إذا كان الأدب الواقعي، والواقعي الاشتراكينضال لغريبي - تونس - 1985 - 2017 وأدب الأبطال الإيجابيين والنهايات المظفرة السعيدة، قد انتشر في بلدان عدة، انتشار النضالات العمالية والسياسية، ليختفي خلال العقود الأخيرة من السنين، غير مأسوف عليه إلا من قلة من أصحاب الحنين، فإنه كان سائداً خلال عقود طويلة، وعلى الأقل منذ نهايات القرن التاسع عشر. غير انه لم يكن وحده في ميدان الأدب المناضل... بل كان مجاوراً لتيار بدا ذات حين أكثر منه تطرفاً، بل أدب كان ينظر إليه - هو نفسه - نظرته الى أدب مبرجز (من بورجوازي) لا يهتم بالكادحين كما يجب. وهذا الأدب الأخير كان له اسم في ادبيات ذلك الزمان، ربما كان منسياً في زماننا هذا. الاسم كان «الأدب البروليتاري»، علماً بأن البروليتاريا، لمن نسي هذا المصطلح، تعني الطبقات الكادحة في المجتمعات العمالية المتقدمة على الأقل، تلك الطبقات التي باسمها ثارت نضالات كثيرة واندلعت ثورات عاتية إنتصرت في بعض الأحيان لكنها انهزمت في معظمها، ووُعدت بأن تقوم لها ذات يوم لتحكم باسمها ودفاعاً عن مصالحها الإقتصادية والإجتماهية، ديكتاتورية هي ديكتاتورية البروليتاريا. هذا كله قد يبدو اليوم جزءاً من الماضي، بل جزءاً مما يمكن ان نسمّيه «رومانسية الماضي الذي لا يحب ان يمضي»، غير ان ثمة نصوصاً أدبية تنتمي إليه لا تزال حية حتى من دون ان تكون فاعلة. وهذه النصوص موجودة بوفرة، وعلى الأقل في أدبين أوروبيين كبيرين هما الأدب الإيطالي والأدب الفرنسي. وفي فرنسا خصوصاً لا يزال لمثل هذا الأدب أعلامه المرموقون ولا يزال له قراؤه. ومن بين هؤلاء الأعلام الكاتب هنري بولاي، الذي اشتهر خصوصا برواية ضخمة يقرب عدد صفحاتها من 400 صفحة، وتعتبر من نتاجات الأدب الشعبي الفرنسي. وهذه الرواية هي «خبزنا كفاف يومنا» التي صدرت في العام 1931، ثم عاد مؤلفها وأردفها بثلاث روايات أخرى، تشكل معها رباعية يقرب عدد صفحاتها من ألفي صفحة.
> تتحدث «خبزنا كفاف يومنا» بشكل خاص عن أوضاع الطبقة العاملة الكادحة (البروليتاريا العمالية الحقيقية) في باريس بدايات القرن العشرين. وهي تنطلق للحديث عن ذلك من بعض فصول السيرة الذاتية لهنري بولاي نفسه، حيث يلاحظ القراء المطلعون بسرعة، ما إن يقرأوا الفصول الأولى من الرواية، ويقارنون معظم ما يقرأون بما قد يكونون عارفينه من سيرة حياة الكاتب، ان هذا الأخير إنما يروي هنا مراحل كثيرة ومتشعبة من احداث حياته، ومسارات عيشه وحياة بيئته الاجتماعية... وبخاصة من منظور فوضوي - نقابي (تيمناً بتيارات سياسية يسارية كانت ذات شــــأن وقـــوة في تلك الأزمان)، لا يرى مجالاً لمسايرة حتى الأحزاب «البورجوازية» التي تنطـــق عادة باسم الطبقة العاملة، كالأحــــزاب الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية وما شابهها. ان الكاتب يموضع روايته هذه علــــى يســـار هذه التيارات جميعاً، مقدماً صورة فسيفسائية يومية تعيشها بروليتاريا لا تجد سـوى التضامن والتعاضد في ما بينها، رداً حتى على خيانة الأحزاب الناطقة باسمها لها.
> تدرو أحداث الرواية في باريس بداية القرن العشرين، كما أشرنا، وتحديداً في الدائرة الخامسة عشرة من العاصمة الفرنسية، تلك الدائرة التي كانت منطقة شعبية بائسة خلال تلك الحقبة، والتي امضى فيها هنري بولاي نفسه طفولته وصباه. إذاً، فالرواية هي قبل أي شيء آخر رواية عن طفولة الكاتب في ذلك الحين... لكنها ايضاً، وأكثر من هذا، رواية تؤرخ للحياة الصعبة التي تعيشها الطبقة العاملة هناك. فما هي المقومات الرئيسة لتلك الحياة؟ بكل بساطة واختصار، البؤس وعنف الإستغلال الطبقي. ولكن اسوأ من هذا أيضاً: العنف الذي يمارسه أبناء تلك الطبقة تجاه بعضهم البعض وقد أغرقهم الفقر وتناول المخدرات، في بؤس ويأس ما بعدهما بؤس ويأس. اما البيئة الأساس التي تدور فيها الأحداث فهي ورشات البناء التي كانت ناهضة، في تلك المنطقة مؤذنة بانبعاثها اجتماعياً بعد حين، والتي كان العمال ينكبون على العمل فيها، من دون ان تكون لهم أية حماية اجتماعية أو صحية، ما يعني ان حوادث العمل كانت شيئاً مألوفاً وعادياً، لا يتوانى عن إنتاج قتلاه وجرحاه ومشوهيه بصورة دائمة.
> غير ان ثمة من بين السكان والعمال من يسعى الى محاولة تجاوز بؤس اوضاعه آملاً ان يعيش حياة كريمة عمادها التعاضد في غياب أي عون سلطوي او خارجي وبالتالي حزبي. وهكذا مثلاً لدينا هنا عائلة لولو، حيث الأب نجار والأم تقشش الكراسي في البيت لحساب الآخرين... إننا هنا إزاء عائلة بسيطة تحاول ان تدبر عيشها اليومي بكرامة وأن تمنع أي كان من استغلالها. وتظل الأوضاع هكذا، حتى اليوم الذي يصاب فيه الأب بحادث في العمل، فلا يكون من رفاقه العمال إلا ان يسارعوا الى الالتفاف من حوله لدعمه في شكل يتجلى فيه حب الإنسان لأخيه الإنسان. إن الأب هذا نقابي - فوضوي (وهو الاسم الذي كان يطلق في الأدبيات الاشتراكية على نوع من المناضلين النقابيين المستقلين الذين كانوا يعرفون ايضا بـ»الفوضويين»، علماً بأن هذه الترجمة العربية المتخذة لكلمة anorchiates لا تفي تماماً بالغرض، حيث ان «الفوضويين» هؤلاء، وعلى غير اتساق مع المعنى المعهود للمصطلح العربي، يعرفون شيئاً من التنظيم النقابي ملموساً). المهم هو ان اصابة الأب والتفاف الرفاق من حوله توفر للكاتب، الذي كما قلنا يسترجع هنا ذكريات طفولته ويتحدث عن ابيه دون ريب، فرصة لوصف الحياة والنضالات اليومية التي تعيشها تلك الطبقة من الناس. وهنا لا يفوت الكاتب ان يرينا فئات أخرى من الاشتراكيين، خصوم الفوضويين - النقابيين، من دون ان يشيطن تلك الفئات، اذ انه يقدم إلينا كل هؤلاء المناضلين وهم يسعون، معاً وبالتنافس في ما بينهم، من أجل حياة افضل.
> ان هذا كله يجعل من هذه الرواية، من دون ادنى ريب، شهادة حية على زمن وعلى بيئة، ما يذكر الى حد ما ببعض اجمل روايات الأدب الطبيعي التي كتبها اميل زولا عند نهاية القرن التاسع عشر، بل ان نهاية «خبزنا كفاف يومنا» تبدو شديدة القرب، مثلاً، من إحدى اهم روايات زولا، أي «جرمينال» التي تصور حياة عمال المناجم في الشمال الفرنسي... مع فارق اساس يكمن في ان زولا يصف الأحداث من موقع المشاهد المتعاطف، إنما من الخارج، فيما من الواضح ان هنري بولاي يصف الأحداث من موقع الملتزم الشاهد المنخرط في النضال، على رغم طفولته، هو الذي كان في ذلك الحين - مثل بطله لولو- طفلاً في العاشرة من عمره تقريباً. والمقاربة مع «جرمينال» زولا تأتي من ناحية ان «خبزنا كفاف يومنا» ذات الأسلوب الحي والواضح، والصورة البانورامية لحركة مجتمع بأسره، إنما تختتم احداثها على موجة الإضرابات العمالية الصاخبة التي تلت، في فرنسا، كارثة مناجم «كوريار» التي حدثت في العام 1906، وأسفرت يومها عن سقوط ما لا يقل عن 1200 قتيل: اذ عند النهاية، وبعد سلسلة الإضرابات يعود العمال الى المبنى من دون ان يحققوا أي مكسب. مكسبهم الوحيد يكون في اكتشافهم بعضهم بعضاً، وفي عودتهم من نضالهم عالي الرؤوس آملين من المعارك المقبلة و»النضالات التي ستتواصل» ان تؤمن لهم الانتصار في ثورة «فوضوية نقابية»، عارمة.
> هنري بولاي الذي يكاد يكون نسياً منسياً في أيامنا هذه، كان خلال النصف الأول من القرن العشرين يعتبر المحتل الأول، وربما الوحيد، لبناء ادبي صارخ هو بناء الأدب البروليتاري الفرنسي. ومجده هذا كان بفضل «خبزنا كفاف يومنا»، ولكن ايضا بفضل الأجزاء الثلاثة الأخرى التي تؤلف في نهاية الأمر رباعية جديرة بالقراءة، حيث انه بعد الجزء الأول أصدر رواية «ملعونو الأرض» عن النضالات العمالية بين 1906 و1910، ثم «خبز الجنود» تليها «الهاربون» عن نضالات الجنود البائسين خلال الحرب العالمية الأولى، وبولاي الذي ولد في العام 1896، رحل عن عالمنا في العام 1980.
> تتحدث «خبزنا كفاف يومنا» بشكل خاص عن أوضاع الطبقة العاملة الكادحة (البروليتاريا العمالية الحقيقية) في باريس بدايات القرن العشرين. وهي تنطلق للحديث عن ذلك من بعض فصول السيرة الذاتية لهنري بولاي نفسه، حيث يلاحظ القراء المطلعون بسرعة، ما إن يقرأوا الفصول الأولى من الرواية، ويقارنون معظم ما يقرأون بما قد يكونون عارفينه من سيرة حياة الكاتب، ان هذا الأخير إنما يروي هنا مراحل كثيرة ومتشعبة من احداث حياته، ومسارات عيشه وحياة بيئته الاجتماعية... وبخاصة من منظور فوضوي - نقابي (تيمناً بتيارات سياسية يسارية كانت ذات شــــأن وقـــوة في تلك الأزمان)، لا يرى مجالاً لمسايرة حتى الأحزاب «البورجوازية» التي تنطـــق عادة باسم الطبقة العاملة، كالأحــــزاب الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية وما شابهها. ان الكاتب يموضع روايته هذه علــــى يســـار هذه التيارات جميعاً، مقدماً صورة فسيفسائية يومية تعيشها بروليتاريا لا تجد سـوى التضامن والتعاضد في ما بينها، رداً حتى على خيانة الأحزاب الناطقة باسمها لها.
> تدرو أحداث الرواية في باريس بداية القرن العشرين، كما أشرنا، وتحديداً في الدائرة الخامسة عشرة من العاصمة الفرنسية، تلك الدائرة التي كانت منطقة شعبية بائسة خلال تلك الحقبة، والتي امضى فيها هنري بولاي نفسه طفولته وصباه. إذاً، فالرواية هي قبل أي شيء آخر رواية عن طفولة الكاتب في ذلك الحين... لكنها ايضاً، وأكثر من هذا، رواية تؤرخ للحياة الصعبة التي تعيشها الطبقة العاملة هناك. فما هي المقومات الرئيسة لتلك الحياة؟ بكل بساطة واختصار، البؤس وعنف الإستغلال الطبقي. ولكن اسوأ من هذا أيضاً: العنف الذي يمارسه أبناء تلك الطبقة تجاه بعضهم البعض وقد أغرقهم الفقر وتناول المخدرات، في بؤس ويأس ما بعدهما بؤس ويأس. اما البيئة الأساس التي تدور فيها الأحداث فهي ورشات البناء التي كانت ناهضة، في تلك المنطقة مؤذنة بانبعاثها اجتماعياً بعد حين، والتي كان العمال ينكبون على العمل فيها، من دون ان تكون لهم أية حماية اجتماعية أو صحية، ما يعني ان حوادث العمل كانت شيئاً مألوفاً وعادياً، لا يتوانى عن إنتاج قتلاه وجرحاه ومشوهيه بصورة دائمة.
> غير ان ثمة من بين السكان والعمال من يسعى الى محاولة تجاوز بؤس اوضاعه آملاً ان يعيش حياة كريمة عمادها التعاضد في غياب أي عون سلطوي او خارجي وبالتالي حزبي. وهكذا مثلاً لدينا هنا عائلة لولو، حيث الأب نجار والأم تقشش الكراسي في البيت لحساب الآخرين... إننا هنا إزاء عائلة بسيطة تحاول ان تدبر عيشها اليومي بكرامة وأن تمنع أي كان من استغلالها. وتظل الأوضاع هكذا، حتى اليوم الذي يصاب فيه الأب بحادث في العمل، فلا يكون من رفاقه العمال إلا ان يسارعوا الى الالتفاف من حوله لدعمه في شكل يتجلى فيه حب الإنسان لأخيه الإنسان. إن الأب هذا نقابي - فوضوي (وهو الاسم الذي كان يطلق في الأدبيات الاشتراكية على نوع من المناضلين النقابيين المستقلين الذين كانوا يعرفون ايضا بـ»الفوضويين»، علماً بأن هذه الترجمة العربية المتخذة لكلمة anorchiates لا تفي تماماً بالغرض، حيث ان «الفوضويين» هؤلاء، وعلى غير اتساق مع المعنى المعهود للمصطلح العربي، يعرفون شيئاً من التنظيم النقابي ملموساً). المهم هو ان اصابة الأب والتفاف الرفاق من حوله توفر للكاتب، الذي كما قلنا يسترجع هنا ذكريات طفولته ويتحدث عن ابيه دون ريب، فرصة لوصف الحياة والنضالات اليومية التي تعيشها تلك الطبقة من الناس. وهنا لا يفوت الكاتب ان يرينا فئات أخرى من الاشتراكيين، خصوم الفوضويين - النقابيين، من دون ان يشيطن تلك الفئات، اذ انه يقدم إلينا كل هؤلاء المناضلين وهم يسعون، معاً وبالتنافس في ما بينهم، من أجل حياة افضل.
> ان هذا كله يجعل من هذه الرواية، من دون ادنى ريب، شهادة حية على زمن وعلى بيئة، ما يذكر الى حد ما ببعض اجمل روايات الأدب الطبيعي التي كتبها اميل زولا عند نهاية القرن التاسع عشر، بل ان نهاية «خبزنا كفاف يومنا» تبدو شديدة القرب، مثلاً، من إحدى اهم روايات زولا، أي «جرمينال» التي تصور حياة عمال المناجم في الشمال الفرنسي... مع فارق اساس يكمن في ان زولا يصف الأحداث من موقع المشاهد المتعاطف، إنما من الخارج، فيما من الواضح ان هنري بولاي يصف الأحداث من موقع الملتزم الشاهد المنخرط في النضال، على رغم طفولته، هو الذي كان في ذلك الحين - مثل بطله لولو- طفلاً في العاشرة من عمره تقريباً. والمقاربة مع «جرمينال» زولا تأتي من ناحية ان «خبزنا كفاف يومنا» ذات الأسلوب الحي والواضح، والصورة البانورامية لحركة مجتمع بأسره، إنما تختتم احداثها على موجة الإضرابات العمالية الصاخبة التي تلت، في فرنسا، كارثة مناجم «كوريار» التي حدثت في العام 1906، وأسفرت يومها عن سقوط ما لا يقل عن 1200 قتيل: اذ عند النهاية، وبعد سلسلة الإضرابات يعود العمال الى المبنى من دون ان يحققوا أي مكسب. مكسبهم الوحيد يكون في اكتشافهم بعضهم بعضاً، وفي عودتهم من نضالهم عالي الرؤوس آملين من المعارك المقبلة و»النضالات التي ستتواصل» ان تؤمن لهم الانتصار في ثورة «فوضوية نقابية»، عارمة.
> هنري بولاي الذي يكاد يكون نسياً منسياً في أيامنا هذه، كان خلال النصف الأول من القرن العشرين يعتبر المحتل الأول، وربما الوحيد، لبناء ادبي صارخ هو بناء الأدب البروليتاري الفرنسي. ومجده هذا كان بفضل «خبزنا كفاف يومنا»، ولكن ايضا بفضل الأجزاء الثلاثة الأخرى التي تؤلف في نهاية الأمر رباعية جديرة بالقراءة، حيث انه بعد الجزء الأول أصدر رواية «ملعونو الأرض» عن النضالات العمالية بين 1906 و1910، ثم «خبز الجنود» تليها «الهاربون» عن نضالات الجنود البائسين خلال الحرب العالمية الأولى، وبولاي الذي ولد في العام 1896، رحل عن عالمنا في العام 1980.
«خبزنا كفاف يومنا» لبولاي: على رغم الهزيمة
«خبزنا كفاف يومنا» لبولاي: على رغم الهزيمة
www.alhayat.com