على مشارف بوابة محطة سيارات الأجرة الكبيرة، بالجهة المعاكسة لأشعة شمس ذاك الصباح الربيعي، حيث كنت مقبلا على الذهاب لزيارة أحد الأقارب، التقيته و قد افترش ورقا كارتونيا، اقتربت منه، أشاح بيديه عن وجه الشاحب، تملل ذات اليسار و ذات اليمين، اعتلته ابتسامة محمومة و قال " آه أستاذ، توحشتك، هانا رجعت، .. " كلمات تراقصت في مسامعي دون روح، سالته " متى عدت؟ ولماذا؟ هل أنت بخير؟ " لم يجب، ظل مسمرا عينه صوبي، طأطأ رأـسه متنهدا: " آش من خير باقي في هذه البلاد، كلشي بحال بحال، كيت اللي جات فيه... " إنه أيوب الطفل البشوش، الذي كان كل سكان الزقاق يحبونه، رغم معرفتهم أنه كان نتيجة حمل غير شرعي، من أم وهبت مفاتنها للدعارة، و الليالي الماجنة في الحانات و بيوت القوادة المقننة و غير المقننة، من أجل حياة كريمة لابنها أيوب، منحته الدفء والحنان ولو لسويعات حتى لا يشعر بانعدام الأبوة، لم تبخل عنه بأي شيء. بلغ أيوب سن التمدرس، فكان له مقعد بإحدى المدارس التي تبعد عن الزقاق بالشيء القليل، أحس بطفولته رفقة أقرانه، يلعب ، يجري، يتعارك ، يتصالح، يسرد لأمه أوقات تواجدها معه بعض ما حكى لهم المعلم، في الدين و الأخلاق، .... أيام يتذكرها أيوب بسعادة، كما يتذكر أسوأها بكل مرارة و حرقة، لما شكلته له من عقد نفسية، كانت من أسباب ما هو عليه اليوم، " تربص به لما يزيد عن السنة، كان خلالها يقدم له حلويات و ألعاب، و أحيانا قصصا و مجلات، إلى أن أتيحت له الفرصة المواتية في ذلك اليوم، حين لعبت الأقدار لعبتها، يوم لم يحضر فيه أستاذه، التقاه وهو يغادر باب المدرسة، فريسة سهلة المنال، أسالت لعابه، و جعلته يزيد من حصة الأقراص التي يتناولها محولة إياه لذئب بشري، اقترب من أيوب وهمس في مسامعه أنه محظوظ بلقائه كون أمه تنتظره في منزلهم و أنه على عجل من أمره كي يوصله إليها، مانحا إياه خمسة دراهم ، أيوب لم يتردد و استسلم لابن حيهم، " سيمو " كيف و هو يمتلك الآن خمسة دراهم، قلما تمنحها له والدته، غرق تفكيره و هو يسارع خطى " سيمو " فيما قد يشتريه بالخمسة دراهم، ماهي إلا دقائق حتى وجد نفسه داخل غرفة تم إيصاد بابها، غرفة ذات رائحة نثنة من كثرة الزبالة و الفوضى التي تعتريها، لم تعد عينا أيوب تدرك بداخلها سوى خطوط نورانية دقيقة عابرة لشقوق النافذة الموصودة، أحس بذعر شديد و هو يرى الوحش الآدمي يزيل سرواله، و يطالبه بالقيام بنفس العملية، و عيناه جحيم سعرت، رمى الخمسة دراهم، طلب الإغاثة، ولا من مجيب، كمم أنفه بثوب مبتل، غاب أيوب عن الوعي وفقد الإحساس، استرخى فاسحا المجال أن يعبث " سيمو " في جسده الطاهر و البريء كما يحلو له بلا رحمة ولا شفقة، عبث بذاتـــه كيفما شاء مخلفا في مؤخرته خدوشا و آلاما لم يقو بعدها أيوب على السير، آلاما لن تنذمل من ذاكرته مهما حاول، فتح الباب و أطلق سبيله مهددا إياه في حالة البوح بما وقع بإعادة الكرة له و قتله. انقلبت حياة أيوب رأسا عن عقب، أصبح يخشى السير بين العامـــة، و بين الدروب الضيقـــة، حتى المؤدية منها إلى المدرسة، أصيب بحالة التوجس من كل شخص يقترب منه، لحد أنه بين الفينة و الأخرى يشرع في تحسس جميع أعضائه السفلية، و بالبيت غابت ابتسامته و شقاوة طفولته التي كانت أمه تشتكي منها لصديقاتها في المهنة. تضاعفت الحالة النفسية لأيوب لدى معرفته بالمهنة التي تحترفها أمه، و أنه كان نتيجة علاقة غير شرعية، تدهورت صحته، تحول من ذلك الطفل الوديع لطفل عاق، عنيف، غير مبال بواجباته، حاولت الأم معرفة الأسباب، و أمام عجزها استسلمت بعد أن غادرت المدينة لوجهة جديدة، لعلها تقلل القيل و القال فيها، انغمست في لياليها الحمراء، متنقلة من سرير لسرير و من حضن لحضن، تاركة أمر ابنها لإحدى الجارات، مقابل أجرة للعناية به، قلما تراه أو تتحدث إليـــه أو تضفي عليه مما تبقى لديها من حنان بعد الذي وزعته على فرسان لياليها، و بدون سابق إشعار و أمام الفراغ الذي أحس به مع هذه الجارة التي لا يهمها إلا ما تتقاضاه من أمه، طلق المدرسة و كل ما يصله بها، متخذا من المحطة الطرقية ملجــأ له، و أحيانا تجده تحت ظل تلك الشجرة الوارفة بالقرب من المحجز البلدي مناجيا إياها. لم تمض سنة على هذا النحو حتى اختفى أيــــــــوب عن الأنظار، طالقا العنان لإحدى المدن المجاورة رفقة مجموعة تعرف عليها، أغلبها هرب من عنف الأهل أو المدرسة أو الإهمال، شدوا الرحـــال مشيا على الأقدام حتى بلغوا المدينة الغول، مدينــــة تكبرهم بكل ما تحتويــــــه، مدينة احتشدت فيها كل الأصناف البشرية، أصناف قادمة من كل صوب و حذب، لكل حياته، مدينة المشردين و المتسكعين بامتيـــاز. اتخذ أيــــوب ابن العاشرة مكانا بأحد مخابئ الميناء مع مجموعة يحكمها قانون الغاب، و المكر و الذهاء، تذكر ايوب " سيمو " و هو يتعرض للمرة الثانية للاغتصاب و هي المرة من قبل زعيم المشردين بالميناء " باكو "، على مرأى و مسمع المجموعة، تألم أيوب، لم يستسغ حياته الجديدة وسط هذا العالم الذي فقدت الإنسانية آدميتها و تحولت لحيوانات، قرر الانزواء و البحث عن الانفرادية في العيش و الحياة، انتقل لمحطة العربات المجرورة، يبيت تحت سقف متهاو على أربع عجلات بعد قضاء يومه متسكعا بين الدروب و الأزقة، منقبا في حاويات القمامــــة تارة، مستجديا ببعض المارة أخرى. مرت خمس سنوات على هذا الحال، بعيدا عن عالمه الأول، همه سد رمقه، و إمتاع دماغه. أيوب الذي كان ذات يوم تلميذا، له حلم كباقي أقرانه، ليس هو أيوب اليوم، تجاهل ماضيه كما تجاهل أمه و الجارة، فما دام لقيطا، كما أسر لي في آخر لقاء لي به و أنا أغادر هذه المدينة الحبلى بمئات الأيوبات الذين اختلفوا في الأسماء و التقوا في الحالة، أنه نتيجة عقوبة الشارع من أم عاقبتها الحياة، فهو الأجدى باحتضانه.