظلام.. وبينما انا أسرع في خطاي, خُيّل لي من قرب ملامح إنسان صغير, كما لوأنه طفل يعبر جدار القمح قاطعاً الدرب, من جهة إلى أخرى.. ساورني القلق خشية أن يكون طفل اًقد ظلّ طريقه في الحقل, فصحتُ أن يأتيني..فانتظرت لكن دون جدوى.. ازداد قلقي بشكل ملحوظ وتساءلت فيما لوكنت قد رأيت تلك الهيئة فعلاً..
بعد لحظات, انتبهت إلى حركة مفاجئة خلفي فاستدرت ورأيت بوضوح تلك الهيئة تعبر الدرب بشكل خاطف , ثم تختفي في حقول القمح مرة أخرى.. فصحت عليه مجدداَ ليأتيني وسأوصله لأهله, فتجاهلني ثانيةً.. كنت في حيرة من الامر, وقد اثار قلقي شيء ما.. ذاك أنه تراءى لي ان هناك امرا غريباً في الهيئة ذاتها.. حيث ان راس ذاك الطفل, بدا لي, وبدون أي شك, أنه أكبر من الاعتيادي حجماً.. ورغم تلك الملاحظة المريبة, فأن قلقي على سلامة “الطفل” كان اكبر.. وأخذت بمناداته كرة أخرى: أن “تعال !”.. ولكن لا جواب..
وقلبت امري بين الشفقة على طفل تائه وذاك ألرأس غير المناسب كليا لمشاعر الخوف التي بدأت تأخذ تأثيرها عليّ, فلم أجد قرارا يريحني وأخذتني الحيرة, وسرت مترددا, متلفتاً حولي, أتفحص النظر بحثا عن ذاك الرأس الذي يقلقني.. ولولا إني أواجه المغرب لفقدت اتجاه سيري من كثرة الاستدارة والالتفات.. وبديت أدرك خفقان قلبي, وأشعر أرتعاش يداي, واحس جفاف فمي.. وبعد حين, انفلقت سنابل القمح بشكل فجائي أمام ناظري بصوت فيه نوع من الصفير وظهرت تلك الهيئة بسرعة لتعبر الدرب أمامي وعلى مسافة اقصر من المرة الماضية.. وقبل أن استرد ادراكي لذلك سمعت إن الهيئة تعبر السكة من خلفي أيضاً.. التفتُ لوقع الصوت فلم ارَ سوى حركة السنابل ترتصف بعد انفتاحها.. كنت في رعب لم أرد الأعتراف به أمام نفسي, ولكن مع حيرتي المتزايدة, أخترت تكذيب ما أشعر به ويهزني, متعللاً بسرعة ما يحدث وعدم التأكد منه وعدم عقلانيته كليا.. وأخترت أن اظنه لعباً طفولياً, وأرتحت لهذا الأختيار, وطويت كل أحتمال أخر, وأخذت تصديق ذلك تشجيعا لنفسي.. أن ألأمر لا يمكن ان يكون ألا مزاحاً صبيانياً..
وبقيت الحيرة فيما يجب عمله بهذا الطفل التائه ؟؟
ان كان طفلا..
ولم اسعد طويلاً بذلك الاختيار حتى تهاوت عليّ الافكار منذرة بان الهيئة في اخر ظهورها أكدت ليّ الظن, وبدون ريبة, أن الرأس الذي رأيته لا يمكن ان يكون بهذا الكبر المريب لاي طفل.. كائناً من كان.. اوحتى لرجل.. اوحتى لانسان..
وحتى لوقبلنا به راساً, فما هوتفسير هذه الاستدارة البيضاوية اللعينة ؟؟
فما يكون كل هذا ؟؟
عندها اخذت بالبسملة والتعوذ, وتذكرت أهازيج العشيرة وهي تمتدح شجاعة الرجال, فسارعت الخطى بثقة مهتزة.. ووجهت انتباهي لحلول الغسق على الدرب, وتضايقي من الدرب الذي كنت اضنه قصيراً, ولكنه أخذ يبدو وكأنه يمتد طولاً, ولا أرى نهاية له..
لم أفكر في الجري لكون كل القصة لم تكن واضحة تماماً..
ساورني بعض شك حول ما يحدث, فلربما له تفسير آخر, قد يختلف عن التفسير الذي يدور في خلدي في تلك اللحظات.. ولكن لم اكن متاكدا ما هوذاك الذي يدور بخلدي بالضبط ؟؟ لم اكن ادري تماما..
ولكني شجعت نفسي مجدداً مثلما يحدث عندنا في القرية لنستحضر تلك الشجاعة بذكر أسم الأخت, ثم صرخت “انا اخوك يا سليمة !”.. استجمعت شجاعتي وقبضت على ذاتي وجمعتها مشجعا: إنّي المحارب الذي لا يجد الخوف في قلبه مكاناً.. ومشيت خطواتي معتدا ضارباً الارض بحذائي العسكري الثقيل..
وظننت أنّي وجدت الحل للامور وابعدت الشكوك.. ومشيت خطوات مستهزئاً بكل القصة وغرابتها وما أثارت فيّ من شكوك والعياذ بالرب.. ومشيت خطوات جامعاً كُلي على وقع البسطال العسكري وحركة الذراعين الاستعراضية.. وبصدمة مفاجئة توقف الوجود كله.. كاني سمعت احدى الاوامر العسكرية الجديدة العهد علي: قف !!
توقفت تماما, وليس فقط بقدميّ, ولا بتنفسي ولا بقلبي بل بكل فكرة ايضا..
ما اوقفني هوظهور تلك الهيئة امامي بكل وضوح وبلا التباس, تلك الهيئة ذات الرأس الكبير, البيضاوي الشكل.. وهذا ليس كل شيء بل أضافة لذلك, لم يمكنني الا أن الاحظ ايضا, وبكثير من القلق, أن ليس الراس لوحده كبير فقط, ولكن العيون ايضا كبيرة بشكل لا يناسب الرأس على كبره.. كانت اكبر مما تتحمله حالتي القلقة, وتسمرت في مكاني رغم الصوت الداخلي الذي يصيح بيّ: اهرب !! ولكني استسلمت مهزوزا من الرعب, وبقيت.. هذه العيون المبحلقة التي كانت تخزرني بشكل مغناطيسي وعلى غير ارادة مني أنفتحت عيوني بسعة محاجرها وتجمد نظرها على نظر ذلك الهلع من عيون.. تعلق نظري بها.. عيوني لم تعد تتحرك, ولا ترمش, ولا اي شيء .. وانقطعت السيطرة عليها تماما.. اخذت اشعر بانه لا انفكاك لي من النظر إلا اليها.. ولم تكن عيوني وحدها من تجمدت بذلك الشكل بل كانت كل اعضائي, اما مشاعري فانها لم تتجمد بل كانت أسوأ حالا من مشاعر الاضاحي البشرية في طقوس الذبح هياجاً.. ونسيت البسملة والتعويذة, والهوسة.. وشل كياني وتسمرت في مكاني.. ولا بد أن الوقت لم يتوقف, ولكن ذلك ما بدى لي.. شعرت ان شيئا ما يفرغني مثلما تفرغ قنينة من محتواها, وبان شيئا اخر يستدر ارادتي, واخر يوشل معرفتي, واخر يزقني رعبا وهلعا, وكأن الكابوس يصبح اكل ثريد قياساً امام الحالة.. وبعد مرور زمن لا ادري ان طال اوقصر, شعرت بان هناك امراً ما اخذاً بالحدوث, وظننت انه لا يمكن ان يكون اكثر سوءً مما انا فيه.. ذلك انه تهيأ لي ان عيوني رغم انها باقية لا تحيد من نظرها للعيون التي امامي, تهيأ لي انها قد اخذت بالارتفاع في نظرها ولا بد ان راسي يميل الى الاعلى معها.. ولا تفسير هناك لذلك, الا اذا كانت رقبة الهيئة, ذات العيون الكبيرة تطول.. وتطول.. وكلما كانت الرقبة تطول, كانت العيون الكبيرة تقترب مني وتتسع وتخضر.. وأشعر وكأن اللون الاخضر يخترقني من عيوني ويرسل مثل موجات قوية من الارتعاش الى كل كياني.. كنت في شعور من الهلع والاستسلام لا يوصف.. بين ذلك كنت أستوعب سير النجوم السريع في السماء حول تلك العيون واشم رائحة الشونذر والقرنفل.. فجأة شعرت بارتطام ظهري وراسي على الارض بشكل مؤلم.. باثر ذلك صحوت قليلاً من حالة الاستلاب الكلي, وقفزت بسرعة راكضاً, متعثراً وساقطاً وعلى غير اتجاه, إلا الابتعاد والخلاص من تلك العيون.. وكلما كنت اتحرر بعيدا عنها كنت اشعر بألتفاف جسم مثل الحية حول خصري, واشعر بحرارته الجسمية حولي.. واتوقف من الحركة واجد نفسي مجددا امام تلك العيون.. ويتجدد ما مر بيّ سابقا باكثر استسلاما..
اخر المرات, وفي غيهب الغسق, كنت اركض بحثا عن مخرج من الحقل, وكلما وقفت من التعب والانهاك ولاسترداد انفاسي, كنت احس ان احدهم يضع اصبعه بين اردافي فاقفز راكضاً من جديد اتعثر حيناً وانكب اخر, في كل الاتجاهات..
الى ان ظهرت بوادر الصباح وشفقة.. عندها رايت معالم المكان واسرعت اليكم.. “”
وعند انتهاء قصته, فسر الشاب الامر على انه تقاطع طريق مع الطنطل..
كنت استمع للقصة وقلبي يرتطم متأثراً بها, لاني اصدقه, ولكن عقلي يرفضها لانها لا تلائم فكري..
لم أرد تكذيب قصة صديقي, وقلت:
لابد ان الطنطل مصاحب لمخيلة اهل القرى, لأني لا أجد له مكاناً بين اهل المدن..
شعر اني لا اصدق قصته, فاجابني متفكراً ونظره يتوجه بعيدا:
نعم, اننا اهل القرى, في احيان نادرة, قد نصادف الطنطل فنعرفه, وننفلت منه ببعض عناء.. ولكن هنا, في المدن, يترائى لي أن, الطنطل قد وجد مسكناً, ويلعب لعبه كيف يشاء, بدون دراية ولا معرفة من احد..
وسألته لم تردد في الاول من اخباري بقصته ونحن اصدقاء, فقال ان قص قصص الطنطل تعتبر تعميدا للسامع بها, وسيزوره الطنطل يوما..