فارع الطول يعرفه الناس من بعيد،ذو شخصية قوية مؤثرة،يشد إليه كل من يجلس معه أو يتحدث إليه،يَطْمئِن الشباب للجلوس إليه،والآن طعن في السن،وتجعدت أسارير وجهه،وتنكرت له الدنيا،لم ينجب ذكورا،صار يعيش وحيدا في بيته،تخلت عنه زوجته والتحقت بأهلها،وتركته ابنته من زوجة أخرى لا يعلم عليها شيئا،في هذه الصورة الضعيفة بدأت سهام التشفي والاحتقار تصيبه من عيون المجتمع النافذة،خصوصا أولئك الذين كانوا في عهد قوته يجبنون أمامه، قبل عشر سنوات خلت،لا يستطيع شخص في القرية أن يواجهه،الكل يخاف شره كما يزعمون،لا يراجعونه في شيء يقرره في القرية الصغيرة ،و لايتجرأون للحديث عنه بسوء في حضرته،و إذا بحثوا له عن منقصة يتهمونه بها فلا يجدونها،لذلك فهم يتجنبون التعامل معه والحديث إليه إلا مجاملة .
لكنهم إذا جلسوا في مجالسهم الخاصة، نهشوا لحمه بالغيبة، وربما نشروا عنه الإشاعات مع ذلك فلا ينالون من هيبته شيئا، حتى القايد و الشيخ كانا يحسبون له كل حساب،و كان يحتقر كل من له حظوة لدى الإدارة، خصوصا السباييس و الدواير.
ها هو اليوم لم يبق له من ذلك شيء عليةالقوم في القرية لا يجالسونه،لا يجالسه المستضعفون من عامة الناس،وهو يعلم ذلك، فيتعالى بدوره عن ذوي الجاه و يعتزل مجالسهم،فلا يريد أن يرغم أنفه،فيجد عزاءه إلا في الأوفياء من عامة الناس،وصعاليكهم الذين يعرفون عنه أيام عزه إلا القوة الأنفة و الكرم و نجدة الضعفاء، بالرغم أنهم لم يخالطوه كثيرا.
الوحيد من الأعيان الذي بقي يكن له الاحترام،ويعرف له قدره، ويعمل بقوله r:"أكرموا عزيز فوم ذل" هو الحاج سالم بن عمار، عندما رأى حاله الاجتماعية،وتقهقرت حاله المادية تدهورت،أوصى به أهله و أبناءه ألاَّ يردوا لصالح الفطناسي طلبا،فكانت قهوته في الصباح و جل وجبات طعامه تأتيه من بيت الحاج سالم بن عمار،بالرغم مما كان بينهما من مشاحنات أيام عزه.
وكعادته خرج صالح الفطناسي من بيته بعد طلوع الشمس بقليل متدثرا ببرنسه،الذي عفا عليه الزمان من كثرة استعماله كفراش يجلس عليه؛وقف أمام عتبة داره هنيهة،التفت يمينا ثم التفت يسارا،ثم مشى يدب دبيبا بقامته الطويلة،و سار في الزقاق الملتوي الضيق المؤدي إلى رحبة السوق،مشى مستعينا بخيزرانه الأسود الذي احتفظ به من بقايا التحف والصناعات التقليدية التي كان يتاجر بها أيام عزه.
وبعد خطوات أبعدته عن عتبة الدار،نداه عمار بن الحاج سالم: عمي صالح،قهوة أو شاي ؟ رد عليه بصوت خافت:بوركت يا ولدي… هات الموجود والمكتوب ما كتبه الله …، ستجدني في مكاني الذي تعرفه، ثم واصل طريقه بخطى متثاقلة،وكلما قابله شخص وألقى عليه التحية ردها بأحسن منها… صباحك زين …صباحك خير… الله يسترك،الله يعطيك ما تتمنى، هكذا إلى أن وصل إلى الرحبة،وقف قليلا ينظر إلى حركة الناس ثم توجه نحو الجدار الذي سلطت عليه شمس يناير أشعتها الدافئة فافترش برنوسه كالعادة وجلس إلى الجدار .
في تلك اللحظة تذكر حاله وكيف كان مبجلا محترما بين قومه، يهابه الشريف والوضيع،ويخافه الكبير والصغير كل من في القرية كان يحسب له حسابه،خوفا من أن يجره إلى المحاكم ، تذكر العمري صاحب الدكان الذي كان له كالظل، يحمل أمتعته ويقوم على خدمته، وكيف نشله من براثين الذل و الاحتقار الذي كان يمارسه عليه زوج أمه،و في سنوات وجيزة حوله من خادم يحتقره أدنى العباد،إلى تاجر يسيده الناس، وبفضله تحول إلى رجل مهم في مجتمع القرية.إذا به هو أول من تخلى عنه ويتحاشى اللقاء به.
ها هو الآن عمي صالح وحيدا فريدا يعيش في بيت تحت سقف تداعت جدرانه، خالي الوفاض من متاع الدنيا، ينتظر من يتفضل عليه بفنجان قهوة أو كأس شاي،وينتظر من يدق عليه الباب فيتكرم عليه ببعض ما يسد به رمقه، إنها الدنيا تقبل وتدبر إنه الزمان الغدار!.
و هو لازال مع تلك الأفكار والوساوس التي تعتريه كلما اختلى بنفسه،وقف على رأسه عمار يحمل في يديه صينية القهوة و خبزتين من الكسرى البلدي،وضع عمار الصينية ، وقفل راجعا من حيث أتى.
أخذ عمي صالح يرتشف القهوة،وقد انتشرت رائحتها في أجواء المحيط الذي يجلس فيه،وتناول الكسرى قطعة بعد قطعة،وهو كذلك،بدأ القوم يتوافدون على المكان،الواحد تلو الأخر،لأن المكان مناسبا لجلوس البطالين، فيه يجدون الفرصة للدخول في المعركة الوهمية إنها "معركة الخربقة[1]" تلك المعركة التي يجد فيها عمي صالح عزاءه وتلهيه بعض الوقت عن واقعه، وتُنفس عن بعض مكنوناته.
تذكره بماضيه السعيد،و تنسيه هموم حاضره البئيس،و تقربه من شباب لفظتهم الحياة،ولم يجدوا من ينشلهم من براثن الفراغ،من بينهم شباب نخرجوا من الجامعات ودخلوا في دوامة البطالة،ولم يجدوا مكانا يقضون فيه أوقاتهم الفارغة،فلا ناد في القرية يجمعهم،و لا مكتبة تضمهم،و لا عمل مناسب يشغلهم،لم يجدوا في القرية إلا نادي الخربقة،ولم يجدوا من يحاورهم إلا حوار الخربقة.
و وجدوا في الاحتكاك بعمي صالح لقراءة الحياة في صورتها المتقلبة،ها هو نموذج للحياة المتقلبة فها هو ذا قد ذهبت ريحه،و صار لا ينظر إلا إلى اللحظة التي هو فيها،و لا يفكر في مستقبل،و لا يتأسف على حاضر قد لفظه الزمان، انقضت أيام عزه، وقد فاته شيء لم يحسب له حسابه فاتته معرفة طبائع البشر وأخلاق الناس،و فاته أن في الناس أشخاص مثلهم كمثل الحرباء تتلون حسب البيئة التي تعيش فيها،و لم يدرك أن في الحيوان من هو أوفى للإنسان من الإنسان،قرأوا فيه كل تلك الصور الحياتية.
فاطمئن له بعض الجامعيين ليتعلموا منه مقالب الحياة،ويتدربون منه على لباس الأقنعة التي يلبسها الناس لكل مرحلة من المراحل.
وفي لحظات قليلة تجمع عدد كبير من رواد نادي الخربقة ، فاختطفوا ما تبقى من كسرى،وأجهزوا على ما تبقى من القهوة ، ثم توجهوا للخربقة فانبطح بعضهم على بطنه،كما ينبطح الجندي في المعركة يستعد للزحف على العدو،ومنهم من بسط ذراعيه و ثنى ركبتيه كمن يهم للسجود،ومنهم من جلس القرفصاء،وقد انقسموا إلى مجموعتين اثنتين متنافستين،ترأس المجموعة الأولى عمي صالح الفطناسي لتمرسه في اللعبة،و ترأس المجموعة الثانية قدور النايلي الذي له قدرة فائقة في المراوغة و يملك نفسا طويلا في مراقبة الأحجار والصبر على الخصم حتى يوقعه.
بدأت الجولة الأولى فوضعت الحجارة في حفرها،وقد أخذ وضعها وقتا طويلا بسبب ذكاء اللاعبين،والتدقيق في البحث عن المواقع الإستراتيجية،التي تساعد على الحركة حينما تنطلق المعركة.
كان عمي صالح إذا وضع كلبا،عقب عليه بتحذير الخصم وتهديده،فيأتيه الرد من قدور بهدوء ورزانة،ممزوج بسخرية واستصغار لقدرته على وضع خطته.
بدأ اللعب وبدأت المعركة الحقيقية،وبين الفينة والفينة،يقف شخص على رؤوس اللاعبين،فيشير على المجموعة بحركة ناجحة، أو يحذرهم من حركة ربما تكون خاسرة،و إذا جاءت الإشارة موفقة والتحذير في محله،يصرخ الطرف المتضرر معترضا على هذا التدخل،يصل أحيانا إلى السب والشتم، ثم يعود الهدوء من جديد، ويستمر اللعب.
- أش كلبك حذار أن يصيبك ما أصاب ….بل قل ما أصاب السيد الوالي المخلص.
حرك عمي صالح كلبه إلى دار أخرى وهو يقول:الوالي ملؤوه شعارات وعلموه الإخلاص،ثم عاقبوه عليه لأنه أعترض طريقهم،أو لم يشركهم في الأكل،لأنه لم يعرف كيف يناور أو ربما أرادوا أن يحسَّنوا صورتهم للشعب فضحوا به، كلبي لا يخاف المناورات،لأنه ثابت ثبات الزئبق في وجه الكلبي و دليلة المحتالة.
- في عصرنا لا يوجد زئبق، يا عمي صالح، صرنا كلنا نعيش بين الكلبي ودليلة المحتالة،أما الزئبق فقد أعدمه الشعب الذي كان يدافع من أجله.
- في هذه صدقت يا قدور، كلما ظهر زئبق في عالمنا العربي تعاون عليه الكلبي ودليلة على اغتياله.
- هرب كلبك يا عمي صالح أو خبه.
- كلابي متحركة غير ثابتة فهي تلاحق الكلاب الأخرى في كل مكان......سيظهر الزئبق من جديد ومعه مريم النصابة.
- آه يا هذا! أتريد أن تجعل كلابك كلابا حقيقية؟ إذا تعاون الزئبق ومريم فسيزول الكلبي و دليلة معا.
- الكلاب تشبه بعضها البعض،إلا كلاب الخربقة ، كلاب الصيد تشبه كلاب الحراسة، و كلاب الحراسة تشبه كلاب السياسة.
- أصبت الهدف ياقدور،الفرق بين النوعين،كلاب الخربقة جامدة لا تتحرك ولا تضر الخصم في جسمه،ولا في ماله، ولا في عرضه، خسارتها على نفسها.
- ضف إلى معلوماتك أن كلاب الخربقة تشبه كلاب الكلبي في جانب، وتختلف عنها في جانب آخر، فكلاب الخربقة لا تتحرك إلا إذا حركها صاحبها،وأحيانا يرمي بها الخصم فتشج رأسه،وقد فعلت كلاب الخربقة فعلها في الصهاينة عندما حركها أطفال الانتفاضة،وكلاب الكلبي -أيضا- لا تتحرك إلا إذا حركتهم دليلة،ورموا بهم خصومهم فينطلقون بلا هوادة، يؤذوون العباد في أبدانهم وأموالهم وأعراضهم!
- صدقت يا قدور شيء آخر يميز كلاب الكلبي أنهم يدربون على أنواع كثيرة من النباح، ليخدعوا بنباحهم حراس المواشي والبساتين فيطمئِنُّون على أموالهم قبل أن يجهز عليها الكلبي ودليلة. وقد رمت بهم دليلة في العراق فخربوا العراق والدور على السودان وسوريا وليبيا،لأنهم تركوا الزئبق يُعدم في يوم العيد.
وقبل أن ينهي عمي صالح كلامه عن الكلاب واصل سالم اليد اليمنى لعمي صالح في الخربقة:
- نسيت شيئا يا عمي،كلاب الخربقة تجمع حولها من تنكر لهم الزمان أمثالي وأمثالك تجمع من ضيعوا حياتهم فيما لا يعني،إنك عشت تراوغ السادة فابتزوك ونفخوا فيك،وجعلوا منك أسدا من كرطون وبطلا من زجاج،وعندما قضوا منك وطرهم، رشوك بالماء فتلاشيت،ورموك بالحجر فانكسرت، ها أنت كما ترى.
- أصبت الهدف يا ولدي ودخلت في الصميم،إنك تفهم تقلبات العلاقة بين البشر،لكنني أقول لك، يا ولدي إن المسؤولين في بعض الأحيان طيبون وخيرون في طبعهم،لكن إذا كثرت حولهم الكلاب،تحول بعضهم إلى ذئاب فيعجز الحاكم على ترويضهم،ويكونون سببا في إضعافه و وأد رشده،خصوصا إذا كان بين كلابه سامري،فكلما بدأت رعيته تستيقظ من غفلتها، وتعطي ظهرها إلى الذئاب البشرية،صنع لهم السامري عجلا يناسب الزمان والمكان ليزيد في ضراوة الذئاب.
- أحذر عمي صالح،أش كلبك لم يعد الآن سامري واحد في الوجود فقد عشش وباض وفرخ وانتشرت فراخه الصغيرة في كل مكان،كل سامري صغير يؤدي المهمة التي كلفه بها السامري الكبير، فيقوم بصناعة العجل المناسب لتضليل الغافلين،و تبقى مهمة السامري الكبير هي صناعة المواد التي تصنع منها العجول الصغيرة. والمصيبة الكبيرة فقد وجد السامري في بعض علمائنا من يجيز السجود للعجول التي يصنعها السامري الكبير.
- صدقت يا ولدي قد تحول اللعب إلى لعب حسيني.استغفر الله لا يا بني جيل اليوم لا يعرف اللعب الحسيني، الذبن يعرفون اللعب الحسيني، هم الذين كانوا يسهرون على قراءة العنترية و الزير سالم و سيف بن ذي يزن وسيدنا علي مع رأس الغول،أما في زمانكم هذا الذي طغى فيه السامري، يسهرون على قراءة ألف ليلة وليلة و كتاب الروض العاطر،و رميو وجوليت،فجهلوا اللعب الحسيني. كُل هذا،ألحِق هذا،ألتهِم هذا.
- آه! يا سوء بختي،استغفلتني يا شيخ وألهيتني،بالسامري وأبنائه،لولا الغفلة ما كنت تستحوذ على هذا العدد من الكلاب، فمثلي كمثل بعض حكامنا، يؤمنون بسحر السامري أكثر من إيمانهم بالله .
- استغفلتك يا قدور كما استغفل السامري سادتنا وكبراءنا.
- قلت حقا يا عمي ونطقت صوابا،لولا غفلة علمائنا الذين أبهرتهم شطارة سامري الزمان وشبعوا من موائده ما سهلوا الربا الخاص،وحرموا وشددوا على الفقراء والمحتاجين الربا العام.
- ركز جيدا ….حذار لم كلابك أحسن لك يا قدور قبل أن تقلعهم وأنت تضحك.
- كلابك لا تخيفني لأن قوة الكلاب وشراستهم فيمن يحركها ويوجهها، وأنت أصبحت لا تقدر على ترويض الكلاب المتحركة، خذلتك وتركتك وحيدا مقطوعا، فكيف أخاف كلابك الجامدة.
- لا يا بني كلابي صارت ذئابا ولم تعد كلابا.
- لا تتعجب عمي صالح الدنيا صارت تسير بالمقلوب.
- كلابي أطعمتها فوق اللزوم،وشاركتها في كل صغيرة وكبيرة فانقلبت علي ها أنا كما ترى،قد قيل قديما جوع كلبك يتبعك،و لغباوتي لم أخذ بهذا المثل انتهى ظننت أنه انتهى دوره،و لم يصبح سائرا في بلاد العرب أوطاني.
- ياعمي صالح لم يعد الآن وطن عربي،إنما هي أوطان لعروش وقبائل تهيمن عليها بنات الساكسون و اللاتين، أليس بعضهم إما عضو في منظمة الكمنونث، وإما في منظمة الفرنكوفونية.
التفت إلى يمينه حيث يجلس حسين ،ذلك الشاب الهادي الذي يتابع اللعب والحوار،دون أن ينطق بكلمة،فهو معجب بالخربقة،لا يتكلم إلا إذا طلب منه،وإذا تكلم التفت إليه الجميع،يتمعنون في قسمات وجهه،ويفتحون آذانهم جيدا ليتمتعوا بصوته الفصيح،صوت يأسر الألباب فإذا تكلم يؤجلون اللعب، وأحيانا يتوقفون نهائيا، ليستمعوا إلى الجديد الذي يأتي به حسين.
تسمرت عينا عمي صالح في وجه حسين ثم سأله: ماذا تقول يا حسين فيما سمعت؟
- ماذا أقول عمي صالح ؟ من يسمعكما تتحاوران وتتناقشان ظنكما أستاذين في السياسة،أو خبيرين في الاقتصاد،أو فقيهين في الدين، كلامكما فيه كثير من الصحة والصواب.الله،الله على زمان،كانت فيه الاشتراكية أيديولوجية تهدد الرأسمالية و الإقطاع،أما اليوم قد انهزم حماة الاشتراكية،فذهبت ريحهم، وتلاشت أحلامهم ونظرياتهم،بسحر هاروت الغرب وماروت الشرق،لأن الذين حلموا بالاشتراكية،سجلوا أحلامهم على صفحات من الماء،وجاء آخرون من بعدهم اتخذوها وسيلة،وحولوا عائداتها لأنفسهم وصاروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام،وتركوا الشعوب تنعم في بؤسها.
وعندما هيمن هاروت الغرب على كل شيء، أعجب المستضعفون بقوته فأرادوا أن يقلدوه في كل شيء ليكونوا مثله، فاقتنوا آلياته وفلسفاته وقوانينه، وظنوا أن ذلك هو التقدم.
- أنا أعتقد أن كل من لبس برنيطة ومشى في الشارع بسروال قصير ونزَّل تكة سرواله إلى إليته،و تحدث بالفرنجية فهو في قمة التقدم.
- هذا تقدم الممسوخين يا قدور،التقدم هو الإرادة والعزيمة والقدرة على استثمار التراث وإعادة ترتيب أولوياته،وصياغته صياغة جديدة، لصناعة حياة جديدة ننافس بها هاروت، و نتخلص من أثر سحره،وقد فعلها الجنس الأصفر فنجحوا،أما من ذكرتهم فقد استوردوا نفايات التقدم ومسكنات الإرادة، فتحولوا إلى مزبلة لبقايا وفضلات عبقرية الآخرين،و صاروا محل تجارب للأمصال التي تنتجها مخابر هاروت..
و قبل أن ينته حسين من كلمته المؤثرة ، قاطعه رشيد :
- هذه الفلسفة لا تغير شيئا من الأوضاع،كلامك كخطب الأئمة في المساجد،لم يغيروا من أوضاعنا شيئا بخطبهم رغم فصاحتها،كلامك يا أخي عبارة عن صرخة في واد، أرجعوا إلى الخربقة التراث الأصيل الذي لا نفرط فيه
- نعم الخربقة والحضرة والوعدة وسيدي عمار هي نحن، وما سواها لا يهمنا.
- قد بالغت كثيرا في ذمنا يا قدور فكما نحن الخربقة و الوعدة سيدي عمار فنحن أيضا ابن سينا و ابن النفيس و ابن الهيثم وابن رشد والغزالي وشريعتي اقبال و ابن نبي و.......و.......و...... ثم لماذا لم يغير الأئمة من أوضاعنا شيئا يا بني لأنهم يرددون كالبغاء كلاما جاهزا لا يفقهونه حق الفقه.
و إذا تكلموا لا يتكلمون بإرادتهم .
وقف قدور ومسح برجله حفر الخربقة، ثم رمى بالأحجار وهو يقول: الوقت وقت ظهر هيا عودوا إلى قواعدكم سالمين.
[1] الخربة هي لعبة يلعبها العوام تشبه الشطرنج هي عبارة عن 48 حفرة تملأ بـ 36 حجر لكل خصم 18حجرا، تختلف عن حجر الخصم.
لكنهم إذا جلسوا في مجالسهم الخاصة، نهشوا لحمه بالغيبة، وربما نشروا عنه الإشاعات مع ذلك فلا ينالون من هيبته شيئا، حتى القايد و الشيخ كانا يحسبون له كل حساب،و كان يحتقر كل من له حظوة لدى الإدارة، خصوصا السباييس و الدواير.
ها هو اليوم لم يبق له من ذلك شيء عليةالقوم في القرية لا يجالسونه،لا يجالسه المستضعفون من عامة الناس،وهو يعلم ذلك، فيتعالى بدوره عن ذوي الجاه و يعتزل مجالسهم،فلا يريد أن يرغم أنفه،فيجد عزاءه إلا في الأوفياء من عامة الناس،وصعاليكهم الذين يعرفون عنه أيام عزه إلا القوة الأنفة و الكرم و نجدة الضعفاء، بالرغم أنهم لم يخالطوه كثيرا.
الوحيد من الأعيان الذي بقي يكن له الاحترام،ويعرف له قدره، ويعمل بقوله r:"أكرموا عزيز فوم ذل" هو الحاج سالم بن عمار، عندما رأى حاله الاجتماعية،وتقهقرت حاله المادية تدهورت،أوصى به أهله و أبناءه ألاَّ يردوا لصالح الفطناسي طلبا،فكانت قهوته في الصباح و جل وجبات طعامه تأتيه من بيت الحاج سالم بن عمار،بالرغم مما كان بينهما من مشاحنات أيام عزه.
وكعادته خرج صالح الفطناسي من بيته بعد طلوع الشمس بقليل متدثرا ببرنسه،الذي عفا عليه الزمان من كثرة استعماله كفراش يجلس عليه؛وقف أمام عتبة داره هنيهة،التفت يمينا ثم التفت يسارا،ثم مشى يدب دبيبا بقامته الطويلة،و سار في الزقاق الملتوي الضيق المؤدي إلى رحبة السوق،مشى مستعينا بخيزرانه الأسود الذي احتفظ به من بقايا التحف والصناعات التقليدية التي كان يتاجر بها أيام عزه.
وبعد خطوات أبعدته عن عتبة الدار،نداه عمار بن الحاج سالم: عمي صالح،قهوة أو شاي ؟ رد عليه بصوت خافت:بوركت يا ولدي… هات الموجود والمكتوب ما كتبه الله …، ستجدني في مكاني الذي تعرفه، ثم واصل طريقه بخطى متثاقلة،وكلما قابله شخص وألقى عليه التحية ردها بأحسن منها… صباحك زين …صباحك خير… الله يسترك،الله يعطيك ما تتمنى، هكذا إلى أن وصل إلى الرحبة،وقف قليلا ينظر إلى حركة الناس ثم توجه نحو الجدار الذي سلطت عليه شمس يناير أشعتها الدافئة فافترش برنوسه كالعادة وجلس إلى الجدار .
في تلك اللحظة تذكر حاله وكيف كان مبجلا محترما بين قومه، يهابه الشريف والوضيع،ويخافه الكبير والصغير كل من في القرية كان يحسب له حسابه،خوفا من أن يجره إلى المحاكم ، تذكر العمري صاحب الدكان الذي كان له كالظل، يحمل أمتعته ويقوم على خدمته، وكيف نشله من براثين الذل و الاحتقار الذي كان يمارسه عليه زوج أمه،و في سنوات وجيزة حوله من خادم يحتقره أدنى العباد،إلى تاجر يسيده الناس، وبفضله تحول إلى رجل مهم في مجتمع القرية.إذا به هو أول من تخلى عنه ويتحاشى اللقاء به.
ها هو الآن عمي صالح وحيدا فريدا يعيش في بيت تحت سقف تداعت جدرانه، خالي الوفاض من متاع الدنيا، ينتظر من يتفضل عليه بفنجان قهوة أو كأس شاي،وينتظر من يدق عليه الباب فيتكرم عليه ببعض ما يسد به رمقه، إنها الدنيا تقبل وتدبر إنه الزمان الغدار!.
و هو لازال مع تلك الأفكار والوساوس التي تعتريه كلما اختلى بنفسه،وقف على رأسه عمار يحمل في يديه صينية القهوة و خبزتين من الكسرى البلدي،وضع عمار الصينية ، وقفل راجعا من حيث أتى.
أخذ عمي صالح يرتشف القهوة،وقد انتشرت رائحتها في أجواء المحيط الذي يجلس فيه،وتناول الكسرى قطعة بعد قطعة،وهو كذلك،بدأ القوم يتوافدون على المكان،الواحد تلو الأخر،لأن المكان مناسبا لجلوس البطالين، فيه يجدون الفرصة للدخول في المعركة الوهمية إنها "معركة الخربقة[1]" تلك المعركة التي يجد فيها عمي صالح عزاءه وتلهيه بعض الوقت عن واقعه، وتُنفس عن بعض مكنوناته.
تذكره بماضيه السعيد،و تنسيه هموم حاضره البئيس،و تقربه من شباب لفظتهم الحياة،ولم يجدوا من ينشلهم من براثن الفراغ،من بينهم شباب نخرجوا من الجامعات ودخلوا في دوامة البطالة،ولم يجدوا مكانا يقضون فيه أوقاتهم الفارغة،فلا ناد في القرية يجمعهم،و لا مكتبة تضمهم،و لا عمل مناسب يشغلهم،لم يجدوا في القرية إلا نادي الخربقة،ولم يجدوا من يحاورهم إلا حوار الخربقة.
و وجدوا في الاحتكاك بعمي صالح لقراءة الحياة في صورتها المتقلبة،ها هو نموذج للحياة المتقلبة فها هو ذا قد ذهبت ريحه،و صار لا ينظر إلا إلى اللحظة التي هو فيها،و لا يفكر في مستقبل،و لا يتأسف على حاضر قد لفظه الزمان، انقضت أيام عزه، وقد فاته شيء لم يحسب له حسابه فاتته معرفة طبائع البشر وأخلاق الناس،و فاته أن في الناس أشخاص مثلهم كمثل الحرباء تتلون حسب البيئة التي تعيش فيها،و لم يدرك أن في الحيوان من هو أوفى للإنسان من الإنسان،قرأوا فيه كل تلك الصور الحياتية.
فاطمئن له بعض الجامعيين ليتعلموا منه مقالب الحياة،ويتدربون منه على لباس الأقنعة التي يلبسها الناس لكل مرحلة من المراحل.
وفي لحظات قليلة تجمع عدد كبير من رواد نادي الخربقة ، فاختطفوا ما تبقى من كسرى،وأجهزوا على ما تبقى من القهوة ، ثم توجهوا للخربقة فانبطح بعضهم على بطنه،كما ينبطح الجندي في المعركة يستعد للزحف على العدو،ومنهم من بسط ذراعيه و ثنى ركبتيه كمن يهم للسجود،ومنهم من جلس القرفصاء،وقد انقسموا إلى مجموعتين اثنتين متنافستين،ترأس المجموعة الأولى عمي صالح الفطناسي لتمرسه في اللعبة،و ترأس المجموعة الثانية قدور النايلي الذي له قدرة فائقة في المراوغة و يملك نفسا طويلا في مراقبة الأحجار والصبر على الخصم حتى يوقعه.
بدأت الجولة الأولى فوضعت الحجارة في حفرها،وقد أخذ وضعها وقتا طويلا بسبب ذكاء اللاعبين،والتدقيق في البحث عن المواقع الإستراتيجية،التي تساعد على الحركة حينما تنطلق المعركة.
كان عمي صالح إذا وضع كلبا،عقب عليه بتحذير الخصم وتهديده،فيأتيه الرد من قدور بهدوء ورزانة،ممزوج بسخرية واستصغار لقدرته على وضع خطته.
بدأ اللعب وبدأت المعركة الحقيقية،وبين الفينة والفينة،يقف شخص على رؤوس اللاعبين،فيشير على المجموعة بحركة ناجحة، أو يحذرهم من حركة ربما تكون خاسرة،و إذا جاءت الإشارة موفقة والتحذير في محله،يصرخ الطرف المتضرر معترضا على هذا التدخل،يصل أحيانا إلى السب والشتم، ثم يعود الهدوء من جديد، ويستمر اللعب.
- أش كلبك حذار أن يصيبك ما أصاب ….بل قل ما أصاب السيد الوالي المخلص.
حرك عمي صالح كلبه إلى دار أخرى وهو يقول:الوالي ملؤوه شعارات وعلموه الإخلاص،ثم عاقبوه عليه لأنه أعترض طريقهم،أو لم يشركهم في الأكل،لأنه لم يعرف كيف يناور أو ربما أرادوا أن يحسَّنوا صورتهم للشعب فضحوا به، كلبي لا يخاف المناورات،لأنه ثابت ثبات الزئبق في وجه الكلبي و دليلة المحتالة.
- في عصرنا لا يوجد زئبق، يا عمي صالح، صرنا كلنا نعيش بين الكلبي ودليلة المحتالة،أما الزئبق فقد أعدمه الشعب الذي كان يدافع من أجله.
- في هذه صدقت يا قدور، كلما ظهر زئبق في عالمنا العربي تعاون عليه الكلبي ودليلة على اغتياله.
- هرب كلبك يا عمي صالح أو خبه.
- كلابي متحركة غير ثابتة فهي تلاحق الكلاب الأخرى في كل مكان......سيظهر الزئبق من جديد ومعه مريم النصابة.
- آه يا هذا! أتريد أن تجعل كلابك كلابا حقيقية؟ إذا تعاون الزئبق ومريم فسيزول الكلبي و دليلة معا.
- الكلاب تشبه بعضها البعض،إلا كلاب الخربقة ، كلاب الصيد تشبه كلاب الحراسة، و كلاب الحراسة تشبه كلاب السياسة.
- أصبت الهدف ياقدور،الفرق بين النوعين،كلاب الخربقة جامدة لا تتحرك ولا تضر الخصم في جسمه،ولا في ماله، ولا في عرضه، خسارتها على نفسها.
- ضف إلى معلوماتك أن كلاب الخربقة تشبه كلاب الكلبي في جانب، وتختلف عنها في جانب آخر، فكلاب الخربقة لا تتحرك إلا إذا حركها صاحبها،وأحيانا يرمي بها الخصم فتشج رأسه،وقد فعلت كلاب الخربقة فعلها في الصهاينة عندما حركها أطفال الانتفاضة،وكلاب الكلبي -أيضا- لا تتحرك إلا إذا حركتهم دليلة،ورموا بهم خصومهم فينطلقون بلا هوادة، يؤذوون العباد في أبدانهم وأموالهم وأعراضهم!
- صدقت يا قدور شيء آخر يميز كلاب الكلبي أنهم يدربون على أنواع كثيرة من النباح، ليخدعوا بنباحهم حراس المواشي والبساتين فيطمئِنُّون على أموالهم قبل أن يجهز عليها الكلبي ودليلة. وقد رمت بهم دليلة في العراق فخربوا العراق والدور على السودان وسوريا وليبيا،لأنهم تركوا الزئبق يُعدم في يوم العيد.
وقبل أن ينهي عمي صالح كلامه عن الكلاب واصل سالم اليد اليمنى لعمي صالح في الخربقة:
- نسيت شيئا يا عمي،كلاب الخربقة تجمع حولها من تنكر لهم الزمان أمثالي وأمثالك تجمع من ضيعوا حياتهم فيما لا يعني،إنك عشت تراوغ السادة فابتزوك ونفخوا فيك،وجعلوا منك أسدا من كرطون وبطلا من زجاج،وعندما قضوا منك وطرهم، رشوك بالماء فتلاشيت،ورموك بالحجر فانكسرت، ها أنت كما ترى.
- أصبت الهدف يا ولدي ودخلت في الصميم،إنك تفهم تقلبات العلاقة بين البشر،لكنني أقول لك، يا ولدي إن المسؤولين في بعض الأحيان طيبون وخيرون في طبعهم،لكن إذا كثرت حولهم الكلاب،تحول بعضهم إلى ذئاب فيعجز الحاكم على ترويضهم،ويكونون سببا في إضعافه و وأد رشده،خصوصا إذا كان بين كلابه سامري،فكلما بدأت رعيته تستيقظ من غفلتها، وتعطي ظهرها إلى الذئاب البشرية،صنع لهم السامري عجلا يناسب الزمان والمكان ليزيد في ضراوة الذئاب.
- أحذر عمي صالح،أش كلبك لم يعد الآن سامري واحد في الوجود فقد عشش وباض وفرخ وانتشرت فراخه الصغيرة في كل مكان،كل سامري صغير يؤدي المهمة التي كلفه بها السامري الكبير، فيقوم بصناعة العجل المناسب لتضليل الغافلين،و تبقى مهمة السامري الكبير هي صناعة المواد التي تصنع منها العجول الصغيرة. والمصيبة الكبيرة فقد وجد السامري في بعض علمائنا من يجيز السجود للعجول التي يصنعها السامري الكبير.
- صدقت يا ولدي قد تحول اللعب إلى لعب حسيني.استغفر الله لا يا بني جيل اليوم لا يعرف اللعب الحسيني، الذبن يعرفون اللعب الحسيني، هم الذين كانوا يسهرون على قراءة العنترية و الزير سالم و سيف بن ذي يزن وسيدنا علي مع رأس الغول،أما في زمانكم هذا الذي طغى فيه السامري، يسهرون على قراءة ألف ليلة وليلة و كتاب الروض العاطر،و رميو وجوليت،فجهلوا اللعب الحسيني. كُل هذا،ألحِق هذا،ألتهِم هذا.
- آه! يا سوء بختي،استغفلتني يا شيخ وألهيتني،بالسامري وأبنائه،لولا الغفلة ما كنت تستحوذ على هذا العدد من الكلاب، فمثلي كمثل بعض حكامنا، يؤمنون بسحر السامري أكثر من إيمانهم بالله .
- استغفلتك يا قدور كما استغفل السامري سادتنا وكبراءنا.
- قلت حقا يا عمي ونطقت صوابا،لولا غفلة علمائنا الذين أبهرتهم شطارة سامري الزمان وشبعوا من موائده ما سهلوا الربا الخاص،وحرموا وشددوا على الفقراء والمحتاجين الربا العام.
- ركز جيدا ….حذار لم كلابك أحسن لك يا قدور قبل أن تقلعهم وأنت تضحك.
- كلابك لا تخيفني لأن قوة الكلاب وشراستهم فيمن يحركها ويوجهها، وأنت أصبحت لا تقدر على ترويض الكلاب المتحركة، خذلتك وتركتك وحيدا مقطوعا، فكيف أخاف كلابك الجامدة.
- لا يا بني كلابي صارت ذئابا ولم تعد كلابا.
- لا تتعجب عمي صالح الدنيا صارت تسير بالمقلوب.
- كلابي أطعمتها فوق اللزوم،وشاركتها في كل صغيرة وكبيرة فانقلبت علي ها أنا كما ترى،قد قيل قديما جوع كلبك يتبعك،و لغباوتي لم أخذ بهذا المثل انتهى ظننت أنه انتهى دوره،و لم يصبح سائرا في بلاد العرب أوطاني.
- ياعمي صالح لم يعد الآن وطن عربي،إنما هي أوطان لعروش وقبائل تهيمن عليها بنات الساكسون و اللاتين، أليس بعضهم إما عضو في منظمة الكمنونث، وإما في منظمة الفرنكوفونية.
التفت إلى يمينه حيث يجلس حسين ،ذلك الشاب الهادي الذي يتابع اللعب والحوار،دون أن ينطق بكلمة،فهو معجب بالخربقة،لا يتكلم إلا إذا طلب منه،وإذا تكلم التفت إليه الجميع،يتمعنون في قسمات وجهه،ويفتحون آذانهم جيدا ليتمتعوا بصوته الفصيح،صوت يأسر الألباب فإذا تكلم يؤجلون اللعب، وأحيانا يتوقفون نهائيا، ليستمعوا إلى الجديد الذي يأتي به حسين.
تسمرت عينا عمي صالح في وجه حسين ثم سأله: ماذا تقول يا حسين فيما سمعت؟
- ماذا أقول عمي صالح ؟ من يسمعكما تتحاوران وتتناقشان ظنكما أستاذين في السياسة،أو خبيرين في الاقتصاد،أو فقيهين في الدين، كلامكما فيه كثير من الصحة والصواب.الله،الله على زمان،كانت فيه الاشتراكية أيديولوجية تهدد الرأسمالية و الإقطاع،أما اليوم قد انهزم حماة الاشتراكية،فذهبت ريحهم، وتلاشت أحلامهم ونظرياتهم،بسحر هاروت الغرب وماروت الشرق،لأن الذين حلموا بالاشتراكية،سجلوا أحلامهم على صفحات من الماء،وجاء آخرون من بعدهم اتخذوها وسيلة،وحولوا عائداتها لأنفسهم وصاروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام،وتركوا الشعوب تنعم في بؤسها.
وعندما هيمن هاروت الغرب على كل شيء، أعجب المستضعفون بقوته فأرادوا أن يقلدوه في كل شيء ليكونوا مثله، فاقتنوا آلياته وفلسفاته وقوانينه، وظنوا أن ذلك هو التقدم.
- أنا أعتقد أن كل من لبس برنيطة ومشى في الشارع بسروال قصير ونزَّل تكة سرواله إلى إليته،و تحدث بالفرنجية فهو في قمة التقدم.
- هذا تقدم الممسوخين يا قدور،التقدم هو الإرادة والعزيمة والقدرة على استثمار التراث وإعادة ترتيب أولوياته،وصياغته صياغة جديدة، لصناعة حياة جديدة ننافس بها هاروت، و نتخلص من أثر سحره،وقد فعلها الجنس الأصفر فنجحوا،أما من ذكرتهم فقد استوردوا نفايات التقدم ومسكنات الإرادة، فتحولوا إلى مزبلة لبقايا وفضلات عبقرية الآخرين،و صاروا محل تجارب للأمصال التي تنتجها مخابر هاروت..
و قبل أن ينته حسين من كلمته المؤثرة ، قاطعه رشيد :
- هذه الفلسفة لا تغير شيئا من الأوضاع،كلامك كخطب الأئمة في المساجد،لم يغيروا من أوضاعنا شيئا بخطبهم رغم فصاحتها،كلامك يا أخي عبارة عن صرخة في واد، أرجعوا إلى الخربقة التراث الأصيل الذي لا نفرط فيه
- نعم الخربقة والحضرة والوعدة وسيدي عمار هي نحن، وما سواها لا يهمنا.
- قد بالغت كثيرا في ذمنا يا قدور فكما نحن الخربقة و الوعدة سيدي عمار فنحن أيضا ابن سينا و ابن النفيس و ابن الهيثم وابن رشد والغزالي وشريعتي اقبال و ابن نبي و.......و.......و...... ثم لماذا لم يغير الأئمة من أوضاعنا شيئا يا بني لأنهم يرددون كالبغاء كلاما جاهزا لا يفقهونه حق الفقه.
و إذا تكلموا لا يتكلمون بإرادتهم .
وقف قدور ومسح برجله حفر الخربقة، ثم رمى بالأحجار وهو يقول: الوقت وقت ظهر هيا عودوا إلى قواعدكم سالمين.
[1] الخربة هي لعبة يلعبها العوام تشبه الشطرنج هي عبارة عن 48 حفرة تملأ بـ 36 حجر لكل خصم 18حجرا، تختلف عن حجر الخصم.