لم يطب لحبيبي مالك أن أقول إن جده رجل بشع؛ فبرم شفتيه، وأدار ظهره، وكنت لأرى بداهة وجهه وقد تغضن، فعرفت أنه بذلك في طريقه لمخاصمتي، فحزنت، لكني لم أبذل كثيرا من جهد بعدها لإرضائه، فقط أرسلت له قبلة مكوّرة في الهواء محمولة على رؤوس أصابع يدي اليمنى، وضحكت ضحكة أنثوية، فخرّ مالك عند منبت شجرة الخروب التي كنا نلتقي تحتها وقبّل التراب تحت قدميّ.
يومها، بعد أن نهض مالك حبيبي عن التراب، وكان بنطاله قد اتّسخ قليلا، حدّثني صراحة عن خاطر ينغّص عليه حياته منذ وقت، في لحظات يفطن فيها إلى ساقيّ جده الجرباوين.
قلت في نفسي حينها:" إذن وله ساقان جرباوان "
وتساءل مالك حبيبي بحزن عن رأسه المرفوع؛ إذ كيف سيعود يرفع رأسه في القرية حين يكتشف أهلها كم من الأوساخ يحملها جده داخل ثيابه حين يحدث ويموت، فيضطرون، تحت طائل الدين والتقاليد والنظافة، إلى تغسيله قبل تكفينه ودفنه ؟؟
لقد فكر مالك حبيبي، في النهاية، أن يفعل كما يفعل الهنود بموتاهم، على نحو ما عرف من مدرّس التاريخ؛ فيحرق جسد جده ويذروه في الهواء، فيموت وتموت معه أوساخه !
ومنذ ذلك التاريخ لم يعد ضميري يؤنبني، حتى في اللحظات التي يستيقظ فيها، حين أشير إلى جد مالك قائلة:
" ذلك الرجل البشع "
فهو، إلى جانب أن له ساقين جرباوين، نجس لا يهتم بطهارته، يخرج من المرحاض ولا يغسل يديه، وعندما تمتلئ مثانته، لا يستحي حين يحمل عضوه ويركض نحو المرحاض حتى لو حصل ذلك أمام جمع ممن يحضرونه، بل كثيرا ما تفاخر فتنحنح حين تصدر عنه أصوات خفيفة أو ثقيلة تأتي من قفاه فيبدو وكأنه في حال دفاع عن العروبة أو العرض وكل شئ سيبدو أنه عزيز وثمين، وهو إذ يفعل ذلك لا يلبث أن يتزحمل في مكانه ويضحك حتى يستقر في النهاية مثل كلب يقعي أو ديك فرغ لتوه من كبس دجاجة.
وتكرر مرارا أن كان يستغل فرصة أن أنشر الغسيل على سطح البيت فيبحّر بساقيّ المبلولتين
المطلتين من تحت ثوبي المشمّر، وترتفع عيناه فتستقران على مفترق يبين عنه ثوبي عند الصدر، فيمسّد لحيته وشاربيه، ويمصمص شفتيه الغليظتين بلسان أحمر يطل بينهما، ويظل يقترب باتجاه بيتنا حتى يخيّل اليّ أنه قد اخترق السياج المقام حوله وصعد الدرج، فأسقط الغسيل من يديّ والتصق بالجدار، حينها كنت أتذكر صورته المرعبة ساعة التقطني بإحدى يديه، وكان يلف حول رقبته حبلا، وفي يده الأخرى غراب، وصاح في وجهي، فبانت في فمه بقايا أسنان صفراء محطّمة، وفاحت منه رائحة قذرة:
" سأربطك مثل هذا القاق "
لحظتها صرخت، وولولت، وهربت، وهو سقط على الأرض من شدة ما ضحك، ولم أستغرب ضحكه؛ لأنه بعدها أخذ يناديني باكيا، وهو يقول:
" تعالي، سأربطك، وأعلقك على شجرة الخشخاش "
ظلت صورته تلك تكبر في رأسي، وكانت كثيرا ما تزورني فتنغّص عليّ أوقات هدوئي، وتحوّل الرجل البشع، بسببها ولأسباب أخرى، إلى شيطان رجيم يوسوس في خاطري، ولأجله بتّ أكره جدي؛ لأني كنت أراه يتبادل الزيارات مع الرجل البشع، وأراهما يتضاحكان أحيانا، ويتحدثان أيضا أحاديث ألفة، وكنت أتساءل عن عدد الوجوه التي يعيش بها هذا الرجل، وكدت أظن أن لجدي وجوها مماثلة هو الآخر، لولا أنه، رغم علاقته بالرجل البشع، داوم على محبته لي؛ كان يقبلني على خديّ، ويلعب بجدائلي وينعتني بالسخلة، ويحضر لي الراحة البيضاء الملوّزة وقطع البسكويت المدوّرة، وظلّ جدي يصلّي كلما ارتفع صوت مؤذّن الجامع بالتكبير، إلا أن الرجل البشع كان يتعلل، حين يحين موعد الصلاة، بالتعب أو المرض، كان حينها تحديدا يتذكّر قول الله، فيرتّل بصوت غليظ وحكيم: " وليس على المريض حرج "
لقد أصبح الرجل البشع، غير مختارة، شغلي الشاغل، بالتأكيد بذلت محاولات حثيثة لنسيانه، لكني أعترف، أيضا، بأني كنت أصرّ على نحو مماثل على معرفته جيّدا؛ فلم أتوان عن تسقّط أخباره من حبيبي مالك عندما التقيه تحت شجرة الخروب، أو من كنته مريم، حين كنا نجتمع في ساحة بيتنا لتنقية حبوب القمح من الأحساك، أو جرش العدس بجاروشتنا الحجريّة الكبيرة.
أسرّت لي مريم ذات يوم عن تحرشات الرجل البشع بها؛ قالت انه ينظر إليها نظرات غير نظيفة، قالت انه يمسك يديها ويقول:
" ما هاتان اليدان الناعمتان ؟؟"
ثم يمصمصهما بقبلات ضخمة، والغريب أن الآخرين كانوا يظنون أن الرجل البشع يمارس ذلك استجابة لغريزة أبوية فيغبطون مريم؛ لأنهم، وبعضهم أبناؤه، لم يحظوا منه بذلك، لقد اعتاد أن يصرخ فيهم، وكان يضربهم، و عندما يحدث ويدللهم يفعل ذلك بطريقة نادرة جدا؛ فحين يصادف ويتزامن موعد تدليله بأن يكون أحدهم مبطوحا كان يطأ بقدمه على رقبته، أو بطنه، أو صدره، ويأخذ يضغط ويضحك حتى يبكي المبطوح المدلّل !
مريم لم تصدّق تلك العاطفة الأبوية، ولا نيّة التدليل، بل ظلّت تدرك في عينيّ الرجل البشع شرا كانت تخشاه، وقد تجرّأت ذات يوم، وأخبرت عنه زوجها ابن الرجل البشع، فضحك مرّة، ولطمها في أخرى، وكاد يطلّقها في ثالثة، وقال لها بأنه سيمسح ذاكرتها إن لم تنس وحدها، فانثنت عن اخباره، وأسرّت لي بذلك، لكني لم أستطع أن أساعدها.
وفيما بعد استرحت أنا ومريم حين عرفنا أنّ الرجل البشع فقد خيره وبذره، وان كانت عجوزه الطيّبة لم تسترح؛ فهو كان يأمرها حين تشتدّ به الرغبة أن تتعرّى ليلا، ويضربها ويصرخ في وجهها حين لا يستطيع فعل شئ، وقد تكرّر أن تعلّل الجيران على صوت صراخه وبكائها، وكان الأولاد يجدونها صباحا في قاعة الدار تخبّئ شعرها المنكوش تحت منديلها ودموع هرمة في عينيها، بينما الرجل البشع يكون ممدّدا على ظهره في فراشه يرسل شخيرا مزعجا.
والغريب أن لا شئ يثير ضحك الرجل البشع بقدر ما يفعل الخيار والجزر، وكل شئ طويل وغليظ، وعندما حصل ودخل إلى قريتنا اختراع اسمه ( النقانق)، وشاء القدر أن يراه الرجل البشع، ضحك، ضحك من أعماق قلبه، وقال:
" حتى هذا باتوا يصنعونه ؟ ألا يكفي ما صنعه الخالق من شئ طويل وغليظ، وأشياء أخرى شبيهة ؟ "
ولم أفهم في البداية ما كان يحدث للرجل البشع، وما قصته مع هذه المخلوقات الطويلة الغليظة، لكني عندما فهمت أدركت عادة كان الرجل البشع يمارسها كلما أراد أن يشير إلى شئ؛ فقد اعتاد أن يوظّف وسطى أصابعه لأجل ذلك.
ولحرصه على أن لا يغضب أصابعه الأخرى، اعتاد أيضا أن يستعملها في غرف الطعام، حتى لو كان الطعام مقلوبة بالملوخيّة، وليس ذلك لعدم توفّر الملاعق أو قلتها؛ فاختراع الملاعق اختراع معروف ومنتشر في قريتنا أيضا، بل حتى يمارس عادته التي يعي أنه يغيظ
بها أبناءه؛ حين يمصمص أصابعه كلها باستمتاع وإتقان من أطرافها حتى منابتها ما يغنيه عن غسلها، وما يجعل أبناءه بالنتيجة يتقزّزون فيتركون الطعام له.
كل ذلك، وأشياء أخرى أعرفها عن ذلك الرجل، جعلتني أقول لمالك أكثر من مرّة:
" جدك بشع... بشع للغاية "
لكن مالك كان يغضب ويخاصمني، ولسبب ما ظلّ يدافع عن جده؛ ربما بدأ في الآونة الأخيرة يبصر ما يخطر لي حين ينظر في عينيّ وأنظر في عينيه، في لحظات اتكاء الشمس على كتف التلّة الكبيرة وقت الغروب، في لحظة التّشاد تلك يصبح لتوارد الفكرة وقع الحجر في المياه الراكدة، وأظن أنّ مياه علاقتي بمالك بدأت تتساقط فيها حجارة ذات رائحة بشعة منذ ذلك الوقت؛ كان حينها قد بدأ الرجل البشع يشاركني دروس اللغة والأحياء والحساب، فعرفت كم هو سئ أن يكون المرء بشعا بتتبع الجذر ( بشع )، واشتقاقاته، واستخدامه في سياقات مختلفة، ما دفعني للنظر في امكانيّة أن تكون جينات البشاعة سائدة أو أن تصبح كذلك عندما يلتقي جينان غير سائدين فيقوّي أحدهما الآخر.
كانت الاحتمالات، حسب القاعدة الجينيّة، تتشعّب بالانطلاق من نقطة المركز على أوراق كنت أفردها أمامي خصّيصا لدراسة خصلة البشاعة، كانت الفوضى تدبّ في رأسي على نحو ما تظهر في الغرفة من حولي... أفعل ذلك وأتحمّله لأجل مالك حبيبي؛ رأسي يمتلئ بفوضاه، يسخن، تتكوّر حبات عرق صغيرة على جبيني، وتفوح رائحة عرق أكثر سخونة من تحت ابطيّ... أتذكّر حبّا بيني وبين مالك نمارسه كطقس بدائي ينمو مع الحشائش في حقول القمح والعدس والسمسم، لكنّ البشاعة كانت تطلّ أيضا؛ كنت أتخيّلها زبالة وحيوانات نافقة ملقاة في الغرفة المهدّمة على طرف قريتنا، حيث اعتاد أهلها التخلّص من نفاياتهم، كان الجد البشع يحرس المكان، ينتصب طويلا، عريضا، ويضغط عصى طويلة غليظة تشقه نصفين.. أخاف، وأحزن، وأنظر إلى الشمس من النافذة فأجدها مختلفة بطعم غريب، وأرى شجرة الخرّوب بثمارها الطويلة السوداء المدلّاة، شجرة بلا أوراق، لكنها بأشياء سوداء مدلّاة عريضة في وسطها... أبصر حفرة في جذع الشجرة الضخم، حفرة أضع فيها، بعد دقائق لم أحسبها، رسالة كتبتها لمالك على ظهر إحدى أوراق الاحتمال الجيني، قلت فيها:
" مالك حبيبي، اعذرني، سنفترق؛ لأني لا أريد أن أكون زوجة الرجل البشع "
وفي يوم بعد سنوات جمعتني الصدفة بمالك، كنا نمرّ من الطريق القريب من مقبرة القرية، كان حول مالك أطفال يتعلقون به، يمرحون حوله، يبتعدون عنه ويعودون إليه، وكنت أسير
وحدي بلا أحد، نظرت ومالك في لحظة تشّاد لها رائحة تلك الأيام، كان المشهد كومة تراب بحجرين يحددانه من جهتيّ الشرق والغرب، وكانت نبتة شوكيّة تنبت في الوسط فتحرس كومة التراب من أيدي العابرين أو العكس.
مشاهدة المرفق 43
[SIZE=3]The Ugly Duchess (c. 1513), Quentin Matsys[/SIZE]
يومها، بعد أن نهض مالك حبيبي عن التراب، وكان بنطاله قد اتّسخ قليلا، حدّثني صراحة عن خاطر ينغّص عليه حياته منذ وقت، في لحظات يفطن فيها إلى ساقيّ جده الجرباوين.
قلت في نفسي حينها:" إذن وله ساقان جرباوان "
وتساءل مالك حبيبي بحزن عن رأسه المرفوع؛ إذ كيف سيعود يرفع رأسه في القرية حين يكتشف أهلها كم من الأوساخ يحملها جده داخل ثيابه حين يحدث ويموت، فيضطرون، تحت طائل الدين والتقاليد والنظافة، إلى تغسيله قبل تكفينه ودفنه ؟؟
لقد فكر مالك حبيبي، في النهاية، أن يفعل كما يفعل الهنود بموتاهم، على نحو ما عرف من مدرّس التاريخ؛ فيحرق جسد جده ويذروه في الهواء، فيموت وتموت معه أوساخه !
ومنذ ذلك التاريخ لم يعد ضميري يؤنبني، حتى في اللحظات التي يستيقظ فيها، حين أشير إلى جد مالك قائلة:
" ذلك الرجل البشع "
فهو، إلى جانب أن له ساقين جرباوين، نجس لا يهتم بطهارته، يخرج من المرحاض ولا يغسل يديه، وعندما تمتلئ مثانته، لا يستحي حين يحمل عضوه ويركض نحو المرحاض حتى لو حصل ذلك أمام جمع ممن يحضرونه، بل كثيرا ما تفاخر فتنحنح حين تصدر عنه أصوات خفيفة أو ثقيلة تأتي من قفاه فيبدو وكأنه في حال دفاع عن العروبة أو العرض وكل شئ سيبدو أنه عزيز وثمين، وهو إذ يفعل ذلك لا يلبث أن يتزحمل في مكانه ويضحك حتى يستقر في النهاية مثل كلب يقعي أو ديك فرغ لتوه من كبس دجاجة.
وتكرر مرارا أن كان يستغل فرصة أن أنشر الغسيل على سطح البيت فيبحّر بساقيّ المبلولتين
المطلتين من تحت ثوبي المشمّر، وترتفع عيناه فتستقران على مفترق يبين عنه ثوبي عند الصدر، فيمسّد لحيته وشاربيه، ويمصمص شفتيه الغليظتين بلسان أحمر يطل بينهما، ويظل يقترب باتجاه بيتنا حتى يخيّل اليّ أنه قد اخترق السياج المقام حوله وصعد الدرج، فأسقط الغسيل من يديّ والتصق بالجدار، حينها كنت أتذكر صورته المرعبة ساعة التقطني بإحدى يديه، وكان يلف حول رقبته حبلا، وفي يده الأخرى غراب، وصاح في وجهي، فبانت في فمه بقايا أسنان صفراء محطّمة، وفاحت منه رائحة قذرة:
" سأربطك مثل هذا القاق "
لحظتها صرخت، وولولت، وهربت، وهو سقط على الأرض من شدة ما ضحك، ولم أستغرب ضحكه؛ لأنه بعدها أخذ يناديني باكيا، وهو يقول:
" تعالي، سأربطك، وأعلقك على شجرة الخشخاش "
ظلت صورته تلك تكبر في رأسي، وكانت كثيرا ما تزورني فتنغّص عليّ أوقات هدوئي، وتحوّل الرجل البشع، بسببها ولأسباب أخرى، إلى شيطان رجيم يوسوس في خاطري، ولأجله بتّ أكره جدي؛ لأني كنت أراه يتبادل الزيارات مع الرجل البشع، وأراهما يتضاحكان أحيانا، ويتحدثان أيضا أحاديث ألفة، وكنت أتساءل عن عدد الوجوه التي يعيش بها هذا الرجل، وكدت أظن أن لجدي وجوها مماثلة هو الآخر، لولا أنه، رغم علاقته بالرجل البشع، داوم على محبته لي؛ كان يقبلني على خديّ، ويلعب بجدائلي وينعتني بالسخلة، ويحضر لي الراحة البيضاء الملوّزة وقطع البسكويت المدوّرة، وظلّ جدي يصلّي كلما ارتفع صوت مؤذّن الجامع بالتكبير، إلا أن الرجل البشع كان يتعلل، حين يحين موعد الصلاة، بالتعب أو المرض، كان حينها تحديدا يتذكّر قول الله، فيرتّل بصوت غليظ وحكيم: " وليس على المريض حرج "
لقد أصبح الرجل البشع، غير مختارة، شغلي الشاغل، بالتأكيد بذلت محاولات حثيثة لنسيانه، لكني أعترف، أيضا، بأني كنت أصرّ على نحو مماثل على معرفته جيّدا؛ فلم أتوان عن تسقّط أخباره من حبيبي مالك عندما التقيه تحت شجرة الخروب، أو من كنته مريم، حين كنا نجتمع في ساحة بيتنا لتنقية حبوب القمح من الأحساك، أو جرش العدس بجاروشتنا الحجريّة الكبيرة.
أسرّت لي مريم ذات يوم عن تحرشات الرجل البشع بها؛ قالت انه ينظر إليها نظرات غير نظيفة، قالت انه يمسك يديها ويقول:
" ما هاتان اليدان الناعمتان ؟؟"
ثم يمصمصهما بقبلات ضخمة، والغريب أن الآخرين كانوا يظنون أن الرجل البشع يمارس ذلك استجابة لغريزة أبوية فيغبطون مريم؛ لأنهم، وبعضهم أبناؤه، لم يحظوا منه بذلك، لقد اعتاد أن يصرخ فيهم، وكان يضربهم، و عندما يحدث ويدللهم يفعل ذلك بطريقة نادرة جدا؛ فحين يصادف ويتزامن موعد تدليله بأن يكون أحدهم مبطوحا كان يطأ بقدمه على رقبته، أو بطنه، أو صدره، ويأخذ يضغط ويضحك حتى يبكي المبطوح المدلّل !
مريم لم تصدّق تلك العاطفة الأبوية، ولا نيّة التدليل، بل ظلّت تدرك في عينيّ الرجل البشع شرا كانت تخشاه، وقد تجرّأت ذات يوم، وأخبرت عنه زوجها ابن الرجل البشع، فضحك مرّة، ولطمها في أخرى، وكاد يطلّقها في ثالثة، وقال لها بأنه سيمسح ذاكرتها إن لم تنس وحدها، فانثنت عن اخباره، وأسرّت لي بذلك، لكني لم أستطع أن أساعدها.
وفيما بعد استرحت أنا ومريم حين عرفنا أنّ الرجل البشع فقد خيره وبذره، وان كانت عجوزه الطيّبة لم تسترح؛ فهو كان يأمرها حين تشتدّ به الرغبة أن تتعرّى ليلا، ويضربها ويصرخ في وجهها حين لا يستطيع فعل شئ، وقد تكرّر أن تعلّل الجيران على صوت صراخه وبكائها، وكان الأولاد يجدونها صباحا في قاعة الدار تخبّئ شعرها المنكوش تحت منديلها ودموع هرمة في عينيها، بينما الرجل البشع يكون ممدّدا على ظهره في فراشه يرسل شخيرا مزعجا.
والغريب أن لا شئ يثير ضحك الرجل البشع بقدر ما يفعل الخيار والجزر، وكل شئ طويل وغليظ، وعندما حصل ودخل إلى قريتنا اختراع اسمه ( النقانق)، وشاء القدر أن يراه الرجل البشع، ضحك، ضحك من أعماق قلبه، وقال:
" حتى هذا باتوا يصنعونه ؟ ألا يكفي ما صنعه الخالق من شئ طويل وغليظ، وأشياء أخرى شبيهة ؟ "
ولم أفهم في البداية ما كان يحدث للرجل البشع، وما قصته مع هذه المخلوقات الطويلة الغليظة، لكني عندما فهمت أدركت عادة كان الرجل البشع يمارسها كلما أراد أن يشير إلى شئ؛ فقد اعتاد أن يوظّف وسطى أصابعه لأجل ذلك.
ولحرصه على أن لا يغضب أصابعه الأخرى، اعتاد أيضا أن يستعملها في غرف الطعام، حتى لو كان الطعام مقلوبة بالملوخيّة، وليس ذلك لعدم توفّر الملاعق أو قلتها؛ فاختراع الملاعق اختراع معروف ومنتشر في قريتنا أيضا، بل حتى يمارس عادته التي يعي أنه يغيظ
بها أبناءه؛ حين يمصمص أصابعه كلها باستمتاع وإتقان من أطرافها حتى منابتها ما يغنيه عن غسلها، وما يجعل أبناءه بالنتيجة يتقزّزون فيتركون الطعام له.
كل ذلك، وأشياء أخرى أعرفها عن ذلك الرجل، جعلتني أقول لمالك أكثر من مرّة:
" جدك بشع... بشع للغاية "
لكن مالك كان يغضب ويخاصمني، ولسبب ما ظلّ يدافع عن جده؛ ربما بدأ في الآونة الأخيرة يبصر ما يخطر لي حين ينظر في عينيّ وأنظر في عينيه، في لحظات اتكاء الشمس على كتف التلّة الكبيرة وقت الغروب، في لحظة التّشاد تلك يصبح لتوارد الفكرة وقع الحجر في المياه الراكدة، وأظن أنّ مياه علاقتي بمالك بدأت تتساقط فيها حجارة ذات رائحة بشعة منذ ذلك الوقت؛ كان حينها قد بدأ الرجل البشع يشاركني دروس اللغة والأحياء والحساب، فعرفت كم هو سئ أن يكون المرء بشعا بتتبع الجذر ( بشع )، واشتقاقاته، واستخدامه في سياقات مختلفة، ما دفعني للنظر في امكانيّة أن تكون جينات البشاعة سائدة أو أن تصبح كذلك عندما يلتقي جينان غير سائدين فيقوّي أحدهما الآخر.
كانت الاحتمالات، حسب القاعدة الجينيّة، تتشعّب بالانطلاق من نقطة المركز على أوراق كنت أفردها أمامي خصّيصا لدراسة خصلة البشاعة، كانت الفوضى تدبّ في رأسي على نحو ما تظهر في الغرفة من حولي... أفعل ذلك وأتحمّله لأجل مالك حبيبي؛ رأسي يمتلئ بفوضاه، يسخن، تتكوّر حبات عرق صغيرة على جبيني، وتفوح رائحة عرق أكثر سخونة من تحت ابطيّ... أتذكّر حبّا بيني وبين مالك نمارسه كطقس بدائي ينمو مع الحشائش في حقول القمح والعدس والسمسم، لكنّ البشاعة كانت تطلّ أيضا؛ كنت أتخيّلها زبالة وحيوانات نافقة ملقاة في الغرفة المهدّمة على طرف قريتنا، حيث اعتاد أهلها التخلّص من نفاياتهم، كان الجد البشع يحرس المكان، ينتصب طويلا، عريضا، ويضغط عصى طويلة غليظة تشقه نصفين.. أخاف، وأحزن، وأنظر إلى الشمس من النافذة فأجدها مختلفة بطعم غريب، وأرى شجرة الخرّوب بثمارها الطويلة السوداء المدلّاة، شجرة بلا أوراق، لكنها بأشياء سوداء مدلّاة عريضة في وسطها... أبصر حفرة في جذع الشجرة الضخم، حفرة أضع فيها، بعد دقائق لم أحسبها، رسالة كتبتها لمالك على ظهر إحدى أوراق الاحتمال الجيني، قلت فيها:
" مالك حبيبي، اعذرني، سنفترق؛ لأني لا أريد أن أكون زوجة الرجل البشع "
وفي يوم بعد سنوات جمعتني الصدفة بمالك، كنا نمرّ من الطريق القريب من مقبرة القرية، كان حول مالك أطفال يتعلقون به، يمرحون حوله، يبتعدون عنه ويعودون إليه، وكنت أسير
وحدي بلا أحد، نظرت ومالك في لحظة تشّاد لها رائحة تلك الأيام، كان المشهد كومة تراب بحجرين يحددانه من جهتيّ الشرق والغرب، وكانت نبتة شوكيّة تنبت في الوسط فتحرس كومة التراب من أيدي العابرين أو العكس.
مشاهدة المرفق 43
[SIZE=3]The Ugly Duchess (c. 1513), Quentin Matsys[/SIZE]