خيرة جليل - سيميائية السواد باعمال التشكيلي التونسي حاتم تراب.. تمرد تشكيلي بشكل براديغمي يستمد مشروعيته من الموروث الثقافي المحلي

لقد عانت التجربة التشكيلية العربية بشكل واضح على مدى عقود من فقدانها لحرية كافية تساعدها على النمو والتطور وللتعبير عن ذاتها بين التجارب العالمية. بل وعجزت عن تحقيق مشروعها القاصد إلى التأسيس والتأصيل. وكرس ذلك بشكل جلي غياب البنيات التحتية، قاعات العرض والمتاحف، وعدم وضوح السياسة الرسمية المتبعة لنشر الفنون التشكيلية وتعميمها، عن طريق المعارض واللقاءات الفنية والإعلام والبرامج التعليمية الهادفة إلى تربية الذوق وتهيئ الناشئة لاستقبال الخطابات الفنية، نظريا وتطبيقيا. كما أدى ضعف الإطلاع على الفنون العالمية، إلى غياب الثقافة الجمالية البصرية وانتشار الأمية الأيقونية، مما اثر بشكل مقلق على مسار التجربة العربية ومفاهيمها، والحقيقة أنها " إشكالية ذهنية وثقافية وحضارية بامتياز عالٍ، تمثلت بضعف البنية الفكرية والثقافية الموازية والضرورية لتطور الفن التشكيلي في الوطن العربي، بشكل متوازٍ ومتوافق مع تطوره في الغرب"1
لكن هذا لا يعني فراغ الساحة العربية من تجارب جادة تجمع بين تجربة التشكيل ممارسة على ارض الواقع والتنظير له من خلال تأطيره اكاديميا بالجامعات من خلال تكوين الطلبة نظريا والاشراف على بحوثهم تطبيقيا.. ومن بين هذه التجاري نتوقف اليوم عند تجربة الفنان التشكيلي حاتم تراب.
فمن هو هذا التشكيلي حاتم تراب ؟ وما هى خصائص تجربته؟ وكيف ينظر للفن التشكيلي من وجهة نظره كفنان ممارس للعملية الابداعية ، وكاكاديمي ينظر لحركة تشكيلية تجديدية عربية؟
تقول الباحثة بشرى بن فاطمة :
”ما بعد الحداثة في الفنون التشكيلية والبصرية هي المرحلة التي غيّرت نظرة التعبير القيمي وتفاعله الجمالي وحوّلتها إلى الفكرة والمفهوم والتصور الداخلي الذي تجرّد من الخيال المباشر في طبيعة الأشياء والمشاهد ليُكسبه غرابة الرمز في الانسان والمكان والتاريخ والبحث في العلوم والوجود والفلسفة والتقمص والأداء في الذات الإنسانية والتعبير عن واقع الأرض، سواء في اللون والدمج ومحاكاة الفراغ والسطح وعمق الابتكار أو بقراءة الجوانب الغرائبية والتركيز على رؤاها الجمالية، وهو ما أثّر على المدارس الفنية والتجارب التشكيلية التي تأثّرت بواقعها فانطلقت بذاتها من ذلك الواقع نحو تصورات معاصرة مكّنتها الرؤى والتقنيات ومدى مرونة تقبّل الغرابة والخيال من الابتكار والتطور في التقديم والعرض والأداء والتنفيذ والإنجاز.“ ولهذا اليوم لن اتوقف عند تجربٰة هذا الفنان التشكيلية لاسرد عدد تجاربه الفنیة کما یفعل الاغلبية تفاديا لعملية الاجترار الفارغٰة، نظرا لغزارة انتاجه الفني وقدم تجربته الفنية وعمقها ولا تحتاج للعرض ، ولكن ساتوقف عند تجربته كتجربة مميزة من خلال اعماله الاخيرة التي تنطلق من الفكرة والمفهوم والتصور الداخلي للمنجز الفني و لانه تشكيلي نشيط بالميدان و استاذ متخصص به بجامعة قابس وينظر لحركة تشكيلية مغاربية عربية مجددة ومتجددة لها بصمتها الخاصة ولها بعدها الفكري والنظري التنظيري بارض الواقع.
بعد وقفة تاملية معمقة ؛ ولعمق اعمال الفنان التونسي حاتم تراب وكونها جاءت تتويجا لبحوث اكاديمية معمقة تجمع بين التراث التونسي المحلي والتنظير للفن العربي المغاربي وما بعد الثورة التونسية كتنظير جماعي للفكر الفني الجمالي. كان لزاما ان استعير الخطوات المنهجية السيميائية لاضيفها الى منهجي النقدي الا وهو الوصف والتفسير والتحليل والتركيب ثم التعميم على التجربة ككل والخروج باستنباطات تهم التأطير والتنظير للفن التشكيلي التونسي فيما بعد ثورة الياسمين لنبين أن الفن المعاصر العربي ” ليس مجرد شكل متميز أو نوع خاص ضمن الحقل الفني بل هو بامتياز براديغم قائم الذات وتام الاستقلالية.“ كما اشارت الى ذلك الكاتبة والباحثة الفرنسية في سوسيولوجيا الفن، نتالي هينيك (Nathalie Heinich ...)2
فتكون خطواتنا
1 . وصف اعمال الفنان ثم عملية الخروج من شكل اللوحة التشكيلية إلى مضامين اللوحة
2 . التحليل وفيه نركز على الالوان المستعملة وتحريك الكتل اللونية لنمر الى المجاز التوظيفي والتأويل النقدي والخلفية الفكرية المفسرة لذلك .
حين يتم التركيز على ظلال المعنى باعمال الفنان نجد انه قام بالحفاظ على الشكل المتعارف عليه للوحة التشكيلية بسندها واطارها الخشبي ، لكنه قام بالخروج عن قائمة الالوان المستعملة بالساحة الفنية والانغماس باللون الاسود على اساس انه لون رئيسي او تيمة رئيسية؛ وهو في حد ذاته احتراق لوني للعبور الى اعماق الجمال الفني بكون الاسود يخلق تناغم بين جميع الالوان الثانوية الاستعمال و التي بكتلتها وتوزيعها بمقام ثانوي في اللوحة مهما كانت رسية او خامة في مكونها ” أزرق ، أصفر...“ brut او متولدة عن المزج والخلط ” اخضر ؛ برتقالي ....“ مشكلة المعاني الثانوية في اللوحة مقابل المعاني الرئيسية او اللون المهيمن باللوحة بكتلة اجتاحت المنشأ الفني بدراية علمية وفكرية ممنهجة وهو انعكاس لظلال المعنى اي: la connotation et la dènnotation
حين قمنا بالتركيز على الكلمات التشكيلية باعتبارها علامات لأشياء أخرى لا باعتبارها حمالةً للمعنى الفني فقط، وهنا نعني الضربات التشكيلية والتي في اغلبها تتم بمنهجية مضبوطة وليست اعتباطية؛ وعلى تحريك الكتلة والذي تحركه ذات مبدعة لها دراية بالميدان الفني وتنظر لفن يجمع بين الموروث الثقافي الفني الجماعي لتونس والذي اتخذ له الفنان رمزية ” الملحفة السوداء“ التي تستعملها المرأة التونسبة الريفية بجنوب تونس وهذا قد يكون سببه التغذية الراجعة او feed back التي تطل على الفنان من زوايا اللاشعور وترسبات الماضي البعيد بذهنه من زمن الطفولة او مرحلة الصيف وقضاء العطل بالمناطق التي تحتفي بالملحف الاسود؛ مما يعكس حنينه الى مناطق تعج بالموروث التونسي والشعور فخر الانتماء والتي يرى فيها نقاء طفوليا او ارتباطا عاطفيا بوالدته او نساء عائلته بتلك المناطق. لكن في معنى ترميزي قد يكون دعوة لتأمل الذات التونسية المحلية وجمالها الغير المتكلف وجعلها مصدرا للالهام والابداع الجاد . وقد يضيف داخل هذا السواد خطوط ورموز تعبر عن السهل الممتنع والبسيط العميق في الان نفسه وهذا يحيلنا على ان الفنان تأثر ضمنيا باعمال الفنان الهولندي بِت موندريان الذي كان معروفًا بشكل خاص بدراسة وتأمل عنصري الخط واللون وإمكانياتهم التشكيلية، وبناء الصورة الحديثة بشكل البسيط العميق والسهل الممتنع.
أما فيما يخص اذا ركزنا على المخططات التجريدية كالمربع السيميائي وخطاطة غريماس ومثلث بيرس: الدال والمدلول والمرجع في أعماله، فد تكون اللوحة دالة على الجمال والفن المنشود والمنظر له من طرف الفنان والمدلول هو الموروث الثقافي المحلي والجماعي لتونس المٶطر للمرجعیة الفكرية لثقافة المنشأ الفني، ليصبح المرجع هو الثقافة المحلية من اشخاص و الوان واشكال ودلالات .... ومنطقها الرمزي كما هو عند بيرس هو أن التشكيل التونسي فن ثوري متجدد منفتح على العالم ؛ وهو منتوج جمالي صالح لجميع الامكنة في العالم ولغة مشتركة مع اي متلقي مهما اختلفت لغته او مرجعيته الجمالية او الفلسفية، لكن يستمد مشروعيته من الثراث التونسي المحلي لانه يستند على منطق رمزي اكاديمي فني عميق يخاطب به الذات المتذوقة للابداع باختلاف اعراقها وانتمائاتها ... كما قد تكون دلالة الخلفية السوداء ووجود فتحة صغيرة بالوان مزركشة رمزية ان الاسود يمتص جمیع التناقضات : الدينية والفكرية والاجتماعية ... ليطل عبره الفن بشكل جميل ومنسجم مع الكل وببوثقة لونية لها رمزية التميز وسط المحيط الجهوي او الدولي . وهذا في حد ذاته رمزية أنه في غياب اية مرجعية فلسفية او قيمية يظل الفن يوحد الرٶي ويفتح الافاق امام الكل لانه يوحد مفهوم الانتماء الفني.
إن التشكيلي حاتم تراب كتشكيلي ينظر لحركة تشكيلية جادة بعد ثورة الياسمين وهذه الحركة لم تخرج عن نطاق اللوحة التشكيلية المتعارف عليها من اللوان وكنفاس canvas واطار، لكنها هي تمرد على الفن الزائف والمألوف من حيث الخامة اللونية والمرجعية الفكرية مستمدا مشروعيته من الموروث الثقافي التونسية والحشمة داخل الملحف الاسود التي تضفي علي المرأة نوعا من الانوثة والجمال وعلى الحركة التشكيلية في حد ذاتها مشكلة نوعا من التميز الذاتي والذي يرتبط بجنوب الدول المغاربية كقاسم مشترك ويحدد الانتماء الجهوی لها وسط المنظومة الفنية الكونية وهذا قد يفتح افاقا أمام الفنان في ان يصاحب عروضه الفنية بعروض متحركة لفتيات تلبسن ملاحف سوداء بتشكيلات لونية هي في حد ذاتها لوحات للفنان كما هو الحال في العروض الفنية العالمية الكبرى للازياء كعرض فني متكامل يجمع بين فن التشكيل كابداع تشكيلي اكاديمي والبرفورمانس الجماعي ، اخذا من العالمية البرفورمانس ومن المحلية المرجعية الثقافية التونسية بحبكة وخبرته الفنية الاكاديمية. كما اكد دائما ان تناغم الوانه ورموزه البسيطة العمیقة تذکرنا دائما بفلسفة موندريان التی تدعو إلى تناغم مثالي للألوان في رسوماته، جنبًا إلى جنب مع خطوط سوداء أفقية وعمودية تمامًا. وما يحيلنا بذلك على فكرة فن موندريان وأسلوبه عالميا، و التي استلهموه كثير من المصممين في الأثاث والازياء والهندسة والديكور.... مما يجعلني اتطلع ان تكون لاعمال الفنان حاتم نفس الصدى لفنه بتونس او عربيا ولما لا عالميا.
لكن الملحوظة الهامة التي يجب الوقوف عندها فكريا هي لماذا ربط الفنان تجديده الفني برمزية الملحف الاسود الذي يشتهر به الجنوب التونسي؟
الجواب واضح وبسيط لكنه عميق وهو انه يريد تكسير التبعية للغرب في المجال الابداعي ، وربطه بالجنوب وبالمحلي . واننا بحاجة ماسة لنجتهد وننقب في وروثنا لانه غني بالالوان والرموز والدلالات ولا نحتاج لنهاجر لنتذوق او نتعرف على الفن في اعمق دلالاته.
وخلاصة القول عن اعمال الفنان حاتم تراب يصح عليها ما اعتبرته كاتبة الفن المعاصر نتالي هينيك : “ ثورة فنية حقيقية أدت إلى خلق نوع جمالي جديد، نوع جنيسي، (genre générique)، “ الذی سمته براديغم على مستويات فكرية مختلفة: جمالية، اقتصادية، قانونية، خطابية ومؤسساتية. بمعنى آخر، أن اعماله بعد الثورة تمثل البراديغم التونسي المعاصر اي بنية عامة للمفاهيم المتعامل بها في حقبة زمنية معينة، ناتجة عن التجربة والنشاط الإنسانيين. وأن ما يميز براديغم حاتم تراب هو أنه لا يشتمل ليس فقط على البعد الكرونولوجي للمراحل المتعارف عليها في تاريخ الفن التونسي من خلال تكوينه الاكاديمي وتنظيره للعملية الابداعية محليا ، والبعد الأجناسي للتصنيف الذي يهم علم الجمال، وإنما أيضا على الخطابات عن الفن والاقتصاد والقانون والمؤسسات والقيم وأشكال حركية وتلقي الأعمال بالساحة التونسية . اننا اليوم كما يقول الناقد التونسي قویعه ”في عصر الجماهير الفاعلة، في اجلى علاقة الفن بالحياة ... ليس الفنّ رسما لأشكال الحياة بل هو بعث للحياة في الأشكال بعد أن جمّدها الإستهلاك وحنّطتها الذّاكرة وسطّحتها الحضارة. والنظر مستمرّ ...“ كما اننا امام أعمال وازنة ولا ينقصنا إلا متلقي متذوق يفهم الفن في اعلى تجلياته بابسط انجازاته لان المسالة ليست أزمة فنان مبدع ولكن نحن نعيش أزمة متلقي غير مؤهل ثقافيا وفنيا لاعمال مثل هذه كما اشار لذلك الناقذ خليل قويعه في كتابه ” إننا اليوم في فن بلاجمهور: لقد تمحور تاريخ الممارسة الفنّيّة في العالم العربي حول عالم " الفنّان"، " المبدع"، " المنتج"، العبقري"، " الموهوب"، فيما وقع إقصاء الجمهور وتجاهل منزلته وقدرته على مواصلة مسار الإبداع نفسه... نحن اقصينا الجمهور ولم نعمل على تكوينه منذ الطفولة، فكيف لنا ان نؤسس معه سوقا للفن؟!“.3
. ويبقي هذا دور الكتاب والنقاد لتوصيل فن التشكيلي للجمهور الواسع لانه عاجز عن قراءة ابسط عمل فني كما تقول الفنانة والكاتبة سلافة الماغوط : ” أرهقتني أسئلة السائلين. مثل ماذا تعني هذه اللوحة؟ حتى لو كانت صحن فواكه. لا يفك رموزها المتفرج و لا يقتنيها و لا يثمنها. لذلك تفرغت للكتابة لأن الفن لغة تواصل.“...5


بعض المراجع المهمة :
1- بشرى بن فاطمة :”الواقع العربي وتجارب ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي من الصورة إلى المفهوم“
دنیا الوطن , تاريخ النشر : 2019-11-08
1- Khadrawi, Awatef. 2012 - 2013. l’art
contemporain en Tunisie, les enjeux sociaux et internationaux. l'art contemporain en Tunisie. Paris, France : Université Paris X, 2012 - 2013.
2- Nathalie Heinich ) .le Paradigme de l'art contemporain، Structures d'une révolution artistique 2014 . Gallimard .Parisnug
(ص53).
3- الناقد التونسي خليل قويعه Khelil Gouia : العمل الفني وتحولاته، بين النظر والنظرية ( محاولة في انشاٸية النظر). المركز العربي للابحاث ودراسة السیاسات
4- بشرى بن فاطمة : ” الواقع العربي وتجارب ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي من الصورة إلى المفهوم“
دنيا الوطن , تاريخ النشر : 2019-11-08
5- سلافة الماغوط: ” الفن لغة تواصل“...القدس العربی 10 - أكتوبر - 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى