رهام حبيب الله - تساؤلات حول ترجمة الأدب..

عملت الترجمة في شتى مجالات الفكر الإنساني على تأهيل الوعي الثقافي بإطلاق العنان للمعارف التي كانت اللغات إحدى قيودها، وقامت – بطريقة غير مباشرة – بإلغاء الملكية المطلقة لمعرفة ما، ونسبها للمجهود الإنساني الجمعي، ليتحول الجدل الآن عن أهمية الترجمة في التبادل الثقافي إلى جدل حول ترسيخ قيم الذات، وتحصين الخصوصية الثقافية التي تشكل الهوية لمجتمع ما.
تعد ترجمة الأدب أكثر خصوصية من غيرها، لأن القالب اللغوي هو المكون الجمالي الأساسي بها، ولأن النص العلمي مثلاً يود فقط إيصال فكرة، وبإمكاننا إستبدال مفرداته برموز رياضية لتسهل قراءتها أياً كانت لغة القارئ، أما الأدب فهو قائم على الطريقة التي تصل بها هذه الفكرة، وإذا ذهبنا أبعد من ذلك فربما النص الأدبي ليس مسؤلاً عن إيصال فكرة محددة وواضحة المعالم لكل قارئ، فهو فن بالأساس كما الموسيقى أو الرسم.
لعل مما يجدر ملاحظته أن أغلب مترجمي الأدب – إن لم يكن كلهم – هم كتّاب بالأساس. وخبرتهم في إنشاء قوالب لغوية جيدة هي ما جعلت ترجمتهم لنصوص غيرهم جيده أيضاً، وليس بعيداً عن ذاكرتنا ترجمة فيتزجيرالد لرباعيات عمر الخيام التي قال عنها النقاد أن خيام فيتزجيرالد هي قصيدة انجليزية بخيال فارسي، وأنه تدخل وشذّب وأبتكر، لكن كتابته تطالبنا بقراءتها على أنها فارسية قديمة، حتى كتب سوينبورن: “إن فيتزجيرالد أعطى عمر الخيام مكاناً خالداً بين شعراء الإنجليزية العظام.” ولكن ذلك يعد تغييراً لنص الخيام، فهل تغيير النص الأصلي جريمة أم هي مهمة الترجمة أصلاً؟!

أزمة المترجم
حتى سنوات قريبة، كان يُنظر للترجمة على أنها ظل لعمل فني، نقل مفردات إلى ما يقابلها من لغة أخرى، حيث يتم تقييم جودة العمل الجديد بمدى تطابقه واقترابه من العمل الأصلي، فيدور الحديث حول المفردة هذه، أو تلك، في الإنجليزية مثلاً، التي لا يوجد لها مقابلاً حرفياً في العربية، مما أضطر المترجم إلى ادخال جملة كاملة لتوضيح المعنى. ولم يبارح التقييم مضمار الثنائية المضللة: (الترجمة الحرفية مقابل الترجمة بتصرف)، ولذلك تعرض المترجمون لهجوم من القراء والكتّاب على حد سواء، متناسين تماماً أن النص أكثر من أحرف متراصة على ورقة، فمثلاً شلايمخر أتهم المترجم بالخيانة لأنه يقوم بجعل اللغة الأولى أجنبيه، واللغة الجديدة هي لغة النص. لكن لا تهدف الترجمة إلى المحاكاة الأمينة؛ فوالتر بنجامين في مقالته الشهيرة (وظيفة المترجم) يلغي ما يسمى بالأمانة العلمية في النص، ويؤكد أن الترجمة الجيدة هي التي تجمع اللغتين في أرضية مشتركة. لكن أليست جمالية النص تكمن في لغته؟ أوليس فهم النص يرتكز على بنائه اللغوي؟

بين الشكل والنواة
هناك ميل عند بعض اللسانيين لإنزال البنية السطحية – أي شكل الجملة الفعلي – منزلة قشرة أو غلاف، أي طبقه نامية يتعين إزالتها، أو اختراقها، أو نبذها لصالح النواة التي تدعمها، فقد وصفها تشومسكي بأنها مضللة وغير دالة على شيء، واصراره – الذي تم تعديله نوعاً ما – على أن البنية العميقة هي التي تحدد المعنى*، وكتب واردهوف مثلاً : “إن كل بنية سطحية يمكن أن تؤول بالإحالة على بنيتها العميقة فقط.” لكننا لا نستطيع التصريح بثقه أن الشكل السطحي لا أهمية له، وإلا قابلنا تيار البنيويين الشكلانيين بالمرصاد؛ فالشكل الخارجي، أي موضع كل مفردة في الجملة بالضبط، هو أهم منافذ المعنى. ربما هذا يعطي تفسيراً لصعوبة ترجمة الشعر مقارنة بأجناس الأدب الأخرى، آرثر شوبنهاور يقول تعليقاً على ذلك: “لا يمكن للشعر أن يترجم، ولكن يمكن إعادة كتابته، والذي هو في حد ذاته عمل محفوف بالمخاطر،” وبالمثل جون دريدان حين قال: “لا يوجد من يستطيع ترجمة الشعر،” ذلك لأن الشعر يعتمد في جوهره على الترتيب الدقيق والموسيقى اللسانية لكل مفردة. الترجمة نقلاً للمعنى والشكل معاً، ليس الشكل فقط، أي نقل/ مواءمة ثقافة إلى أخرى. لكن السؤال الجوهري هنا: إن كان الشكل يقود لفهم المعني، ألا يقود تغيير الشكل لفهم معنى مختلف لدى القارئ؟

هدم/ إعادة بناء
المترجم بالأساس هو قارئ. أولاً يقوم بعملية القراءة للنص بعين قارئ عادي، ثم لاحقاً ربما يعيد قراءته بعين متفحصة متتبعاً الاحتمالات اللغوية الممكنة لنقل النص، ما يحيلنا إلى جانب أخر وهو عملية القراءة. كل عملية للقراءة تتضمن عملية هدم للنص وإعادة بناء لنص جديدة، معاول الهدم والبناء كامنة في النص نفسه، لكن طريقة البناء تعود لذات القارئ، لذلك تختلف نتائج القراءة بين فردين للنص نفسه. عند إعادة القراءة ثم الترجمة يكون هناك سؤال إفتراضي هل النص الذي تمت ترجمته هو الأحرف المكتوبة فعلاً على الورقة، أم الناتج عن عملية قراءة المترجم؟ هل تتدخل ذاته في موضوع النص؟
لغات ميتة
كل اللغات في العالم تم تطويرها بتطور حياة مستخدميها، ربما يكون التغيير قد تم بإستبدال بعض المفردات بأخري أكثر إختصاراً وسرعة، أو ربما كان نتيجة لتأثر اللغة بلغات أخرى، لكن أياً يكن السبب فإن النصوص التراثية في لغة ما أصبحت عصية عن الفهم للناطقين باللغة من الجيل الحالي – الجيل الحالي الذي يشمل المترجم نفسه – إذاً إحدى فوائد الترجمة أنها حولت الكلاسيكيات من الأعمال وأعادت إحيائها بلغة أسهل وأقرب للقارئ المعاصر.
ماثيو آرنولد اختزل الأزمة من ناحية نظرية في استجابة القارئ للنص، مؤكداً في مقالته ( ترجمة هومر) أن قارئ هومر الأصلي لا يمكن أن يتفاعل مع نصوص هومر بنفس المستوى والطريقة التي يتفاعل بها القارئ المعاصر، أياً كانت لغة النص، ليس فقط لأن المفردات تغيرت، لكن لأن الثقافة أيضاً تغيرت، وبالتالي ذهنية القارئ التي تتفاعل مع النص. وهذا يحيلنا إلى تساؤل جديد: كيف بإمكان مترجم قرأ الأدب الحديث الذي هو مجموع لتأثيرات مئات النصوص بل الملايين منها التي أعقبت نصوص هومر أن يتمكن من ترجمتها اليوم؟، كيف بإمكان الذي قرأ منذ طفولته أدب أكثر تطوراً من حيث اللغة والتقنيات أن يعود ليترجم نصاً كلاسيكياً؟!، هل يتحتم على المترجم – الكاتب وليس القارئ فقط – بعد أن يقوم بتجريب تنويعات شكلانية وسايكولوجية عديده لصياغة نص ما بالتضحية بهذه التنويعات بل وتبرير إلغائها لصالح الأصل؟

الترجمة عن ترجمة
إن العديد من الترجمات إلى العربية هي لنص كتب بلغة ما ثم نقل منها إلى الإنجليزية أولاً، ليست الترجمة إلى الإنجليزية أسهل عنها من لغات أخرى، لكن لأن قرائها أكثر عدداً والاهتمام بالترجمة أعلى. ولكن بناء على ما سبق فإذا كل ترجمة هي إعادة كتابة فكم يتبقى من النص الأول بعد إعادة كتابته لمرتين أو ثلاثة، ربما الإجابة على هذا التساؤل سيضع يدنا على ما يعرف بالأسلوب، أو اللون المميز والخاص لكاتب ما، والذي يظهر عند قراءة أكثر من عمل أدبي له، وهو ما يميزه عن غيره من الكتاب، لأنه بالتأكيد هو ما سينجو من الترجمات وتغيير اللغة.

ختاماً
هذه بعض الأسئلة التى جعلت البحث عن إجابات لها مجال دراسات الترجمة أحد أهم مباحث الأدب الحديث، ويعتقد البعض أن الترجمة أصعب من كتابة النص الأصلي؛ فالكاتب الأول فضاءه مفتوح وعشوائي، أما المترجم عليه ترك كل الاحتمالات التي يراها الأفضل وينبذها لاختيار الأقرب للأصل، وإذا رضخنا للرأي القائل بأن الكتابة هي عملية تناص مع عدد لانهائي من النصوص، فربما علينا اعتبار عملية الترجمة هي تناص مع النص الأصلي. لكن لدى المترجم الجيد فإن النص الأصلي – والذي يراه كوحدة متكاملة وليست تفصيلات لغوية – لا يشكل الحدود العليا، بل الحدود الدنيا للاحتمالات اللغوية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* Noam Chomsky, Language and Mind (New York: Harcourt, Brace, and World, 1968).p.32

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى