محمد تركي الربيعو - الحرب العالمية الأولى والجنود المسلمون: حكايا منسية وذاكرة منحازة

■ قبل أيام من الآن، حلت الذكرى السنوية المئة وواحد لنهاية الحرب العالمية الأولى؛ ففي نهار الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1918 أعلن أن العدو الألماني وحلفاءه عاجزون عن قبول المعركة، أو رفضها على حد سواء، وفق تعبير أحد المارشالات البريطانية، وهو ما كان يعني في علم المعارك خسارة الحرب.
وبهذه المناسبة، أعاد بعض الباحثين والصحافيين تداول تقرير نشرته «بي بي سي» العام الفائت عن هذه الذكرى؛ فرغم مرور كل تلك الفترة، ما تزال سرديات ويوميات الجنود تظهر بشكل متتالٍ، فاسحة لنا مصدراً جديداً لدراسة تلك الفترة وجوانبها، وكيف وصف المقاتلون العاديون يومياتهم ورؤيتهم للحرب وأخلاقياتها، وتأثير دخول أنواع جديدة من السلاح على سير المعارك، وعلى رؤيتهم لمفهوم قتل العدو، والاعتراف بذلك من عدمه. تقرير «بي بي سي» أشار إلى جانب آخر يتعلق بيوميات الجنود المسلمين المنسية في رواية الحرب العالمية الأولى، وبالأخص رواية اليمين المتطرف المسيحي، الذي يرى أن الإسلام لم يقدم أي شيء يذكر خلال هذه الحرب، سوى التحالف مع الألمان «أعداء» القيم الأوروبية. ووفقا لما ذكره التقرير، فإن الوثائق الجديدة تكشف لنا مشاركة ما يقارب الأربعة ملايين مسلم، إما قاتلوا أو خدموا خلال الحرب، من بينهم 1.5 مليون هندي قاتلوا للدفاع عن بريطانيا.
بعض الباحثين في هذا المجال فسروا إهمال دور هؤلاء الجنود بكون رواية الحرب بقيت تتمركز حول أوروبا، في حين هناك من يربط هذا الغياب أيضا بالتواريخ القومية، التي ظلت في سياق «آلياتها الدفاعية»، وفق تعبير عابد الجابري، تسلط الضوء على فترات معينة، تراها ممثلة لأمجاد الأمة، بينما غرقت أحداث أخرى في النسيان، ومن بينها مشاركة الجنود المسلمين في الحرب العالمية الأولى، كون غالبية هذه البلدان كانت خاضعة للاستعمار، كما وجد ذلك الباحث المغربي إدريس مغرواي في دراسته المهمة «الجنود المغربيون في الجيش الاستعماري.. بين الذاكرة الانتقائية والذاكرة الجمعية»، اذ يرى مغراوي أن مؤرخين مغاربة كبارا كالعروي، درسوا مسألة التجنيد في تاريخ المغرب المعاصر، لكن ما غاب في رواياتهم هو النظر إلى الجنود المغاربة في الجيش الفرنسي كأناس حقيقيين ممثلين في التاريخ. فمع توسع فرنسا الاستعماري، لم تعد قادرة في الاعتماد فحسب على سكانها للشروع في حملات عسكرية، ولذلك كانت عملية تجنيد الرجال من مختلف المجموعات العرقية والتقليدية، غدت تقليداً في الجيش الفرنسي. ومع إعلان الحرب عام 1914 قرر الجنرال ليوتي إرسال خمس كتائب من المغاربة إلى الجبهة الجنوبية. ومن مجموع 5000 جندي قاتلوا في معركة المارن، بقي على قيد الحياة منهم 700 جندي فقط.
كما تم تشكيل كتائب جديدة، وشاركت قوات المشاة المغربية المعروفة باسم «المغربيون ذوو الشعر» لكثافة شعرهم في حرب الخنادق في معركتي لامارن وايسن في سواسون في يناير/كانون الثاني 1915 وفي فردان 1916 في قرية برويل على الطريق بين باريس وسولسون. وقد عادت فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى لتعتمد عليهم مرة ثانية في الحرب العالمية الثانية، حيث بلغت عدد القوات المغربية المشاركة ما يقارب الـ90 ألف جندي في مختلف الوحدات.
وبالعودة إلى تقرير «بي بي سي»، يرى بعض الباحثين أن إعادة الكشف عن دور الجنود المسلمين في الحرب قد تساهم في الحد من حالة الرهاب من الإسلام في أوروبا اليوم، عبر إظهار دور أجداد المسلمين اليوم في الدفاع عن أوروبا وأمنها، وهي فكرة قد تبدو وجيهة، خاصة على صعيد خلق رواية وصور مشتركة بين المسلمين والأوروبيين، مع ذلك، فان ما يلفت النظر في هذه الجهود، أو ربما في تقرير «بي بي سي» هو التركيز على دور الجنود المسلمين الذين شاركوا إلى جانب القوات البريطانية، في حين لا نعثر على أي استفسار حول يوميات الجنود الذين قاتلوا في الجبهة والخنادق الأخرى، إلى جانب ألمانيا والدولة العثمانية، وهي مفارقة قد تعكس صورة أخرى من صور استمرار سيادة السرديات المنقوصة عن هذه الحرب. وفي حين هناك من يربط هذا النسيان بغياب محاولات توثيق كافية من قبل الجنود ليومياتهم في خنادق الأعداء، يرى صموئيل هاينز مؤلف كتاب «حكاية الجند: الحرب والذاكرة والمذكرات في القرن العشرين» أنه قد يعود لاختلاف طبيعة المعارك والأماكن، حتى لو أن الجنود قاتلوا إلى الجانب ذاته (بريطانيا)؛ فبالنسبة للغالبية العظمى، بقيت حكاية الجند تعني قصة السنوات الأربع من القتال على طول شريط ضيق من الأرض، يمتد عبر شمال فرنسا من القناة إلى الحدود السويسرية، بينما نظر للمعارك في غاليبولي، وسالونيكا، وبلاد الرافدين وفلسطين، وسوريا بوصفها «عروضا جانبية» بالقياس إلى الصراع الرئيسي؛ ورغم أن هاينز لا يخفي أن وصف هذه المعارك بالجانبية، وبالتالي عدم توثيقها يعكس تمركزا أوروبيا في رواية الحرب، مع ذلك يعتقد أنها قد تحمل جانباً من الحقيقة. ولتبيان وجهة نظره هذه يعقد مقارنة لامعة بين طبيعة المعارك في أوروبا ومثيلاتها في سوريا في تلك الفترة. فحرب الخنادق المديدة في أوروبا كانت نموذجا للحرب الحديثة، بوصفها دماراً شاملاً، ولا شي إلا إبادة الرجال؛ في حين لو قارنا ذلك بحروب لورانس العرب التي خاضها إلى جانب «دراويش فيصل»، وفق وصف المؤرخ البريطاني جيمس بار يجعلنا ننسى بسهولة أنه خرج من الحرب العالمية نفسها. فالمعارك التي خاضوها كانت في طورها الدرامي حروباً فروسية، خاضوها عبر صحارى مفتوحة، وبدون استعانة كبيرة بأسلحة الحرب الحديثة القوية، التي كانت تفتك على الجانب الآخر بأجساد الجنود والجثث في الخنادق الضيقة الأوروبية. وكان الجنود شأن العديد من الرجال في أوروبا يقاتلون من أجل قضية، مع فارق أنهم يقاتلون إذا راق لهم القتال، ويتركون إذا فقدوا القناعة.

في السياق ذاته يرى هاينز أنه قد يكون هناك سبب آخر غير مباشر لهذا التهميش يعود لدور الطبقة الوسطى الأوروبية في توثيق يوميات الجنود. فقبل الحرب العالمية الأولى كان الجيش البريطاني يتكون من نخب أرستقراطية، وكانت الحرب ضمن التقليد القديم مهنة للرجال المهذبين، ولذلك فقد كانت نظرتهم للحرب في السنة الأولى ذات طابع رومانسي؛ فالمشاركة كانت تعني لهم شيئا من النبالة التي اعتزت بها الأرستقراطية في دورها التقليدي بوصفها طبقة محاربي الأمة، وبينما كانوا يتساقطون، كانت تلك الطبقة تموت هي الأخرى، إذ نعثر مثلاً على أربعة شبان من عائلة مرموقة واحدة، يلقون حتفهم في العام الأول من الحرب فكانوا علامات دالة على الطبقة التي يمثلونها، ما لم يتح لهذه الطبقة كتابة مذكراتهم بشكل كبير.
أما الجيش الجديد الذي جاء بعدهم فقد كان مختلفا. كان تجمعاً كبيراً من الشباب الذين تخرجوا من المدارس أو الجامعات؛ وهؤلاء سيقودون الوحدات الصغيرة، ثم يكتبون مذكراتهم بعد الحرب؛ هناك في الخنادق لم تكن الشجاعة هي التي سيختبرونها وسيكتبون عنها فقط، بل أيضا الواقع الصعب الذي دفعهم لتحمل جزء كبير من يوميات الحرب، ولاختبار الخوف وتطور تقنيات المعارك. كان هاينز في عام 1996 قد أنهى تأليف كتابه، ورغم عدم عثوره على روايات أخرى عن يوميات الجنود المسلمين في الحرب، غير تلك الموجودة في المعارك الجانبية، مع ذلك بقي يدعو لضرورة دمجها في الذاكرة الأوروبية عن الحرب الأولى.
لم تكن معارك جانبية ..
العثور على نوري ياموت
رغم هذا الاعتراف الجزئي بدور الجنود المسلمين في الحرب الأولى، بقي نسيان هذه اليوميات هو السائد (وبالأخص يوميات المشاركين إلى جانب ألمانيا)؛ لكن بعد عشر سنوات من تأليف هذا الكتاب، كان المؤرخ البريطاني يوجين روغان في عام 2005 يقوم بزيارته الأولى لقبر شقيق جده العريف جون مكدونالد الأسكتلندي الذي قتل في معركة غاليبولي عام 1915. وفي أثناء بحثه عن القبر، أخطأ في أحد المنعطفات داخل المقبرة فوجد نفسه أمام نصب نوري ياموت، الذي يخلد القتلى الأتراك في المعركة ذاتها التي قتل فيه جده.
فمع أن وحدة جده كانت قد فقدت 1400 رجلاً وخسر البريطانيون 3800 رجلاً، فإن خسائر العثمانيين بلغت يومها 14 ألف رجل. سيغادر روغان المقبرة مصدوماً كما يخبرنا لاحقاً في مقدمة كتابه «سقوط العثمانيين»، ليقرر بعدها بأيام خوض رحلة البحث في يوميات الجنود العثمانيين المنسية في الحرب العالمية الأولى، داخل الأرشيف العثماني. لن يقتصر جهده على هذا الشأن، وإنما سيصل لاحقاً بعد اطلاعه على عدد من مذكرات الجنود والأطباء، الذين عاشوا تلك الفترة من أن المعارك التي خاضها العثمانيون لم تكن مجرد عرض جانبي لمسارح الحرب الرئيسية في أوروبا، بل خاضوا معارك مؤلمة ومشرفة أحيانا رغم هزيمتهم في النهاية، كما أن طبيعة المعارك لم تكن رومانسية وفق تعبير هاينز، بل كان فكرة إبادة الرجال هي الجاثمة على يوميات المعارك؛ فكرة الإبادة هذه رغم بشاعتها هو ما نعثر عليه مثلا في يوميات طبيب البعثة الأمريكية إدوارد كيس في شتاء عام 1915 في أرضروم، حيث وصف ما شهده في أحد الأيام «زاد عدد الموتى إلى حد أجبر السلطات على حظر دفنهم في النهار، وفي الليل حملت العربات أكداسا منهم عرايا إلى الخنادق، بعد أن نزعت عنهم ملابسهم، لتقوم لاحقا بردم التراب فوقهم .. كان المشهد مرعبا».. وما أقرب اليوم بالأمس في الشرق الأوسط الدامي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى