د. فارح مسرحي - عن " أنا وحاييم"،. للحبيب السايح

رواية " أنا وحاييم " الصادرة عام 2018 عن دار ميم-الجزائر، ومسكيلياني للنشر والتوزيع-تونس، الطبعة الأولى والمتوجة مؤخرا بجائزة كاتارا للرواية العربية، تنقلنا إلى جزائر منتصف القرن العشرين، وما عرفته من أحداث صنعت تاريخنا المعاصر، من التحضير للثورة التحريرية إلى التخبط/الانحراف الذي ميز السنوات الأولى التي أعقبت الإعلان عن الاستقلال، مرورا بالثورة التحريرية، يتنقل بنا عبرها الحبيب السائح بين مدن سعيدة ومعسكر وهران والجزائر العاصمة، من خلال استرجاع بطل الرواية "أرسلان حنيفي" لذكرياته خاصة مع صديقه "حاييم بنميمون" ذي الأصول اليهودية.
النص يثير أسئلة كثيرة ومهمة: الهوية، الحرية، الثورة، الإنسان، الحرب، العنف..الخ، كما أنه نص مليء بمشاعر الحب، الحزن، الحنين، الصداقة، التسامح، الوفاء، الألم والفراق .
لذلك يعجز القارئ عن أي جانب يركز، حتى أنه إذا أراد اقتطاع بعض شذرات الدالة على مواضيع بعينها، يجد نفسه يعيد كتابة الرواية بأكملها.
فالروائي ضمن نصه كما معتبرا من الأحداث الكبرى والتفاصيل الجزئية الضرورية لجعل القارئ يشعر بهذه الأحداث ويعيشها كما لو أنه كان ضمنها حقيقة؛ من ذلك تفاصيل الدراسة في مختلف الأطوار، تواريخ الأحداث وردود الأفعال حولها، أسماء شوارع المدن وأزقتها ودكاكينها، أسماء الجرائد والأحزاب والحركات..الخ.
كما حشد الكاتب لنصه ما أتيح له من مكنونات اللغة وأدوات التعبير حتى جاء سرده متدفقا بكل بهاء وقوة، فكان وصفه للأشياء والأماكن والمشاعر دقيقا أنيقا، مثلما ورد في الرواية أن "الكلمة التي لا تشعر بثقلها على لسانك، ابتلعها لأنها لا تستحق أن تخرج" ص 188.
لنقرأ شعور أرسلان وهو يصف عودته لبيت جدته بعيد وفاتها، "فقد سبقني الحزن إلى بيتها، وجدته جلبب كل زاوية من زواياه، واحتل كل ما راحت عيناي تقعان عليه: مكان جلوسها في الحوش، والنباتات التي كانت ترعاها فيه، وشجيرات الورد، والدالية المتسلقة وكل أشيائه هنا وهناك.." ص ص136-137.
أو قول أرسلان لحاييم :" إنها الحياة يا حاييم تبغي لنا أحيانا أن نتألم من غير أن نكون قد اقترفنا ما يوجب ذلك" ص260. أو قوله عن حب والدته:" الحب ! أي حب في هذه الدنيا غير الذي تمنحك إياه أمك؟" ص202.
تعيد الرواية طرح سؤال التاريخ صناعة وكتابة، من خلال تيمة الثورة التحريرية والتضحيات التي قدمها الشعب بمختلف أطيافه وطوائفه، وحتى بعض الفرنسيين والأوروبيين الذين سجل لهم التاريخ تضامنهم ومساعدتهم للثورة بمختلف السبل، مثلما ورد على لسان والد أرسلان محدثا ابنه" في الفرنسيسن رجال أحرار وعادلون، لا تنس هذا" ص22.
والرواية إذ تطرح هذه القضية فهي تحاول التنبيه إلى مسارات أخرى كانت ممكنة وقد تشكل عامل ثراء وسعة للوطن، لو تم التعامل مع القضية بتسامح وتعايش أكثر وقبول واعتراف بالأنا المختلف، أقول الأنا وليس الآخر من منطق الرواية، فحينما سئل حاييم بنميمون في الثانوية عن طبيعة هذه العلاقة التي تربط فرنسيا بمسلم غير فرنسي-أنديجان- كان رده واضحا وضوح المسألة في ذهنه:" لا أشعر أني فرنسي، وأرسلان مثل أخي" ص35.
وهذا الموقف جسدته أفعاله فيما بعد؛ فحاييم الدكتور في الصيدلة ذو الأصول اليهودية، فرط في المرأة التي كانت ستصير زوجته وتحمل إهانتها له، وكان يخاطر بحياته ويرسل الأدوية للمجاهدين في الجبال، بالرغم من الشبهات التي كانت تحوم حوله والتي كادت أن تودي بحياته حين أحرقت صيدليته من طرف المنظمة العسكرية الخاصة، وحينما بدأ اليهود يغادرون الجزائر نحو فرنسا أو فلسطين، كان موقف حاييم مختلفا عنهم.
يقول: " إلى أين تريدونني أن أغادر؟ هذا وطني، هنا ولدت وولد آبائي، وأخلاط جسمي من تربة هذه الأرض، وفيها أدفن مثل آبائي، فلسطين ليست أرضي ولا وطني" ص162
وكانت وصيته وهو يحتضر بأن يدفن في المقبرة اليهودية في سعيدة.
مسألة مهمة افتتح بها الرواية وانتهت عليها ولا تزال مطروحة ونستشعرها كل يوم، ونقصد بها سؤال بناء دولة الحريات، التي تكرس فيها إرادة الشعب وتتحقق فيها طموحاته وآماله. هذا السؤال الكبير الذي ظل بلا إجابة حقيقية، بالرغم من التغييرات التي عرفتها الجزائر منذ استقلالها.
يتحدث أرسلان وهو يقلب ذكرياته " فأستحضر على دفتر لولبي كبير، أياما من تلك التي تركت لها أثرا في وجداني، في حياتي وفي علاقاتي، على إحساس بمرارة، وبغيظ غالب على بداية سرقة تاريخية لما أثمرته تضحيات سبعة أعوام بالدم سرعان ما تم منع للصحافة غير صحيفتين تابعتين للحكومة، وحظر للأحزاب إلا واحدا أنشئ ليكون هو الحاكم بعد ثلاثة أعوام فقط من إعلان الاستقلال"ص19.
وكان قد تنبأ بذلك أثناء الأيام الأولى للاستقلال وما سادها من اضطراب واستيلاء على ممتلكات وعقارات المغادرين من الأقدام السوداء، وحملة الانتقامات التي طالت من بقي منهم، وكذا المتعاونين مع المستعمر –الحركى- حيث خاطب الحشود قائلا:
"لابد أنكم ستعرفون كما ترون لصوصا آخرين من نوع أكبر وأخطر" ص226.
وهو ما عاشه أرسلان نفسه حينما كان مفوض البلدية مع مسؤول الحزب، ذلك المسؤول الذي خاطبه بلهجة صارمة معلنا قصور العشب ومن ثم الوصاية عليه:
"اعلم إذا أن الشعب في لاوعيه يدرك أن هناك من يحفظ عنه مستقبله.. لأنه ليس للشعب وقت ولا وعي كافيان للتفكير في مسألة مجردة كالمستقبل، الشعب يحلم، يحلم فحسب كما يحلم الأطفال" ص289.
بهذه الكيفية مورست الوصاية على الشعب، وبهذه الوصاية تم تأجيل الإشكاليات الجوهرية وطمسها بمختلف التبريرات، فضيعت الجزائر أزيد من نصف قرن كان يمكن خلاله أن تكون دولة قانون وحرية كما الدول الكبرى، ومع ذلك ننتظر غدا أفضل.

الدكتور فارح مسرحي، أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة/ الجزائر.
ــــــــــــــــــــــــ


أعلى