مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - أحوال عائلة مصرية (الجزء 8 - الأخير)

ج8 والأخير
محمد عبد الهادي

كلما وصلني خطاب من سمر يحتوي على مجموعة صور جديدة لأمل يزداد ندمي على القدوم للعمل هنا، فرغم استقراري بالمعمل وارتياحي التام لزملائي وللمشرفين على إدارته، إلا أن شوقي لرؤية ابني البكر يطغى على كل اعتبار آخر، طلبت منها أن تقوم بتصويره شهريا لأتابع ولو من بعيد مراحل نموه وتطوره، وعلى الرغم من سعادتي البالغة بهذه الصور إلا أن كل صورة منها كانت تحمل لي نداء لا مهرب منه بالعودة، أعزي نفسي أن غربتي هذه من أجله، من أجل أن أضمن له مستقبلا مريحا، أوفر له أفضل ملابس، أفضل رعاية صحية، أفضل تعليم، وغيرها من الخدمات التي صارت لا تقدم إلا لمن يدفع ثمنها، أصبرها أن الأيام تجري سريعا وسيحل أوان حصولي على أجازتي الأولى وسأسافر لرؤيته قريبا، فاجأتني في اتصالها التليفوني الأخير بأمر العريس الذي تقدم لخطبة وفاء، ملأني الخبر فرحة وسرورا، ازدادت رغبتي في العودة لمشاركة أختي الوحيدة فرحتها، حاولت أن أشغل نفسي وزميلاي في المعمل قدر استطاعتي، ومع غيرهما ممن تعرفت عليهم خارجه، كان منصور .. الكهربائي الشاب الذي يعاني من ابتزاز الكفيل له يشكل بالنسبة لي حالة خاصة، أصبحت معاناته ومعاناة أسرته في مصر تمثل لي هما شخصيا، لا أعرف السبب في اهتمامي الشديد بهذا الشاب تحديدا، ربما لطيبته وشدة صبره رغم ما يعانيه شهريا لتوفير المبلغ الذي يدفعه للكفيل بالإضافة إلى مبلغ صغير يحوله لأسرته، في شهور كثيرة كان يعجز حتى عن تحويل أي شيء لأسرته، في إحدى المرات جاءني وهو في حالة من الإحباط لعجزه عن إكمال إتاوة الكفيل، هدده الرجل بإنهاء تعاقده لأي سبب وترحيله إلى مصر إن لم يدفع، طلب مني أن أسعى لدى زملائي بالمعمل لعل أحدهم يحتاج إليه في عمل ما، عرضت عليه أن أكمل له المبلغ المتبقي للكفيل من معي فرفض بشدة، أكدت له أن هذا المبلغ سيكون دينا لن أتنازل عنه، قبل بعد إلحاح شديد مني وأخذ المبلغ وهو لا يستطيع أن يرفع عيناه في وجهي، بعدها اختفى تماما ولم أره، بحثت عنه في كل الأماكن التي اعتدت رؤيته فيها فلم أجده، بعد شهر كامل جاءني مصرا على رد المبلغ، عندما حاولت الرفض هاج وماج وأقسم لي أنه لن يستطيع أن يستمر في رؤيتي إن لم أخلصه من عبء هذا الدين، قبلته منه وقد ازداد تقديري له، قلت في نفسي كثيرون غيره كانوا سيتغاضون عن رد المبلغ، لا أعـرف لماذا طلبت منه حينها أن يأخذني لرؤية كفيله والتحدث معه، استغرب هو نفسه الطلب وسألني:

ـ وما الداعي لذلك؟

لم أعرف تحديدا بماذا أجيبه، صمت قليلا ثم قلت له:

ـ دعني أتحدث معه .. قد نصل لحل ما لهذا الوضع غير المقبول، ما رأيك لو حاولت نقل كفالتك لأصحاب المعمل الذي أعمل به؟

أبدى سعادة كبيرة لاهتمامي بأمره واتفقنا معا على موعد للذهاب إليه، عندما رأيته تبين لي من الوهلة الأولى أنه نموذج مختلف تماما عن العاملين معي بالمعمل أو المشرفين عليه، كان رجلا متجهما خشن الطبع ضيق الصدر، بدا لي من نمط حديثه أنه لم ينل قدرا مناسبا من التعليم، حاولت التلطف معه قدر استطاعتي كي أتمكن من مناقشته في أوضاع منصور وأعرض عليه أمر نقل الكفالة، ضاق صدره بي قبل أن أفتح حتى الموضوع وكاد أن يطردني، أمسكت أعصابي عن الانفلات، تدخل منصور محاولا تهدأته وأومئ لي للانصراف قبل أن يتطور الأمر، احتد الرجل عليه وسبه سبابا فاحشا وكاد أن يضربه، لم أحتمل أن يؤذي منصور بسببي، فأمسكت يد الرجل قبل أن تهوي على وجهه، صرخ الرجل عاليا وتشبث بي وظل يصرخ، امتلأ المكان فجأة ببضعة رجال لا أعرف من أين أتوا، ظل يصرخ بشدة واتهمني بالاعتداء عليه، كادوا أن يفتكوا بي وبمنصور لولا أن أشار أحدهم بتسليمنا إلى الشرطة، حدث كل شيء بسرعة كأنه حلم أو بالأحرى كابوس لا أعرف كيف أتخلص منه، في مقر الشرطة أصر على اتهامه لي ومنصور بالاعتداء عليه، نفينا ذلك وحاولت شرح ما حصل لكن من جاءوا معه أيدوا كلامه، قلت لهم:

ـ الرجل سليم وليس به خدش واحد.

تجاهلوا كلامي وقرروا احتجازي ومنصور لحين التحقيق في ادعائه، اعترضت على ذلك وطلبت الاتصال بالسفارة، قالوا لي:

ـ عندما يحين أوان ذلك سنفعل.

أصررت على الاتصال الفوري بالسفارة، فأكـدوا أن الأمر ليس بهذه السهولة، قال أحدهم مبررا:

ـ هل تظن أنهم في السفارة سيهتمون لأمرك؟

أدهشني ما قاله لكنني تمسكت بمطلبي، وعدوني أنهم سيحاولون تحقيقه بأسرع ما يمكنهم، اسقط في يدي وتم حجزنا بالفعل.


"الأسطى عبد الهادي"

لم يشغلني أمر العريس المتقدم لوفاء عن أحداث شركتي أو عن المعارك التي نخوضها ضد سياسة الخصخصة المتسرعة وغير المدروسة، لم تعد القضية قاصرة علينا وحدنا بل أصبحت قضية عامة أدرك خطورتها الكثيرون ابتداء من المفكرين والكتاب وانتهاء بالمواطنين البسطاء، انتشرت الاحتجاجات في العديد من الشركات وغيرها من المؤسسات المختلفة، لم نحاول الزعم أن لنا دورا في تبصير الناس بخطورة ما يحدث ودفعهم للتحرك لكننا كنا سعداء بإفاقتهم، ضاعف ذلك من نشاطنا واتسعت مجموعة العمل التي شكلناها لتضم أعضاء جدد من مختلف طبقات الشعب وفئاته، تحولت من مجرد مجموعة عمل صغيرة شكلناها في البداية للدفاع عن قضية شركتنا فقط ثم وسعنا دورها لتشمل قضية الوطن كله إلى منظمة مشهرة وذات كيان قانوني وتشعبت أنشطتها وتوسعت، أجرينا انتخابات لاختيار رئيس ونواب رئيس وأعضاء مجلس إدارة المنظمة، طلب مني الكثيرون الترشح لمنصب الرئيس أو على الأقل أحد نواب الرئيس لكنني فضلت البقاء عضوا عاديا أمارس دوري في الدفاع عن زملائي حرا دون قيد، في النهاية تم انتخاب إحدى الشخصيات العامة رئيسا للمنظمة وانتخب الأستاذ محمود نائبا أول للرئيس أما "الأسطى" حسين فتقرر بالإجماع اختياره رئيسا شرفيا للمنظمة.

محمد عبد الهادي

تدخل أصحاب المعمل الذي أعمل به فور علمهم باحتجازي وحاولوا التوسط للإفراج عني، ظلت العقبة الكئود إصرار الرجل على اتهامه لي بضربه رغم تراجعه لسبب لا أعلمه عن اتهام منصور، أراحني كثيرا الإفراج عن منصور وابتعاده عن دائرة الخطر، كنت أشعر بالذنب لأن تدخلي في حياته قد يؤدي لقطع رزقه الذي يجاهد بقوة كي يحافظ عليه، من ناحيته هو كان يشعر أيضا بالذنب لتورطي من أجله، أكد لي بعد خروجه أنه يبذل محاولات مستمرة مع كفيله لتسوية الأمر إلا أن الرجل لا يزال على عناده، كان سعي منصور بالإضافة إلى مساعي زملائي وأصحاب المعمل هو السبب المباشر لاهتمام السفارة بأمري، جاءني موفد منها بعد أيام من احتجازي، عندما استغربت تأخره في الحضور قال ببرود:

ـ لدينا بالسفارة مشاغل أهم كثيرا من مشكلتك.

تذكرت ما قالوه لي عند احتجازي ولم أعلق، عرضت عليه حقيقة ما حدث وطلبت منه تدخل السفارة لتبرئتي من هذه التهمة الباطلة، وعدني خيرا ثم انصرف، مرت أيام أخرى كنت خلالها محروما من الاتصال بأسرتي، انقطعت أخبارهم عني، آلمني ذلك كثيرا وأثر في نفسي، الأمر الثاني الذي كان يضاعف من معاناتي هو المعاملة التي كنت ألقاها داخل محبسي، صحيح لم يتعرض لي أحد بأذى جسدي أو نفسي مباشر إلا أن معاملتهم لي كمجرم رغم تيقنهم من براءتي كان صعبا على نفسي، رغم ذلك لم ألومهم كثيرا، كان طبيعيا إلى حد ما أن ينحازوا إلى ابن بلدهم، تذكرت محنتي في وطني، كيف كدت أسجن بسببها زورا وبهتانا، تذكرت معاناة أبي وزملائه في الشركة، إذا كان المرء يتعرض للظلم والاضطهاد في بلده لمواجهته صورة من صور الفساد واستغلال النفوذ أو لمحاولته المطالبة بحقوقه والدفاع عنها فكيف بحاله في بلاد الآخرين، ظهر أخيرا مندوب السفارة وأعلمني أنهم توصلوا لحل وسط مع كفيل منصور، يتمثل هذا الحل في إسقاط التهمة عني وبالتالي عدم إدانتي وإخلاء سبيلي في مقابل أن يتم ترحيلي من المملكة، لما استغربت ما قاله أفاد أنهم توصلوا لاتفاق مع السلطات على اعتبار ترحيلي مجرد إنهاء للتعاقد بيني وبين أصحاب المعمل الذي أعمل به بحيث يكون لي الحق في العودة مرة أخرى بعقد جديد، أكد لي أصحاب المعمل من جانبهم أنهم اضطروا للموافقة على هذا الحل من أجل مصلحتي، وأنه بعد رجوعي إلى بلدي وقضاء أجازة مع أسرتي سأتمكن من العودة مرة أخرى، كان حلا غريبا ومعقدا بالنسبة لي، طالما أنني برئ وسيتم الإفراج عني فلماذا يتم ترحيلي، لم أستطع فهم الأمر على الإطلاق لكن الجميع اتفقوا على أنه أفضل حل أمكنهم التوصل إليه، لم أجادلهم كثيرا فقد كنت بالفعل أرغب في العودة إلى مصر لرؤية أسرتي وبصورة خاصة ابني أمل، أظهر أصحاب المعمل تمسكا شديدا بعودتي بل وعرضوا علي زيادة كبيرة في راتبي، أثر في نفسي موقفهم هذا إلا أن شعورا داخليا ملأني بأنني لن أعود.


وفاء عبد الهادي

جاء اليوم الموعود .. اليوم الذي يأتي فيه وليد وأسرته للتعرف على أسرتي وخطبتي، كان أبي قد سأل عنه وعن عائلته بصورة مستفيضة، أزعجه بعض الشيء ما عرفه عنهم قال لي ولأمي:

ـ هم أسرة معروفة بالفعل ويمتلكون العديد من الشركات والمزارع والمتاجر.

ردت أمي بحدة وقد أدركت ما يرمي إليه:

ـ وفاء جوهرة لا تقدر بمال، ونحن والحمد لله مستورون.

هز أبي رأسه وغمغم قائلا:

ـ نعم .. نعم.

كنت أخشى هذه النقطة تحديدا منذ تعرفي بوليد .. الفارق المادي الهائل بين أسرتينا، هم أسرة من نجوم المجتمع بينما نحن أسرة عادية متوسطة الحال، ربما حظى أبي ببعض الشهرة في الفترة الأخيرة بسبب نشاطه منذ تعرض الشركة التي يعمل بها للبيع، إلا أن ذلك لن يغير من الأمر كثيرا، طمأنتني سمر رغم توترها لانقطاع اتصالات محمد منذ عدة أيام، قالت وهي تساعدني في تجميلي وارتداء ملابسي:

ـ لم يعد أحد ينظر إلى هذه الأمور في مثل هذا العصر.

حاولت تصديقها، لم يكن أمامي أي خيار آخر، لو التفتت في الواقع إلى الخيارات الأخرى لقتلني القلق، أصبح كل شيء على أكمل صورة وجلسنا ننتظر، يتسرب القلق إلى نفسي كلما اقترب موعد وصولهم، وعندما حل الموعد وانقضت بعده عدة دقائق تبرم أبي وأبدى ضيقه بملاحظة عابرة، قالت له أمي:

ـ الصبر جميل .. تذكر أنهم لم يأتوا إلى هنا من قبل.

مضت نصف ساعة كاملة ولم يأتوا بعد، كان القلق والخوف قد سيطرا علي بالكامل، ظلت سمر تشد من أزري وتلهيني بحكايات عن أمل وأفعاله، بعد ربع ساعة أخرى حل علينا الصمت تماما، تململ أبي في جلسته لكنه لم يفتح فمه، رن جرس الباب فجأة فعادت الروح إلي وأشرق وجه سمر بابتسامة عريضة، نظرت إلي نظرة ذات مغزى، وثبت أمي على غير عادتها من مقعدها لكن أبي طلب منها الجلوس، قام هو وسار بهدوء تام ليفتح الباب، بمجرد أن فتحه اندفع منه آخر من كنت أتوقع رؤيتهم .. سامية ومجموعتها، أطلقت أحداهن زغرودة عالية، هربت الدماء من وجهي وتهالكت على أقرب كرسي، أصبحت سامية ومجموعتها في وسط الشقة بينما أبواي وسمر في حالة من الحيرة وعدم الفهم، خاطبت سامية أبي قائلة:

ـ مبروك يا عمي، أين العريس؟

نظر إليها محتارا ثم قال:

ـ بارك الله فيك يا ابنتي .. نحن في انتظاره.

ـ طبعا أنت لا تعرفني يا عمي .. ألم تخبرك وفاء عن أعز صديقاتها؟!

قالت أمي مرحبة:

ـ أهلا بك يا ابنتي .. أهلا وسهلا، تفضلوا بالجلوس.

بدأت سامية ومجموعتها يدورون من حولي وأنا مطرقة، كان عقلي يعمل بسرعة، تصارعت بداخله جميع الأفكار والظنون والاحتمالات وقد أدركت حجم الكارثة التي حلت بي وبأسرتي، خاطبتني سامية بنبرة ذات مغزى:

ـ مبروك يا عروسة، لماذا أخفيتي الأمر عنا .. هل يصح ذلك؟!

رددوا كلامها بصورة ماجنة، لم أعد أحتمل فصرخت فيها وفيهم:

ـ حرام .. والله حرام ما تفعلينه يا سامية لم أكن أتصور أن يصل بك الأمر إلى هذا الحد.

انقلبت لهجتها الساخرة إلى لهجة عدائية سافرة:

ـ هل عرفت الآن قدرك .. لا تنسي ذلك أبدا.

التفتت إلى أبي الذي شحب وجهه وقالت:

ـ للأسف يا عمي العريس لن يحضر أبدا.

ثم خاطبت مجموعتها قائلة:

ـ هيا يا أولاد .. يكفيهم هذا.

خرجوا وهم يتغامزون ويتضاحكون بصوت مرتفع، كان أبي واقفا في مكانه كتمثال من شمع، بينما أمي مرتمية على أحد الكراسي تبكي بحرقة، أما سمر فاحتضنتني بشدة وقد اختلطت دموعي بدموعها فلم يعد ممكنا التفريق بينهم.


محمد عبد الهادي

ها أنا ذا أعود أخيرا إلى الوطن، ساعات معدودة وتصل العبارة إلى حيث أرى أمل وأضمه إلى صدري، أرى في عينيه المستقبل الذي يمتنع علي ويصر أن يعاندني، أشكو إليه وأريح رأسي على صدره الصغير، أكثر من عام وأنا بعيد عن سمر، عن أبي وأمي وأختي، عن الأقارب والجيران، عن الأصدقاء والمعارف، كنت رغم ذلك أحلم كل ليلة بهم، أشعر بأنفاسهم تصاحب أنفاسي، كم أود أن ألقي بنفسي في هذا البحر وأسبح بكل قواي كي أصل إليهم، ما أطول هذه الساعات التي تفصلني عنهم .. كأنها شهور بل دهور، يدق قلبي بقوة وعنف، يكاد يسمع دقاته العائدون معي على نفس العبارة، بدأت في استهلاك الوقت المتبقي بالنظر إليهم وتفقد أحوالهم، ها هي أسرة صغيرة مكونة من شاب وزوجته وابنهما بينهما يلاعبانه، وهذا رجل في الخمسينات يبدو من مظهره أنه أمضى وقتا طويلا يعمل بالخارج، مئات من الشباب والرجال بعضهم يعود بمفرده والبعض الآخر يصطحب معه أسرته، تذكرت الذين تركتهم ورائي في المملكة وتم ترحيلي منها لاهتمامي بأمر أحدهم، ما هؤلاء إلا شريحة صغيرة جدا منهم، وبينما أنا أحلق بأفكاري هنا وهناك .. إذ بي أنتبه على صوت فرقعة هائلة تبعتها أصوات صراخ متوالية، في لحظة قد تكون ثانية أو أقل أو أكثر سادت حالة من الهرج والفوضى ظهر العبارة، الناس من حولي يجرون يمينا ويسارا، النساء يصرخن والأطفال يبكون، الشباب والرجال يتدافعون، أرى أحدهم وقد حمل ابنته وهو يجري بها محتارا لا يدري أين يذهب، وأرى آخر وقد دفعته المفاجأة للهرب وترك ابنه وزوجته وراءه، كنت لا أزال ملتصقا في مكاني أتابعهم كأنني أتابع فيلما سينمائيا، تنبهت بعد ثوان أخرى أن هناك سحابة كثيفة من الدخان تنبعث من أحد أطراف العبارة .. وطالما هناك دخان فلابد أن هناك نار، كان هناك نارا بالفعل، بدأت العبارة في الاهتزاز بعنف والتمايل يمينا، وبدأ الماء يندفع إليها، لا أعرف كيف يجتمع الماء والنار معا، ازداد الهلع والاضطراب بين الركاب، رأيت بعيني بعضهم يلقي بنفسه في البحر، استعدت الآن كل انتباهي ويقظتي، حاولت دون جدوى مخاطبة من يجاورونني لتهدئتهم ودفعهم إلى البحث عن وسيلة آمنة للنجاة، ضاع صوتي ولم يصل إلى أحد، جريت سريعا بحثا عن أحد الضباط المسئولين لمعرفة أسباب ما يجري وإيجاد حل سريع لطمأنة الناس وإنقاذهم، لم أعثر على أحد منهم، كأنهم جميعا قد تلاشوا، اتجهت إلى غرفة القيادة، وصلتها بصعوبة بالغة، وجدت القبطان وبعض ضباطه، قبل أن أفتح فمي أو أقول كلمة واحدة صدمني منظرهم، كانوا في حالة من الفوضى والاضطراب تفوق الركاب، انخرطوا في مشادة حادة يتبادلون الاتهامات فيما بينهم، لم أصدق عيني، اتجهت إلى القبطان وحاولت التحدث إليه، كان غائبا في عالم آخر، هززته بعنف .. صرخت في وجهه:

ـ الركاب يلقون بأنفسهم في البحر .. اصدر أمرا لضباطك بإنزال قوارب النجاة والسيطرة على الناس.

تمتم بكلمات غير مفهومة، صرخت فيمن حوله:

ـ هل أرسلتم إشارة استغاثة؟

رد أحدهم بعد أن كررت سؤالي عدة مرات:

ـ الأجهزة ترسل إشارة تلقائية عند أي خطر، وقد بعثنا رسالة أخرى منذ قليل.

أفاقوا من جدلهم العبثي، أسرعنا جميعا في التحرك، بدأنا في إنزال قوارب النجاة وحاول بعض الضباط مخاطبة الناس وتهدئتهم، كانت حالة الذعر قد تمكنت من الجميع فلم يصغ أحد إليهم، هجم بعضهم على قوارب النجاة وتدافعوا للركوب فيها، دفع الذعر بعضهم لإلقاء من هم أضعف منهم أرضا والمرور فوقهم، فشلنا في التحكم فيهم أو حتى إنزال قوارب النجاة إلى الماء بصورة سليمة، ضاع بعضها في البحر دون أن يركبه أحد، ازداد ميل العبارة بدرجة خطيرة وغمرها الماء بالكامل فيما عدا الأجزاء العلوية منها، رأيت أطفالا صغار يجرفهم الماء ليبتلعهم البحر على الفور، دوى صوت فرقعة هائلة اختفت العبارة بعدها بالكامل، أصبحنا جميعا في الماء، البحر الهائج يتلاعب بنا، تعلق البعض بما استطاع التعلق به من حطام العبارة أو عوامات الإنقاذ، دفعني الموج بعيدا عنها، بدأت أصارع الأمواج العاتية وإذ بي أشعر بمن يحاول أن يتعلق بظهري، التفت .. كانت امرأة شابة تحمل ابنها في جراب معلق بصدرها، كانت تجاهد كي تبقي رأسه فوق الماء، صرخت بأعلى صوتها:

ـ أرجوك .. أرجوك خذه .. أنت أقدر مني على إنقاذه.

دون أن أناقشها انتزعت الطفل من جرابه وألقت به بين يدي، قبل أن أفتح فمي أو أدرك الأمر دفعتها موجة هائلة فاختفت تماما عن عيني، أفقت على صراخ الطفل وقد علا بمجرد أن اختفت أمه، رفعته بيد وحاولت السباحة باليد الأخرى، كان وضعنا وسط هذا البحر الهائج يائسا، كان كل أملي أن أعثر على قطعة من الحطام أو عوامة نجاة، كان الماء باردا بل شديد البرودة، كدت أن أتجمد لكنني جاهدت للتماسك حفاظا على الطفل، رأيت فيه أمل .. ابني الذي لم أره بعد، عندما استقر ذلك في نفسي امتلأت عزما وإصرارا، أبصرت على بعد كتلة غائمة تتأرجح فوق الأمواج، بدأت أصارع الماء للوصول إليها، ظللت أضـرب الماء بيدي وقدماي واليد الأخرى تحمل الطفل، تمكنت بالفعل من الاقتراب من هذه الكتلة، كانت قاربا خاليا من قوارب النجاة، كان ذلك أفضل كثيرا مما كنت آمل، بذلت مجهودا إضافيا للوصول إليه، لمسته يدي بالفعل، تعلقت بحافته بيد وألقيت الطفل بقدر ما استطعت من رفق باليد الأخرى بداخله، غمرني فرح لم أعرف له مثيلا طوال حياتي، أخذت نفسا عميقا وقبل أن أصعد بدوري إلى القارب أبعدتني عنه بقوة موجة شديدة العنف، اختفى تماما ولم يعد له أي أثر، ملأني الذعر وخفت أن يكون قد انقلب بالطفل .. طفلي .. أمل، أصابتني حالة من الجنون فأخذت أضرب الماء بعنف محاولا الوصول إليه، أضرب وأضرب ولا شيء يظهر سوى الماء، خارت قواي وفقدت الإحساس بيداي وقدماي، اختفي كل نور حولي وملأني ظلام دامس.



أيمن مصطفى الأسمر
دمياط - مصر
يناير 2008

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى