د. عادل الأسطة - الفلسطيني في الرواية العربية «المثقف الفلسطيني: إدوارد سعيد مثالاً»

في روايته " مصابيح أورشليم ، رواية عن ادوارد سعيد " ( 2006 ) يظهر الروائي علي بدر صورة إيجابية مشرقة للمثقف الفلسطيني فيختار ادوارد سعيد ليكون الشخصية التي تدور الرواية حولها ، وهو ما يفصح عنه العنوان الفرعي " رواية عن ادوارد سعيد " ، كما لو أن الرواية رواية شخصية ، علما بأن العنوان هو " مصابيح أورشليم " ومصابيح اورشليم هم الأنبياء والعظماء والمفكرون وادوارد سعيد منهم .
ويستطيع المرء أن يتوقف أمام فقرة دالة تختصر صورة الفلسطيني ادوارد سعيد فيها ، وهي :
" بعد عام تقريبا من هذا الحدث جاءني صوت زينب نصري مختنقا على التلفون:
- هل تعرف ... مات ادوارد سعيد .
شعرت بحزن كبير ، شعرت بأن الأرض مادت تحت قدمي وتخلخلت ، لقد تذكرت تلك الأيام التي عصفت بنا : نظريات ادوارد سعيد و أفكاره ، صوره وكتبه ، مقالاته ومناظراته ، حروبه وانتقاداته ، لقد كان سعيد يمثل ما كان يمثله كارل ماركس للجيل القديم ، وسارتر نسبة للجيل الستيني في العراق ، وكان يمكن أن يكون أكبر بكثير لولا التحولات السربعة والمتلاحقة ، ولولا خلو أفكاره من الرموز والشهداء " .
الفلسطيني إذن ، مجسدا في ادوارد سعيد ، كان يمكن أن يوضع إلى جانب كبار الفلاسفة والمفكرين في العالم ، لولا خلو كتابته من الرموز والشهداء . ورغم ذلك فإننا نجد صاحب المخطوط أيمن المقدسي - ومن ورائه علي بدر - حين يأتي على علاقة ادوارد سعيد بالقدس وزيارته لها بعد عقود من تركها بسبب أحداث ١٩٤٨ ، نجده يقارن ادوارد برموز أدبية عالمية حققت شهرة وما زالت في الأدب العالمي .
في أكثر من مكان هناك ربط بين ادوارد وجيمس جويس وبين القدس ودبلن وعودة كل من الشخصيتين إلى مدينته .
في بداية الرواية يأتي السارد على أيمن المقدسي ويقول عنه إنه يكره الأيديولوجيا ويؤمن بالتغيير والتحول " وهو ذاته تغير وتحول أكثر من مرة في حياته ، كمآ تحول وتغير إدوارد سعيد في حياته أكثر من مرة " وأنه منذ زمن بعيد مهتم اهتماما شديدا برواية " يوليسيز لجيمس جويس ، وقد أخبر أيمن مرة السارد بأنه يريد أن يصنع من إدوارد سعيد يوليسيز ومن أورشليم .. دبلن ، ولكنه فشل واخفق إخفاقا ذريعا " ذلك أن إدوارد سعيد لم يكن يوليسيز مطلقا ، كما أن أورشليم لم تكن دبلن أبدا .
الفكرة السابقة التي وردت في القسم الأول يتكرر حضورها في نهاية القسم الثاني من الرواية / المخطوط :
" عوليس في أورشليم ... قال إدوارد .
كان يمكنه أن يلعب هذه اللعبة ، إدوارد هو عوليس ... أورشليم هي دبلن ... يائيل هو ستيفن ديدالوس ... ايستير هي ميللي بلوم .
............
............
إدوارد سعيد مثل عوليس دبلن استاء وذراعاه متكئتان على محجر السلم .. " .
والرواية في قسمها الثاني ، وهي تتشكل من ثلاثة أقسام ، تصف لنا ابن القدس الذي عاد إليها زائرا بجواز سفره الأميركي ، بعد أن حرم من العيش فيها منذ النكبة ، حيث هجر وأهله ، وعندما عاد رأى قدسا أخرى تقوم على أنقاض القدس الغربية التي عاش طفولته فيها .
عاد سعيد ليبعث القدس التي عرفها وليفكك الرواية الصهيونية التي عملت على محو الرواية الفلسطينية والقدس العربية لتحل محلها قدس أخرى تلغي ما كان قائما .
إن رسم صورة مفصلة لسعيد في الرواية يبدو عبثا ، فالرواية كلها تتمحور حوله وأي اقتباس يعني اجتزاء يخل بالصورة ، ومع ذلك فإن الوقوف أمام الفصل الأول في خطوطه الرئيسة يمكن أن يجزي ويعطي صورة حسنة ومقبولة .
سارد الرواية هو كاتب عراقي يحصل على مخطوط رواية عن ادوارد سعيد كتبه فلسطيني اسمه أيمن المقدسي ، وقد ربطته علاقة صداقة مع السارد ومع شاب عراقي ثان اسمه علاء خليل ، وكانت الصداقة تقوم على الجدل والحوار ، فلم يكن الثلاثة متوافقين في رؤاهم ، ولهذا كثر الجدل بينهم والنقاش .
كان أيمن المولود في العراق معجبا بادوارد سعيد وقرر أن يدرس معه الدكتوراه في الأدب المقارن .
على النقيض من أيمن كان العراقي علاء خليل المتأمرك والمتؤورب الكاره لثقافته العربية وللعرب والمعجب بكل ما هو غربي والطامح ، مثل أبيه ، أن يصبح كاتبا كبيرا يكتب رواية على غرار الروايات الأوروبية يصور فيها حياة الغربيين لا العرب ، ولم ينكسر طموحه هذا إلا بعد احتلال العراق وتهافت الادعاءات الأميركية وتهافت منظري سياساتها الكبار وعلى رأسهم برنارد لويس وكنعان مكية . وحين يرى ما ألم بالعراق ، وحين يقابل كبار منظري الاستشراق الأميركي ، يشعر بخيبته من الغرب ، وكما فشل أبوه في أن يصبح كاتبا كبيرا أخفق هو أيضا .
على النقيض من علاء يبدو السارد الذي يأخذ على عاتقه نشر رواية أيمن ، ويتطابق السارد وهو عراقي أيضا ، مع المقدسي ، ويكون ادوارد سعيد مثالا له ، ونخلص بعد قراءة الفصل الأول إلى أن ادوارد وأيمن والسارد يتشابهون في مواقفهم ورؤاهم ، وهكذا يكون ادوارد سعيد ملهما للفلسطيني المنفي وللعراقي المنفي في وطنه والذي أجبر على أن يشارك في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثمانية أعوام ، بل ويشارك في حرب الخليج الثانية ويرى احتلال القوات الأميركية لعاصمة العراق .
في القراءة عن حياة أيمن في العراق نقرأ عن الفلسطيني المنفي الذي كان موضع غيرة وحسد من قسم من العراقيين ، فالنظام العراقي أعز الفلسطينيين وأكرمهم فوقفوا إلى جانبه ، وهذا ما لم يرق لعلاء خليل المعارض للنظام ، ما جعله يغار من أيمن ويحسده ، وتزداد الغيرة ويكبر الحسد حين يتنافسان على حب زينب نصري العراقية التي تدرس الأدب المقارن وتعود من أميركا لتدرس في بغداد .
يكمل أيمن دراساته العليا في أميركا ولا يذهب إلى الجبهة ، وهو ما لا يتحقق لعلاء وللسارد ، وهنا يشعر علاء أن الفلسطيني حل محله وأخذ فرصته .
في أثناء رسم السارد صورة أيمن نقرأ عن فلسطيني إيجابي منتم إلى قضيته ويدافع عنها ويبدو مثقفا ثقافة واسعة وكتلة نشاط ، وهو بذلك يترسم خطى أستاذه ، فقد " كانت تتجمع في ذهنه أفكار ادوارد سعيد ، حياته ، مسيرته ، الأشعار التي كان يحفظها وهو طفل ، صوره ، ويدمجها في حياة المدينة القديمة ، يدمجها في الأحداث التاريخية ، وصور الامبرطوريات المتعاقبة... " ، وأعتقد جازما أن الصورة التي رسمها علي بدر لهذا الفلسطيني تنطبق عليه وعلى سارده ، إن فصلنا بينهما .
تبدو الفقرات التي ترسم هذه الصورة المشرقة للفلسطيني ، من خلال ادوارد وأيمن ، كثيرة ، ولسوف أكتفي بفقرة أو فقرتين دالتين .
الفقرة الأولى تصف أيمن على النحو الآتي :
" كان غامضا وحالما ومفعما بالنبل والعمق ، طراز غامض وحزين وبعيد عن هذه الأجواء التي كان علاء يحبها ، وفي الوقت الذي تصرف أيمن المقدسي بحذر ، بتكتم شديد وهو ما يصم ويميز المنفي والغريب واللاجيء .. كان علاء خليل يدور بكل ألفة حول المكان ، بثقة الساكن المتجذر والمواطن الأبدي .. "
والفقرة الثانية تخص الجهد الذي بذله أيمن لتأليف روايته :
" كان يعمل من الصباح إلى المساء كي يجمع كل شيء عنها : كتابات تاريخية ، خرائط عتيقة ، نقودا قديمة ، وثائق ، مذكرات ، شهادات أحياء ، كان يحاول أن يسأل عنها كل من يعرفها ، أو قرأ عنها ، أو رآها ، أو عاش فيها ، أحيانا يتصل بالتلفون بأناس عديدين ، بشخصيات مهتمة بها ، في أميركا في إسرائيل في العالم العربي ، ومن مختلف الناس : أجانب ، مسلمون ، مسيحيون ، يهود ، كان يجمع الكاتالوجات السياحية ، مخططات المدينة ، دعاياتها ، إعلاناتها ، خطوط باصاتها ، قصصها ... الخ "
فأي فلسطيني هو هذا ؟
إنه في النهاية ادوارد سعيد ، وهو أيضا الروائي العراقي علي بدر المعجب بادوارد سعيد .
هذه الصورة للفلسطيني تذكرنا بصورة الفلسطيني في روايات جبرا وهي الصورة التي تبرزها أيضا له العراقية أنعام كجه جي في روايتها الأخيرة " النبيذة " ، فمنصور البادي فيها مقدسي مثقف ولاجيء يستقر في فنزويلا ويغدو أستاذا جامعيا مقربا من الرئيس الفنزويلي الراحل ( شافيز ) يؤثر فيه ويكون له هاديا ونبراسا .
ليست " مصابيح أورشليم " الرواية العربية الوحيدة التي يحضر فيها ادوارد سعيد ، فهو يحضر في رواية الياس خوري " أولاد الغيتو: اسمي آدم " ( ٢٠١٦ ) ، وكنت توقفت أمامه في كتابي " أسئلة الرواية العربية : أولاد الغيتو ، اسمي آدم " ( دار الآداب ، بيروت ٢٠١٨ ) .
على أن أهم ما في الرواية هو سؤال الهوية ، فهل حين نكتب عن إدوارد سعيد ، ونحن نكتب عن صورة الفلسطيني في الرواية العربية ، نعده فلسطينيا ونكتب عنه كشخصية فلسطينية ؟
في الصفحات الأخيرة من الرواية يتوقف صاحب المخطوط أمام هوية سعيد ، فيكتب :
" وقد كان إدوارد سعيد لاجئا ولكنه لم يعان قط مصير أي لاجيء تعيس ، إنه فلسطيني في أميركا ، وأميركي في فلسطين ، ومسيحي بين المسلمين ، وعربي بين الأميركيين ، وكان طفلا أميركيا باسم عربي واضح ، وكان يرتدي ملابس مدرسة بريطانية في مدرسة أميركية ، وكان انجلوفونيا في مجتمع فرانكفوني . لقد كان ببساطة فلسطينيا وأميركيا وعربيا ومسيحيا وهو عالم بأكمله ... " ( ٢٧٥ ).
ثمة ملاحظة تجدر الإشارة إليها في تتبع صورة ادوارد سعيد في الرواية والحياة عدا انفتاحه على عوالم الآخرين ومحاورتهم والتحدث معهم ، وهذا تحفل به الرواية التي تأتي على علاقاتها باليهود ومصاحبتهم ، وهي المظهر الخارجي له ، وكل من شاهده عن قرب يعرف مقدار أناقته .
تصف الرواية بيته على النحو الآتي :
" في الواقع إن ما جذب ماريبو عند دخوله المنزل في تلك اللحظة هو مظهر ادوارد سعيد ، ذلك العازف الساحر بشحوبه وأناقته وقد حافظ على مظهر ارستقراطي خجول ذي طابع متوحش ، أما ملابسه فقد كانت في غاية الأناقة ، وقد انبعث منه عطر راق يتجول بخفة مع الألحان العذبة في فضاء الصالة " .
تنتهي رواية " مصابيح أورشليم ، رواية عن ادوارد سعيد " بالسطر الآتي :
" الملاحظات كثيرة ، واخترت منها هذا القدر فقط " ويبدو أن هذا السطر هو الأنسب لإنهاء الكتابة عن الفلسطيني في رواية علي بدر ، فالكتابة كثيرة وما كتبته عن ادوارد سعيد وأيمن المقدسي غيض من فيض " الملاحظات كثيرة " وأكتفي بما كتبت وليس للقاريء إلا أن يعود إلى الرواية .

( نشر: ٢٣ /٢ / ٢٠٢٠ ، في جريدة الايام الفلسطينية)

عادل الاسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى