أولغا توكارتشوك - أقبح امرأة في العالم..

كان قد تزوج من أقبح امرأة في العالم. ولكونه مشهورا بأنه منظم للسيرك؛ قام برحلة إلى فيينا لأجل رؤيتها. لم يكن فعلا متعمدا على الإطلاق؛ فلم يخطر له مسبقا أنه ربما قد يتخذها كزوجة له. لكن بمجرد أن رآها، وبمجرد أن تجاوز الصدمة الأولى، لم يتمكن من أن يدير عينيه عنها. كان لديها رأس كبير مدفونا بين الكتل والتورمات. وكانت عيناها الصغيرتان، والباكيتان دوما موضوعين أسفل حاجبيها القصيرين المجعدين. بديا عينيها من بعيد كما لو كانا شقين ضيقين. وظهر أنفها كما لو كان مكسورا بعدة مواضع، كان طرفه أزرقا داكنا؛ مغطى بشعيريات متفرقة. كان فمها ضخما، ومتورما، دوما متروك مفتوح، دوما مبتل، بسِنة حادة مدببة لداخله. وفوق كل هذا؛ وكأن هذا غير كافٍ، كان وجهها بالغ الطول، ذا شعر حريري هائش.

رآها لأول مرة وهي تطل من خلف الحجاب الكرتوني لخشبة المسرح بالسيرك المتنقل كي تظهر نفسها إلى الحضور. هبت عاصفة مدوية من التعجب والاشمئزاز معا فوق روؤس الجميع وسقطت عند قدميها. كانت تبتسم ربما، لكن بدت كما تجهم يرثى له. كانت تقف واثقة من نفسها، مدركة لحقيقة أن دستة من الأعين تحدق بها، بتوقٍ متشربين بكل تفصيل، بحيث يمكنهم- الحاضرون- وصف هذا الوجه لأصدقائهم وللجيران أو إلى أولادهم، أو كي يتمكنوا من استدعائه مجددا، بينما يقارنون بينه وبين أوجههم بالمرآة، ويتنفسون بعدها زفرة من الارتياح. كانت تقف بصبر، ربما بقدر من التفوق، وحدقت لما فوق الرؤوس نحو أسطح المنازل وراءهم.

وبعد صمت مطول، ممتلئ بالدهشة، أخيرا صرخ شخص “حدثينا عن نفسكْ”

ندت إلى الجماهير، إلى البقعة والتي منها أتى الصوت. كانت تبحث عن الشخص الذي قال ذلك، لكن حينئذ جرت مدربة سمينة بالسيرك من تحت الأجنحة الكرتونية للمسرح وأجابت نيابة عن أقبح امراة في العالم “إنها لا تتحدث!”

“إذن اخبرينا حكايتها” هذا ما طلبه الصوت، لذا السيدة السمينة ابتلعت ريقها وبدأت بالحديث.

بعد الأداء، وبينما كان يتناول كوبا من الشاي بواسطة موقد القصدير الصغير خاصتها والذي أدفأ ما بداخل مقطورة السيرك؛ وجدها ذكية جدا. بالطبع كان بإمكانها الحديث، وكلامها مفهوما كذلك. راقبها عن قرب مصارعا افتتانه بهذا المسخ الخاص بالطبيعة. كان يمكنها معرفة ذلك.

سألته “اعتقدت أن خطبتي سوف تكون غريبة ومثيرة للاشمئزاز كما وجهي، أليس كذلك؟”

لم يُجب.

شربت شايها بالطريقة الروسية، صابة إياه من الساموفار(1) إلى أكواب صغيرة، كانت الأكواب بلا مقابض. كانت تمتص مكعب سكر بين كل رشفة. وسرعان ما اكتشف أنها تعرف العديد من اللغات، لكن كما يبدو أنها لا تجيد التحدث بأي لغة منهم. من وقت لآخر كانت تتنقل من لغة لأخرى. لم يعد ثمة مدعاة للاندهاش، فقد نشأت منذ طفولتها المبكرة بالسيرك بجماعة عالمية مليئة بالأغراب، من كل نوع، فلا يوجد مثيلٌ لأحدهم بنفس المكان.

“أنا أعلم بماذا تفكر” ناظرة إليه بتلك الأعين الحيوانية الصغيرة المنتفخة. وبعد فترة من الصمت قالت “فأي شخص ليس لديه أم، ليس لديه أيضا لغة أم كذلك. أستخدم العديد من اللغات، لكن ولا واحدة منها تخصني”

لم يجد الجرأة للرد. على الرغم من كونه لا يعلم لماذا، فجأة بدأت تعصبه. كانت تقول ملاحظات لماحة. وحالها متماسكة ودقيقة على عكس ما كان يتوقعه منها. لذا حياها مودعا، ولدهشته أعطته يدها، لفتة نسائية للغاية، بإيماءة سيدة، في الواقع؛ يدها جميلة كانت. بدوره، انحنى نزولا إليها، لكن لم يمسها بشفتيه.

كان ما يزال يفكر بأمرها، بينما كان يستلقي على ظهره بسرير الفندق. تفرس قدما داخل العتمة، ظلمة الفندق المخيمة، هذا النوع من الظلمة والذي حذا بخياله أن ينبعث. استلقى هناك متسائلا عن كنه أن يصبح مثلها، عما يكون شعورها بداخلها، وكيف يبدو العالم عبر عيون مثل أعين الخنزير خاصتها، ماذا بشأن تنفسها الهواء عبر هذا الأنف، المشوه؟ هل تشتم حتى نفس الأشياء كما الأشخاص الطبيعيون؟ وشعورها بلمس جسد مثل هذا كل يوم أثناء الاغتسال؟ أو الحك؟ أثناء أداء كل هذه الأشياء الصغيرة المعتادة؟

لم يشعر بالأسى بمرة تجاهها أبدا. ولو كان قد تعاطف معها، لم يفكر أبدا في التقدم إليها.

اعتاد بعض الناس رواية هذه القصة كما لو كانت علاقة حب عابرة غير سعيدة، قائلين بأن قلبه توقف مباشرة بطريقة ما لدى رؤيتها، وقتما وقع بحب ملاكه الرقيق كاشفا ما بداخلها؛ رغم وجهها الكريه. ولكن لا، لم يكن تفكيره بشيء من هذا القبيل. ببساطة، بعد مقابلتها بهذه الليلة لم يتوقف عن التخيل بشأن كيف سيمارس الحب مع مخلوق مثل هذا؟ أن يُقبلها، ويعريها..

ظل يحوم حول السيرك بعدها عدة أسابيع. كان يغادر ثم يعاود مرة أخرى مجددا. إلى أن اكتسب ثقة المدير وتفاوض بشأن عقد للفرقة في مدينة برنو(2). وإلى هناك تبعهم، وبدأ أهل السيرك باعتباره فردا منهم. تركوه يبيع التذاكر، ولاحقا تولى الأمر عوضا عن سيدة تقديم السيرك السمينة، ويمكن القول أنه كان جيدا بهذا العمل، بقيامه بتحميس الجمهور قبل أن ترفع ستارة المسرح الرثة.

قال صارخا “اغمضوا أعينكم” وأتبع “خاصة السيدات والأطفال، لأن بشاعة هذا المخلوق تصعب على الأعين الحساسة تحملها. لا أحد قد رأى وحش الطبيعة هذا عاد قادرا أن يقع بالنوم بسلام من جديد. وفقد بعض الناس منهم إيمانهم بالخالق..”

دلى رأسه عند هذه اللحظة، بدا كما لو أنه ترك جملته غير مكتملة، على الرغم من كونها مفهومة؛ هو لم يكن يعلم ماذا يقال أيضا. هو أطلق كلمة “الخالق” لكن في ضوئها الملائم. نعم من الممكن لبعض الناس أن يفقدوا إيمانهم بهذا الخالق، بالنظر إلى تلك المرأة خلف الستارة، لكن بداخله أصبح مقتنعا بالعكس: فقد حدث، وأثبت الخالق وجوده باختياره سيدة التقديم خارجا، واهبا هذه الفرصة إليه. أقبح امرأة في العالم. سابقا قد تقاتل الأغبياء مع الحمقى، وقتلوا بعضهم لأجل السيدات الحسناوات. وكذلك وهب بعض من الحمقى ثرواتهم بهوى النساء. لكنه لم يكن مثلهم. فقد خطب وده أقبح امرأة كما حيوان أليف، حزين. كانت مختلفة عن كل السيدات الأخرى، حتى أنها وفرت له فرصا مالية عبر الاتفاق. سيوفر إذا ما جعلها زوجته. خاصة أنه كان لديه شيء لم يكن لدى كل الناس.

بدأ بشراء الورود لها -ليس بوكيهات خاصة- فقط باقات صغيرة رخيصة ملفوفة بالفويل بعقدة منديل ورقية سخيفة. أو كان يعطيها منديل عنق قطني، شريطا لامعا، أو علبة صغيرة من شوكلاتة اللوز. بعدها يشاهد، منوَّما، وهي تربط الشريط حول جبهتها، وعوضا عن كونها قطعة تزيين، تستحيل الربطة الملونة رعبا. يراقبها بينما تبتلع الشوكلاتات بلسانها المنتفخ، الزائد عن الطبيعي، مسببة لعابا بنيا بين أسنانها العريضة المتباعدة ويقطر نزولا إلى ذقنها المخشوشن.

كان يحب أن ينظر إليها وهي لا تعلم أنه يشاهدها. ينسل في الصباح ويختبئ خلف الخيمة أو المقطورة، ثم يتسلل كي يكمن أقرب ويشاهدها لساعات بوضع مناسب، حتى عبر الشقوق بالسياج الخشبي. كانت قد اعتادت أن تتشمس، وبينما تفعل تمضي وقتا طويلا بتمشيط شعرها المجعد ببطء، كما لو كانت بغيبوبة، تجدل إياه إلى ضفائر أرفع ثم على الفور تفكها من جديد. أو عوضا عن ذلك تصنع الكورشيه، والأبر بيدها تتلألأ بضوء الشمس وهي تطعن الهواء الصاخب للسيرك، أو بأيد عارية تغسل ملابسها بحوض الغسيل ، بقميص فضفاض. بحينئذ كان الجلد حول ذراعيها وأعلى صدرها مغطى بفراء شاحب. بدا جميلا. ناعما، كما لو كان لحيوان.

كان بحاجة إلى هذا التجسس، لأنه يوما بعد يوم بدأ اشمئزازه ينقص، يذوب في الشمس، يختفي مثل بركة بعد ظهيرة حارة. باتت تدريجيا عيناه تعتاد على عدم التماثل المؤلم لديها، على نسبها المكسورة، على كل قصورها وزياداتها. وأحيانا كان يظن أنها حتى تبدو طبيعية.

وكلما بدأ يشعر بعدم الارتياح، أخبرهم عن مضيه بعيدا في عمل ضروري، أن لديه اجتماع مع فلان أو علان، وربما ذكر اسما غريبا، أو على العكس اسما شهيرا. كان يبرم الصفقات، يجري المحادثات، يلمع الأحذية، يغسل قميصه المفضل، وينطلق بطريقه. لم يكن يبتعد كثيرا. من الممكن أن يتوقف بأقرب بلدة، ويسرق محفظة أحدهم، ويسكر. لكن رغم ذلك لم يكن أبدا متحررا عنها، لأنه عامة يبدأ في التحدث عنها. لم يستطع على بعدها، حتى خلال تلك المغامرات.

الشيء الأكثر غرابة كان، أنها أصبحت أثمن ممتلكاته. كان يدفع رغم قبحها لشرب النبيذ وقتما أراد، وأكثر من ذلك، كان يسامر فتاة جميلة بوصفه لوجهها القبيح، وفتاة أخرى التي أخبرته بأن يغرب للحديث عنها لاحقا، بهذه الأمسية، عندما كانوا متمددين حوله عاريتين.

عندما يعود، سوف يكون لديه دوما قصة جديدة حول قبحها جاهزة لقولها للجمهور، مدركا أن لا شيء يصبح واقعا حتى يكون لديه قصته الخاصة به. في البدء جعل فتاته تحفظها عن ظهر قلب، لكنه سرعان ما أدرك أن المرأة الأقبح لم تكن جيدة برواية القصص: تتحدث بملل، وتنفجر بالبكاء بنهايتها، لذا بدأ بروايتهم نيابة عنها. سيقف إلى جانب، مشيرا بيده نحوها، ويتابع حديثه “عاشت أم هذا الكائن غير المحظوظ الذي يظهر أمامكم، والذي رؤيته أبشع شيء يمكن لأعينكم البريئة أن تحتمله بقرية على حدود الغابة السوداء. وهناك، بيوم صيفي، وبينما كانت تقطف التوت من الغابة، تم مطاردة الأم بواسطة خنزير وحشي، والذي هاجمها بلوثة من الجنون والشهوة الفظة..”

بهذه اللحظة كان يسمع دون تقطع صرخات، مكتومة، مصعوقة من الرعب، وبدأت بعض النسوة ممن كن يرغبن بالفعل في المغادرة بجذب أكمام أزواجهن المتمنعين.

كان لديه العديد من النسخ:

“أتت هذه المرأة من أرض ملعونة من قبل الرب. من نسل سلالة شريرة، بلا قلب والتي لم تظهر رحمة إلى متسول مريض، ولأجل ذلك عاقب ربنا هذه القرية بأكملها بهذا القبح الوراثي الفظيع..”

أو “هذا هو المصير الذي يصيب أطفال النساء الساقطات. ها أنتم ترون ثمار داء الزهري، مرض رهيب، والذي يعاقب للنجاسة حتى الجيل الخامس!”

لم يشعر قط بالذنب. أي واحدة من هذه القصص من الممكن أن تكون صحيحة. لأن المرأة الأقبح أخبرته “كنت دوما هكذا. وجدوني بالسيرك وأنا رضيعة. ولا أحد يتذكر ما حدث قبلها”

عندما أتى موسمهما الأول معا لنهايته، وكان قد سافر السيرك بمنحنى كسول عودة إلى فيينا لأجل بياته الشتوي، حينئذ تقدم إليها. احمرت خجلا وارتعدت. ثم قالت بهدوء “حسنا!” وبرفق أراحت رأسها على ذراعه. كان بإمكانه شم عطرها. كان صابونيا وناعما. أبقى هذه اللحظة بعدها تراجع للوراء وبدأ بإخبارها بشأن خططه معا لحياتهما المستقبلية، ذاكرا كل الأماكن التي سوف يزورانها. وبينما كان يسير إلى الغرفة، أبقت عينيها مثبتة إليه، لكنها كانت حزينة وصامتة. في بالأخير تولت الحديث عنه وقالت أنها تفضل العكس تماما، بأن يقيما بمكان ناءٍ، ألا يضطرا للذهاب أبدا إلى أي مكان، أو رؤية أي شخص. إنها سوف تطبخ، وسوف يكون لديهما أطفال وحديقة.

“لن تكوني قادرة أبدا على التعامل مع ذلك” ورد ساخطا “لقد نشأتِ في السيرك. أنتِ تريدين، تحتاجين، إلى أن يتم النظر إليكِ. ستموتين دون نظر الناس إليكِ”

لم تجب.

تزوجا بالكريسماس، بكنيسة صغيرة ضئيلة. كاد الكاهن الذي أجرى بينهما المراسم أن يغمى عليه. كان صوته يرتجف وهو يتلو. كان الحضور أشخاصا من السيرك، أخبرها وقتها أنه ليس له عائلة، وأنه مثلها وحيد تماما في هذا العالم.

وبينما كان كل الموجودين ينعسون في كراسيهم، كانت كل الزجاجات فارغة وحان أوان الذهاب إلى الفراش (حتى إنها كانت تتعلق بكمه منتشية) ، أخبر الجمع بأن ينتظر، وأرسل لأجل المزيد من النبيذ. لم يكن بمقدوره السكر،رغم كونه يحاول قدر ما يمكنه الاستطاعة. لكن كان شيء بداخله متيقظا للغاية، مشدودا كما وتر. لم يكن بمقدوره أن يرخي أكتافه، أو يمدد ساقيه، لكن جلس وقتئذ حازما منتصبا، وجنتاه زاهيتان، وعيناه تلتمع.

همست بأذنه “حبيبي، هيا بنا نذهب” بيد أنه تعلق بحافة الطاولة كما لو ثبت بواسطة مسامير غير مرئية. افترض معظم الحضور الملاحظين أنه ببساطة خائف من أي حميمية معها، عاريا، خائف من العلاقة الحميمية الإلزامية بموثق إتفاقية ما بعد الزواج. هل كان هذا في الحقيقة؟

سألته بالظلمة “المس وجهي” لكنه لم يفعل. فقد رفع نفسه بعيدا عنها مباعدا بين يديه لذا كان كل ما يمكنه رؤيته بالظلام صورتها الظلية، أخف قليلا من الظلمة بباقي الغرفة، رقعة باهتة بلا أي ملامح جلية. ثم أغمض عينيه- لم يمكنها رؤية ذلك- وأخذها، مثل أي امرأة أخرى، بلا أي فكرة برأسه، كما اعتاد.

بدآ الموسم المقبل بمفرديهما. كان لديه بعض الصور التي التقطها لها، ووزعها بأنحاء العالم. أتت الحجوزات عبر التلغراف. أتى لديهما الكثير من العروض وسافرا على الدرجة الأولى. كانت دوما ترتدي قبعة بطرحة رمادية ثقيلة، ومن خلفها رأت روما، فينيسيا، الشانزليزيه. جلب لها فساتينا عديدة وبرم لها الكورسيه بنفسه، كي يتمكنا من المشي عبر الشوارع المزدحمة لمدن أوروبا، بديا كما زوجين آدميين مناسبين. على الرغم من ذلك، وخلال هذه الأوقات السعيدة، كان ما زال يضطر إلى الهرب من وقت إلى آخر. كان من هذا النوع من الرجال: الهارب الأبدي. فجأة تنتابه نوبة من الهلع، قلق مرضي لا يطاق. يبدأ بالتعرق والاختناق، بعدها يأخذ حفنة من المال، يجلب قبعته، يركض عبر السلالم، يجد نفسه قريبا، بانسياق واقعا بإحدى تلك الغطسات قرب الميناء. هنا وهنا فقط يسترخي، ووجهه يتراخى، وشعره يرفرف، والرقعة الصلعاء المختئبة دوما خلف شعره المسرح للخلف تبرز بوقاحة للجميع ليراها. سوف يجلس ويشرب بروية وفرح، تاركا نفسه طافيا إلى أن تسرقه بعض العاهرات المقيمات.

وفي المرة الأولى التي عايرته أقبح امرأة بشأن سلوكه، لكمها بمعدتها، لأنه إلى الآن كان لايزال خائفا من لمس وجهها.

لم يعد يروي قصصا عن الزهري أو الخنزير في الغابات كما كانا يمارسان روتينهما. فقد تسلم خطابا من بروفيسير للطب من فيينا، وأضحى يفضل تقديم زوجته بمنظور علمي:

“سيداتي، سادتي، لدينا هنا مسخ من الطبيعة، متحولة، خطأ للتطور، الحلقة الحقيقية المفقودة. عينات من هذه النوعية نادرة الحدوث. احتمالية أن يولد المرء هكذا ضئيلة كما احتمالية أن يضرب نيزك هذه البقعة بالذات بينما أنا أتحدث”

اعتادا بالطبع على زيارة بروفيسير الجامعة من وقت لآخر، وبالجامعة وقفا لالتقاط الصور معا. كانت جالسة، وهو واقف خلفها، ويده على كتفها.

ومرة، بينما كان يجرى قياسا للزوجة، طلب البروفيسير كلمة مع الزوج.

قال”أتساءل إذا ما كان تشوهها وراثيا؟” ثم “هل فكرت بشأن إنجاب الأطفال؟ هل جربت؟ هل زوجتك؟.. إممم.. هل أنت بالحقيقة قد……إممم………؟”

وبعد فترة ليست ببعيدة، ربما ليس كذلك على صلة بهذه الدردشة السرية، أخبرته أنها حامل. من هذه اللحظة انفصم الرجل. أراد لها الحصول على طفل فقط مثلها، ليمكنهم الحصول على المزيد من العقود، المزيد من الدعوات. لو كان بحاجة لزيادة فسوف يضمن الآن عيشة طويلة؛ حتى لو ماتت زوجته خلال هذا، ولم لا يكون كذلك مشهورا؟ ولكن بعدئذ فكر في حال إذا ما أتى الطفل وَحَشا، وكونه يفضل أن ينزعه من بطنها لحمايته من دمها المعيوب، المسمم عوضا عن رؤيته مقضي عليه بحياة كما حياتها. ورأى أحلاما، كان هو نفسه ذاك الابن في بطنها، مسجونا هناك، ملعونا بأن يُحب من سيدة مثل هذه، وبحبسه بداخلها، تخيل أنها تدريجيا تغير وجهه. أو حلم آخر كان ذاك الخنزير البري في الغابة، ويغتصب فتاة بريئة. واستيقظ غارقا بالعرق، وهو يرجوها بشأن الإجهاض.

أعطى مظهر بطنها الشجاعة للجمهور، وجعل من السهل لهم غفران قبحها الوحشي. بدأوا بطرح أسئلة، والتي أجابتها بخجل ومُسَالَمة، وبطريقة مقنعة. وبدأ المعارف الأقرب لهم بعقد المراهنات بخصوص الطفل، وعما إذا كان فتاة أو ولد. احتملت كل هذا بوداعة كما حَملْ. وبالمساء تحيك ملابسا للطفل.

قالت “تعلم؟” توقفت للحظة، مثبتة عينيها ببقعة بعيدة “الناس هشة للغاية، ووحيدون جدا. أشعر بالأسى حيالهم بينما هم جالسون أمامي، محدقون بوجهي. كما لو كانوا بحاجة لإلقاء نظرهم جيدا نحو شيء، ملء أنفسهم بشيء. أحيانا أعتقد أنهم يحسدونني. فعلى الأقل أنا شيء. إنهم يفتقرون إلى أي شيء استثنائي، لكونهم بحاجة لأي تميز يخصهم.”

جفل حينما قالت ذلك.

ليلا قد وُلَدت، بلا أي جلبة، بهدوء، كما حيوان. جاءت القابلة فقط لقطع الحبل السري. أعطاها قبلا حفنة من العملات، ليتأكد أنها لن تنشر عنها أي حكايات مبكرا. كان قلبه يطرق خارجه، أضاء كل اللمبات مرة واحدة، لكي يكون قادرا على إعطاء هذا الشيء نظرة دقيقة. كان الطفل بشعا، أسوأ بمراحل عن أمه. كان عليه أن يغلق عينيه ليمنع نفسه من التقيؤ. فقط وبوقت لاحق، أقنع ذاته بأن المولود الجديد كان فتاة، كما زعمت أمه.

ولذا هذا ما قد حدث: مضى إلى مدينة مظلمة، كانت فيينا، أو ربما كانت برلين. كان يتساقط ثلجا مبللا، وخفيفا. خطا حذائه بخفة فوق أحجار الرصيف. شعر بنفسه منقسما بداخله سعيدا من جديد، ولكن بائسا بنفس الوقت.

سَكَر، وبقى واعيا. حلم أحلام يقظة، وشعر بالخوف. بعد عدة أيام لاحقة عندما عاد، كان لديه بالفعل أفكار بشأن ارتباطاتهم الارتحالية الترويجية. كتب إلى البروفيسير، والذي رتب للمصور لأن يقدمْ، وسجل بيد ترتعد خلال الفلاش بعد وميض المغنيسيوم القباحة الوحشية لكلي المخلوقين.

واعتقد أنه بمجرد أن ينتهي الشتاء، وتزهر(3) الفورسيثيا، وتجف أحجار طرق المدن الكبيرة، بطرسبرغ، بوخارست، براغ، وارسو، أبعد من ذلك وأبعد على طول الخط إلى نيويورك وبوينس آيرس. وبمجرد أن تمتد السماء فوق سطح الأرض مثل شراع أزرق سماوي ضخم، فإن العالم بأسره سوف يسحر ببشاعة زوجته وابنته، وسوف يركع أمامهم على ركبتيه.

وعند هذه اللحظة وليس قَبْلها قبَّلها على وجهها لأول مرة على الإطلاق. ليس على الشفه، لا، لا.. بل فوق الحاجب. نظرت إليه بأعين صافية، بشرية تقريبا. ثم عاوده السؤال، السؤال الذي بمرة لم يستطع أن يسأله “من أنتِ؟ من أنتِ؟ من أنتِ؟” ظل يكرره لنفسه، فاشلا بملاحظة أنه بدأ بطرح أسئلة تخص الآخرين كذلك، حتى بشأن نفسه أمام المرآة وهو يحلق.

بدا الأمر كما لو اكتشف للتو سرا، أن كل إنسان متنكر، وأن الأوجه البشرية فقط أقنعة، وأن الحياة بأكملها(4) قاعة تنكرية كبيرة. كان أحيانا يتصور مخمورا- كونه لا يدع لنفسه المجال لهذا الهراء وهو ميتقظ- أنه ينزع الأقنعة، مع فرقعة رقيقة للورق الملصوق عندما يكشفه….ماذا؟ لم يكن يعلم. بدا متضايقا جدا لأنه لا يمكنه احتمال التواجد معها بالبيت أو مع الطفل. كان خائفا أنه بيوم ما بحال أن يستسلم لهذا الإغواء الغريب، ويبدأ محاولا بكشط القبح لوجهها. أن ينقب بأصابعه في شعرها وصولا إلى أطرافه الخفية، وحواف الجلد، وخطوط الغراء. لذا كان يتسلل خلسة للشراب، مفكرا بشأن ارتحالهم القادم، يصمم البوسترات، ويصيغ جديد التلغرفات.

لكن بأوائل الربيع أتى وباء الإنفلونزا الأسبانية الرهيب، ووقعت له الأم، والطفلة. تمددا لجوار بعضيهما في حمى، يتنفسان بصعوبة. وكانت الأم من وقت لآخر نابعا من غريزتها المرتعبة تحتضن الطفلة إليها، محاولة إطعامها بهذيانها، غير واعية بأنه لم تكن لديها قوة باقية لتمتص ثديها، وأنها كانت تموت. وعندما ماتت أخيرا، أخذها برفق، وأرقدها على طرف الفراش، وأشعل سيجارا.

بتلك الليلة عندما استعادت المرأة الأقبح وعيها، فقط لتبدأ نشيجها، ونحيبها بيأس. كان ذلك أكثر من احتماله، كان صوت الليل، صوت الظلمة، قادما من أسْوَد هاوية. غطى أذنيه، إلى أن جلب أخيرا قبعته وجرى، لكنه لم يمض بعيدا. تمشى ذهابا وإيابا بين نوافذ شقته حتى الصباح، وبهذه الطريقة قد ساعدها كذلك كي تموت. حدث هذا أسرع مما كان يتوقع.

أغلق على نفسه بغرفتهم، ونظر إلى الجثتين؛ وفجأة بديا ثقيلين، منهكين، جامدين. واندهش من قدركيف هبطت المرتبة أسفلهما. لم يكن لديه فكرة عما يفعل، لكنه لم يخبر أي أحد عدا البروفيسير. جلس يشرب مباشرة من الزجاجة مراقبا الشفق وهو يمحي هيئة الأشكال الراقدة فوق الفراش.

وعندما وصل البروفيسير والذي أتى لفحص ما بعد الوفاة توسل إليه بشكل متقطع “انقذهم”

رد لاذعا “هل جننت؟ لقد فارقا الحياة” بعدها أعطاه البروفيسير قطعة من الورق، وقع عليها الأرمل بيده اليمنى، وأخذ المال منه باليد اليسرى.

لكن لاحقا بهذا اليوم، قبل اختفائه بالميناء، ساعد البروفيسير بنقل الجسدين بعربة إلى العيادة الجامعية، حيث تم بأقرب وقت تحنطيهما سرا.

ولوقت طويل، تقريبا لعشرين عام. ظلا واقفين بالقبو الرطب للبناية، حتى أتت لهما أوقاتا أفضل، وخرجا، وذهبا للانضمام للمجموعة الرئيسية، إلى جانب الجماجم اليهودية، والسلافية، والرضع أصحاب الرأسين، والتوائم الملتصقة من كل عرق، ولون. ولا يزال من الممكن رؤيتهما لليوم في مخازن المتحف الباثولوجي- التشريحي. إمرأة مغطاة بالزجاج وابنتها، باقية مجمدة، بوضع لائق تماما، كما بقايا لسلالات جديدة غير ناجحة.



(1)الساموفار: دورق روسي لوضع الشاي.
(2) برنو: مدينة بجمهورية التشيك.
(3) الفورسيثيا: زهرة ربيعية وتنمو عادة على شكل شجيرات, تنمو عادة بين اثنين إلى ثلاثة أمتار وهي سهلة العناية.
(4) حفلة تنكرية: امتدت الحفلات التنكرية إلى الاحتفالات العامة بالملابس في إيطاليا خلال عصر النهضة في القرن السادس عشر. كانت رقصات متقنة بشكل عام لعضوات الطبقات العليا،وكانت شائعة بشكل خاص في البندقية. وقد ارتبطت بتقاليد كرنفال البندقية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى