محمد مرتاض‏ - النقد الأدبيّ القديم في المغرب العربيّ

(ج 1)

مقدّمــة‏
لقد كان البحث في أدب المغرب العربيّ القديم حتى عهد متأخّر يعدّ من قبيل المغامرة والتّحدّي، وذلك بسبب ما يعرف هذا الحقل المعرفيّ من انعدام للمظان التي تتكفّل ببيئة معيّنة، أو يأخذها على عاتقه منبع معيّن، بل يلاحظ الباحث المتّجه هذا الاتجاه أنّ المشارب والاتجاهات متعدّدة ودفينة في مختلف الموضوعات من فقهيّة وتاريخيّة وأدبية ونقديةّ.‏
فكان البحث نتيجة لذلك كلّه يقتضي التّنقل الدائب والصّبر اللانهائي بغية الظّفر بقليل أو كثير من ذلك. لكنّ اتّجاه البحث العلميّ في الجامعات الجزائرية إلى هذا الأدب في المغرب العربي ذلّل بعض الصّعاب، وأزاح بعض العراقيل، على أنّ ما كُتب عن هذا الأدب-في تصورّنا- لا يعدو أن يكون إسهاماً بسيطاً في التعريف به، وما يزال العمل الكبير ينتظر.‏
وإذا كان هذا هو الحال في الأدب، فإن الأمر في النّقد أعسر وأعقد، لأنّ البحث فيه معدود على الأصابع، ولم نلمس بعض الجهد إلا في المغرب وتونس حين اتّجهت النّيّة من سنوات إلى الكشف عن كنوزه، والتعريف ببعض رجاله المغمورين بصورة أخصّ.‏
أمّا في الجزائر؛ فما يبرح هذا الموضوع بكراً بإمكان الدّارسين أن يزرعوا أرضه، ويغلّوا منه النّتاج الوفير، وباستثناء بضع دراسات؛ فليس هنالك شيء كثير يفيد منه الهيمان إلى المعرفة، أو الظّمآن إلى حبّ الاستكشاف. وغدت الحاجة تزداد إلى دراسة هذا الأدب ونقده مع النّضج في الفكر عند أبناء المغرب العربيّ، واقتناعهم بضرورة التوحّد فيها بينهم، والتجمع في صعيد واحد كما اجتمع أسلافهم وتنافسوا في مختلف مجالات العلوم والمعارف في مراكز (تلمسان وبجاية وتيهرت وفاس ومرّاكش وسبتة والقيروان...) وقد يصاب المرء بحسرة وهو يقلّب برامجنا الجامعيّة فلا يلفي إلاّ صورة باهتة لهذا الأدب ونقده.‏
فالنقد الأدبيّ القديم في هذا الإقليم إذاً، لم يكن شيئاً مذكوراً منذ مدّة، لكنه الآن بدأ يفتّق شرنقته للخروج إلى النّور، ومن الذين قاموا بجهود مشكورة فيه نذكر:‏
ـ د. بشير خلدون في كتابه: الحركة النقدية على أيام ابن رشيق المسيلي.‏
ـ د. عبد السلام شقور في كتابه: القاضي عياض الأديب.‏
ـ د. علال الغازي في أطروحته الجامعية عن: مناهج النقد في المغرب العربيّ خلال ق 7 و8 هـ.‏
ـ د. منجي الكعبي في تحقيقه لكلّ من كتاب "الممتع" لعبد الكريم النهشلي وكتاب "الضرائر الشعريّة" للقزاز.‏
ـ د. عبد العزيز قلقيلة في كتابه: النقد الأدبيّ في المغرب العربيّ.‏
ـ د. محمد رضوان الداية: تاريخ النقد الأدبي في الأندلس.‏
ـ د. مصطفى عليان إبراهيم: تيارات النقد الأدبيّ في الأندلس.‏
أضف إلى ذلك ما تركه (الحصري) من لمحات في "زهر الآداب" وما تركه (ابن رشيق في "العمدة" وغير ذلك مما كتب في المجلاّت والكتب المختلفة، والذين أفاد منهم جميعاً هذا البحث، ويدين لهم بما تركوه من بصمات مجلاّة.‏
بيد أنّ قيمة بحثنا هذا تكمن في ثبت بالآراء التي احتوتها كتب الأقدمين أو تحليل كثير منها مع التّعليق ونقد النّقد، وإخضاعها لمناهج نقديّة، ولمدارس خاصّة بها.‏
ويجدر الذكر أنّ هذا البحث حاول أن يتتبّع أوليّات النقد الأدبيّ في المغرب العربي القديم، لكنّه لم يتعنّت إلى درجة الشّطط في فرض تاريخ محدّد لبداية هذا النّقد رغبة منه في أن يترك الباب مفتوحاً للآراء، واقتناعاً منه بأن يفسح المجال رحباً إزاء الأقلام التي تروم المشاركة في وضع أسس ومعالم هذا النقد، ذلك أنّ هذا البحث وإن يكن السّباق- كما أٍلفنا- فإنّه لا يعفي نفسه من مزلات منهجيّة، وهو ما يبقي حقل البحث الأدبيّ يانعاً باستمرار، تتّجه إليه سوائم الفكر، وتتنافس على المرعى فيه قوافل الدرس المتواصل الدّؤوب لتوسيع ما ضيّقناه من نظريّات، ولتفصيل ما أوجزناه من قضايا واستنتاجات.‏
وقد حاول هذا العمل أن يلمَّ بمعظم النقّاد الذين تسنى التوصل إلى سيرهم وآرائهم؛ أمّا الذين امتنعوا عنّا لعدم توفر المظان، فإننا نظل مستمسكين بأمل تدارك التعرض لنظرياتهم وقضاياهم في البحوث المقبلة بمشيئة الله.‏
ومن المصادفات التي كانت لها يد بيضاء على النقد الأدبي القديم في هذا الإقليم، وجود نوع من المنافسة بين هذا الناقد وذاك كما كان الشأن بين ابن رشيق وابن شرف القيروانيّ، حين ألّف الأوّل في الرّدّ على الثاني أو تنبيهه عدّة بحوث ولا سيما المشهورة منها مثل: (رسالة ساجور الكلب- رسالة نجح الطّلب- رسالة قطع الأنفاس- رسالة نقض الرسالة الشّعوذّية) كما أبان عن ضيقه بمثل ابن شرف وتبرّمه به في قوله (العمدة 1: 4):‏
"وكم في بلدنا هذا من الحفاث قد صاروا ثعابين، ومن البغاث قد صاروا شواهين، إنّ البغاث في أرضنا يستنسر، ولولا أن يعرفوا بعد اليوم بتخليد ذكرهم في هذا الكتاب، ويدخلوا في جملة من يعدّ خطله، ويحصى زللـه، لذكرت من لحن كلّ واحد منهم وتصحيفه، وفساد معانيه، وركاكة لفظه؛ ما يدلّك على مرتبته من هذه الصّناعة التي أدعوها باطلاً، وانتسبوا إليها انتحالاً........."‏
ومثل هذه الإشارات النقدية كان لها الأثر الذي لا ينكر في تنشيط الحركة النقدية بين هؤلاء الأعلام فيما بينهم ليفيد منها في النهاية النقد العربي كلّه نتيجة لما أجهدوا أنفسهم فيه، وقننوا له أو قوّموا مناحيه.‏
ولابد من الإشارة بأننا توقفنا عند أوائل القرن السادس الهجري فحسب، وهو ما يعني عدم خوضنا في شأن الأعلام الذين ذاعت شهرتهم في القرن المذكور والقرون اللاّحقة له. وقد يسعفنا الزمان بالعودة إلى تخصيص دراسة مستقلّة لهؤلاء بدءاً بالسجلماسي، وانتهاء بابن مرزوق الحفيد، وابن خلدون، وابن عبد الواحد المراكشي، وابن البنّاء المراكشي، وابن سبع السبتي، وغيرهم.‏
وإذا كان لكلّ بحث دواع وأسباب تقتضي الإبانة والشرح والتّعليل، فإنّ دواعي بحثنا هذا ليست غريبة ولا خفيّة على القارئ الكريم ممّا يعفينا من الوقوف عندها مطولاً، ونكتفي بالتذكير أنّه كان من وراء الخوض فيه ما لاحظناه من فراغ مهول في المكتبات الجزائرية والعربيّة، وفي المكتبات الجامعية بخاصّة، ولا سيّما مكتبات معاهد اللغة العربيّة وآدابها حين يتّجه طلابنا إلى الاستنجاد بها عساهم أن يظفروا بمرجعيّة تعينهم على سدّ الفراغ، فإذا هم يضربون الأكفّ بعضها ببعض لأنهم لم يستطيعوا تحقيق حلمهم المتمثل في إعداد بحث أو مذكّرة وغيرهما عن النقد في المغرب العربيّ القديم، فيصرفهم هذا الحاجز عن تلبية رغباتهم العلميّة، ويحول بينهم وبين ما يشتهون ويأملون.‏
وهذه الإشكالية في الواقع يعاني منها المدّرس نفسه لأنه كثيراً ما يقف سادراً إزاء طلابه وهو يقترح عليهم موضوعات للبحث: هل يتجاهل مادّته، ويغضّ الطّرْف عن واجباته المتمثّلة في المتابعة والدّراسة لعصر من عصور الأدب العربي في البيئة المغربية؟ أم يكل ذلك إلى الزمان. ويسند أمره إلى الاختيار لا إلى الإجبار؟‏
والمؤكد هو أن هذا البحث المتواضع لن يسدّ المنافذ كلها، ولن يعوض النقائص، لأنّه ليس إلاّ نبراساً باهتاً يكشف الدرب الفسيح وحده، ولكنّه يعجز عن إنارة المجاهيل والزّوايا العميقة، ومع ذلك فقد يسعف المدرسين والطلاب ليكوّن مع غيره من البحوث الأخرى التي تصبّ في هذا الاهتمام رافداً أن لم يكن ثرّا مدراراً، فنتيجة مساهمته لا تجحد.‏
وقبل أن نلج إلى إثبات الفصول التي كوّنت هذا البحث وما تضمنّه فحواها من محاور وقضايا؛ يجدر التنويه ببعض الإشارات التي قد تزيل اشكالات كثيرة، والتي تتلخّص على الأخصّ في:‏
1- لم نختر موضوعات الفصول أو نقحمها على النقّاد، ولكنّها استنبطت من آرائهم، وانتزعت من مصنّفاتهم غالباً مع مراعاة التطور، وروح العصر، حيث استبدلنا مصطلح "السرقات" بمصطلح استخدمه المعاصرون أكثر؛ وهو "الأخذ الأدبي" مثلاً.‏
2- لقد كانت الدراسة عن النقاد الذين ظهروا في المغرب العربيّ مجملة، ولم نخصّ واحداً منهم بدراسة مستقلّة لكيلا تتفتّت الأحكام، وتتشتت الأفكار، لذلك يلاحظ على الفصول اختلاف في ترتيب الأسماء، أو تقصير في توظيف بعض النظريات، وليس ذلك راجعاً إلى إهمالنا هذا الجانب أو ذاك، وإنّما إلى تعذّر استنباط قضيّة، أو تعسر استنتاج شكل من الأشكال التي تضيف جديداً أو تنفرد برأي يقدم خطوة، فظهور اسم في فصل واختفاؤه في فصل آخر ليس لاستغناء عنه أو إهمال له، وإنّما هو تنوّع من وجهة أولى واحترام للآراء التي اشتهر بها كل واحد منهم من وجهة ثانية، فلم نتزيّد عليهم محاولين أن نختلق لهم ما ليس له وجود، أو نتقول عليهم ما لم يفكروا فيه إطلاقاً.‏
3- إنّ ما أدخلناه من نظرياتهم تحت باب معيّن أو فصل خاصّ هو مجرد معايشة للعصر، وإسهام في إضفاء طابع الخلود على ما تركه هؤلاء النقاد.‏
4- لقد حيل بيننا وبين الاطّلاع على مصادر ومراجع هامّة كانت ستثري البحث وتشدّ أزره، وهي مبثوثة ما بين المغرب وتونس والقاهرة ودمشق وغيرها. وعدم الرجوع إليها ليس عائداً إلى تقصير منا وإنما لظرف فوق طاقتنا. وعسى أن نتمكن في المستقبل العاجل من الرجوع إليها إمّا لإغناء هذا البحث أكثر، وإمّا لتناول جوانب أخرى تصبّ في هذا الاتجاه وإفرادها بدراسة مستقلّة؛ وأهم هذه المصادر هي :‏
- المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع: لأبي محمد القاسم السجلماسيّ.‏
- أنوار التجلّي على ما تضمنته قصيدة الحليّ: لأبي محمد عبد الله الثعالبي الفاسي.‏
- بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد: للقاضي عياض.‏
- ريحان الألباب وريعان الشباب: لأبي القاسم محمّد بن إبراهيم القرطبي المعروف بالمواعيني.‏
- شفاء الصّدور: لابن سبع السبتي.‏
- أعلام الكلام: لابن شرف القيرواني، وغيرها ............‏
5- يلاحظ على المصنّفين المغاربة هذا التّداخل في أحكامهم بين البلاغة والنقد أحياناً، وهي ظاهرة لا تسجّل عليهم وحدهم، بل يشاركهم فيها كثير من زملائهم المشارقة خلال هذه الحقبة.‏
6- غياب كثير من المصنّفات المتعلقة بمجالات النقد في المغرب العربيّ.‏
وأخيراً، فقد اشتمل هذا البحث على مقدّمة، ومدخل، وخمسة فصول، وخاتمة، وفهارس فنية.‏
ففي المدخل: تناولنا محورين كانا أرضية تمهيدية لهذا البحث هما:‏
أ-البدايات الأولى للنقد العربيّ.‏
ب-النقد المغربيّ القديم.‏
وتناول الفصل الأول مفهوم الشعر وبنيته عند نقّاد المغرب العربيّ خلال القرنين الخامس والسادس الهجريّين: حيث انصبّ الاهتمام بالدّرجة الأولى على إبراز صعوبة التّحديد الدقيق لبداية النقد الأدبيّ في المغرب العربيّ وعلى قيمة الشعر ومفهومه، وعلى سيادة الأحكام النقديّة على البيت الواحد.‏
وتطرّقنا في الفص الثاني إلى القضايا النقديّة الكبرى في القرنين الخامس والسادس الهجريّين مثل شيوع قضية اللفظ والمعنى، وقضيّة القديم والجديد، إذ تعرّض لهاتين القضيّتين كلّ من إبراهيم الحصري، وعبد الكريم النّهشلي، والقزّاز، وابن رشيق، وابن شرف....‏
واختصّ الفصل الثالث بمفهوم العمليّة الإبداعيّة في نظر نقّاد المغرب العربيّ ضمن محاور ثلاثة هي:‏
أ-السرقات الأدبية (الأخذ الأدبيّ) بعامّة وفي المغرب العربيّ بخاصّة.‏
ب-الطبع والصنعة عند نقّاد المغرب العربي.‏
ج-القيمة الجماليّة للشعر.‏
وركّزنا في الفصل الرابع على المنهج النقديّ عند نقّاد المغرب العربيّ ضمن قضايا خمس هي:‏
أ-المزج بين البلاغة والنّقد.‏
ب-الفنون الشعرية.‏
ج-النقد الخلقيّ.‏
د-النّقد الذوقيّ.‏
هـ-التفسير النّفسّي.‏
وخصّصنا الفصل الخامس والأخير للفرق في التطبيق بين مناهج هؤلاء النّقاد وتجلّى ذلكم بخاصّة في محورين رئيسين:‏
أ‌- استعراض مناهج نقّاد المغرب العربيّ حيث بحثنا فيه شموليّة نقد ابن رشيق الذي ركّز في عمله على المنهج الوصفي بوساطة تطبيقه العنعنة في استشهاداته، وتميّزه بالموضوعية، في حين ركّز ابن شرف على أثر البنية الإفراديّة في تشكيل البيت الشعريّ.‏
ب- محاولة تأسيس منهج نقديّ مبتكر....‏
والمحور الأخير هذا، ذو أهميّة قصوى، فقد حاولنا فيه النّفاذ إلى الجانب الابتكاري في نقد هؤلاء، ثم إظهار الإبداع والتّفرد مع تعليقات تخصّ كلاّ من الحصري، وابن رشيق، وعياض.‏
وأمّا الخاتمة فقد كانت بمنزلة أسئلة للمستقبل عساها أن تحثّ أقلاماً أخرى على الإجابة عنها عاجلاً.‏
وذيّلنا الكتاب بـ:‏
- فهرس الأعلام.‏
- قائمة المصادر والمراجع.‏
- فهرس الموضوعات التفصيلي.‏
ولله الأمر من قبل ومن بعد.‏

تلمسان، في 8 صفر 1417 هـ‏
23 يونيو 1996م‏
محمد مرتاض‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. محمد مرتاض
النقد الأدبيّ القديم في المغرب العربيّ
- نشـــــــأته وتطــــــوره - (دراســــــة وتطــــبيق)
من منشورات اتحاد الكتّاب العرب 2000

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى