رالف باربي - امبراطورية ري - افاراكس، تعريب حسين نهابة.. الفصل الأول

كان الحزن يخيّم ذلك اليوم على المعسكر القائم عند طرف الغابة. حتى مورسيا كامبل الشابة الباسمة - اصغر طاقم الاستكشاف سناً - كانت تقبع صامتة. كانت تجلس على حافة احدى الصخور حاجبة اساريرها الجميلة بين راحتيها بعناد، غارقة في افكار بعيدة. كان الرجال والنساء ينتشرون بتراخ حول خيام المعسكر، جالسين تحت ظلال الاشجار الباردة التي كانت تنمو على حافة المرج.

ثمة موقد غازي كان يشتعل وفي وسط المخيم. صفرت آنية القهوة الكبيرة الموضوعة على النار، لكن احداً لم يتحرك ليرفعها.

كان يشل اعضاء الحملة الاستكشافية خمول وقنوط عميقين حتى ليُعتقد بأنهم كانوا ينتظرون الموت بجمود مطلق. واخيراً تحرك احدهم. امرأة جميلة ذات ظل منحوت ترتدي ثوباً اخضراً باهت مشدوداً من رقبتها حتى رسغيها. خرجت من احدى الخيام، اجتازت الميدان واطفئت النار. كان شعرها الاشقر الطويل يتموج عندما اقتربت من مورسيا عارضةً عليها فنجاناً ساخناً من القهوة.

- هيا يا صغيرتي، تناوليه.

ازاحت مورسيا يديها. لاحظت ابيغايل دونكان، المرأة الشقراء الجميلة، ان مورسيا كانت تبكي.

- هيا، تناوليه. انه ساخن وسوف يسليكِ.

لكن صغيرة الطاقم رفضت بعناد.

- لا تكوني طفلة. هذه الحالة لا تليق بامرأة واعية. لم تتناولي شيئاً منذ البارحة. وستموتين ان بقيت رافضةً تناول قوتك.

رفعت مورسيا عينها السوداوين وحدقت في عيون ابيغايل الصافيتين.

- اريد ان اموت يا آبي - تمتمت مضطربة.

جلست آبي امامها بكل هدوء، تاركةً فنجان القهوة على الصخرة المفلطحة، ووضعت ذراعها على اكتاف مورسيا النحيلتين.

- كل شيء سيكون على ما يرام. ستشهدين هذا. تشجعي يا صغيرتي!

فانقلبت مورسيا بوحشية.

- كيف تقولين بان كل شيء سيتحسن؟ - اجابت بعنف - نحن هنا في ري-افاراكس الكوكب المنسي، ولم تعد لدينا قوة ذاتية... وانتِ تعتقدين بان كل شيء سيتحسن؟ سيبيدنا هذا الوحش، لاموري، جميعاً. انظري الى هؤلاء الرجال يا آبي، انظري الى رفاقنا. انهم خائفون. أدخل لاموري الرعب الى قلوبهم فلن يجرؤ أحدهم على الوقوف بوجهه.

كانت تختنق باجاباتها الحادة.

لم تقل آبي دونكان شيئاً.

كانت تدرك جيداً ثورة تلك الشابة. لقد اغرقهم جاكسون لاموري، احد مهندسي طاقم استكشاف كوكب ري - افاراكس، بموجة يأس.

وعلى غير توقع، قَتلَ لاموري، جيم بيترسون رئيس الرحلة، بعد شهرين من وصولهم الى ري - افاراكس.

فعل هذا ببرود اعصاب. دخل المهندس الزنجي الجبار ليلاً خيمة بيترسون بينما كان يغط بنوم عميق وخنقه.

ولم يمضي وقت طويل حتى استيقظ اعضاء الحملة الاستكشافية على صوت انفجار مدوي فخرجوا مذعورين من خيامهم التي اهتزت قليلاً.

عندما ثابوا من غفلتهم ، شاهدوا لاموري قادماً. عرفوه حالاً من خلال شبحه المميز. كان اطول رجل في الطاقم وافتلهم عضلات، يبلغ قوامه مترين واربع سنتميترات. وعلى لهيب الحريق القريب المضطرم في الغابة ، لاحظوا ان لاموري كان يُمسك بواحدة من رشاشات الليزر المُبيدة التي كان استخدامها مقصوراً على الحالات الخطيرة الطارئة.

توقف لاموري امام الطاقم المؤلف من 18 رجلاً و 20 امرأة. كان رون كودوند العالم الجيولوجي اول من تأثر:

- جاكسون، ماذا حدث؟ اين مركبتنا؟

كان الوهج الصادر عن حريق الغابة حاداً، بحيث لم يتسنى لرون ان يلمح اسارير لاموري الجبار.

- مركبتنا؟ انها غير موجودة الآن - تلفظ بعدم اكتراث.

اقترب منه رون كودوند هائجاً.

- ماذا قلت؟ - صرخ مشوشاً - تعني انك... حطمتَ مركبتنا الفضائية عن قصد؟

وشعر بوميض عينيه المحمومتين.

- اجل - اعترف دون اية ارتعاشة تأثر في صوته.

اطلق كودوند صرخة وهجم عليه.

وصدرت عن آبيغايل دونكان صرخة انزعاج ايضاً. كانت تعشق كودوند وعرفت ان حياته في خطر. لابد ان مساً من الجنون قد اصاب لاموري: لا يوجد تفسير آخر لتصرفه المتهور والمتعصب. كان ذلك الزنجي العملاق يُمسك بين يديه المتقلصتين رشاشة ليزر.

ادركت آبي الدوافع التي حثت المهندس على ابقاء حياة كودوند.

لم يتمكن رون من لمسه ابداً. اذ عاجله لاموري بضربة من أخمص الرشاشة الثقيل بوحشية فأسقطه ارضاً. ثم ركله. كان يضربه بأخمص بندقيته ويرفسه بجنون ثائر.

هاجمته آبي من الخلف بتهور.

انقلب لاموري وحشاً ضارياً فقذف بآبي على بعد بضع خطوات. لكن تدخلها كان حاسماً: توقف لاموري عن ضرب الهاوي على الارض.

تراجع بضع خطوات وشاح ببصره نحو الطاقم متحدياً.

استعلم طبيب الطاقم ايرل هويس:

- هل جُننتَ يا جاكسون؟

اطلق محدثه قهقهة متهكمة.

- مجنون؟ انا أعقل من أي وقت مضى.

- لكنك... حطمتَ مركبتنا، ومعها حطمتَ آمالنا في العودة الى دتراه - اكسيمبل، عند الانتهاء من المهمة الاستكشافية لهذا الكوكب - تدخل هوميس مذعوراً.

دوت قهقهة اخرى جديدة.

- الحقيقة اننا لن نعود الى نقطة الانطلاق ابداً - اعلن لاموري - والآن اسمحوا لي ان اشرح لكم الموقف: منذ اليوم، سأكون انا من يُصدر الأوامر. اؤكد لكم باني بحاجة اليكم لتنفيذ خططي...

- أية خطط؟ - سأل ايرل هويس.

نظر اليه غاضباً.

- لا تقاطعني عندما اتكلم - حذره متوعداً - سأُطلعكم على اهدافي. اصغوا اليّ: ري - افاراكس ملكي. فأي حاجة لي لبشر دتراه - اكسيمبل؟ قررتُ عدم الامتثال لاوامر الاتحاد. اما انتم، فستحظون بشرف الانتساب الى عالم جديد: امبراطورية ري - افاراكس.

نفذت كلمات لاموري الى عقول اعضاء الحملة الاستكشافية ببطء. من الواضح ان المهندس يعاني من نوبة جنون. الم يكن تحطيم المركبة التي كانت ستعيدهم الى حاضرة دتراه - اكسيمبل جنوناً تعصبياً؟ من المستحيل الانعزال في عالم متوحش وعدائي... او حتى تشييد هذا المستبد لامبراطورية لم تكن موجودة.

- احتاجكم جميعاً لتحقيق أهدافي ومن الآن فصاعداً سافكر بالابقاء على حياتكم اذا تصرفتم تصرفات معقولة. احرقتُ مركبتي. نعم كان الحل الوحيد. بهذه الطريقة لن يتمكن احد من الخروج من هنا. ستُضطرون الى العيش في هذا العالم. ان رضيتم بهذه الفكرة، فكل شيء سيسير على مرامكم - اوضح لاموري بجلال من كان يضع يده على حقيقة خطيرة.

- لكن ليس لديك الحق - تجرأ الدكتور هويس على معارضته.

انطوت اسارير جاكسون لاموري البراقة عن تكشيرة غضب متوحشة.

- ان قاطعتني مرة ثانية، فسأُفرغ فيك طاقة ثلاثية قادرة على انتزاع ذراعك اليمين انتزاعاً تاماَ - قال.

بدى الشحوب واضحاً على هويس. وصمت كأنه ميت.

توجه لاموري ثانية الى الطاقم المذعور.

- ان تسلطت على عقولكم فكرة مباغتتي وانا نائم فابعدوها لاني اتخذت الاحتياطات اللازمة: ستُحفظ جميع الاسلحة في مكان أمين. قبل ان ادمر مركبتنا الفضائية، انتشلتُ من المحطة التي على المتن، مركبة طائرة وبعض العُدد الضرورية النافعة التي ستعينكم على تشييد مقام راسخ وفي مأمن من هجمات الوحوش الضارية. في الحقيقة: لدي خطط اخرى كثيرة، سأشرحها لكم في الايام المقبلة.

وترقب مفعول كلماته التي احدثت الرعب في مسامعهم. لم يرتفع صوت لاجابته. ظل رون كودوند مكوماً على الارض بمحياه المشوه والملطخ بالدماء.

- والان ابحثوا عن خيامكم واجمعوها على بعد مئات الامتار من الحريق. ستخمد النار من تلقاء نفسها حالما تصل الى المستنقعات - اشار لاموري.

وابتعد نحو الشعلات الشرهة، لكنه لم يقترب منها.

- لقد حذرتكم: لا تحاولوا اساءة فهم مجرى الحوادث. ولكي لا تحتاروا، فسأقول لكم بأني ساهر خالد. انها ميزتي الشخصية: استطيع ان ابقى شهوراً كاملة بدون نوم ولا للحظة . من غير المجدي ان يفكر احدكم بمحاولة قتلي غدراً. من المؤكد اني بحاجة اليكم لانجاز خططي، لكن يمكنني ان استغني عن بعضكم - هدر.

ظل طاقم المستكشفين بغير حراك، ينظرون اليه مبتعداً في الظلام.

- انه... كالكابوس - قطع كاثي فورترو افكار الجميع - اضطجعنا الليلة منهكين. وعلى غفلة... تغير كل شيء. لقد جن لاموري واستأصل جذر امكانية أي اتصال مع سلطات الاتحاد. ماذا سيكون من امرنا؟

كان لاموري قد اختفى فيما كان اعضاء الرحلة ينظرون الى بعضهم البعض، مطلقين لتعليقاتهم الهائجة العنان.

ارعبهم زعيق خارق. استوت آبي دونكان واقفة وركضت نحو المكان الذي كانت فيه مورسيا كامبل تعانق جثة جيم بيترسون بقنوط.

انتابت الفتاة نوبة هستيرية، بينما كانت يديها تداعبان اسارير رئيس الرحلة المكفهرة بحنان.

- لا، لا، لا... ! – كانت مورسيا تأن، تتلقفها نوبات عصبية عنيفة.

صرخت آبي طالبة عون ايرل هويس. عثر الدكتور على حقيبة الاسعافات الاولية وحقن مورسيا حقنة مُسكنة. وشيئاً فشيئاً هدأت حتى نامت. طالعت آبي جسد رون كودوند الجامد. انحنت فوقه ولمسته. واسرفت في مداعبته. لكن رون لم يبدي حراكاً.

- رباه انه ميت! - تأوهت - لقد قتله هذا الوحش بضربة من اخمص بندقيته.

ابعدها ايرل هويس بلطف وانحنى فوق كودوند.

- اهدئي، ليس بميت - قال لها بصوت خافت - لقد سببت له ركلات لاموري ارتجاج في المخ، لكنه لا يزال حياً. قولي لرفاقنا ان يُسرعوا لمساعدتنا. لننقل رون الى مكان امين.

وعلى ضوء الشعلات التي كانت تلتهم الغابة الكثيفة، ابتعد اعضاء الرحلة عن الحريق. نصبوا خيامهم بصمت في مكان امين. ثم انصرف الجميع الى اغطيتهم عاجزين .
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى