إنتبه فجأة لأنه مشنوق بحبلٍ يتدلي من أحد فروع شجرة النيم التي طالما تفيأ ظلالها أيام عمره منذ الطفولة ، اليفاعة و أيام فتوة الشباب و حتي بعد أن تزوج و صار أباً، مشنوقاً كان، عيناه جاحظتان، شفتاه متورمتان و محتقنتان بدم يابس و لقد جفّ زبدٌ عليهما فلمعتا، في أنفه إختناق لحَظته طيور آخر الليل، حزّز الحبلُ القاتل أعلي عنقه فتمزق الجلدُ تحته و إنصرّ بنزيف متجمد. إنتبه احمد لذلك الموت جيّداً. و انكشفت لبصيرته جميع الأحداث التي ستعقب ذلك الموت.
اكتشف الذاهبون لصلاة الفجر موتَه مشنوقاً بحبلٍ يتدلي من أحد أفرع شجرة النيم أمام باب بيتهم، صُعِقوا، قرعوا بأصابع العَجَلة بابَ بيتِ الطبيب من أبناء الحي، هُرِع إليهم الطبيب و خمرُ الليل يمسح بالبذاءة سطح عفونة فمه . هو احمد بن الحاج اسماعيل مات مشنوقاً بحبل يتدلي من أحد أفرع شجرة النيم أمام بيتهم، تخرّج احمد مهندسا و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور ثم أدار أعماله الخاصة بعد التشريد من الخدمة العامة. عرفه الحي طفلاً ذكياً و مؤدباً و عرفه الناس بالحي شاباً مبادراً بالخير و خدوماً ، عرفته المدينة كواحد من أبنائها الأكثر نشاطاً في المطالبة بالحقوق و الوقوف بصلابة لرد ظلامات المركز الحاكم بالحديد و النار، العذاب ، التعذيب، الإفقار و الحصار، لم يكن أحدٌ يعرف ما كان بداخله من آمال منخسفة، أحلام موءُودة و إكتئاب. لم يكن المهندس احمد مختلفاً عن أبويه أمام الناس فأمّه الحاجة سكينة التي يسبقها طعامها و شرابها و هي تسقبل الزوار و الأغراب و الأهل بالبشر و المودة.بكتها شوارع المدينة عندما رحلت عن الدنيا، تلك الشوارع التي عرفت مشاويرها بالوصل و العطاء للمحتاجين و الذين خانهم الزمان و تركتهم انظمة الحكم بيد سفلي تستقبل العطايا و المنح. أبوه هو الحاج اسماعيل صاحب الديوان المفتوح و الرجل مسموع الكلمة ليس من سلطة يحوزها و لكن بسبب حِكْمةٍ، شجاعةٍ و كرَمٍ يتوفر عليهم يقدّمُه الناس ليقودهم و يكون وجههم . قال الطبيب الذي فُجِع بمنظر الجسد المعلق بعد أن مسه بيد المعالج؛ بسماعته، يده و جهاز قياس الحرارة، قال: مات احمد قبل ثلاثة ساعات.
الحركة غير المعتادة في الشارع ؛عويل النساء و بكاء الرجال أيقظ ناس الحي فكانت في أول من فتحوا ابواب دورهم ليستطلع الأمر بنت الجيران زينب. رأت زينب انصراف أعمامها و أخوالها و رجال الجيران عن صلاة الفجر و انهماكهم في الأمر ثم رأت احمد معلقاً في أحد أفرع شجرة النيم أمام بيتهم، معلقاً و هو في جلباب نومه، يداه علي جانبي جسده، رأسه متكيء،عنقه محزوز، القدمان و قد ارتختا بزواية واطئة ، يتحرك جسده المعلق بحزم من هبة الريح. رأتهم ينزلون الجسد و في المكان تتردد عبارة لا إله الله.. يا ستّار..لا حول و لا قوة إلا بالله.. أعوذ بالله. قالت زينب: وا حسرتي عليه ..وا حسرتي علي أحلامه المبددة و طموحاته المدفونة..واحسرتي علي بنته و ولديه و علي زوجته و أختيه.. وا حسرتي علي جهده الذي سرقته تفاهات الأيام المتعاقبة..وا عذابي من غيابك و انت تعلم أنني قد اكتفيت منذ زمان بإقتناص لحظات أراك فيها دون كلام. ثم قالت لماذا يا احمد؟ سمعت روحه تلك الحسرات و ذلك النعي فزينب هي حبيبة مراهقته و فتاة أحلامه في اليفاعة و الصِبَا. كانت روحه منخنقة أسفل عنقه ،محبوسة تحت الحبل المصرور. عندما حلّ الرجالُ صريمة عقدة الحبل إهتزت شجرة النيم و أنّت و أدرك الجميع عبر جلودهم، اسماعهم، عيونهم ذلك الإهتزاز و ذلك الأنين وأحَسُّوا بشعورٍ غريبٍ فقالوا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قالها إي واحد منهم في سره و بعضهم جهراً و عِدة مراتٍ. يبدو أن روحه قد غادرت جسده بعد انهماك مقموع بإشتداد عقدة الحبل و بعد كبت و إختناق.
قال الطبيب لنذهب به للمشرحة ليكتب لنا الطبيب المناوب شهادة الوفاة ثم يختمها بختم وزارة الصحة و لنتأكد من الوفاة. عرف الجميع أن الطبيب منزعج بفقد صديق له مات هكذا في ساعات الصباح الاولي. ذهبوا برفقته و الجسد مسجيً بملاءة من بيت احمد بن الحاج اسماعيل. كان بالبيت مع احمد و زوجته و أطفاله في ذلك المساء حَمَاتُه. تأكدت حَمَاتُه من عدم استيقاظ الأطفال و انتهرت أُختَى احمد و زجرتهما عن البكاء و قد كان من الأمور المعروفة عنها امتناعها عن الحزن علي المنتحر ربما لأنها تعتقد أن قاتل نفسه في النار. تبعت أُختا احمد الركب للمستشفي في سيارة غير تلك التي كانت بها زوجته و ظلّت حماته بالبيت. تم تأكيد الوفاة و انهمك الجميع حينها في ترتيب أمور العزاء. بذلك يكون أن توفي من الشايقية في تلك المدينة الحاج اسماعيل و زوجته الحاجة سكينة و ابنه احمد في ظرف خمسة اعوام متتابعة.
كان بعنبر الحوادث حينها شاب من أبناء المساليت اسمه بحْر الدين اسحق يناديه من يعرفون باسم "بحَر المُسْلاتي"، جاء للمدينة مرافقاً سائق اللوري الذي جلب خرافاً مشحونة من كردفان للذبح في مسلخ المدينة.بحَر شاب متطلع و طموح قبِل بقسوة العمل و الترحال من أجل مال يسند به أهله و يعاونهم به لمغالبة الحياة هناك في الجنينة. يعرف بحَر الكثير عن الزراعة و يحب من يعرفونه أن يعلّمهم استخدام السفروك للصيد و الهجوم و الدفاع عن النفس و حتي للرقص. الحادث الذي تسبب في إدخال بحر للمستشفي وقع حينما كان يستبدل إطار اللوري فانهتكت الارض تحت الرافعة ليضغط الإطار جزءً من كتفه. توفي بحَر لحظة مغادرة روح احمد لجسده علي أحد أفرع شجرة النيم. حلّت الروح المغادرة لجسدها هنا تحت النيمة في جسد بحر و كُتب بذلك عمر جديد للمهندس المدني احمد في جسد جديد. أمام الأطباء كانت عودة بحَر للحياة مفرحة فلقد بذلوا جهداً كبيراً في تجبير كسور الكتف و ترتيق ما تمزق من الرئة و نجحوا في فكِّ القلب من قبضة الأضلع. لم يكن موت بحر غير بداية لسفر اشتاقت له روحه لتنضم في العليّة لأرواح تعرفها و تركت للوطن جسداً عذبه التمييز، التهميش، الإبعاد و الإزدراء. في الحقيقة كما أظن لقد غادرت روح بحَر مكاناً ظُلِمت فيه و تعذبت بصمت. تمت هذه التحولات دون أن ينتبه أحدٌ لها، فلقد مات المهندس احمد ابن الحاج اسماعيل مشنوقاً علي أحد فروع شجرة النيم أمام بيتهم و قد نجح الأطباء في منح بحَر فرصة للحياة بعد حادث خطير.
شفي بحَر أمامهم من جراح العمليات التي أنجزت بنجاح. لاحقاً أخبر بحَر سائقَ اللوري بأنه يحبذ الإستقرار هنا في هذه المدينة. لم يهتم السائق كثيراً فلقد كان برفقته بالأساس مساعد آخر أنجز معه حوماته الأخيرة بين حواضر و قري الناحية أيام مكوث بحَر بالمستشفي حيث تكفّل بعض المانحين بدفع كلفة العلاج الباهظة. أقام بحَر بالمدينة التي لا يعرفه فيها غير الأطباء و الممرضات و بقية الطاقم الطبي الذين يتميزون بذاكرة زلقة تتدحرج عنها الملامح و الأحداث بسهولة.
زوجة الباشمهندس احمد اسمها نادية و هي في بداية عقدها الرابع في ملامحها جمال حازم و في إستواء عودها و حسن بُنيتِها شممٌ و كبرياء. تزوجها احمد عن طريق أختيه، أعجبه جمالها، تعليمها و عراقة منبتها علي حسب ما كان يعتقد. جارتهم زينب كانت قدعقدت علي الباشمهندس احمد آمالاً منذ مراهقة باكرة،تزوجت عندما يئست منه و توفي عنها زوجها الضابط في الجيش في أحد حروب المركز ضد الجنوبيين تاركاً لها بنتين.
لم يمر علي بحَر زمان طويل ليصل إلي صدر قائمة البنائين في البلد فلقد تفتقت عنده موهبة مدهشة وصار مقاولاً لا يخلو جدول عمله من مشروع فهو يبني القطاطي المدعمة بالسلك المعدني و الاسمنت، السنادك الخشبية المحزومة بالسلك المعدني و المغطاة حوائطها بالاسمنت و المعروشة بالزنك و يبني البنيان المسلح كما لم تَبنِه يدُ مقاول أو مهندسٍ قبله. اتسعت ثروته فاشتري لنفسه بيتاً جميلاً حسُن البناء و بفناءالبيت ثلاث سيارات نصف نقل و عدة بناء كاملة و محزن لمواد البناء يغالب بمحتوياته جنون الأسواق و ازدياد الأسعار.
كان يتجنب النظر للمرآة لأن الصورة التي يراها لنفسه لم تكن تعجبه فهو سوداني لكنه ليس أسود علي حسب ما يزعم وهو افريقي يتكلم لغة آسيوية هي اللغة العربية و بذلك فهو عربي و ليس افريقي. يناديه الناس في الاسواق بالمُسْلاتي بحر أو بحر المُسْلاتي خاصة أولئك الذين عرفوه في المستشفي أو في سوق البهائم. لهذا النفر دوائر اجتماعية راسخة في المدينة لذلك التصق به الاسم بحَر المُسْلاتي إلتصاقاً، رغم اقتناعه بأنه هو احمد ابن الحاج اسماعيل الشايقي، الأب لولدين هما نادر و منير و بنت هي سهام و المتزوج من نادية، سليل الاسرة العريقة التي يتوارث أهلها ملامح ليس بينها ملامح مثل بحَر المسلاتي كما يعتقدون. ضف إلي ذلك أنه لا يعرف شيئاً عن المساليت غير ذلك النُذر اليسير المنشور عنهم في كتب نادرة ويعرف الكثير عنهم في الثقافة المحكيّة فهم من أقصي غرب السودان و أهم حواضرهم هي مدينة الجنينة. كثيراً ما كان يجيب الناس عندما يسألونه عن اسمه قائلا احمد اسماعيل فيستغربون فيلهج قائلاً: بحر المُسْلاتي .. بحر المُسْلاتي
تصادف أن عمل بحر بالحي الذي تسكنه عائلة الحاج اسماعيل وكان يُسلم علي كل من يراه من أهل الحي بإسمه فاعتبر سكان حي ذلك ضرب من السحر و الشعوذة التي تصم أهل غرب السودان في وسط،شمال و شرق السودان. رأي نادية فهفت روحه إليها و أعجبه جمالها و اشتهاها وتعرف حتي علي ليونة عُريِها و دفء و نعومة ملمس عجيزتيها، كاد أن يضمها لحضنه لكن شيء ما في وجهها إزدجره و إنتهَره بصمت عن مجرد النظر إليها.
عاد بعد انقضاء عمله لبيته مغتماً، فأكل مما طبخه بالأمس،تمدد في سريره ساهماً، لم يستطع النوم، و أراد أن يحكي ما بداخله لشخصٍ ما، خرج بسيارته، صادفته فتاة جميلة الملامح علي جانب الطريق و اشارت إليه خُفيّة ليُقِلّها، أوقف سيارته فركبت، لم يكن يعرفها و لا هي كانت تعرفه. سألته إلي أين فقال بإختصار:" لا أدري" فردت بغنجٍ قائلة: و لا أنا. فرجع بها إلي بيته، طبخت له و اقترحت عليه أن يجلب شراباً، ففعل، نام معها فأفرغ في جوفها غِلّاً آلمه. فنام معها ثانية فأحس بجسدها هذه المرة كانت دافئة، ماجنة و لعوب.حكي لها قائلاً: يناديني الناس بإسم ليس اسمي.ظنت أنه في حالة سُكْر و قد لعبت الخمر برأسه فضحكت. أقسم فلم تصدقه و سألته من تكون؟ فقال انا الباشمهندس احمد اسماعيل متزوج و أب و بنوعٍ من الاستهتار قالت له: و من وين يا الخو؟ فقال انا شايقي تخرجت في جامعة الخرطوم و عملت مهندساً،لم تكن تسمع بل كانت تجمع أغراضها بإستعجال خائف. غادرت البيت و حديثه لم يتم. أقترح عليها أن يوصلها إلي حيث تريد فشكرته، دسّ في جيبها مبلغاً من المال وهي عند باب البيت فلم تحسبه حتي ، كانت مرتعبة و راجفة القلب.انصرفت عنه متعوذة و متحوقلة.
قرر بحَر أن يطلب يد نادية للزواج. لم يستطب أي من معارفه الفكرة و حاولوا إقناعه بالعدول عنها، لم يسمعهم. في تلك الأيام و في أحد متاجر السوق رأته زينت فنظرت إليه نظرات مستبشرة و زاهية فتبسم في وهجها. زجرت زينب نفسها عما حدث و لم تكن تعرف سبب انجذابها لشخص بتلك الملامح التي لا تشبهها في شيء و في السوق. تعوذت متذكرة كلمة أبيها" أشّر الأماكن الأسواق، فيها يعقد الشيطان راياته" و اعتبرته شيطاناً يغريها بالمنكر. نظرات زينب المستبشرة الزاهية شجعته أكثر علي الذهاب برفقة عمّاله و بعض معارفه لطلب يد زينب. ذهب بحَر قبلهم بأيام لأمام المسجد بالحي الذي تسكنه عائلة الحاج اسماعيل. شجّعَه إمامُ المسجد بنوعٍ من التَديُن الذي لا يعرف الكثير عن المجتمع و تبرع بترتيب المقابلة و الإلتقاء بعائلة الحاج اسماعيل و أهل نادية. لم يذهب إمام مسجد الحي لغير عمّها و أخبره بأن عريساً يطلب يد بنتهم أرملة المهندس أحمد الحاج اسماعيل و سيأتي لزيارتهم في اليوم ذاك. رتب العمُّ الأمر ثم إنعقد مجلس الخِطْبَة. وجدت أم نادية فُرْجَة في الحائط فنظرت من خلالها للجمع في مضيَفة بيت بنتها. نادت شقيق زوجها و سألته قائلة: و من العريس؟ فوصف لها مكان جلوس بحَر. قاطعت أم نادية مجاملات مجلس الخِطْبَة قائلة:" أنا موش عاوزة قلِّة أدب عبيد في البيت دا يلا أطلعوا من هنا يا كَرَور ". سمعت روح أحمد تلك الكلمات فغضبت و بغضبها إهتاج جسدُ بحر فتعملق متضخماً،تناول بحر سحابة و هصرها بين أصابع يده و جعل بحر يلملم السحاب سحابة ..سحابة من سماء المدينة و سماوات مُدنٍ أُخري مجاورة و شبيهة و يركمه علي سماء تلك المدينة التي سمعت تلك الكلمات فحولها تراكم السحاب الغاضب إلي بقعة مظلمة تتناسل في نواحيها الخَيبات.
اكتشف الذاهبون لصلاة الفجر موتَه مشنوقاً بحبلٍ يتدلي من أحد أفرع شجرة النيم أمام باب بيتهم، صُعِقوا، قرعوا بأصابع العَجَلة بابَ بيتِ الطبيب من أبناء الحي، هُرِع إليهم الطبيب و خمرُ الليل يمسح بالبذاءة سطح عفونة فمه . هو احمد بن الحاج اسماعيل مات مشنوقاً بحبل يتدلي من أحد أفرع شجرة النيم أمام بيتهم، تخرّج احمد مهندسا و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور ثم أدار أعماله الخاصة بعد التشريد من الخدمة العامة. عرفه الحي طفلاً ذكياً و مؤدباً و عرفه الناس بالحي شاباً مبادراً بالخير و خدوماً ، عرفته المدينة كواحد من أبنائها الأكثر نشاطاً في المطالبة بالحقوق و الوقوف بصلابة لرد ظلامات المركز الحاكم بالحديد و النار، العذاب ، التعذيب، الإفقار و الحصار، لم يكن أحدٌ يعرف ما كان بداخله من آمال منخسفة، أحلام موءُودة و إكتئاب. لم يكن المهندس احمد مختلفاً عن أبويه أمام الناس فأمّه الحاجة سكينة التي يسبقها طعامها و شرابها و هي تسقبل الزوار و الأغراب و الأهل بالبشر و المودة.بكتها شوارع المدينة عندما رحلت عن الدنيا، تلك الشوارع التي عرفت مشاويرها بالوصل و العطاء للمحتاجين و الذين خانهم الزمان و تركتهم انظمة الحكم بيد سفلي تستقبل العطايا و المنح. أبوه هو الحاج اسماعيل صاحب الديوان المفتوح و الرجل مسموع الكلمة ليس من سلطة يحوزها و لكن بسبب حِكْمةٍ، شجاعةٍ و كرَمٍ يتوفر عليهم يقدّمُه الناس ليقودهم و يكون وجههم . قال الطبيب الذي فُجِع بمنظر الجسد المعلق بعد أن مسه بيد المعالج؛ بسماعته، يده و جهاز قياس الحرارة، قال: مات احمد قبل ثلاثة ساعات.
الحركة غير المعتادة في الشارع ؛عويل النساء و بكاء الرجال أيقظ ناس الحي فكانت في أول من فتحوا ابواب دورهم ليستطلع الأمر بنت الجيران زينب. رأت زينب انصراف أعمامها و أخوالها و رجال الجيران عن صلاة الفجر و انهماكهم في الأمر ثم رأت احمد معلقاً في أحد أفرع شجرة النيم أمام بيتهم، معلقاً و هو في جلباب نومه، يداه علي جانبي جسده، رأسه متكيء،عنقه محزوز، القدمان و قد ارتختا بزواية واطئة ، يتحرك جسده المعلق بحزم من هبة الريح. رأتهم ينزلون الجسد و في المكان تتردد عبارة لا إله الله.. يا ستّار..لا حول و لا قوة إلا بالله.. أعوذ بالله. قالت زينب: وا حسرتي عليه ..وا حسرتي علي أحلامه المبددة و طموحاته المدفونة..واحسرتي علي بنته و ولديه و علي زوجته و أختيه.. وا حسرتي علي جهده الذي سرقته تفاهات الأيام المتعاقبة..وا عذابي من غيابك و انت تعلم أنني قد اكتفيت منذ زمان بإقتناص لحظات أراك فيها دون كلام. ثم قالت لماذا يا احمد؟ سمعت روحه تلك الحسرات و ذلك النعي فزينب هي حبيبة مراهقته و فتاة أحلامه في اليفاعة و الصِبَا. كانت روحه منخنقة أسفل عنقه ،محبوسة تحت الحبل المصرور. عندما حلّ الرجالُ صريمة عقدة الحبل إهتزت شجرة النيم و أنّت و أدرك الجميع عبر جلودهم، اسماعهم، عيونهم ذلك الإهتزاز و ذلك الأنين وأحَسُّوا بشعورٍ غريبٍ فقالوا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قالها إي واحد منهم في سره و بعضهم جهراً و عِدة مراتٍ. يبدو أن روحه قد غادرت جسده بعد انهماك مقموع بإشتداد عقدة الحبل و بعد كبت و إختناق.
قال الطبيب لنذهب به للمشرحة ليكتب لنا الطبيب المناوب شهادة الوفاة ثم يختمها بختم وزارة الصحة و لنتأكد من الوفاة. عرف الجميع أن الطبيب منزعج بفقد صديق له مات هكذا في ساعات الصباح الاولي. ذهبوا برفقته و الجسد مسجيً بملاءة من بيت احمد بن الحاج اسماعيل. كان بالبيت مع احمد و زوجته و أطفاله في ذلك المساء حَمَاتُه. تأكدت حَمَاتُه من عدم استيقاظ الأطفال و انتهرت أُختَى احمد و زجرتهما عن البكاء و قد كان من الأمور المعروفة عنها امتناعها عن الحزن علي المنتحر ربما لأنها تعتقد أن قاتل نفسه في النار. تبعت أُختا احمد الركب للمستشفي في سيارة غير تلك التي كانت بها زوجته و ظلّت حماته بالبيت. تم تأكيد الوفاة و انهمك الجميع حينها في ترتيب أمور العزاء. بذلك يكون أن توفي من الشايقية في تلك المدينة الحاج اسماعيل و زوجته الحاجة سكينة و ابنه احمد في ظرف خمسة اعوام متتابعة.
كان بعنبر الحوادث حينها شاب من أبناء المساليت اسمه بحْر الدين اسحق يناديه من يعرفون باسم "بحَر المُسْلاتي"، جاء للمدينة مرافقاً سائق اللوري الذي جلب خرافاً مشحونة من كردفان للذبح في مسلخ المدينة.بحَر شاب متطلع و طموح قبِل بقسوة العمل و الترحال من أجل مال يسند به أهله و يعاونهم به لمغالبة الحياة هناك في الجنينة. يعرف بحَر الكثير عن الزراعة و يحب من يعرفونه أن يعلّمهم استخدام السفروك للصيد و الهجوم و الدفاع عن النفس و حتي للرقص. الحادث الذي تسبب في إدخال بحر للمستشفي وقع حينما كان يستبدل إطار اللوري فانهتكت الارض تحت الرافعة ليضغط الإطار جزءً من كتفه. توفي بحَر لحظة مغادرة روح احمد لجسده علي أحد أفرع شجرة النيم. حلّت الروح المغادرة لجسدها هنا تحت النيمة في جسد بحر و كُتب بذلك عمر جديد للمهندس المدني احمد في جسد جديد. أمام الأطباء كانت عودة بحَر للحياة مفرحة فلقد بذلوا جهداً كبيراً في تجبير كسور الكتف و ترتيق ما تمزق من الرئة و نجحوا في فكِّ القلب من قبضة الأضلع. لم يكن موت بحر غير بداية لسفر اشتاقت له روحه لتنضم في العليّة لأرواح تعرفها و تركت للوطن جسداً عذبه التمييز، التهميش، الإبعاد و الإزدراء. في الحقيقة كما أظن لقد غادرت روح بحَر مكاناً ظُلِمت فيه و تعذبت بصمت. تمت هذه التحولات دون أن ينتبه أحدٌ لها، فلقد مات المهندس احمد ابن الحاج اسماعيل مشنوقاً علي أحد فروع شجرة النيم أمام بيتهم و قد نجح الأطباء في منح بحَر فرصة للحياة بعد حادث خطير.
شفي بحَر أمامهم من جراح العمليات التي أنجزت بنجاح. لاحقاً أخبر بحَر سائقَ اللوري بأنه يحبذ الإستقرار هنا في هذه المدينة. لم يهتم السائق كثيراً فلقد كان برفقته بالأساس مساعد آخر أنجز معه حوماته الأخيرة بين حواضر و قري الناحية أيام مكوث بحَر بالمستشفي حيث تكفّل بعض المانحين بدفع كلفة العلاج الباهظة. أقام بحَر بالمدينة التي لا يعرفه فيها غير الأطباء و الممرضات و بقية الطاقم الطبي الذين يتميزون بذاكرة زلقة تتدحرج عنها الملامح و الأحداث بسهولة.
زوجة الباشمهندس احمد اسمها نادية و هي في بداية عقدها الرابع في ملامحها جمال حازم و في إستواء عودها و حسن بُنيتِها شممٌ و كبرياء. تزوجها احمد عن طريق أختيه، أعجبه جمالها، تعليمها و عراقة منبتها علي حسب ما كان يعتقد. جارتهم زينب كانت قدعقدت علي الباشمهندس احمد آمالاً منذ مراهقة باكرة،تزوجت عندما يئست منه و توفي عنها زوجها الضابط في الجيش في أحد حروب المركز ضد الجنوبيين تاركاً لها بنتين.
لم يمر علي بحَر زمان طويل ليصل إلي صدر قائمة البنائين في البلد فلقد تفتقت عنده موهبة مدهشة وصار مقاولاً لا يخلو جدول عمله من مشروع فهو يبني القطاطي المدعمة بالسلك المعدني و الاسمنت، السنادك الخشبية المحزومة بالسلك المعدني و المغطاة حوائطها بالاسمنت و المعروشة بالزنك و يبني البنيان المسلح كما لم تَبنِه يدُ مقاول أو مهندسٍ قبله. اتسعت ثروته فاشتري لنفسه بيتاً جميلاً حسُن البناء و بفناءالبيت ثلاث سيارات نصف نقل و عدة بناء كاملة و محزن لمواد البناء يغالب بمحتوياته جنون الأسواق و ازدياد الأسعار.
كان يتجنب النظر للمرآة لأن الصورة التي يراها لنفسه لم تكن تعجبه فهو سوداني لكنه ليس أسود علي حسب ما يزعم وهو افريقي يتكلم لغة آسيوية هي اللغة العربية و بذلك فهو عربي و ليس افريقي. يناديه الناس في الاسواق بالمُسْلاتي بحر أو بحر المُسْلاتي خاصة أولئك الذين عرفوه في المستشفي أو في سوق البهائم. لهذا النفر دوائر اجتماعية راسخة في المدينة لذلك التصق به الاسم بحَر المُسْلاتي إلتصاقاً، رغم اقتناعه بأنه هو احمد ابن الحاج اسماعيل الشايقي، الأب لولدين هما نادر و منير و بنت هي سهام و المتزوج من نادية، سليل الاسرة العريقة التي يتوارث أهلها ملامح ليس بينها ملامح مثل بحَر المسلاتي كما يعتقدون. ضف إلي ذلك أنه لا يعرف شيئاً عن المساليت غير ذلك النُذر اليسير المنشور عنهم في كتب نادرة ويعرف الكثير عنهم في الثقافة المحكيّة فهم من أقصي غرب السودان و أهم حواضرهم هي مدينة الجنينة. كثيراً ما كان يجيب الناس عندما يسألونه عن اسمه قائلا احمد اسماعيل فيستغربون فيلهج قائلاً: بحر المُسْلاتي .. بحر المُسْلاتي
تصادف أن عمل بحر بالحي الذي تسكنه عائلة الحاج اسماعيل وكان يُسلم علي كل من يراه من أهل الحي بإسمه فاعتبر سكان حي ذلك ضرب من السحر و الشعوذة التي تصم أهل غرب السودان في وسط،شمال و شرق السودان. رأي نادية فهفت روحه إليها و أعجبه جمالها و اشتهاها وتعرف حتي علي ليونة عُريِها و دفء و نعومة ملمس عجيزتيها، كاد أن يضمها لحضنه لكن شيء ما في وجهها إزدجره و إنتهَره بصمت عن مجرد النظر إليها.
عاد بعد انقضاء عمله لبيته مغتماً، فأكل مما طبخه بالأمس،تمدد في سريره ساهماً، لم يستطع النوم، و أراد أن يحكي ما بداخله لشخصٍ ما، خرج بسيارته، صادفته فتاة جميلة الملامح علي جانب الطريق و اشارت إليه خُفيّة ليُقِلّها، أوقف سيارته فركبت، لم يكن يعرفها و لا هي كانت تعرفه. سألته إلي أين فقال بإختصار:" لا أدري" فردت بغنجٍ قائلة: و لا أنا. فرجع بها إلي بيته، طبخت له و اقترحت عليه أن يجلب شراباً، ففعل، نام معها فأفرغ في جوفها غِلّاً آلمه. فنام معها ثانية فأحس بجسدها هذه المرة كانت دافئة، ماجنة و لعوب.حكي لها قائلاً: يناديني الناس بإسم ليس اسمي.ظنت أنه في حالة سُكْر و قد لعبت الخمر برأسه فضحكت. أقسم فلم تصدقه و سألته من تكون؟ فقال انا الباشمهندس احمد اسماعيل متزوج و أب و بنوعٍ من الاستهتار قالت له: و من وين يا الخو؟ فقال انا شايقي تخرجت في جامعة الخرطوم و عملت مهندساً،لم تكن تسمع بل كانت تجمع أغراضها بإستعجال خائف. غادرت البيت و حديثه لم يتم. أقترح عليها أن يوصلها إلي حيث تريد فشكرته، دسّ في جيبها مبلغاً من المال وهي عند باب البيت فلم تحسبه حتي ، كانت مرتعبة و راجفة القلب.انصرفت عنه متعوذة و متحوقلة.
قرر بحَر أن يطلب يد نادية للزواج. لم يستطب أي من معارفه الفكرة و حاولوا إقناعه بالعدول عنها، لم يسمعهم. في تلك الأيام و في أحد متاجر السوق رأته زينت فنظرت إليه نظرات مستبشرة و زاهية فتبسم في وهجها. زجرت زينب نفسها عما حدث و لم تكن تعرف سبب انجذابها لشخص بتلك الملامح التي لا تشبهها في شيء و في السوق. تعوذت متذكرة كلمة أبيها" أشّر الأماكن الأسواق، فيها يعقد الشيطان راياته" و اعتبرته شيطاناً يغريها بالمنكر. نظرات زينب المستبشرة الزاهية شجعته أكثر علي الذهاب برفقة عمّاله و بعض معارفه لطلب يد زينب. ذهب بحَر قبلهم بأيام لأمام المسجد بالحي الذي تسكنه عائلة الحاج اسماعيل. شجّعَه إمامُ المسجد بنوعٍ من التَديُن الذي لا يعرف الكثير عن المجتمع و تبرع بترتيب المقابلة و الإلتقاء بعائلة الحاج اسماعيل و أهل نادية. لم يذهب إمام مسجد الحي لغير عمّها و أخبره بأن عريساً يطلب يد بنتهم أرملة المهندس أحمد الحاج اسماعيل و سيأتي لزيارتهم في اليوم ذاك. رتب العمُّ الأمر ثم إنعقد مجلس الخِطْبَة. وجدت أم نادية فُرْجَة في الحائط فنظرت من خلالها للجمع في مضيَفة بيت بنتها. نادت شقيق زوجها و سألته قائلة: و من العريس؟ فوصف لها مكان جلوس بحَر. قاطعت أم نادية مجاملات مجلس الخِطْبَة قائلة:" أنا موش عاوزة قلِّة أدب عبيد في البيت دا يلا أطلعوا من هنا يا كَرَور ". سمعت روح أحمد تلك الكلمات فغضبت و بغضبها إهتاج جسدُ بحر فتعملق متضخماً،تناول بحر سحابة و هصرها بين أصابع يده و جعل بحر يلملم السحاب سحابة ..سحابة من سماء المدينة و سماوات مُدنٍ أُخري مجاورة و شبيهة و يركمه علي سماء تلك المدينة التي سمعت تلك الكلمات فحولها تراكم السحاب الغاضب إلي بقعة مظلمة تتناسل في نواحيها الخَيبات.