د. عبد الجبار العلمي - سيد البحراوي ناقدا لأعماله.. يحيى الطاهر عبدالله وتمثل الحكاية الشعبية في قصصه القصيرة

من الدراسات التي أتيح لي الاطلاع عليها بعد رحيل سيد البحراوي، دراسته الموسومة بـ«يحيى الطاهر عبدالله، كاتب القصة القصيرة»، المنشورة في مجلة «الكرمل»، العدد الثامن، سنة 1982. يذكر البحراوي في تقديمه لدراسته، أن يحيى الطاهر كان يتميز بميزتين أولاهما: أنه كان يحفظ قصصه عن ظهر قلب كما يُحفَظ الشعر. ثانيتهما: عشقه القصة القصيرة والإخلاص لها. والحقيقة أن سبب اختيار جيل كامل «أدباء الستينيات»، فنَّ القصة القصيرة، هو اعتباره الشكل الفني الأنسب للتعبير عن هموم هذا الجيل الذاتية والاجتماعية والسياسية، فقد عاش هذا الجيل أزمات حادة مرّ بها المجتمع المصري، ولاسيما بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، فعنف الأزمة، فرضت عليهم تجارب خاصة لم يكن ليناسبها إلا هذا الشكل القصير المكثف المتوتر. تحيط الدراسة بأربع مجموعات قصصية ليحيى الطاهر هي: «ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا»- «الدف والصندوق» – «أنا وهي وزهور العالم» – «حكايات للأمير حتى ينام». ويشير الكاتب إلى حوالي ثلاثين قصة، لم تجمع بعد في كتاب، يدخل بعض منها في دراسته، وهي التي تضمنتها المجموعة الكاملة ليحيى الطاهر الصادرة عن دار المستقبل العربي، القاهرة، 1994. يقسم الباحث دراسته إلى قسمين كما يلي:
1 ـ المتن الحكائي في القصص المدروسة: يرى الكاتب أن هذه القصص جميعها تدور أحداثها في فضاءين:
أ ـ فضاء القرية / ب ـ فضاء المدينة، وترصد عين القاص في كلا الفضاءين النماذج البشرية بالدرجة الأولى. أما الطبيعة فلها حضور بارز في قصص القرية، لكن لا تستقل عن عالم الإنسان فيها. يلاحظ الباحث أن هذه الشخصيات في كل القصص تعاني من القهر والظلم بدرجات متفاوتة.
2 ـ المبنى الحكائي: في دراسته للمبنى الحكائي، يتوقف الكاتب أمام شكلين أساسين. أطلق على الأول اسم (القصة – الحدث)، ويرى أنه امتداد متطور لشكل القصة القصيرة. ويدعو الشكل الثاني (القصة – اللوحة)، ويتميز هذا الشكل بخلو القصة فيه من الحدث الخطي الكرونولوجي، بل تقوم على رصد «مجموعة من الجزئيات الحدثية الصغيرة.

الناقد، يربط بين الواقع المأزوم الذي يعاني منه البشر في العالم السردي المتخيل، وما يعيشه المؤلف وجيله إلى جانب الشعب المصري من القهر والتهميش.

ويرى البحراوي أن القصة هنا تبدو وكأنها «لوحة ثابتة العناصر». وقد تناول بالدراسة والتحليل نموذجين للشكلين المذكورين، هما: قصة «اليوم الأحد» من مجموعة «أنا وهي وزهور العالم»، نموذجا للشكل الأول، وقصة «الجثة» من مجموعة «الدف والصندوق»، نموذجا للشكل الثاني. يستخلص سيد البحراوي من عينة (القصة – الحدث) مجموعة من الميزات الفنية، هي كالتالي: بساطة لغة القص ودقتها- العناية بذكر تفاصيل الحياة – سير القصة على غير طريق الحبكة القصصية (بداية ـ وسط ـ نهاية)، بل على شكل هلال، لا شكل مثلث، أما في قصة «الجثة» من شكل (القصة – اللوحة)، فيصادف الباحث ثلاثة عناصر تشكل اللوحة فيها: الخمسون فدانا المزروعة عدسا – جثة القتيل- الطيور، ويلاحظ أن كل تلك العناصر تحظى بالوصف، وينتهي الباحث إلى نتيجة مفادها أن القصتين، يمكن اعتبارهما عينتين تمثلان الفن القصصي عند يحيى الطاهر في شكليه. لا يكتفي الباحث بدراسة وتحليل هذين النموذجين القصصيين، بل إننا نجده يتصدى لدراسة عينات عديدة من سائر المتن القصصي للمؤلف، مركزا على أهم عنصر في البناء القصصي (النهاية)، لأن هذه الأخيرة في القصة القصيرة تكون هي الهدف، فـ»القصة تلقي بثقلها في اتجاه النهاية» (إيخنباوم). إن الدارس يقوم بدراسة النهايات في المتن القصصي ليحيى الطاهر في كلا الشكلين:
(الحدثي واللوحي) بـ«اعتبارها إحدى المحاور الأساسية في بناء هذه القصص، بالمعنى الواسع لمصطلح البناء (الأحداث ـ الشخصيات – العناصر الفنية الأخرى). في دراسته للشكل الأول ، يجد الباحث أن للنهاية دورا واضحا يقسمه إلى أنماط ثلاثة: نمط المواجهة – نمط الهروب – نمط النهاية المأساوية. أما في الشكل الثاني (القصة – اللوحة)، فيختار نماذجه من مجموعة « أنا وهي وزهور العالم». «إن النهاية في هذا الشكل، ليست نهاية لحدث، وإنما هي لمسة أخيرة تضاف إلى اللوحة، فتؤكد ملامحها، وتصبح اللوحة مجرد رصد للملامح»، وهكذا ينتهي إلى نتيجة مفادها أن ما يميز «قصص اللوحة هو عدم إنهاء القصة بشيء جديد، وإنما فقط تأكيد أحد ملامح القصة. كما يتوصل من خلال دراسته لدلالات تلك الأنماط الثلاثة إلى: أن البشر في هذه القصص، يعانون من واقع يسوده القهر ماضيا وحاضرا، لا قبل لهم بمواجهته إلا بالاستسلام له، أو محاولة تجاوزه بطريقة سلبية هي الهروب منه. إن البشر في هذه القصص- كما يلاحظ الباحث – «يقاومون القهر دائما، وإن بدون كثير جدوى».
الناقد، يربط بين الواقع المأزوم الذي يعاني منه البشر في العالم السردي المتخيل، وما يعيشه المؤلف وجيله إلى جانب الشعب المصري من القهر والتهميش: حيث السلطات تنوب عن الشعب كله في تحقيق منجزات عديدة تعتبرها من المنجزات الكبرى المهمة الموَجَّهة للصالح العام، لكن بدون اكتراث برأي الشعب ونخبه. وكان نتيجة هذا الواقع غير المريرة ليونيو/حزيران 1967. في مقابل هذا العالم الذي يزخر به ذلك المتن القصصي الغزير، يرى الباحث أن مجموعة «حكايات للأمير حتى ينام»، تتخذ مسارا آخر مختلفا عن مسار المتن السابق، فالواقع الجديد، أفرز فئة اجتماعية شديدة الطموح، رغم هامشيتها وأزمتها، بيــــد أنها لا تتوســــل إلى تحقيق طموحها بطرق سليمة، بل إنها تلجـأ من أجل ذلك إلى الانتهازية والسمسرة والتحايل والتزييف، وغيرها من السلوكيات المنحرفة، ويرى الباحث أن السلطات، تزكي مثل هذه الانحرافات وتشجع عليها.
والملاحظ أن الناقد هنا، يرصد ما طرأ على رؤية يحيى الطاهر الذي تمكن بحسه الفني من إدراك المتغيرات الواقعة داخل مجتمعه وإعادتها إلى المصير الحتمي الذي هو الانهيار.
إن الكاتب في نهايات قصص (النمط المأساوي)، يصب جامَّ غضبه على رؤوس المتسلقين الذين يطرقون سبلا خاطئة في سبيل تحقيق طموحاتهم، وَيُنيلهم أشد العقاب. لكن الباحث رغم انتقاده القاص على إيقاع عقوبات قاسية على أشخاص مساكين، هم أولى بالتعاطف معهم ، إلا أنه يجد أن العقاب في قصص «حكايات للأمير»، «يبدو منطقيا ومفهوما جراء الخيانة الطبقية رغبة في تحقيق الطموحات» ـ يرى البحراوي أن نهايات (النمط المأساوي)، يكاد يحكمها قانون قدري. ويتجه إلى ربط النهاية المأساوية لقصص يحيى الطاهر، بنهايات القصص الشعبية في مغزاها الأخلاقي، وفي حبكتها أيضا، ويرى أن الذي «جعل الكاتب ينتقل إلى هذه الطريقة الانتقامية في هذه المجموعة، هو تغير الظروف الموضوعية، فقد بات الظلم والفساد واضحا، بحيث أصبح يتطلب إدانة واضحة وانتقاما».
وينتهي الكاتب في ختام دراسته إلى نتيجة مؤداها أن الشكل القصصي الجديد الذي توصل إليه يحيى الطاهر (النمط المأساوي)، «يقوم على تمثل الحكاية الشعبية أساسا من حيث عناصرُ بنائها، وأهمها الأحداث والشخصيات، الذين يقعون في المسافة بين الواقع وما وراء الواقع.. وهذه من سمات شخوص الحكايات الشعبية».
يبقى أن نقول في الختام، إن سيد البحراوي، كان هو الأخر كيحيى الطاهر مع شخوصه، صارما مع نفسه، صارما في أبحاثه، حاد الإحساس بمسؤوليته إزاء قرائه في كتاباته المتنوعة ونضاله من أجل مبادئه.

د. عبدالجبار العلمي
٭ كاتب من المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى