أحمد الخميسي - إذا عشقت اعشق قمر ..

كان الكاتب الراحل المعروف أحمد حمروش في زيارة لموسكو ذات يوم، وطلب من المترجم الروسي المرافق له أن يوقظه في التاسعة صباح الغد. في الوقت المحدد شعر حمروش بيد تهز كتفه برفق وسمع صوت المترجم الشاب يقول له:
- " صباح الخير أستاذ حمروش.. هل مت جيدا؟"!
واعتدل حمروش مفزوعا متشائما وقد أدرك ما يقصده المترجم الشاب فصاح :
- " اسمها هل نمت جيدا! مت إيه الله يخرب بيتك" !!
تذكرت هذه القصة بمناسبة الاحتفال السنوي في 30 سبتمبر باليوم العالمي للمترجم الذي يتزامن مع عيد ميلاد القديس جيروم مترجم الكتاب المقدس. ويثير ذلك اليوم، قضايا كثيرة متعلقة بالترجمة، ودورها، ونظرياتها.
وأذكر أن أول ترجمة كبيرة لقصص أنطون تشيخوف في مصر كانت في الستينيات قام بها محمد القصاص في كتاب يقع في أكثر من خمسمائة صفحة. في حينه فرحنا جدا بذلك العمل، وكان القصاص قد ترجم العمل عن الانجليزية. فيما بعد تبين لي بسبب هذا العمل أن أولى المشكلات هي الترجمة عن لغة وسيطة. وعلى سبيل المثال، فإن المترجم حين تصادفة الجملة التالية : "جلسوا يشربون الشاي والسكر" فإنه سيترجمها كما هي، طالما أنه لا يعرف أن لشرب الشاي عند الشعب الروسي طقسا خاصا، فهو لم يكن يذيب السكر داخل الأقداح، بل يضع قطع سكر صلبة ( سكر نبات) بجوار الشاي، ويمتص منها مع كل جرعة شاي! إذن نحن هنا أمام طقس ثقافي، وعادات خاصة، لابد أن تنقلها الترجمة، لأنك لا تترجم لغة ، بل تترجم نسقا ثقافيا متكاملا.
أيضا هناك مثل روسي يقول : " اذا عشقت اعشق ملكة ، وإذا سرقت اسرق مليون". وهو بالضبط ، المقابل من حيث المعنى لما نقوله نحن : " إذا عشقت اعشق قمر، وإذا سرقت اسرق جمل". لكنك إذا ترجمت المثل الروسي إلي نظيره العربي تكون قد أخطأت بشدة. صحيح أن المعنى واحد، لكن كل شعب يستدل على المعنى نفسه ويصل إلى الفكرة ذاتها بواسطة تاريخه الثقافي المختلف، الخاص به، ففي المثل العربي تتضح أهمية القمر وجماله لبلاد صحراوية تعاني من حرارة الشمس، وفي المثل تقدر الثروة وفقا لمعايير مجتمعاتنا السابقة بالبعير. أما الشعب الروسي فإن الجمال عنده مرتبط بالمكانة الاجتماعية والثروة مرتبطة بالنقود، لأنه قطع شوطا أبعد في التطور الاقتصادي. ولذلك فإنك حين تترجم ، لا تنقل المعنى بما يقابله، بل تنقل في الأساس نسقا ثقافيا كاملا، لا يصح أن تستبدل فيه البعير بالعملة النقدية.
وفي ذلك السياق نشعر جميعا بالعرفان للمترجم الكبير سامي الدروبي الذي نقل إلينا الأعمال الكاملة للروائي الروسي دوستويفسكي عن الفرنسية، وحين قررت دار التقدم في موسكو أن تعيد طباعة بعض ترجمات الدروبي، عهدت بها إلي دكتور أبو بكر يوسف لمراجعتها على الأصل الروسي، وتصادف أن كنت عند أخي بكر في بيته فأعطاني مقتطفا من الأصل الروسي لإحدى الروايات، وراح يقرأ علي من ترجمة الدروبي، لكي يظهر لي الفارق بين الأصل والترجمة عن لغة وسيطة. وكان هناك فارق لا يستهان به. لكن الترجمة تشق طريقها حتى لو كانت عرجاء، لأنها ضرورة قصوى للتفاعل الحضاري، ومع الوقت تمسى أكثر دقة، وأكثر قدرة على مراعاة السياق الثقافي، كما يبدأ في الظهور المترجمون المتخصصون في كل لغة.
وقد قطعت الترجمة عندنا – أعني في مصر- شوطا طويلا، وشتان بين الترجمات المرتجلة التي كان نجيب محفوظ يقرأها في شبابه وبين ما نقرأه نحن الآن. ويحكي الأستاذ في هذا الصدد أنه وقعت بين يديه قصة للكاتب الفرنسي موباسان، وقرأ فيها أن البطل تقدم نحو حبيبته ماري وأعطاها وردة وقال لها " تهادوا تحابوا يا ماري .. كما قال سيدنا محمد رسول الله (صلعم) "! وقال محفوظ إنه دهش من أن أدباء فرنسا يعرفون الدين الاسلامي إلي هذه الدرجة ! ثم اكتشف فيما بعد أن المترجم كان يترجم براحته شوية.
لدينا الآن مترجمون متخصصون يتقنون معظم اللغات الحيوية حتى الصينية، ولدينا قدرات، وأساتذة أكفاء، ربما ينقصنا أن تنخرط كل قوانا في مشروع ثقافي عام للنهضة، كما حدث مع بدايات الترجمة عصر محمد علي، حين كانت حركة الترجمة جزءا من مشروع للنهضة، وليس مجرد اجتهادات فردية لامعة متناثرة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى