منذ عشرين سنة على الأقل تعرف والدتي أنه في صبيحة السابع والعشرين من كل شهر رمضان لابد أن أطرق بابها لأرافقها في زيارة إلى المقبرة..أفعل هذا بانتظام وأينما كان مكان إقامتي..أتدبر أمري لكي أصل إليها قبيل منتصف النهار لنكون في المقبرة قبل أن تشتعل حرارة الشمس إذا كنا صيفا أو تهطل الأمطار إذا كنا شتاء..أمي لا تحب توزيع الخبز والتين الجاف على الفقراء كما يفعل معظم الزوار..تقول من الأفضل أن نعطيهم بدلا من ذلك نقودا..فهي تعلم أن هؤلاء المتسولين والمتسولات ليسوا بحاجة إلى كل ذلك القدر الهائل من الخبز والتين الذي يوزع عليهم..ولذلك يستبدلونه لدى الباعة في مدخل المقبرة مقابل نصف ثمنه أو أقل وهؤلاء الأخيرون يعيدون بيعه لنا في دورة اقتصادية لا مثيل لها على وجه الأرض..النقود أفيد للفقراء تقول أمي وليس الخبز والتين..أعطيها حصتها من الدراهم لتتولى توزيعها على من تشاء..وأحتفظ بحصتي التي أتصدق بها على الأطفال والنساء العجائز..أمي تقدم صدقاتها لأصحاب العاهات وللأرامل..تقول إنهم من يستحقون المعروف أكثر من غيرهم..
نزور قبر جدي أولا لأنه يوجد في مكان قريب عند مدخل المقبرة من جهة اليمين..أقتلع الأعشاب التي نبتت عليه وأنظف شاهده من الغبار والتراب الذي يكون علق به خلال فترة غيابنا ثم تدعو أمي قارئا للقرآن ليتلو عليه بعض الآيات مقابل أربعة أو خمسة دراهم أسلّمها بنفسي إلى الرجل القارئ..ثم نغادر إلى قبر جدتي متبوعين بنفس القارئ..
المنطقة التي توجد فيها رفات جدتي جاءت محاذية لسور المقبرة ولذلك يرمي فيها المارة عديمو الضمير أكياس النفايات وقشور الفواكه وعلب الكرتون..أضطر إلى بذل مجهود مضاعف لأنظف المكان وأرشه بالماء..يجلس قارئ القرآن الذي يظل بانتظار فراغي من عملية التطهير..ويأخذ الرجل في قراءة الآيات وقد غطى رأسه بقبّ جلابته بحيث يصير صوته إلى خفوت فلا أعود أميز ما يقرأه فأناشده بلطف أن يرفع عقيرته فيخاطبني بنبرة غريبة قائلا بأنه يقرأ للأموات وليس للأحياء..أدعوه إلى الرحيل وأواصل القراءة على جدتي بنفسي..أختار تلك السور القصيرة التي كانت تحفظها وتحبها قيد حياتها وتستعملها بكل يسر في أداء صلواتها..يعجب ذلك والدتي وتثني على قراءتي وعندما أفرغ تمد يدها لي ببعض التين لأستعيد بها أنفاسي ناسية أننا في رمضان..
غير أنني لا أستطيع مواصلة القراءة على جميع قبور أهلنا بسبب الحر والعطش والنسيان الذي أتى على جل محفوظاتي التي تعود كلها تقريبا إلى زمن الصبا..ولذلك ألجأ إلى خدمات هؤلاء القراء الموسميين الذين يملأون المقبرة من أقصاها إلى أقصاها.. ولما كانوا في معظمهم بدواً حفظوا الكتاب سماعا ولا يفقهون في الغالب معانيه ودلالاته العميقة فقد كنت أقترح عليهم منذ البداية قراءة سور أو آيات بعينها من سور قريبة إلى نفسي خاصة سورة البقرة أو سورة الرحمن لأنهما توقظان في أعماقي ذكريات طفولية جميلة عندما كان المدرسون يطلبون منا التنافس في تجويد آيات القرآن الكريم..ولكن المشكلة كانت أن السورتين طويلتان ولا يتسع وقت القارئ لتلاوة كليهما أو حتى إحداهما في جلسة واحدة..أي على قبر واحد. وقد اهتديت إلى حل عملي وطريف هو توزيع سورة الرحمن بين قبري جدي وجدتي..وسورة البقرة بين قبري والدي وخالتي جميعة..طبعا شريطة أن يبقى القارئ الواحد هو نفسه..وحينئذ لم يكن بوسع أي واحد أن يقول عن صنيعي: تلك قسمة ضيزى..!
نبلغ قبر والدي أخيرا وكان يوجد في الطرف الآخر من المقبرة مطلا على خطوط السكة الحديدية ومشرفا على منطقة صارت صناعية وتنبت فيها معامل القرميد وصهاريج النفط التي تنتظر تعبئتها من محطة تزويد قريبة..تقول والدتي بأنها قد اعترضت في حينه على دفن زوجها في هذا الركن الموحش حيث لا أشجار ولا ظل..ولكن محافظ المقبرة أخبرها بأنه ليس لها الاختيار..فإما هنا أو في منطقة سيدي عباد على بعد عشرين كيلومتر في ضاحية المدينة فقبلت على مضض وعوضت على ذلك بغرس شجيرات ونخيل لم ينبت أبدا..
كان الوالد..أقصد قبر الوالد طبعا..قد صار إلى حالة يرثى لها من الإهمال والتصدع بسبب عوامل الطبيعة ونفايات البشر وأدخنة المصانع..ولكني أظن أن أسوأ شيء كان يعاني منه في الحقيقة هو الصوت المرعب لمرور القطار على رأس كل ربع ساعة تقريبا..وهنا تذكرت تضايق الوالد الدائم وهو على قيد الحياة من صوت القطار الذي صادف أنه كان يعبر قريبا من بيتنا في وقت من الأوقات..وقلت مع نفسي لابدّ أنه غير سعيد بمجاورة هذا الكائن الفولاذي الذي ضايقه في الحياة الدنيا وها هو ذا يصرّ على مضايقته في الآخرة..
أخذتُ وقتا لأنظّف ما استطعت من المكان وفي الأخير دعوت صبيا يحمل دلواً فيه جير ويعرض خدماته على الزوار فتولّى مقابل مبلغ صغير اتفقنا عليه تبييض واجهة القبر فسعدتْ والدتي لهذه الالتفاتة وأسفتْ لأننا لم نفعل نفس الشيء مع القبور الأخرى ثم نفحت الصبي بقشيشا زائدا نظير أن يزيد في مساحة الطلاء بحيث تتجاوز الشاهد إلى الأجزاء الأخرى من القبر..
كانت كوكبة مشكّلة من الأولاد ذوي الوجوه التي لوحتها الشمس يطوفون بين القبور لأخذ حصتهم من الزيارة..أي من الخبز والتين الذي يجري توزيعه على قدم وساق..بعضهم ارتجل بعض المهمات البسيطة نظير ما ينوبه عبرها من نقود صغيرة مثل تنقية الأضرحة من الأعشاب وطلاء القبور بالجير أو حتى قراءة بعض الآيات القصيرة على أرواح الأموات..آخرون بدوا تائهين دون قصد معلوم في أرجاء المقبرة يلتقطون حبات النبق وعنب الذئب أو فاكهة الخروب من الشجرة الوحيدة التي تنبت وسط المكان على مقربة من ضريح متهالك قيل إنه لولي مجهول اسمه سيدي امحمد المليح..بين لحظة أخرى تظهر امرأة متّشحة بالبياض جالسة عند شاهدة قبر كأنها تُحدّث الراحل أو تبوح له ببعض الأسرار..وتكون في الغالب زوجة حديثة الترمل لم تجد بعد طريقها إلى الحياة الطبيعية بين طائفة الأحياء..بقية الزوار يمضون صامتين وهم ينقّبون عن قبر قريب غطّته النباتات أو تغيّر موقعه بسبب الاكتظاظ وسوء هندسة مدينة الأموات هاته..البعض الآخر يتحركون جماعة وهم مستغرقون في نقاشات عارمة..يسوقون أدلة أو يقدمون مقترحات لا يستمع لها أحد..
تمضي ساعات الصباح والظهيرة والمواطنون لا يكفون عن التوافد غالبا مشيا على الأقدام قاطعين مسافات طويلة أحيانا من أجل والد أو ابن..رجل أو امرأة غيبهم الموت ولم تنقطع بعد صلتهم بالحياة..الألم والحنين مرسومان على الوجوه التي لا تبتسم..علامات السهر وإمارات التعب لا تخطئها العين على ملامح البشر السائرين كالنيام في هذا الجو الجنائزي الكالح..هناك سقاؤون يحملون قربا جلدية أو صفائح معدنية يملؤها ماء لا يدري أحدٌ من أين جلبوه..هؤلاء يمارسون مهنة غريبة هي سقي القبور..أقول مع نفسي: هل تعاني قبور الأشخاص الأموات من العطش إلى هذا الحد؟ يلح الزوار في مساومة السقّائين ولا ينجحون في إقناعهم بما يعرضون عليهم..
كل واحد هنا يمضي إلى حال سبيله وقد بدا مشغولا بأمر يخصه أو بشيء يجد في البحث عنه..قبر أو شاهدة مثلا..شجرة أو علامة ما ترشده إلى مثوى حبيب غائب..السقاؤون يعلنون عن بضاعتهم ولا يجدون كثيرا من الزبناء بسبب الأسعار المرتفعة لقربة أو صفيحة الماء..اتركوا موتاكم عطشى إذن..أهذا ما تريدونه؟..جميع الناس هنا فقراء..أقصد الزوار والباعة والمتسولين وحفاري القبور وقد شمّروا عن سيقانهم المعفرة بالتراب..
كان التعب والجوع قد أخذ منّي كل مأخذ ولكن لحسن الحظ كنا قد أشرفنا على إنهاء مهمتنا الجنائزية ولم يبق لنا سوى الانسحاب ومغادرة المقبرة والذهاب إلى حال سبيلنا على موعد العودة في نفس اليوم من السنة القادمة.
الحرارة تشتد والغبار يرتفع والجو خانق بسبب الطقس ورمضان وكل شيء..أسأل الوالدة هل نغادر؟ ليس بعد..تجيبني..لم نعثر بعد على قبر خالتك جميعة..لا أدري أين اختفى أو ابتلعته الأرض..أذكّرها أننا دفناها عند مدخل المقبرة الجنوبي ناحية الحقول..لا..لا.يا ابني..تعترض الوالدة..قبر جميعة يوجد هنا بالتأكيد..ولكن أين؟ تلك هي المشكلة..تبدو أحاديث ووقائع المقبرة شكسبيرية..عبثية بل وسريالية ينقصها الانسجام والتواصل..هذا شخص نصف مجنون ونصف مشرد يقفز على الأضرحة مثل بطل أولمبي وسط دهشة الجميع..يتصبّب عرقا وتنزف ساقه فلا يأبه لها..لا أحد يجد ضرورة لنهره أو إعادته إلى الصواب..هذا إذا بقي هناك صواب أصلا في بقاع الموت هاته..قبر خالتي جميعة تبخّر أو دمره هذا المعتوه في عبوره الجهنمي وربما ابتلعته الأرض كما تعتقد والدتي..هذه المرأة كانت عرافة مشهورة قيد حياتها وتتعامل مع طوائف الجن والعفاريت ولابد أنهم دعوها إلى ضيافتهم..نهرتني الوالدة وكأنها كانت تقرأ أفكاري..لا تقل ذلك عن خالتك جميعة..لا لم تكن خالتي سوى بالمعنى المجازي..كانت جارتنا فحسب وخيرها يفيض على حومتنا بفضل زبنائها الذين يتوافدون كل يوم..ظلوا يأتون للسؤال عنها من جميع المناطق حتى بعد موتها ودفنها بعدة أشهر..يقولون إنهم لا يجدون أحسن منها في مجال تخصصها..كانت تبرع في مجال عقد الزيجات وإنقاذ البنات من البوار وتعمل على تخليص الزوجات من الضرّات المزعجات..وفي هذا التخصص الأخير كانت تبرز موهبتها التي لا تنافسها فيها عرافة في المدينة برمتها..
ها هي ذي الوالدة تعثر أخيرا على قبرها وقد علاه الشوك والعليق حتى توارت معالمه كلية أو كادت..مسكينة خالتي جميعة لم تخلّف أولادا أو أحفادا ليعتنوا بقبرها الذي عمل فيه الإهمال عملته..فكرتُ وأنا أساعد والدتي على إدخال بعض التغيير على شكل القبر دون جدوى..لو كانت في قلوب عملائها ذرة من الرحمة لحجوا لزيارتها والاعتناء بضريحها بعد مماتها بعد أن اعتنت بهم في حياتها..ولكن من شيم الناس نكران الجميل والامتناع عن الاعتراف بالخدمات التي يكون قد أسداها لهم الأموات المساكين..
في السنة الموالية غمرت المقبرة مياه الأمطار وسيول الأوحال وصار من غير الممكن أن نصل إلى قبور أهلنا..وكان من رأي أمي أن نسلّم عليهم وندعو لهم ونحن واقفان عند باب المقبرة ولابد أنهم سيتعرفون علينا وتصلهم دعواتنا..وقد غمرنا الأسف لاضطرارنا لفعل ذلك ولكن لا بأس قالت أمي.
وفي السنة التي بعدها انتشرت أعشاب متوحشة وعالية في جميع أطراف المقبرة وأصبحت الممرات الصغيرة بين القبور مليئة بالحفر والمطبّات بحيث صار من المستحيل عبورها والبلوغ إلى مواقع القبور..بعد محاولات فاشلة عدتُ إلى جوار أمي وقد أدمت الأشواك يدي وعلقت بساقي..كان المكان قد تحول إلى شيء شبيه بأدغال برية لا يقوى على مقاومتها إنسان أو حيوان..ومرة أخرى أرسلنا دعواتنا في الهواء وابتلعنا مرارة الأسف لأننا أخطأنا موعدنا مع أمواتنا..
أعطتْ أمي كمشة من النقود إلى امرأة ضريرة تقف بعكازها عند باب المقبرة ولا تتسابق مع المتسولات الأخريات لأخذ حصتهن من الخبز والتين..وفي الطريق إلى البيت اشترت بالباقي كمية من البرتقال قالت إنها ستقدمها هدية لأولاد الجيران لأنهم في رأيها مثل الملائكة الذين تجوز فيهم الصدقة..
في ليلة السابع والعشرين من رمضان لهذه السنة اتصلت بي الوالدة عبر هاتف البيت لتقول لي: لا حاجة لمجيئك يا ابني هذه السنة فقد أقفلوا المقبرة وسدوا بابها بالآجر..وفتحوا بجانبها مقبرة جديدة تبرع بأرضها أحد أعيان المدينة..لا تتجشّم مشقة المجيء فليس لنا أموات في هذه المقبرة الجديدة يا ولدي..
أحسستُ بغصّة في حلقي لأنهم أغلقوا على أمواتنا وحرمونا من التواصل معهم.. وقبل أن أضع السماعة ارتكبت الوالدة خطأ فادحا بالتفوه بعبارة رهيبة..قالت لي كأنها تواصل حديثا لم ينقطع:
-اسمع يا ولدي..حقيقة المقبرة الجديدة نظيفة وطرقاتها مبلطة ويشتهي الواحد أو يوارى التراب فيها..ولكن إذا أردتَ الصواب فلابدَ من الانتظار بعض الشيء..أقصد على الأقل حتى تأخذ في الامتلاء كفاية..
نزور قبر جدي أولا لأنه يوجد في مكان قريب عند مدخل المقبرة من جهة اليمين..أقتلع الأعشاب التي نبتت عليه وأنظف شاهده من الغبار والتراب الذي يكون علق به خلال فترة غيابنا ثم تدعو أمي قارئا للقرآن ليتلو عليه بعض الآيات مقابل أربعة أو خمسة دراهم أسلّمها بنفسي إلى الرجل القارئ..ثم نغادر إلى قبر جدتي متبوعين بنفس القارئ..
المنطقة التي توجد فيها رفات جدتي جاءت محاذية لسور المقبرة ولذلك يرمي فيها المارة عديمو الضمير أكياس النفايات وقشور الفواكه وعلب الكرتون..أضطر إلى بذل مجهود مضاعف لأنظف المكان وأرشه بالماء..يجلس قارئ القرآن الذي يظل بانتظار فراغي من عملية التطهير..ويأخذ الرجل في قراءة الآيات وقد غطى رأسه بقبّ جلابته بحيث يصير صوته إلى خفوت فلا أعود أميز ما يقرأه فأناشده بلطف أن يرفع عقيرته فيخاطبني بنبرة غريبة قائلا بأنه يقرأ للأموات وليس للأحياء..أدعوه إلى الرحيل وأواصل القراءة على جدتي بنفسي..أختار تلك السور القصيرة التي كانت تحفظها وتحبها قيد حياتها وتستعملها بكل يسر في أداء صلواتها..يعجب ذلك والدتي وتثني على قراءتي وعندما أفرغ تمد يدها لي ببعض التين لأستعيد بها أنفاسي ناسية أننا في رمضان..
غير أنني لا أستطيع مواصلة القراءة على جميع قبور أهلنا بسبب الحر والعطش والنسيان الذي أتى على جل محفوظاتي التي تعود كلها تقريبا إلى زمن الصبا..ولذلك ألجأ إلى خدمات هؤلاء القراء الموسميين الذين يملأون المقبرة من أقصاها إلى أقصاها.. ولما كانوا في معظمهم بدواً حفظوا الكتاب سماعا ولا يفقهون في الغالب معانيه ودلالاته العميقة فقد كنت أقترح عليهم منذ البداية قراءة سور أو آيات بعينها من سور قريبة إلى نفسي خاصة سورة البقرة أو سورة الرحمن لأنهما توقظان في أعماقي ذكريات طفولية جميلة عندما كان المدرسون يطلبون منا التنافس في تجويد آيات القرآن الكريم..ولكن المشكلة كانت أن السورتين طويلتان ولا يتسع وقت القارئ لتلاوة كليهما أو حتى إحداهما في جلسة واحدة..أي على قبر واحد. وقد اهتديت إلى حل عملي وطريف هو توزيع سورة الرحمن بين قبري جدي وجدتي..وسورة البقرة بين قبري والدي وخالتي جميعة..طبعا شريطة أن يبقى القارئ الواحد هو نفسه..وحينئذ لم يكن بوسع أي واحد أن يقول عن صنيعي: تلك قسمة ضيزى..!
نبلغ قبر والدي أخيرا وكان يوجد في الطرف الآخر من المقبرة مطلا على خطوط السكة الحديدية ومشرفا على منطقة صارت صناعية وتنبت فيها معامل القرميد وصهاريج النفط التي تنتظر تعبئتها من محطة تزويد قريبة..تقول والدتي بأنها قد اعترضت في حينه على دفن زوجها في هذا الركن الموحش حيث لا أشجار ولا ظل..ولكن محافظ المقبرة أخبرها بأنه ليس لها الاختيار..فإما هنا أو في منطقة سيدي عباد على بعد عشرين كيلومتر في ضاحية المدينة فقبلت على مضض وعوضت على ذلك بغرس شجيرات ونخيل لم ينبت أبدا..
كان الوالد..أقصد قبر الوالد طبعا..قد صار إلى حالة يرثى لها من الإهمال والتصدع بسبب عوامل الطبيعة ونفايات البشر وأدخنة المصانع..ولكني أظن أن أسوأ شيء كان يعاني منه في الحقيقة هو الصوت المرعب لمرور القطار على رأس كل ربع ساعة تقريبا..وهنا تذكرت تضايق الوالد الدائم وهو على قيد الحياة من صوت القطار الذي صادف أنه كان يعبر قريبا من بيتنا في وقت من الأوقات..وقلت مع نفسي لابدّ أنه غير سعيد بمجاورة هذا الكائن الفولاذي الذي ضايقه في الحياة الدنيا وها هو ذا يصرّ على مضايقته في الآخرة..
أخذتُ وقتا لأنظّف ما استطعت من المكان وفي الأخير دعوت صبيا يحمل دلواً فيه جير ويعرض خدماته على الزوار فتولّى مقابل مبلغ صغير اتفقنا عليه تبييض واجهة القبر فسعدتْ والدتي لهذه الالتفاتة وأسفتْ لأننا لم نفعل نفس الشيء مع القبور الأخرى ثم نفحت الصبي بقشيشا زائدا نظير أن يزيد في مساحة الطلاء بحيث تتجاوز الشاهد إلى الأجزاء الأخرى من القبر..
كانت كوكبة مشكّلة من الأولاد ذوي الوجوه التي لوحتها الشمس يطوفون بين القبور لأخذ حصتهم من الزيارة..أي من الخبز والتين الذي يجري توزيعه على قدم وساق..بعضهم ارتجل بعض المهمات البسيطة نظير ما ينوبه عبرها من نقود صغيرة مثل تنقية الأضرحة من الأعشاب وطلاء القبور بالجير أو حتى قراءة بعض الآيات القصيرة على أرواح الأموات..آخرون بدوا تائهين دون قصد معلوم في أرجاء المقبرة يلتقطون حبات النبق وعنب الذئب أو فاكهة الخروب من الشجرة الوحيدة التي تنبت وسط المكان على مقربة من ضريح متهالك قيل إنه لولي مجهول اسمه سيدي امحمد المليح..بين لحظة أخرى تظهر امرأة متّشحة بالبياض جالسة عند شاهدة قبر كأنها تُحدّث الراحل أو تبوح له ببعض الأسرار..وتكون في الغالب زوجة حديثة الترمل لم تجد بعد طريقها إلى الحياة الطبيعية بين طائفة الأحياء..بقية الزوار يمضون صامتين وهم ينقّبون عن قبر قريب غطّته النباتات أو تغيّر موقعه بسبب الاكتظاظ وسوء هندسة مدينة الأموات هاته..البعض الآخر يتحركون جماعة وهم مستغرقون في نقاشات عارمة..يسوقون أدلة أو يقدمون مقترحات لا يستمع لها أحد..
تمضي ساعات الصباح والظهيرة والمواطنون لا يكفون عن التوافد غالبا مشيا على الأقدام قاطعين مسافات طويلة أحيانا من أجل والد أو ابن..رجل أو امرأة غيبهم الموت ولم تنقطع بعد صلتهم بالحياة..الألم والحنين مرسومان على الوجوه التي لا تبتسم..علامات السهر وإمارات التعب لا تخطئها العين على ملامح البشر السائرين كالنيام في هذا الجو الجنائزي الكالح..هناك سقاؤون يحملون قربا جلدية أو صفائح معدنية يملؤها ماء لا يدري أحدٌ من أين جلبوه..هؤلاء يمارسون مهنة غريبة هي سقي القبور..أقول مع نفسي: هل تعاني قبور الأشخاص الأموات من العطش إلى هذا الحد؟ يلح الزوار في مساومة السقّائين ولا ينجحون في إقناعهم بما يعرضون عليهم..
كل واحد هنا يمضي إلى حال سبيله وقد بدا مشغولا بأمر يخصه أو بشيء يجد في البحث عنه..قبر أو شاهدة مثلا..شجرة أو علامة ما ترشده إلى مثوى حبيب غائب..السقاؤون يعلنون عن بضاعتهم ولا يجدون كثيرا من الزبناء بسبب الأسعار المرتفعة لقربة أو صفيحة الماء..اتركوا موتاكم عطشى إذن..أهذا ما تريدونه؟..جميع الناس هنا فقراء..أقصد الزوار والباعة والمتسولين وحفاري القبور وقد شمّروا عن سيقانهم المعفرة بالتراب..
كان التعب والجوع قد أخذ منّي كل مأخذ ولكن لحسن الحظ كنا قد أشرفنا على إنهاء مهمتنا الجنائزية ولم يبق لنا سوى الانسحاب ومغادرة المقبرة والذهاب إلى حال سبيلنا على موعد العودة في نفس اليوم من السنة القادمة.
الحرارة تشتد والغبار يرتفع والجو خانق بسبب الطقس ورمضان وكل شيء..أسأل الوالدة هل نغادر؟ ليس بعد..تجيبني..لم نعثر بعد على قبر خالتك جميعة..لا أدري أين اختفى أو ابتلعته الأرض..أذكّرها أننا دفناها عند مدخل المقبرة الجنوبي ناحية الحقول..لا..لا.يا ابني..تعترض الوالدة..قبر جميعة يوجد هنا بالتأكيد..ولكن أين؟ تلك هي المشكلة..تبدو أحاديث ووقائع المقبرة شكسبيرية..عبثية بل وسريالية ينقصها الانسجام والتواصل..هذا شخص نصف مجنون ونصف مشرد يقفز على الأضرحة مثل بطل أولمبي وسط دهشة الجميع..يتصبّب عرقا وتنزف ساقه فلا يأبه لها..لا أحد يجد ضرورة لنهره أو إعادته إلى الصواب..هذا إذا بقي هناك صواب أصلا في بقاع الموت هاته..قبر خالتي جميعة تبخّر أو دمره هذا المعتوه في عبوره الجهنمي وربما ابتلعته الأرض كما تعتقد والدتي..هذه المرأة كانت عرافة مشهورة قيد حياتها وتتعامل مع طوائف الجن والعفاريت ولابد أنهم دعوها إلى ضيافتهم..نهرتني الوالدة وكأنها كانت تقرأ أفكاري..لا تقل ذلك عن خالتك جميعة..لا لم تكن خالتي سوى بالمعنى المجازي..كانت جارتنا فحسب وخيرها يفيض على حومتنا بفضل زبنائها الذين يتوافدون كل يوم..ظلوا يأتون للسؤال عنها من جميع المناطق حتى بعد موتها ودفنها بعدة أشهر..يقولون إنهم لا يجدون أحسن منها في مجال تخصصها..كانت تبرع في مجال عقد الزيجات وإنقاذ البنات من البوار وتعمل على تخليص الزوجات من الضرّات المزعجات..وفي هذا التخصص الأخير كانت تبرز موهبتها التي لا تنافسها فيها عرافة في المدينة برمتها..
ها هي ذي الوالدة تعثر أخيرا على قبرها وقد علاه الشوك والعليق حتى توارت معالمه كلية أو كادت..مسكينة خالتي جميعة لم تخلّف أولادا أو أحفادا ليعتنوا بقبرها الذي عمل فيه الإهمال عملته..فكرتُ وأنا أساعد والدتي على إدخال بعض التغيير على شكل القبر دون جدوى..لو كانت في قلوب عملائها ذرة من الرحمة لحجوا لزيارتها والاعتناء بضريحها بعد مماتها بعد أن اعتنت بهم في حياتها..ولكن من شيم الناس نكران الجميل والامتناع عن الاعتراف بالخدمات التي يكون قد أسداها لهم الأموات المساكين..
في السنة الموالية غمرت المقبرة مياه الأمطار وسيول الأوحال وصار من غير الممكن أن نصل إلى قبور أهلنا..وكان من رأي أمي أن نسلّم عليهم وندعو لهم ونحن واقفان عند باب المقبرة ولابد أنهم سيتعرفون علينا وتصلهم دعواتنا..وقد غمرنا الأسف لاضطرارنا لفعل ذلك ولكن لا بأس قالت أمي.
وفي السنة التي بعدها انتشرت أعشاب متوحشة وعالية في جميع أطراف المقبرة وأصبحت الممرات الصغيرة بين القبور مليئة بالحفر والمطبّات بحيث صار من المستحيل عبورها والبلوغ إلى مواقع القبور..بعد محاولات فاشلة عدتُ إلى جوار أمي وقد أدمت الأشواك يدي وعلقت بساقي..كان المكان قد تحول إلى شيء شبيه بأدغال برية لا يقوى على مقاومتها إنسان أو حيوان..ومرة أخرى أرسلنا دعواتنا في الهواء وابتلعنا مرارة الأسف لأننا أخطأنا موعدنا مع أمواتنا..
أعطتْ أمي كمشة من النقود إلى امرأة ضريرة تقف بعكازها عند باب المقبرة ولا تتسابق مع المتسولات الأخريات لأخذ حصتهن من الخبز والتين..وفي الطريق إلى البيت اشترت بالباقي كمية من البرتقال قالت إنها ستقدمها هدية لأولاد الجيران لأنهم في رأيها مثل الملائكة الذين تجوز فيهم الصدقة..
في ليلة السابع والعشرين من رمضان لهذه السنة اتصلت بي الوالدة عبر هاتف البيت لتقول لي: لا حاجة لمجيئك يا ابني هذه السنة فقد أقفلوا المقبرة وسدوا بابها بالآجر..وفتحوا بجانبها مقبرة جديدة تبرع بأرضها أحد أعيان المدينة..لا تتجشّم مشقة المجيء فليس لنا أموات في هذه المقبرة الجديدة يا ولدي..
أحسستُ بغصّة في حلقي لأنهم أغلقوا على أمواتنا وحرمونا من التواصل معهم.. وقبل أن أضع السماعة ارتكبت الوالدة خطأ فادحا بالتفوه بعبارة رهيبة..قالت لي كأنها تواصل حديثا لم ينقطع:
-اسمع يا ولدي..حقيقة المقبرة الجديدة نظيفة وطرقاتها مبلطة ويشتهي الواحد أو يوارى التراب فيها..ولكن إذا أردتَ الصواب فلابدَ من الانتظار بعض الشيء..أقصد على الأقل حتى تأخذ في الامتلاء كفاية..