د. عادل الاسطة - محمد الماغوط وشارع الضباب والنقد الأدبي :

وأنا أتابع النقد الأدبي والدراسات الأدبية مما يصدر عن كثير من النقاد والدارسين العرب ألحظ أنهم يعتمدون على مرجعيات أجنبية في الغالب مترجمة ، لكي يمهدوا لما سيكتبون ، ولا اعتراض على هذه المنهجية ، فهي المنهجية السليمة عموما في الدراسات الأدبية ، إذ الأصل أن يكون لدى الناقد والدارس تصور نظري للموضوع الذي يريد أن يخوض فيه ، وأعتقد أن هذا لا يغيب عن ذهن هؤلاء النقاد والدارسين منهجيا ، بل إنني وأنا أقرأ رواية أحمد أبو سليم " كوانتوم " 2018 وهو أستاذ فيزياء ؛ فقد درسها في الاتحاد السوفياتي يوم كان قائما ، لاحظت أنه في تمهيده لها يصر على ضرورة الوعي النظري في الأساس ، ولاحظت أن ما صدر به روايته ورد في متنها على لسان إحدى الشخصيات .
وأنا أدرس في الجامعة كنت أصر قبل أن أشرف على رسالة أحد الطلبة أن يدرس معي مساق " موضوع في النقد الأدبي " ، وكان تدريسي يقوم على قراءة مواد نظرية صرفة مثل السرد والزمن واللغة الروائية والعتبات والشخصيات ، ودائما كنت أعتمد على أصول أو على دراسات أنجزها متخصصون مثل سعيد يقطين وعبد العالي بوطيب وعبد الملك مرتاض ومحمد يوسف نجم ، وكنت أشرح النصوص للطلاب واطلب منهم أن يطبقوها على إحدى الروايات .
اللافت فيما يكتب من نقد أدبي ومن دراسات أنك وأنت تقرأ الاقتباسات ثم التطبيق تجد بونا شاسعا أو أنك أصلا لا تفهم الاقتباسات جيدا ، فتبدو لك كما لو أنها حلية وزينة وضرب من التباهي بأن صاحبها أطلع على مصادر ومراجع أجنبية ، دون أن يدرك أن الأهم من هذا هو مدى هضمها .
وما تلحظه أيضا هو أن كثيرا من الاقتباسات لا تتكيء على أصول ، وما تخرج منه بعد قراءة الدراسات والأبحاث هو أن أصحابها أرادوا إعطاء مصداقية لأبحاثهم من ناحية ، والتباهي بأنهم يعتمدون على منظرين ثقاة لا تشوبهم شائبة .
وحين أنظر في دراساتي ومقالاتي ألحظ ، وهو ما لحظه غيري أيضا ، خلوها من التنظير النقدي إلا ما ندر ، ولعل ذلك يعود إلى أنني أرى أن الأساس هو استيعاب المادة النظرية ثم تطبيقها على النصوص ، فما يهم أكثر القراء هو التطبيق لا النظرية التي تهم قليلين ، عدا أن كتب النقد النظري تكتظ بها أرفف المكتبات ، وأن أكثرها يكرر بعضه ، وأنظر في كتب نقد الرواية ؛ المترجمة والمؤلفة ، لترى هذا وتتأكد منه . والصحيح أنه راق لي في هذا المجال ما قام به الناقد كمال أبو ديب في كتابه " جدلية الخفاء والتجلي ؛ دراسات بنيوية في نقد الشعر " ، إذ إنه لم يمهد لكتابه بمقدمة نظرية عن البنيوية ، لا لما ذكرت سابقا ، وإنما لأن استيعاب القاريء العربي للبنيوية ، نظريا ، يبدو أمرا صعبا ، ولذلك قدم نموذجا تطبيقيا لها ، ومع ذلك لم يألف القاريء العربي هذا اللون من النقد .
لقد جاءتني فكرة الكتابة في هذا الجانب من خلال الدراسات التي قرأتها أولا ، ثم من خلال نص أدبي لمحمد الماغوط ورد في كتابه " سأخون وطني " عنوانه " يا شارع الضباب " ، وفيه يسخر الكاتب من اليسار العربي بتوجهاته المختلفة ؛ الماركسية والماوية والتروتسكيين ، بل ومن يساريين فرنسيين آخرين ذاع صيتهم وترجمت كتبهم إلى العربية سخروا من أحزابهم الشيوعية .
في " يا شارع الضباب " يجسد الماغوط الهوة الواسعة بين النظرية والتطبيق ، فاليساريون العرب يتكئون على كتب ماو وماركس ولينين وتروتسكي وريجيس دوبريه وآخرين لينجزوا ثورتهم والتغيير المنشود ، ولكنهم معزولون عن واقعهم ويعيشون في عالم النظرية ويظلون يكررون عبارات ويدعمون صحة مواقفهم بما ورد في الكتب ، لا بناء على معطيات واقعهم .
شخصيا غالبا ما أقرأ النصوص وأفحصها ثم أدرسها ، وقد استحضر مقولات نقدية غربية وقد لا استحضر ، متكئا على مقولة لجورج طرابيسي " إن أسوأ أنواع النقاد هم أولئك النقاد الذين يملكون مفتاحا واحدا لجميع ألاقفال " - أي الذين يحفظون عبارات ويريدون أن يخضعوا لها النصوص جميعها . ببساطة يضعون العربة قبل الحصان .
مؤخرا انشغلت بقضية الكاتب والمكان وخضت جدلا بشأنها ، ما أغضب بعض الروائيين الذين سخروا مما أذهب إليه ، وهجوني بمقالات في صحف عربية تصدر من العواصم الأوروبية .
وأنا أدرس صورة القدس في الرواية العربية اتبعت المنهج الاستقرائي لألاحظ الفرق بين من كتب عن المدينة وهو ملم بتفاصيلها من خلال الإقامة فيها وكاتب آخر لم ير القدس . ومؤخرا قرأت روايات عديدة ؛ اثنتان منها لمهندسة معمارية هي سعاد العامري " مراد " و" دمشقي " ، ورواية أحمد أبو سليم " كوانتوم " ، وهو فيزيائي ، ورواية سليم البيك " تذكرتان إلى صفورية " وهو دارس الأدب الفرنسي ويعاني من إشكالية الهوية في العالم العربي وأوروبا ، ولاحظت بونا شاسعا في رواياتهم سببه اختلاف تخصصاتهم وتجاربهم ومناطق إقامتهم . الثلاثة فلسطينيون والكتابة صادرة عن اختلاف اهتماماتهم وتجاربهم أيضا . تلتفت العامري إلى المكان وهندسته ، ويلتفت أبو سليم إلى الفيزياء والنظرية ، ويحضر سؤال الهوية في رواية البيك .
ولسوف أجدني هنا أعود إلى منهج ( هيوبوليت تين ) الذي يركز على عناصر أهمها البيئة ومعطيات العصر ، وهو جزء من المنهج الوضعي الذي لا يغفل الحياة الشخصية لصاحبه .
هل وجب علي أن آخذ بمقولة ( رولان بارت ) " موت المؤلف " لأنها صادرة في القرن العشرين ولا ألتفت لمقولات ( تين ) لأنها صادرة في القرن التاسع عشر ؟ وهل يجب علي أن أعيد كتابة مقولات ( بارت ) وغيره في مقدمة كتابتي ثم أخضع النصوص لها ؟
كم حفلت الدراسات الأدبية العربية بمقولات ( غاستون باشلار ) الذي ترجمه غالب هلسا عن الانجليزية ! حقا كم حفلت دراساتهم بالاقتباس من " جماليات المكان " ! وغالبا ما ألحظ عدم استيعابهم للمقولات . والطريف أن الناقد المغربي حسن نجمي الذي اطلع على ترجمة غالب هلسا وقارنها بالأصل الفرنسي لاحظ في كتابه " شعرية الفضاء " أن الترجمة غير دقيقة وأنها بذلك لم تؤد المرجو منها ، بل أدت دورا سلبيا .
إنني مع ذلك ما زلت أفكر في الأمر !!؟

الثلاثاء 7 / 1 / 2020

د. عادل الاسطة

( نشرت في موقع رمان ،في كانون الثاني 2020)


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى