محمد كريم الساعدي - المهمش والوعي الثقافي

يعد جسد المهمش ساحة ثقافية واجتماعية وسياسية وأخلاقية ودينية وعرقية وغيرها من المدلولات التي يحتويها بدلالاته المختلفة وإشاراته المتنوعة في رسم مساحات الرد على ما هو معلن تارة وما هو مكبوت تارةً أخرى الرد عما هو حاضر في أبعاده المختلفة ومنها البعد الكولونيالي ذات الدوائر المتعددة في السيطرة والقمع والاستباحة ضد الآخر ، وفي هذه الصورة الثقافية نتناول خطاب من نوع آخر هو خطاب الجسد كردة فعل ممنهج تجاه الاخضاع الممنهج أيضاً للأجساد المهمشة والتي جعل منها المركز في دائرة الخارج من الحضارة والثقافة العالمية ،بل جعل من هذه الاجساد كقطع ديكورية في عروضه التي تبجل الإمبراطوريات الغربية كما هو الحال في العروض المسرحية المقدمة في شرق آسيا التي جعلت من المؤدين للحركات الطقسية في جزيرة بالي كخلفية ديكورية تشير الى معنى السيطرة والتحكم بالأجساد ،وعرضها في الخلفية المشهدية كدلالة الى الاخضاع على وفق المنهج الكولونيالي الذي تمت ممارسته في شرق آسيا وخصوصاً على سكان هذه الجزيرة، وهنا ينقل لنا كتاب ( الدراما ما بعد الكولونيالية ) في صورة هذه الممارسة الإخضاعية وتفسيراتها على وفق السيطرة والتحكم والنظرة الاستعلائية في نقل الحدث الدرامي لإحدى مسرحيات شكسبير وهي مسرحية ( العاصفة ) ذات الطابع المتسم بصورة البطل الكولونيالي الذي يحكم الجزيرة ويغير ملامحها اجتماعيا بعدما كان يعيش حياة مختلفة تماماً قبل مجيئه للجزيرة ، وفي هذه المسرحية يرسم من خلالها شكسبير الصورة الاستعمارية والخطاب الكولونيالي المتفوق على الآخر الأصلاني، إذ يركز فيها على مفاهيم كولونيالية تعتمد على مبدأ الدافعية في ايجاد مساحات اخرى تتحول الى ملكية استعمارية تنزع ثقافتها الاصلية لتقدم بثقافة اخرى الى العالم الجديد .تجد هذه الصورة الشكسبيرية صداها وتطبيقاتها من خلال سكان غير أصليين استوطنوا استراليا ،وجعلوا منها حاضرة لهم وأصبحوا يتمتعون بكل ما فيها من خيرات وثروات صارت ملكا للاستعمار وأفكاره الكولونيالية ، وأتسع نشاط هذه المجموعات من الاستراليين البيض ليشمل مساحات اخرى من اسيا ومنها ( بالي ) التي قدمت فيها مسرحية (العاصفة)، وتنقل لنا (هيلين جيلبرت) الآتي هنا معالجة اخرى للشفرات الادائية لمسرحية ( العاصفة) وهي معالجة اشكالية على نحو أكبر من سابقاتها قدمت هذه المعالجة عاو 1987 في ( بالي Bali ) وأخرجها ( ديفد جورج و سيرجي تامبالسي وقام بأدائها طلبة استراليون ، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الممثلين الاستراليين قاموا بأداء كل الادوار الرئيسية بينما ( بالي )( المكان والسكان ) لم تكن سوى خلفية مشهديه للفعل الدرامي ، يمكن القول ان العرض كان يميل الى تعزيز وترسيخ بعض البنيات التراتبية التي يضمرها نص شكسبير والتي لا تزال تعمل على وفق التأسيس الكولونيالي والتراتبية الاستعمارية حتى بعد ان قلت وانحسرت الدائرة الاستعمارية في القرن العشرين ، فالعرض قدم في تسعينيات القرن الماضي لكن النظرة ما زالت قائمة بين الغرب والشرق وبين المركز والهامش وبين الجسد الذي يشكل هو الشخصية البطلة الذي يتصدر المشهد الادائي وبين الهامش، أو الشخصية الثانوية التي تصبح في العرض جزءاً من الخلفيات التي لا تكاد ترى إلا بعد ان يصبح ظهورها ضرورياً لتبرير مكانة البطل الكولونيالي .
إنَّ الجسد على وفق المنظور ما بعد الكولونيالي يصبح مكانا ابعد من طبيعته المادية وملامحه التي يشير بها الى انتماء ضيق فهو في حد ذاته يشكل ساحة للتمثيل ،الذي يعد في كثير من الاحيان تمثيل اعرق وأكثر بعداً من الطبيعة العادية ، فهو في التصورات ما بعد الكولونيالية يعد حيزا يمكن كتابة وقراءة خطابات متضاربة فيه فانه بشكل خاص نص مادي يبين كيف ( تُحس ) الذاتية بوصفها مادية ودائمة بشكل حتمي أيا كانت طريقة صياغتها في واقع الامر (...) من حيث انها تذكرنا بان القوى الخطابية للقوة الامبريالية تعمل على الناس ومن خلالهم وتقدم علاجاً جاهزاً للنزوع الى تجريد الأفكار من سياقها الحي الى سياق آخر بعيد عن واقع الاجساد ذاتها ، وهنا يشكل التضارب صراعا يضطر فيه العديد من المكبوتات في مواجهة الحضور المسيطر والمهيمن الذي يعمل على إعادة صياغة هذه الأجساد والأفكار التي تسيطر عليها بعدة طرق ،ومنها وصفها بأنها لا تشكل في ساحة الحضور العالمي ومركزيته سوى هامش مكمل وليس جزءاً مؤسساً ،وكذلك فأنها على وفق منظور التراتبية سيكون واقعاً تحت تأثير الماضي البعيد عن الريادة والقيادة بل بعيد عن العقل والتعقل ،فهو يخضع تحت الخرافة والسحر الذي أصبح جزءاً من الكيان المسيطر على هذه الأجساد سابقاً ، لذلك فان إبعادها عن سياقاتها الحية ،أي إبعادها عن واقعها الى صورة أخرى مفترضة يجب السير فيها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى