عائشة المراغى - الطالبة التي تنبأت لها لطيفة الزيات بأن تصبح «كاثرين مانسفيلد»

أثناء دراستها بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، شاركت في مسابقة للقصة القصيرة كانت تتولَّى تحكيمها د.لطيفة الزيات، زوجة رئيس القسم حينها د.رشاد رشدي. وفي حفل الإعلان عن القصة الفائزة وقفت الزيات قائلة «فازت بالمسابقة الطالبة اعتدال عثمان، وقد اخترتُ قصتها لأنها تكشف عن موهبة، إذا نمّتها واعتنت بها سيكون لدينا في مصر كاتبة مثل كاثرين مانسفيلد».
بعد ما يزيد على أربعين عامًا منذ ذلك اليوم، صعدت الكاتبة والناقدة اعتدال عثمان إلى المسرح الصغير بدار الأوبرا لتتسلم جائزة كفافيس في دورتها الخامس عشرة، عن السرد القصصي، تلك الجائزة التي سبقها إليها نجيب محفوظ وبهاء طاهر وثروت عكاشة وإدوار الخراط وجمال الغيطاني ورضوى عاشور وغيرهم.
في المرة الأولى تفاجأت اعتدال عثمان عندما سمعت اسمها يُنطق على لسان لطيفة الزيات، الكاتبة الكبيرة ذائعة الصيت، تقول: «من وقتها صارت لطيفة الزيات أمي الروحية. عبارتها لي وأنا طالبة جعلتني أنظر لها كنموذج ومثل أعلى». أما المرة الثانية فاختلط فيها الاندهاش بالاعتزاز، توضِّح: «تفكير زملائي في ترشيحي للحصول على جائزة مثل كفافيس، يعَّد في حد ذاته بمثابة جائزة، فالتقدير شيء جميل وقيمة كبيرة جعلتني أشعر بمزيج من الاعتزاز والفخر، والإحساس بالمسئولية بأن أكون على المستوى المستحَق».
لم يكن موقف لطيفة الزيات هو الأول في الإعلان عن نبوغ اعتدال عثمان، إذ سبقه بسنوات قليلة موقف آخر لا يقل عنه أهمية، حينما كانت تلميذة في المرحلة الثانوية وتشارك في إعداد المجلة المدرسية، وكان من عادات المكتبة دعوة ضيوف من الخارج، وذات مرة كان المدعو هو أحمد بهاء الدين، رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» آنذاك، لمناقشة الطالبات حول المجلة ونقل خبراته إليهم، وبالصُدفة تحدثت اعتدال فالتفت بهاء الدين إليها قائلًا «أنتِ لديك موهبة ويمكن أن يكون لكِ اسمًا في عالم الصحافة» ثم طلب منها المجيء في الصيف لتتدرب بمجلة «صباح الخير»، لكنها لم تفعل، إذ التحقت بقسم اللغة الإنجليزية بدلًا من الصحافة، باعتبار أن الاطلاع على الأدب الأجنبي سيفيدها ويزيد معلوماتها، وسيمكنها فيما بعد من ممارسة الصحافة أو الكتابة.
إلى جانب القراءة والكتابة؛ اكتسبت اعتدال عثمان ثقافة سينمائية متميزة، أتاحتها لها شرفة المنزل الذي كانت تسكنه في شارع الضاهر، المطِّلة على سينما صيفي تعرض ثلاثة أفلام كل ليلة. ذلك المنزل الذي انتقلت للعيش فيه بالقاهرة – محل مولدها – بعد أن قضت الخمس سنوات الأولى من حياتها في مدينة طوخ بالقليوبية، عقب وفاة والدها وعمرها لا يزال شهورًا، عاشت هناك في كنف خالتها «اعتدال» وارتبطت بالريف.
أثار فضولي اسم خالتها فسألتُها إن كانت سُميت على اسمها، لتفاجئني قائلة: «عمتي أيضًا اسمها اعتدال، كانت سيدة ذات تكوين خاة وإنسانة محبة، استطاعت في ظروف عادية أن تجعل أبناءها من كبار الأطباء؛ د.أنور المفتي ود.علي المفتي. أما خالتي فكانت أما ثانية لي، إذ لم يكن لديها أولاد».
بعد تخرجها واتتها الفرصة لإحياء حلمها القديم بالعمل في الصحافة ومزجها بثقافتها الفنية، حيث تم تعيينها في الدار المصرية للتأليف (الهيئة العامة للكتاب فيما بعد) لكن ظروف العمل الروتيني لم تناسبها، فتوجّهت إلى أستاذها في قسم اللغة الإنجليزية الدكتور مجدي وهبة الذي كان يرأس آنذاك قطاع العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة، فعرض عليها العمل في مجلة «بريزم» التي كانت تصدر عن القطاع باللغة الإنجليزية لتوزع على السفارات المصرية بالخارج، وكان من بين الإصدارات سلسلة حوارات عن المسرح المصري، اقترحتها اعتدال عثمان، وكانت وسيلتها للذهاب إلى الدور الرابع بجريدة الأهرام لإجراء الأحاديث الصحفية المطلوبة، فالتقت هناك بقامات مصر الأدبية، توفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وعائشة عبد الرحمن وثروت أباظة وغيرهم.
في تلك الأثناء أرادت صاحبة «يونس البحر» أن تنمي معلوماتها ومعرفتها، فالتحقت بقسم الدراسات العربية في الجامعة الأمريكية للحصول على الماجستير، وحصلت على الدرجة بأول دراسة يتم إعدادها باللغة الإنجليزية عن عبدالله النديم، حول المجلات التي أصدرها عقب ثورة عرابي «الأستاذ» و«التنكيت والتبكيت». ثم عملت لفترة في مشروع الببليوجرافيا الذي تصدره الجامعة ويشرف عليه د.حمدي السكوت وصدر منه عدة أجزاء.
بعد ذلك كان موعدها مع مجلة فصول، تقول اعتدال عثمان: «كنت قد أجريت حوارًا صحفيًا مع الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي كان يرأس الهيئة المصرية العامة للكتاب وقتها، فطلب مني العودة للعمل في الهيئة، والالتحاق بهيئة تحرير مجلة «فصول» التي كانت فكرة إصدارها قد دخلت حيز التنفيذ، وذلك لما لاحظه من اجتهادي خلال إجراء الحوار حول الواقع الأدبي، وأعماله الشعرية والمسرحية. كنت أول سكرتير تحرير للمجلة، وكان المجلس يضم د.عزالدين إسماعيل، ود.جابر عصفور، ود.صلاح فضل. كانت تلك أول جامعة أتخرج فيها فعليًا، وحيث تكونتُ نقديًا وفكريًا وإبداعيًا».
تغيّرت إدارة تحرير «فصول» وانتهت تجربة اعتدال عثمان فيها، لتبدأ تجربة جديدة مع مجلة «سطور» كرئيسٍ لتحريرها مع الدكتور محمد عناني. وفي عام 2001 قررت السفر إلى الإمارات، بعد تعثر المجلة ماليًا والاتجاه نحو تحويلها لمجلة إلكترونية، إذ افتتحت جامعة زايد قسمًا جديدًا للغة العربية فتقدمت إليه وقُبلت، لتحاضر للطالبات مبادئ الصحافة، مستفيدة من خبرتها الطويلة في العمل الصحفي بمصر.
حرصت صاحبة «وشم الشمس» رغم الابتعاد، على أن تظل في تماسٍ مع الحياة الثقافية في الوطن العربي، فكانت تشارك في المسابقات التي تجريها دائرة الثقافة في الشارقة وفي تحكيم جوائز أدبية وحضور الندوات والمؤتمرات الدورية، والمشاركة بأبحاث كلما أتيحت لها الفرصة، كما شاركت في مؤتمر الرواية بمصر.
بعد أربع سنوات من عودة اعتدال عثمان إلى وطنها والاستقرار فيه مرة أخرى، حصلت على تتويج لمسيرتها الإبداعية، لكن المفارقة أن ذلك جاء في السرد القصصي لا النقد الذي شهد منجزها الأكبر. تقول: «أظن أن الأمر يخضع للكيف لا الكم. قد تكون كتابتي الإبداعية كميًا أقل من النقدية، لكن ربما من قرأها وجد فيها قيمة أدبية أو كتابة جديدة أو رؤية وتقنيات وأداء فني استحق التقدير».
ولماذا الإبداع أقل من النقد؟ أجابتني: «أنا أمارس النقد كأنه عملية إبداعية، وعندما أتعامل مع النص محل النقد أضع نفسي في مكان المبدع باعتباري مبدعًا ثانيًا، واستكشف رؤيته والأدوات الفنية التي استخدمها من أجل الوصول إليها. أتلقى العمل الفني وأتفاعل معه من موقع إبداعي لا من موقع نقدي».
واستطردت: «قد يأتي الإبداع في أي وقت، فالكتابة هي الأساس، أو كما قُلت في حفل تسلم الجائزة، هي حياة ورحلة بغير وصول، ليس المهم الوصول للهدف بقدر أهمية اتباع السبيل إليه والسعي الدائم والتفاعل مع الدنيا والواقع».
من منطلق تفاعلها الدائم؛ نشرت اعتدال عثمان منذ 2016 ثلاثة كتب تتضمن الدراسات القديمة التي شاركت بها في مؤتمرات وندوات أثناء سفرها، هي «السفر إلى ممالك الخيال»، «عين الكتابة»، و«قضايا وقراءات في أدب المرأة العربية». وحاليًا تملك مقالات أربع سنوات متراكمة، ربما تصدر في كتاب أو أكثر عندما يحين موعدها، لا تعرف متى وأين وكيف، فهي لا تفكر في تلك المسائل كثيرًا، تتفاجأ بها كالجوائز، لأن جائزتها التي تبحث عنها فقط هي القارئ، تقول: «جائزتي الحقيقية أن يجد القارئ فيما أكتب متعة ومعرفة».

عائشة المراغي



نُشر في أخبار الأدب بتاريخ 29-12-2019



أعلى