عبدالجبار العلمي - لعبة الخيال والواقع في رواية "امرأة النسيان" للروائي المغربي محمد برادة...

" أنماط الشخصيات في رواية " امرأة النسيان " :

يمكن أن نصنف شخصيات رواية " امرأة النسيان " للناقد الروائي محمد برادة كما يلي :
أ ـ شخصيات مثقفة : ويمثلها : الراوي ـ المؤلف ؛ ف . ب ؛ حليمة صديقة ف . ب . وتتميز هاته الشخصيات بالنزوع إلى الحداثة والثقافة الغربية . فنجد في كثير من صفحات الرواية ، وفي صدر كل فصل من فصولها الخمسة نصوصاً أو إشارات تتصل ببعض الأعمال الفنية الغربية من رواية ومسرحية ونحت وموسيقى ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : أوبرا " سالومي " لأوسكار وايلد ، ص : 5 ؛ روايات ستاندال وفلوبير ودوستويفسكي ، ص : 39 ؛ مسرحية نتالي ساروت " من أجل نعم ، من أجل لا " ص : 58 ؛ " زرقة السماء " Le : bleu du ciel لجورج باتاي ، ) ص : 77( ؛ " بعد السقــوط" لآرثـر ميللـر ( ص : 98 ) ؛ فيلم: " السطح " للمخرج الإيطالي " إيتور سكولا " ) ص: 38 ) ؛ فيلم " الأبدية ويوم " للمخرج اليوناني تيو أنجيلوبولوس " ( ص : 113 ) ؛ قصائد بوشكين ومايكوفسكي وإسنين ، وسيمفونيات تشايكوفسكي ورحمانينوف ، ( ص : 118 ) ، كما أن هذه الشخصيات تابعت دراستها العليا بباريس ، وتشبعت بالأفكار التحررية واليسارية : ( ثورة الطلبة 1968 ـ الاشتراكية باعتبارها نظاما يعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات بين الناس بالعدل ) ، وغيرذلك من المباديء التي كانت مطمح الشباب في مجتمعات العالم الثالث في سنوات الستين والسبعين .
إن هذه الشخصيات الثلاث تعاني جميعها من الإحباط والإحساس بالاغتراب وعدم القدرة على الانسجام مع مجتمعها . فشخصية ف . ب حاولت أن تندمج في المجتمع عن طريق زواجها بالدكتور جليل والحياة معه بين أفراد عائلته الكبيرة في مدينة الراشيدية ، تقول : " إنني في حاجة إلى اختبار قدرتي على العيش وسط مجتمعي " ( الرواية ، ص : 61 ) ، لكنها فشلت في هذه التجربة ، فطلبت من زوجها الطلاق ، وعادت إلى الحياة في باريس ، ثم انتهى بها المطاف إلى الحياة في عزلة عن المجتمع في معزبتها في عمارة العائلة بالدار البيضاء.
ويحاول الراوي ـ المؤلف إيهام النفس بأنه يتغلب على الشعور بالغربة واللانسجام مع واقع مجتمعه ، ولكن دون جدوى. يقول : " لم أعد أشعر بالغربة في أي مكان حللت به. هنا أو خارج الوطن سيان" ( ص : 25 ) ، ولكنه في واقع الأمر ، يواجه الغربة داخل الوطن وفي حضور خلانه وزملائه في الحزب العتيد الذي ينتمي إليه : " أنا منهم رغم ما قد أشعر به من تباعد ، وتذكرت أنني هذا الصباح ، أحسني قادراً على تكسير الغربة وعلى نسج التآلف بين كل المختلفات ". ( ص : 31 )
إنه يفشل أيضاً في مقاومة شعور الغربة وعدم القدرة على الاندماج في هذا الواقع المتغير . يقول : " أما أنا فقد خيل ألي أن هواجس الغربة والوحدة بدأت تلفني من جديد ". ( ص : 47 ) أما حليمة صديقة ف . ب ، فقد عاشت عدة سنوات في باريس ، حيث تقاسمتا حياة المغامرات والنضال والجسد والمعرفة. ( ص : 67 ) شخصية رافضة لكل المواضعات، مؤمنة بالحرية الفردية حتى النخاع . وهي الأخرى ، لم تتمكن من الانسجام مع ما حولها سواء على مستوى الأسرة أو مع الزملاء في الكلية التي تعمل بها ، لذلك هي تعيش حالات حادة من الاكتئاب. وهي وإن كانت لم تنسحب من الحياة ، ( ص : 67 ) كما هو الحال بالنسبة لـف. ب ، فإنها مع ذلك تجد صعوبة في التواصل مع الناس سواء تعلق الأمر بأفراد أسرتها أو أصدقائها وصديقاتها. وهذه الشخصيات الثلاث تشترك مع شخصيات أخرى في رواية " الغربة " لعبدالله العروي هي "مارية" و" لارة " و" مريم " في كونها " تنتمي مجتمع ، وتعيش خارجه ، تبذل جهداً للانخراط في المؤسسة السياسية ـ الاجتماعية ، ولكنها تفشل في تحقيق ذلك الانخراط، إلى حد يصبح معه تهميش الذات نوعاً من " الفداء " من أجل الحفاظ على حالة ( البراءة ) وتحقيق (الخلاص ) ، في عالم يسير نحو الانهيار ". ( أحمد اليابوري ، دنامية النص الروائي ط.1 ، منشورات اتحاد كتاب المغرب ، الرباط ، 1993 ، ص : 55(
ولا شك أن من أقسى مشاعر الغربة هي التي يحسها الإنسان وهو في وطنه. يقول الدكتور عبدالواحد لؤلؤة : إن الاغتراب لأسباب معاشية صعب ، لكن الاغتراب لأسباب أهمها تجنب مخاطر السياسة وطلب الأمان الشخصي يفوق في صعوبته وإيلامه كل شيء عداه. وقد لا يقترب من هذا الإيلام إلا شعور الإنسان بالغربة في وطنه ، وهي ظاهرة عجيبة برزت في آخر عقدين أو ثلاثة عقود في بعض الأقطار العربية ". ( مدائن الوهم ، شعر الحداثة والشتات ، دراسة نقدية ، ط. 1 ، رياض الريس للكتاب والنشر، لبنان ، نيسان ـ أبريل 2002 ، ص : 14 )
إن هذه الشخصيات تعيش تمزقاً بين الذات والآخر ، بين الارتباط بمجتمعها على علاته ، والارتماء في أحضان الغرب غير الدافئة ، بين الاحتماء بروح المجتمع وهويته وتقاليده وتراثه، وبين الانغمار في حداثة مادية لم تحقق لها أي استقرار أو طمأنينة. لذلك وجدت هذه الشخصيات نفسها كما وصفتها ف . ب حين تحدثت عن عدم تآلفها هي وصديقتها مع مجتمعها : " داخل عنق الزجاجة أمام واقع يرفضنا مثلما أننا نكابر في قبوله. " ( ص : 67 ) . ويبدو أن أزمة الأبطال الثلاثة ناجمة عن التهافت على الحداثة الغربية ثقافة وسلوكاً ونمط حياة ، متخلين عن الجذور التي تربطهم بتربتهم وهويتهم الحضارية والروحية ، لذلك فهم يعيشون أزمة روحية ، فكل ما تشبثوا به من أفكار ومباديء وآمال وأحلام آلت كلها إلى السقوط والزوال.
إن الحداثة الجديدة التي من شأنها أن تحقق التوازن بين قيم الذات وقيم الآخر ، هي التي يدعو إليها الدكتور عبدالوهاب المسيري " حداثة تتبنى قيم العلم والتكنولوجيا ، ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط ، حداثة تحيي العقل ، ولا تميت القلب ، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث ". ( رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر ، سيرة غير ذاتية ، غير موضوعية ، ط. 1 ، مطبوعات الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، اقاهرة ، 2001 ، ص : 17 )
ب ـ شخصيات حزبية : وتنقسم إلى قسمين :شخصيات لها أسماء دالة :وأهم هذه الشخصيات : " سي مصلح " و " الحلايبي " ، ويقفان على طرفي نقيض : فالأول مناضل حزبي مخلص ، يحدثنا الراوي ـ المؤلف عن نشاطه الحزبي الدؤوب ، وتفانيه في خدمة رفاقه ومساعدتهم في الشدائد ، ولا غاية له إلا العمل من أجل التغيير والإصلاح . أما " الحلايبي " ، فهو يجسد نمط الانتهازي الذي ينخرط في صفوف الحزب من أجل تحقيق أغراضه ومصالحه الذاتية . وقد أصبح رجل أعمال ، واستفاد من مواقعه في الحزب. ( الرواية ، ص : 30 ) ، والحقيقة أن برادة إذا كان يوجه إلى حزب الاتحاد الاشتراكي نقداً لاذعا بسبب مشاركته في حكومة التناوب ، وتقديمه كثيراً من التنازلات عن المبادئ التي قام عليها ودعا إليها من موقع المعارضة ، إلا أنه مع ذلك يقف موقفا موضوعياً من بعض مناضلي حزبه ، ويكن لهم الود والتقدير والاحترام مثل " سي مصلح ". ولعل الراوي ـ المشارك هنا يتخذ هذه الشخصية رمزاً لكثير من مناضلي الحزب الذين منهم من قضى ، ومنهم من لازال على العهد .
شخصيات يرمز إليها الكاتب بحرف من حروف المعجم : 1 ـ شخصية (ص) : برز في الميدان النضالي عندما كان طالباً ، ولجأ إلى الخارج هارباً من السلطة ، وهناك ارتقى في سلم الرتب القيادية بسرعة قياسية . تم العفو عنه ، وعاد إلى البلاد والعمل الحزبي ، بيد أنه سرعان ما فقد مكانته بسبب تلاعبه في الانتخابات ، وقد أبعد عن الحكومة ، ولكنه ـ كما يتنبأ الراوي ـ المؤلف ـ يسعى للدخول إلى السلطة من بابها الواسع / 2 ـ شخصية (ح ) : تكنولوجي ، يكتب في جريدة الحزب عن التكنولوجيا . فوجىء بإبعاده عن منصب في حكومة التناوب ، وذهب إلى أحد أصدقائه الذين استوزروا ، طالباً منه التنازل له عن المنصب لأسباب واهية وسخيفة .
3ـ شخصية ( ك) : مناضل قديم في الحزب . رأيه أن المناضلين لم يخلقوا ليموتوا في المعارضة . لذلك ربط علاقات حميمة ببعض رجالات السلطة ، وقد استفاد من هذه العلاقات في تطوير مشاريعه) تربية الأبقار وغيرها( . ومما عرف به هذا " المناضل " عمله على التوفيق بين المخزن والاشتراكية ، كما عرف عنه أيضاً تملقه المبالغ فيه أحد الوزراء القدماء )مولاي أحمد( الذي أقعده المرض بعد ثلاثين سنة من العمل في حكومات متعددة .
4 ـ شخصية " عوالا " : كان طالبا نابها . درس بباريس وأصبح وزيراً وهو في ريعان شبابه . رئي وهو يبكي ، ويضرب الجدار بقبضته لأنه أبعد من لائحة الترشيحات للبرلمان رغم قيمته المعروفة في نظره / 5 ـ شخصية ( ن ) : مناضلة عرفها الراوي ـ المؤلف من عشرين سنة في بداية خوضها غمار العمل الحزبي . أعجب بشخصيتها النازعة إلى التحرر من التقاليد والمواضعات . بيد أنه فوجيء منذ عشر سنوات بزواجها من محام ينتمي إلى نفس الحزب بشمال البلاد ، معروف بشخصيته المتسلطة / 6 ـ شخصية (ج ) : مناضل له خبرة واسعة في تعبئة الجماهير، مستواه العلمي بسيط . له علاقات مع مناضلي الحزب من مختلف المستويات والأمزجة. علاقته بالحزب تطبعها الانتهازية والمنفعة الشخصية .إن الخيط الرابط بين كل هذه الشخصيات هو روح الانتهازية ، والطموح إلى تحقيق أهداف شخصية من خلال الارتباط بهيئة سياسية لها وزنها في الحقل السياسي المغربي .ثمة شخصيات حزبية أخرى حضرت حفل العشاء لا يرمز إليها الراوي ـ المؤلف ـ بأي رمز ، وبكتفي بالإشارة إلى أنهم مناضلون من الوزن الثقيل لأنهم دخلوا السجن أو حوكموا بالإعدام ، غير أنه يقسمهم إلى قسمين :أ ـ مناضلين آثروا موقف التريث والاحتراز إزاء مسلسل التغيير/ ب ـ مناضلين يدافعون عن المشاركة في هذا المسلسل . والموقف الثاني يذكر الراوي ـ المؤلف بالمقولة المأثورة : " الراس اللي ما يدور كدية. " ( ص : 37 )
ج ـ شخصيات مهمشة :وأهمها : الضاوية وابن عريش : 1ـ الضاوية : وهي تمثل نموذج الفتاة المغربية النازحة من البادية إلى المدينة بحثاً عن الرزق ، فتقع بين أنياب الذئاب التي لا ترحم ، فتبيع جسدها لتسد جوعها. فهي ضحية من ضحايا مجتمع لا تتحقق فيه كرامة الإنسان ، وإنما تداس وتمتهن. وقد اختار لها الكاتب اسمين : " الضاوية " و" أضواء ". ولهذين الاسمين دلالتهما في سياق الرواية : فقد كانت الضاوية نوراً يضيء عتمة حياة ف. ب . في عزلتها القاسية. وعندما صار اسمها " أضواء" ، أضحت تغمر الناس بضياء جمالها . إنها تذكرنا بشخصية " نور" في رواية" اللص والكلاب" لنجيب محفوظ ، لقد كانت نقطة النور الوحيدة التي تشع في حياة البطل" سعيد مهران" المغمورة بظلام الخيانة والحقد والزيف ، رغم أنها في نظر المجتمع امرأة ساقطة. / 2 ـ ابن عريش :شاب مغربي أقفلت في وجهه أبواب الرزق والأمل ، واجه عنف الواقع بالرفض والتمرد وممارسة الجريمة. إن العنف يولد العنف. ولنقرأ هذا المقطع المفعم بروح الرفض والتمرد والمرارة على لسان ابن عريش : " نعرف أن أبواب الأمل والرزق موصدة في وجوهنا ، ومحكوم علينا أن نعيش وسط غابات تزين مداخلها القوانين والتعاليم السماوية وشعارات التوافق والوئام ، إلا أن طقوسها تتستر على من يفترسون ويمتصون العظام قبل أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ". ( ص : 75 )
إن هاتين الشخصيتين أفرزهما واقع القهر والحرمان والتهميش في زمن تطلع فيه الناس إلى تغيير الأوضاع إلى الأحسن. وإذا كان الكاتب يؤمن بأن الكتابة لا يمكن أن تكون إلا بجانب المقهورين ، فإن الواقع المرير يثبت عدم جدوى ذلك. يقول الراوي ـ المؤلف : " ما جدوى الكتابة عن المقهورين الذين هم مقتنعون بأنهم لا يريدون الانتماء إلى هذا المجتمع الذي نحاول أن ننحت كيانه مجدداً من كلمات وقيم لا وجود لها في الحياة الفعلية ؟ " ( ص : 75)
إن " ابن عريش " شخصية رافضة ، متمردة ، يائسة. فـــ" لا صوت يعلو على صوت الحاكمين المتصرفين في البلاد وخيراتها ، كأنها ضيعة مستباحة " ' ص : 71 ) . و"الأوضاع مستعصية على الإصلاح " ( ص : 76 ). إن الأوضاع التي يشير إليها الراوي من خلال شخصية " ابن عريش" هي التي ستفرز شخصيات لها دلالتها الرمزية ، وإن لم تكن لها أية مشاركة في العالم الروائي ، وهي : السي 17 مليار درهم ، والسي 30 مليار درهم ، والسي 50 مليار درهم. ولا يخفى أن الراوي ـ المشارك ، يشير إلى بروز طبقة من الأغنياء هي المستفيدة الحقيقية من الاستقلال ، مؤكداً التناقض الصارخ ، والتفاوت الرهيب بين فئات المجتمع المغربي راهناً.

د. عبدالجبار العلمي
* كاتب وشاعر من المغرب .

** فصل من دراسة منشورة في مجلة " علامات في النقد " عدد 49.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى