مضي شهر تقريبًا وحضرة محمد أفندي عبد القوي يشعر بتوعك المزاج. آيته همود في الجسم وثقل في الدماغ ووهن ـ يشتد حينًا ويخف أحيانًا ـ في الساقين، وقد سكت عن حالته الطارئة طوال الشهر وهو يعللها بكثرة العمل تارة وبإدمان السهر تارة أخري، وفعلاً طلب إجازة قصيرة وكف عن السهر راجيًا أن تعود صحته إلي حالتها الطبيعية.. وانتظر علي هذا الرجاء أيامًا وما تزداد حالته إلا سوءًا حتي لم ير بدًا من استشارة طبيبب. وقال له الطبيب ـ بعد أن فحصه بدقة وعناية ـ إنه مصاب بضغط الدم وأشار عليه بالتزام الراحة أيامًا وبالاقتصار علي الطعام المسلوق والفواكه، والامتناع عن تناول اللحوم الحمراء وتعاطي الخمور ثم وصف له الدواء اللازم.
ورجع محمد أفندي من عيادة الطبيب خائفًا مذعورًا كثير الهم والفكر.. وقد يكون هذا ـ في ظاهره علي الأقل ـ غريبًا لأن الضغط لم يكن شديدًا، ولأنه من الأمراض التي يمكن تلافي خطرها بالعناية والحرص في اختيار الطعام والطعام والشراب، ولأن محمد أفندي شاب في الخامسة والثلاثين فلا ينذره الضغط بما ينذر به ذوي الستين أو السبعين. والأعجب من هذا كله أنه لم يكن غافلاً عن هذه الحقائق ولكنه في الواقع لم يخش المرض في ذاته قدر ما خشي التاريخ أعني تاريخ أسرته. فهو يذكر أن أباه أصيب بالضغط وهو في مثل عمره تقريبًا ويذكر أنه لم يقاومه طويلاً فساءت حالته وأصابه الشلل فقضي في عنفوان شبابه وقوته. ولم يكن موت أبيه في عنفوان شبابه حادثًا غريبًا في أسرته، فهكذا قضي جده من قبل ولم يجاوز الأربعين.. إن ذاكرته لا تحفظ له من حياة والده إلا آثارًا خفيفة لأنه توفي وهو ـ أي محمد ـ غلام صغير، ولكن صورة المرحوم المعلقة بحجرة الاستقبال أثر باق يشهد بالشبه العظيم بين الابن وأبيه، وإن الناظر إلي الصورة ليقتنع بهذه الحقيقة التي تدل علي أثر الوراثة.. فالجبهة المربعة والعينان العسليتان المستديرتان، والأنف الكبير المائل إلي الفطس، والفم العريض المغطي بالشارب الغليظ، والوجه الممتلئ والجسم البدين.. جميع هذه معالم مكررة بين صورة الراحل والشخص الحي كالأصل وصورته، وكأن صاحب الصورة هو محمد نفسه في ثياب بلدية.. الجبة والقفطان والعمامة..
يا له من شبه عجيب! ولم يكن غافلاً عنه ولكن خيل إليه عندئذ أنه يفطن إليه لأول مرة في حياته أو أنه اكتشف فيه مغزي كان عنه خافيًا..
ولا مراء في أن الشبه بينهما لم يقف عند حد الشكل فطالما سمع والدته تنوه بأوجه الاتفاق بينه وبين أبيه في الخلق والطبع في المناسبات المختلفة.
فكان إذا احتد وغضب لأتفه الأسباب تنهدت وقالت: «رحم الله أباك.. ليته أورثك غير هذا الطبع طبعًا هادئًا».. أو إذا جلس إلي الحاكي ينصت في انتباه ويهز رأسه في طرب قالت وهي تبتسم له: «ابن حلال يا بني..» أو إذا رجع إلي البيت بعد منتصف الليل بعد منتصف الليل ثملاً مترنحًا استقبلته قلقة حزينة وتصيح به وهي تغالب دموعها «إن جرح قلبي لم يندمل.. فلا تفجعني فيك كما فجعت في والدك من قبل..».
فهو صورة صادقة لوالده في شكله وخلقه وطبعه وها هو ذا يرث عنه مرضه.. فلم لا تكون نهايته كنهايته؟
واأسفاه! إن هذه الأسرة مقضي عليها بالدمار فقد قضي جده شابًا، وقضي مثله والده، فليس إذًا هذا المرض من المصادفات المحزنة.. ولكنه بداية النهاية، وما هو إلا معيد تمثيل الدور القصير الذي قام به من قبل المرحوم والده، وقام به قبله جده، وما مرضه هذا إلا سبب تعتل به الطبيعة عليه لتنفذ قضاءها المحتوم من شجرة أسرته البائسة المقضي عليها بالذبول والجفاف في إبان ربيعها.
وجعل يردد فيما بينه وبين نفسه: «الشكل واحد والخلق واحد والسيرة واحدة والمرض واحد فالنهاية واحدة دون ريب»، وتشبث وجدانه بهذه الأفكار فقويت عقيدة الموت في نفسه وملأت شعوره فتمثلت له حقيقة لا تتزحزح، واستسلم لها استسلامًا تامًا حتي أشفي علي القنوط، وبات ينتظر القضاء المحتوم الذي يراه قريبًا.. بل أدني إليه من مخاوفه.
إننا جميعًا نعلم أننا سائرون إلي الموت ولكنا لا نذكر هذه الحقيقة إلا حين حوادث الوفاة أو لدي زيارة المقابر وفي الساعات النادرة التي نستسلم فيها للتأمل.. وفيما عدا ذلك فجلبة الحياة تغمر عادة سكون الموت، وحرارة الأمل تقصي عن أفكارنا برودة الفناء. أما الآن وقد ضرب له شعوره ومنطقه موعدًا قريبًا للموت فقد ولي وجهه هذا الأفق القريب لا يحول عنه، وجعل يديم إليه النظر في استسلام وحزن ويأس.
وعجب في أحزانه لمن يقول إن الموت راحة، ولم يفقه لها من معني إلا أن تكون تململاً وضيقًا بمتاعب الحياة، ولكن ما هذه المتاعب بجانب ظلمة الموت ووحشة القبر؟
الموت ياله من حقيقة مخيفة.. لم يشعر بهولها من قبل.. تري ما هو هذا اللغز الغامض؟ وما كنهه؟ وما حقيقة الروح التي ستفارقه بعد زمن يسير وتصعد إلي بارئها؟ وذكر عند ذاك الآية الكريمة «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً» أما هو فلم يأت من العلم كثيرًا ولا قليلاً، وحسبه أن يعلم أن الروح ـ وهي منبع حياته ووجدانه وأفكاره ـ ستهجر جسده البائس آخذة معها كل جميل حي غير تاركة خلفها إلا أثرًا جامدًا.. أو جثة كما يقولون.. فواأسفاه!
ودلف إلي المرآة وألقي علي وجهه نظرة ملؤها الأسف والحزن.. وتأمل صورته طويلاً، وجعل يقبض كفيه ويبسطهما.. كم هو ممتلئ صحة وعافية وشبابًا! سينضب معين هذا كله.. ويجف غصنه الرطيب.. وتغيض معاني اليقظة في عينيه.. ويمسي جثة.. ممزقة.. نتنة.. قذرة.. ترعاها الديدان.. ما أفظع هذا!
والأدهي من ذلك أنه لم يشبع من الدنيا وأحس في تلك اللحظة كأنه لم يبدأ رحلة حياته بعد، وود من أعماقه لو تتاح له فرصة فيعيد الكرة، ليعيش حياة الطفولة السعيدة مرة أخري ويعيد عهد الصبا وينقلب إلي الشباب عمرًا مديدًا، ولا يترك الدنيا إلا وقد شبع من مسراتها وتزود من خيراتها.
كلا إنه لم يشبع من الدنيا ولم يتمتع بحياته كما ينبغي له.. وإنه ليسأل نفسه وسط حزنه وأسفه وبأسه: «ماذا صنعت بحياتي؟» فيعييه الجواب كأنه ولد بالأمس القريب، ثم يزول عنه الإعياء والعجز فتأتيه الذكريات تباعًا، خفافًا وثقالاً، فلا يكاد يظفر فيها بما يجوز أن يعده من السعادة الصافية التي تطيب بها الدنيا وترجي لها الآخرة.. أما ما ينغص الطمأنينة وينتزع آهات الحسرة والأسف فكثير لا يحصي، وما يتبقي من الوقت ما يتيح الفرصة لإصلاح فاسده والتكفير عن سيئه..
ورجع محمد أفندي من عيادة الطبيب خائفًا مذعورًا كثير الهم والفكر.. وقد يكون هذا ـ في ظاهره علي الأقل ـ غريبًا لأن الضغط لم يكن شديدًا، ولأنه من الأمراض التي يمكن تلافي خطرها بالعناية والحرص في اختيار الطعام والطعام والشراب، ولأن محمد أفندي شاب في الخامسة والثلاثين فلا ينذره الضغط بما ينذر به ذوي الستين أو السبعين. والأعجب من هذا كله أنه لم يكن غافلاً عن هذه الحقائق ولكنه في الواقع لم يخش المرض في ذاته قدر ما خشي التاريخ أعني تاريخ أسرته. فهو يذكر أن أباه أصيب بالضغط وهو في مثل عمره تقريبًا ويذكر أنه لم يقاومه طويلاً فساءت حالته وأصابه الشلل فقضي في عنفوان شبابه وقوته. ولم يكن موت أبيه في عنفوان شبابه حادثًا غريبًا في أسرته، فهكذا قضي جده من قبل ولم يجاوز الأربعين.. إن ذاكرته لا تحفظ له من حياة والده إلا آثارًا خفيفة لأنه توفي وهو ـ أي محمد ـ غلام صغير، ولكن صورة المرحوم المعلقة بحجرة الاستقبال أثر باق يشهد بالشبه العظيم بين الابن وأبيه، وإن الناظر إلي الصورة ليقتنع بهذه الحقيقة التي تدل علي أثر الوراثة.. فالجبهة المربعة والعينان العسليتان المستديرتان، والأنف الكبير المائل إلي الفطس، والفم العريض المغطي بالشارب الغليظ، والوجه الممتلئ والجسم البدين.. جميع هذه معالم مكررة بين صورة الراحل والشخص الحي كالأصل وصورته، وكأن صاحب الصورة هو محمد نفسه في ثياب بلدية.. الجبة والقفطان والعمامة..
يا له من شبه عجيب! ولم يكن غافلاً عنه ولكن خيل إليه عندئذ أنه يفطن إليه لأول مرة في حياته أو أنه اكتشف فيه مغزي كان عنه خافيًا..
ولا مراء في أن الشبه بينهما لم يقف عند حد الشكل فطالما سمع والدته تنوه بأوجه الاتفاق بينه وبين أبيه في الخلق والطبع في المناسبات المختلفة.
فكان إذا احتد وغضب لأتفه الأسباب تنهدت وقالت: «رحم الله أباك.. ليته أورثك غير هذا الطبع طبعًا هادئًا».. أو إذا جلس إلي الحاكي ينصت في انتباه ويهز رأسه في طرب قالت وهي تبتسم له: «ابن حلال يا بني..» أو إذا رجع إلي البيت بعد منتصف الليل بعد منتصف الليل ثملاً مترنحًا استقبلته قلقة حزينة وتصيح به وهي تغالب دموعها «إن جرح قلبي لم يندمل.. فلا تفجعني فيك كما فجعت في والدك من قبل..».
فهو صورة صادقة لوالده في شكله وخلقه وطبعه وها هو ذا يرث عنه مرضه.. فلم لا تكون نهايته كنهايته؟
واأسفاه! إن هذه الأسرة مقضي عليها بالدمار فقد قضي جده شابًا، وقضي مثله والده، فليس إذًا هذا المرض من المصادفات المحزنة.. ولكنه بداية النهاية، وما هو إلا معيد تمثيل الدور القصير الذي قام به من قبل المرحوم والده، وقام به قبله جده، وما مرضه هذا إلا سبب تعتل به الطبيعة عليه لتنفذ قضاءها المحتوم من شجرة أسرته البائسة المقضي عليها بالذبول والجفاف في إبان ربيعها.
وجعل يردد فيما بينه وبين نفسه: «الشكل واحد والخلق واحد والسيرة واحدة والمرض واحد فالنهاية واحدة دون ريب»، وتشبث وجدانه بهذه الأفكار فقويت عقيدة الموت في نفسه وملأت شعوره فتمثلت له حقيقة لا تتزحزح، واستسلم لها استسلامًا تامًا حتي أشفي علي القنوط، وبات ينتظر القضاء المحتوم الذي يراه قريبًا.. بل أدني إليه من مخاوفه.
إننا جميعًا نعلم أننا سائرون إلي الموت ولكنا لا نذكر هذه الحقيقة إلا حين حوادث الوفاة أو لدي زيارة المقابر وفي الساعات النادرة التي نستسلم فيها للتأمل.. وفيما عدا ذلك فجلبة الحياة تغمر عادة سكون الموت، وحرارة الأمل تقصي عن أفكارنا برودة الفناء. أما الآن وقد ضرب له شعوره ومنطقه موعدًا قريبًا للموت فقد ولي وجهه هذا الأفق القريب لا يحول عنه، وجعل يديم إليه النظر في استسلام وحزن ويأس.
وعجب في أحزانه لمن يقول إن الموت راحة، ولم يفقه لها من معني إلا أن تكون تململاً وضيقًا بمتاعب الحياة، ولكن ما هذه المتاعب بجانب ظلمة الموت ووحشة القبر؟
الموت ياله من حقيقة مخيفة.. لم يشعر بهولها من قبل.. تري ما هو هذا اللغز الغامض؟ وما كنهه؟ وما حقيقة الروح التي ستفارقه بعد زمن يسير وتصعد إلي بارئها؟ وذكر عند ذاك الآية الكريمة «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً» أما هو فلم يأت من العلم كثيرًا ولا قليلاً، وحسبه أن يعلم أن الروح ـ وهي منبع حياته ووجدانه وأفكاره ـ ستهجر جسده البائس آخذة معها كل جميل حي غير تاركة خلفها إلا أثرًا جامدًا.. أو جثة كما يقولون.. فواأسفاه!
ودلف إلي المرآة وألقي علي وجهه نظرة ملؤها الأسف والحزن.. وتأمل صورته طويلاً، وجعل يقبض كفيه ويبسطهما.. كم هو ممتلئ صحة وعافية وشبابًا! سينضب معين هذا كله.. ويجف غصنه الرطيب.. وتغيض معاني اليقظة في عينيه.. ويمسي جثة.. ممزقة.. نتنة.. قذرة.. ترعاها الديدان.. ما أفظع هذا!
والأدهي من ذلك أنه لم يشبع من الدنيا وأحس في تلك اللحظة كأنه لم يبدأ رحلة حياته بعد، وود من أعماقه لو تتاح له فرصة فيعيد الكرة، ليعيش حياة الطفولة السعيدة مرة أخري ويعيد عهد الصبا وينقلب إلي الشباب عمرًا مديدًا، ولا يترك الدنيا إلا وقد شبع من مسراتها وتزود من خيراتها.
كلا إنه لم يشبع من الدنيا ولم يتمتع بحياته كما ينبغي له.. وإنه ليسأل نفسه وسط حزنه وأسفه وبأسه: «ماذا صنعت بحياتي؟» فيعييه الجواب كأنه ولد بالأمس القريب، ثم يزول عنه الإعياء والعجز فتأتيه الذكريات تباعًا، خفافًا وثقالاً، فلا يكاد يظفر فيها بما يجوز أن يعده من السعادة الصافية التي تطيب بها الدنيا وترجي لها الآخرة.. أما ما ينغص الطمأنينة وينتزع آهات الحسرة والأسف فكثير لا يحصي، وما يتبقي من الوقت ما يتيح الفرصة لإصلاح فاسده والتكفير عن سيئه..