د. عادل الأسطة - الفلسطيني في الرواية العربية : محمود درويش نموذجا :

في البحث عن الفلسطيني في الرواية العربية نقرأ عن فلسطينيين حقيقيين ؛ أدباء ومفكرين ، وغير أدباء . وغالبا ما يكون الأخيرون سياسيين أو فدائيين ، مثل ياسر عرفات وخليل الوزير وأبو علي إياد وعلي أبو طوق ، وغالبا ما يكون الأدباء محمود درويش وراشد حسين وغسان كنفاني ، وبحضور أقل ادوارد سعيد واميل حبيبي وجبرا ابراهيم جبرا ، وبلغ الحضور أن اتخذ علي بدر ادوارد سعيد عنوانا فرعيا لروايته " مصابيح أورشليم " .
في " أسئلة الرواية العربية : أولاد الغيتو : اسمي آدم ، الياس خوري نموذجا " توقفت أمام حضور كنفاني ودرويش وحبيبي وجبرا وادوارد سعيد ، وتلافيا للتكرار يمكن أن يعود المهتم إلى الكتاب ( بيروت ، دار الآداب 2018 ) .
في كتابتي عن الفلسطيني في ثلاثية أحلام مستغانمي أتيت على محمود درويش ، وكنت ، من قبل ، رصدت حضوره في الأدب الفلسطيني وفي رواية الياس خوري " أولاد الغيتو : اسمي آدم " .
إن حضور درويش في المخيلة الفلسطينية والعربية ، يبدو أمرا غير مستبعد ،
فلقد كانت أشعاره ، منذ ستينات ق 20 ، عنصرا فاعلا في صياغة الوعي العربي ، وما زاد من فاعليتها انتقالها من المكتوب إلى المسموع المغنى من خلال صوت مارسيل خليفة وآخرين .
لقد لفت تأثير أشعاره وتأثيره في صياغة الوجدان والوعي ؛ الفلسطيني والعربي ، أنظار دارسين فلسطينيين وإسرائيليين ، ما دفع بهم إلى حث آخرين على تتبع الظاهرة والكتابة عنها .
مرة طلب مني الناقد فيصل دراج أن أكتب عن درويش في الوجدان الشعبي الفلسطيني ، وثانية اتصلت بي دارسة من اللد تسألني في الموضوع ؛ فقد سجلت أطروحتها مع أستاذ إسرائيلي تحت عنوان " محمود درويش وتأثيره في صياغة الوعي الفلسطيني " وحثها مشرفها على الاتصال بي للإفادة .
والآن ماذا عن حضور الشاعر في روايات عربية أخرى غير ثلاثية مستغانمي وبعض روايات خوري المشار إليها ؟
سأتوقف أمام ثلاث روايات هي :
- سيقان ملتوية (2008 )
- حيث لا تسقط الأمطار .( 2010 )
- أولاد الغيتو ٢ : نجمة البحر . ( 2019 )

النموذج الفلسطيني الذي اختارته زينب حفني في " سيقان ملتوية " يتجسد ، كما رأينا ، في زياد المولود في المنفى ،وهو يريد تحقيق ذاته من خلال الفن ، وفي أثناءقراءتنا عنه نقرأ نماذج دالة من أشعار درويش كتبها في فترة مبكرة من مسيرته تعود إلى 60 ق 20 ، وظهرت في مجموعة " أوراق الزيتون " ( 1964) . لقد أوصى والد زياد زيادا بفلسطين وأعطاه ما يثبت أنه وريثه الوحيد . إن وصية الأب للابن تذكره بقصيدة درويش " رسالة من المنفى " التي يقول في مقاطع منها :
" ماذا جنينا نحن يا أماه ؟ حتى نموت مرتين ؛ فمرة نموت في الحياة ومرة نموت عند الموت ! هل تعلمين ما الذي يملأني بكاء ؟ هبي مرضت ليلة .. وهد جسمي الداء ! هل يذكر المساء .. مهاجرا أتى هنا.. ولم يعد إلى الوطن ؟ هل يذكر المساء مهاجرا مات بلا كفن ؟ " .
والمقطع الثاني الذي يرد هو مقطع كتب أسفل لوحة لرجل بزيه الفلسطيني وبيده بندقية :
" يا صديقي ! لن يصب النيل في الفولغا ، ولا الكونغو ، ولا الأردن ، في نهر الفرات ! كل نهر وله نبع ومجرى وحياة . يا صديقي ! أرضنا ليست بعاقر .. كل أرض ولها ميلادها .. كل فجر وله موعد ثائر "
ومع أن الصورة هي صورة الجد الذي استشهد وتناسبه أسطر درويش ، ومع أن الأسطر الأسبق تناسب وصية الوالد ، وزياد يختلف عن أبيه وجده في أنه ينتمي إلى ذاته ، لا إلى أرض الآباء والأجداد ، إلا أن أسطر درويش تمتليء بالحكمة ، ما يعني أننا أمام شاعر حكيم ترك أثره في أبناء شعبه ممن ولدوا في فلسطين وشردوا عنها .
حقا إن الأسطر استشهد بها والد زياد ولكنها في النهاية من اختيار زينب حفني التي خلقت شخصياتها الفلسطينية ونفخت فيها الروح دون غيرها من الفلسطينيين .

في رواية أمجد ناصر " حيث لا تسقط الأمطار " نقرأ تأثره بروح درويش في أشعاره الأخيرة التي صار فيها يجرد من نفسه شخصا آخر يخاطبه ويكتب بكثرة عن " الهنا " " هناك " ، وحين تعود الشخصية الرئيسة في الرواية من المنفى ، بعد غياب ، وتأتي على بيت أبيها نشعر أننا نقرأ نصا شبيها بقصيدة درويش " في بيت أمي " .
إن ما سبق يعني أن الشاعر وشعره يمثلان نموذجا أعلى يعتز به لدرجة عدم القدرة على الانفكاك منه والتخلص من سحره وسحر شعره ، على الرغم من أن أمجد ناصر من كتاب قصيدة النثر التي لم ترق لدرويش .
كان محمود درويش وهو ينظر ، في بيت أمه ، إلى صورته شابا ، تساءل :
" أأنت يا ضيفي أنا ؟ "
وأما أمجد ناصر فقد كتب بعد عودته :
" ولم أعد أنا أنا " .

الروائي الثالث هو الياس خوري الذي أنجزت مقالة عن حضور درويش في نصه الروائي بشكل عام .
لم يخل الحزء الثاني من " أولاد الغيتو " وهو " نجمة البحر " من حضور لافت لحياة درويش وقصصه الغرامية مع اليهوديات .
إن علاقة آدم برفقة تستحضر علاقة درويش بريتا وموقفه منها بعد أن التحقت بالجيش .
تنشأ علاقة حب بين آدم ورفقة تقود إلى علاقة جنسية منفتحة يتغزل فيها الفلسطيني باليهودية مذهلة الجمال ، ويفض بكارتها ، ولكن العلاقة لا تدوم ، فالفلسطيني لا ينسى قضية شعبه ولا يغض النظر عن قتل أهله حتى لو كانت معشوقته هي من يقدم على ذلك ، ولسوف يلجأ آدم ، كما لجأ من قبله درويش ، إلى قطع علاقته بالمحبوبة حال التحاقها بالجيش ، على الرغم من اختيارها لآدم وتفضيله على اليهودي غابرييل :
" - أنا لا أحب ثيابك العسكرية.
- أرأيت ؟ كان غابرييل على حق .
- لا . محمود درويش على حق .
- لم أفهم . قالت .
- لن تفهمي ولا أريدك أن تفهمي ، لأني أخاف عليك .
أدار آدم ظهره ومضى ، وفكر في أن عليه أن يمحو البدلة العسكرية من الصورة . رفقة ليست ريتا التي سيكتبها محمود درويش ، وهو لن يصلي لعيون عسلية تحجبها بندقية ، كما أنه لا يريد لهذه الفتاة الرقيقة أن تقتل طفلا عربيا كي تفهم ".
يرى الياس خوري ، على لسان بعض شخصياته ، أن الشاعر الفلسطيني في كتابته عن الطلل يواصل ما بدأه امرؤ القيس في الشعر القديم . هنا يبدو الفلسطيني غير منقطع عن جذوره الأدبية وأساليبها . إنه يقرؤها ويبني عليها .
تحضر قصيدة " سقط الحصان عن القصيدة " بعد الحديث عن امريء القيس وحصانه .
" لماذا بكى محمود درويش الحصان الذي ترك وحيدا وسط أطلال قريته البروة ؟ ولماذا عندما رثى نفسه مزج قصيدته بدم الحصان ؟
" لم يبق في اللغة الحديثة هامش للاحتفاء بما نحب / فكل ما سيكون كان / سقط الحصان مضرجا بقصيدتي / وأنا سقطت مضرجا بدم الحصان "
هنا يقع الطلل الذي حين نبكيه نبكي حاضرنا المصنوع من أطلال حياتنا . وهنا صنع الفلسطيني حكايته من ألم نكبته بالحكاية " .
أكثر من ذلك فإن الشاعر الفلسطيني لا ينطق باسم الفلسطينيين وحسب . إنه ينطق باسم العرب على اختلاف دياناتهم . هنا تحضر قصيدة " سجل أنا عربي " فيعجب بها حتى اليهود العرب المقموعون في الدولة الناشئة التي تميز بين يهود غربيين ويهود شرقيين ، كما بدا واضحا في فترة تأسيسها ، وهنا يبدي اليهودي القادم من العراق إعجابه بقصيدة الشاعر ، وحين يصغي إليها يشعر أنها صوته أيضا ، ولذلك نجده بعد أن أنهى الشاعر أمسيته في نادي كفر ياسيف في 60 ق 20 يركض كي يسلم عليه .
" في قاعة نادي كفر ياسيف ، حين ذهب مع حسقيل إلى أمسية شعرية نظمها الحزب الشيوعي ، تبلبلت مشاعر آدم بينما كان الدم يغلي في شرايينه وهو يستمع إلى صرخة الشاعر التي تسجل هويته ، لكنه خاف من تلك الهوية ، وأحس بأن محمود درويش يأخذه إلى حافة الأسى ، وعندما ركض حسقيل كي يسلم على الشاعر ، رفض آدم الذهاب معه ، وخرج من القاعة بحثا عن الهواء . أحس بأنه يختنق ، فصرخة الشاعر " سجل أنا عربي " ، تبدو أشبه بصرخة استغاثة . يومها ، لم يفهم آدم أن الهوية كانت الصرخة الأولى ، وأن الشاعر سينتقل بعدها من الشعار إلى الاستعارة ، حيث تصير فلسطين قصيدة كبرى تحتضن الألم وتسطنق الصمت " .
إن الشاعر الفلسطيني في الرواية العربية يبدو شخصية جذابة ذات كاريزما ومؤثرا ، وهو ينتمي إلى قضيته الوطنية والقومية دون أن يتنازل عن وعيه الانساني .
وأما الملامح الخارجية لدرويش ففيها من الإعجاب ما فيها . ليس الفلسطيني هنا قميئا منفرا كما بدا في الأدبيات الصهيونية مثل " لصوص في الليل " ل ( آرثر كوستلر ) . إن الفلسطيني مجسدا في محمود درويش " يشبه ممثلي السينما بقامته الطويلة ، ووسامته وعينيه الرماديتين الخضراوين المختبئتين خلف عويناته، ورشاقة كلماته . يقول الشعر كأنه يغني ، ويصرخ بأنه عربي في زمن صار فيه الاسم العربي معادلا للشتيمة ".
وما من شك في أن العبارة السابقة هي من تأثير الزمن الكتابي ( 2017 / 2018 ) ففي هذه الفترة صار الاسم العربي معادلا للشتيمة ، وأما زمن كتابة الشاعر قصيدته - أي في ستينات القرن العشرين - فلم تكن كذلك . يومها كان الخطاب القومي الناصري يعلي من شأن القومية والأمة العربية الواحدة وكانت الأغاني تزهو بذكر العربي ، من المحيط إلى الخليج ، لدرجة شاعت أغنية " الأرض بتتكلم عربي " وعبارة " أحرار يا عرب أحرار " وما شابه.

د. عادل الاسطة
الجمعة ١٤ شباط ٢٠٢٠

( نشر في جريدة الأيام الفلسطينية وقد أضفت إليه بعد نشره بعض فقرات )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى