أ. د. عادل الاسطة - سلمان ناطور... قراءات في أدبه

1. ذاكـــرة: مدخل
2007-06-24 على هامش مؤتمر الأدب الفلسطيني في الشتات الذي عقد في جامعة بيت لحم في منتصف حزيران (2007) التقيت بالكاتب سلمان ناطور الذي قرأ مقاطع من كتابه الجديد "ذاكرة" (2006)، وكنت بحثت عن الكتاب في رام الله ونابلس، قبل شهرين، فلم أعثر عليه. وسيخبرني سلمان الذي أحضر نسخاً من الكتاب ووزعها على المشاركين في المؤتمر أن الكتاب يضم نصوصاً من كتب ثلاثة كان أصدرها في سنوات سابقة (1978 ‘1982 ) و1999) وهي مجموعته القصصية "الشجرة التي تمتد جذورها الى صدري" و"ما نسينا" و"هل قتلتم أحداً هناك؟"، وكنت أنجزت عن الاخير مقالة مطولة نشرتها في "الأيام" (رام الله) وفي "الاتحاد" (حيفا/12/5/2000ا). ولا أدري لماذا لم أكتب، من قبل، عن كتابيه الآخري.ن ألأن المرحوم إميل توما كتب مقدمة لمجموعة "الشجرة التي تمتد جذورها الى صدري"، فكانت قطعت قول كل خطيب؟ ولم أكن يومها ملماً بما فيه الكفاية بمقولات مثل: ليست هناك قراءة نهائية لنص من النصوص.
وعلى الرغم مما جرى في غزة وفي الوطن، منذ 15/6/2007 الا انني وجدت متسعاً من الوقت لأقرأ كتاب "ذاكرة" وكتباً أخرى، بل انني لم اتردد في الكتابة عن المؤتمر، ولم اكتب عما مررنا به. وقلت: لقد كانوا يقتتلون وكنا في الوقت نفسه نشارك في مؤتمر أدبي، بل وكان منا من يحتفل بعيد ميلاده. وهكذا هي فلسطين. أنا شخصياً مر عيد ميلادي دون أن ألتفت اليه، ولكني، وأنا في الحاكورة او في المغارة في بيت ساحور، مساءً، كنت اشاهد مجموعة من الشباب والشابات يحتفلون بعيد ميلادهم ويغنون. ولعله سلمان ناطور الذي سألني عن عيد ميلادي، فقلت له انه يصادف اليوم، فقد ارسلت لي ابنة اخت لي، في العاشرة مساءً، ونحن جالسون في المطعم، رسالة تتمنى لي فيها أن أعيش مائة عام وعشرين اخرى. لقد ذكرتني بعيد ميلادي.
وسأتابع، بعد عودتي من المؤتمر، الأخبار وسألاحظ، من شاشات التلفازات ما ارتكبه الفلسطينيون بحق بعضهم، وسأرى، وأنا عائد الى نابلس، الحواجز والمقنعين على مداخلها. سأرى المكعبات التي أقامتها قوات الأمن الوطني، وسأعرف ان هناك ضحايا سقطوا في المدينة. وعلى الرغم من هذا كله فإنني، كما ذكرت، سأقرأ العديد من الكتب: سأقرأ رواية أورهان باموق "البيت الصامت" ورواية "اللجنة" لصنع الله ابراهيم، وكتاب "ذاكرة" لسلمان ناطور، وسأنجز عن الاخير مقالة، وأخرى مطولة عنوانها: "ذاكرة وصورة اليهود".
سأكتشف، وأنا أقرأ "ذاكرة" أنني لم أنصف سلمان ناطور، يوم أنجزت رسالة الدكتوراه: "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 1913 و1987"، وأنني لم ألتفت، بما فيه الكفاية، لكتابه "وما نسينا"، وسأرى، الآن، أن هذا الكتاب يبرز لنا صورة لليهود عرفها اهل فلسطين، في العام 1948 وما قبله وما بعده، عن قرب، وأن الذين يرسمون لهم هذه الصورة ليسوا الكتاب الذين يختلط في نصوصهم الواقع بالخيال، وانما هم البشر، الناس العاديون، الذين يقصون عن تجربة، عن لقاء، عن خبرة ومعرفة، وسأتذكر ما كتبته الاستاذة الدكتورة (أوتي بوهماير) التي راجعت رسالتي وكتبت عنها مقالاً اشارت فيه الى ضرورة الالتفات الى نصوص على هذه الشاكلة.
ولما كنت قرأت في الشهرين المنصرمين ما نشرته "الأيام" من حلقات من كتاب (ايلان بابيه) المؤرخ الاسرائىلي "التطهير العرقي"، فقد ربطت بين "ذاكرة" وبين ما ورد في تلك الحلقات، وأشرت مراراً، وأنا أقرأ "ذاكرة" الى (بابيه) كاتباً: ورد هذا في ما كتبه (بابيه) في كتابه. وحزنت كثيراً لأنني لم أكن ألتفت بما فيه الكفاية الى نصوصنا. وتساءلت عن السبب.
سأتذكر احدى رسائل محمود درويش الى سميح القاسم، الرسائل التي كتبها في منتصف الثمانينيات ونشرها على صفحات "اليوم السابع" وأعاد إميل حبيبي نشرها في كتاب "الرسائل"، وعنوان الرسالة هو: "هناك.. شجرة خروب"، ويأتي فيها درويش على قريته البروة والكيبوتس الذي أقيم على أنقاضها، ويأتي أيضاً فيها على ذكر فنان اسرائيلي هو دانيال كاتس، وهو من اصل فنلندي، يقيم على أنقاض بيت درويش، وقد عذبه - أي دانيال - ضميره حين عرف الحقيقة، فقرر الرحيل ومغادرة اسرائىل.
المهم في الرسالة السطر التالي: فهل يحق للعربي أن يتحدث في الغرب بلا شاهد يهودي؟ لقد تذكرت هذا السطر وأنا أعيد قراءة "ذاكرة"، بعد قراءة "التطهير العرقي"، وتساءلت: لماذا لم نلتفت الى كتاب سلمان "وما نسينا"؟.

2. يتركنا في خمّارة البلد ويمضي
لا أتذكّر لقائي الأول بالكاتب سلمان ناطور، وحين أمعن النظر في بعض كتبه التي بحوزتي أرى إهداءه لي كتابه "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" (1979) وتاريخ الإهداء (29 تشرين الأول 1979/ حيفا).
في بداية 80 ق20 سيخصص سلمان في مجلة "الجديد" مساحة للحركة الأدبية في مناطق الاحتلال، والمقصود هنا الضفة والقطاع، وسيجري معي ومع الشاعر علي الخليلي حواراً حول الملاحق الثقافية التي حررتها وعلي: جريدة "الشعب" وجريدة "الفجر"، وسألتقي بسلمان وستلصق صورة ذلك اللقاء بذاكرتي: شاب في الثلاثينيات من عمره يرتدي بنطال الجينز وعلى كتفه حقيبته، شيوعي يتجوّل في القرى لينجز مشروعه لتوثيق الذاكرة الفلسطينية، وسينشر في "الجديد" حلقات تحت عنوان "وما نسينا: سيرة الرجل المتشقّق الوجه" وعندما تكتمل هذه الحلقات سيجمعها في كتابه "وما نسينا"، وهو كتاب استقبل استقبالاً حسناً، ما جعل من مشروع سلمان في الأدب الوثائقي مشروعاً مفتوحاً لم يكتمل حتى في كتابه "ستون عاماً: رحلة الصحراء؛ ذاكرة.. سفر على سفر.. انتظار" (الصادر عن دار شروق في عمان في العام 2008، بمناسبة مرور 60 عاماً على النكبة).
وكتاب "ستون عاماً" كتاب سيربكني حقاً، فهو كتاب أشبه بكتاب العمر لسلمان. إنه لا يجمع ثلاثة كتب أصدرها تباعاً: ذاكرة: سفر على سفر، انتظار، وإنما هو كتاب يضم نصوصاً من كتب أخرى للكاتب، منها مجموعته القصصية الأولى "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" ومجموعته الثانية "خمارة البلد" (حيفا 1987)، وهذا الإرباك جعلني أقترح على أحد طلبة الدراسات العليا، وهو ياسر جوابرة، كتاب "ستون عاماً" موضوعاً لرسالة الماجستير، ليدرس كيفية تشكل هذا الكتاب: ما الذي ضمه من كتبه السابقة؟ وما الذي استبعده منها؟ ولماذا ضم ما ضم واستبعد ما استبعد؟
وأنا أقرأ "ستون عاما" لاحظت تأثر سلمان بـ "متشائل" أميل حبيبي، وكان المرحوم أميل توما لاحظ أن سلمان في قصصه القصيرة يلجأ إلى ما لجأ إليه أميل وهو السخرية، ما جعله يكتب مقدمة لمجموعة "الشجرة التي تمتد.." عنوانها لبنة من لبنات الأدب العربي الساخر"، وهي مقدمة لطالما عدت إليها، ولا بد لقارئ نتاج سلمان من أن يعود إليها، فكثير من مقالات سلمان وقصصه يحفل بهذا الأسلوب.
ولم يتأثر الكاتب بأميل في هذا الجانب فقط، بل تأثر به في أنه خص مدينة حيفا بكتابة تستحق وحدها كتابة، وقد اقترحت عليه، ذات نهار، أن يصدر كتابه "انتظار" في طبعة خاصة، وقلت له: إنه إن ظل في كتاب "ستون عاماً" فلن يحقق لك انتشاراً كما سيحققه لك لو صدر مفرداً، وإذا كان أميل كتب "اخطية" (1985): عن حيفا في حيفا، وأخذ يتذكر المدينة، وهو فيها، كما كان عليه قبل 1948، فإن سلمان الذي عاش فيها وترعرع في أحضانها، قد تركها يوم ترك الحزب الشيوعي في 1990، وعاد إليها بعد 18 عاماً تقريباً، لتبدو له مدينة أخرى جد مختلفة، كأنها ليست حيفا التي عرفها في 60 و70 و80 ق20.
لقد رآها حيفا أخرى فكتب كتابة تشعر بالحزن وتبعث على الحسرة.
بعد عودتي إلى نابلس في العام 1991 سيتواصل لقائي بسلمان ناطور، وسيظل كاتباً منسجماً مع آرائه وأفكاره يدافع عنها، وسيزورني مرة ومعه شابتان يهوديتان لنزور معاً عائلة أبو زعرور في نابلس، فقد أرادتا إخراج فيلم سينمائي عن أحد أبناء العائلة، وكلما التقينا كان يجدد حديثه عن ضرورة اللقاء مع القوى التقدمية في إسرائيل بلا كلل ولا ملل.
تراجع اليسار وذوى، في الشارعين: الإسرائيلي والفلسطيني، ولم يتراجع سلمان عن معتقداته وقناعاته، على الرغم من تركه الحزب وحيفا وجريدة الاتحاد.
وسيظل أيضاً مهموماً مشغول البال يبحث عن راحة البال فلا يجدها، وقد عبّر عن هذا في كتابه "هل قتلتم أحداً هناك" (1999).
في كتابه المذكور يأتي سلمان على جيله الذي عاش حياته بين جيلين؛ جيل الآباء والأجداد وجيل الأبناء. جيل عاش الحياة ببساطتها يروي حكاياته ويعيش يومه، وجيل يتطلع إلى تحقيق الذات غير مكترث للهم العام، خلافاً لجيل سلمان الذي نذر شبابه للقضية، غير ملتفت لهمومه الفردية، فلم ينجز الأحلام الكبرى ولم يعش حياته الخاصة، وغدا موضع تندُّر حتى لأبنائه.
سيتركنا سلمان ناطور في خمارة البلد نواصل رحلة التيه، وسيمضي.

3. ستون عاماً رحلة الصحراء
قبل ست سنوات أصدر سلمان ناطور الكاتب الفلسطيني المقيم في دالية الكرمل كتابه/ كتبه معاً، "ستون عاماً: رحلة الصحراء؛ ذاكرة.. سفر على سفر.. انتظار" ولا أدري لِمَ لَمْ أقرأ مراجعات عديدة له، ألأنها لم تنجز أم لأنني لم أطلع بما فيه الكفاية، علماً بأنني من متابعي صفحاتنا الثقافية؟
كان سلمان ناطور كتب هذا السفر الذي يقع في (456) صفحة على فترات طويلة، وأظنه يعد أهم كتاب يمثل نتاج أدبه، وكان نشره في "الاتحاد" وفي "الجديد"، ثم جمعه في كتب أصدرها متفرقة تحت عناوين أخرى، وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلت أدباء فلسطين المقيمين فيها لا يكتبون عن "رحلة الصحراء" معاً، فأنا شخصياً أنجزت دراسة عن "هل قتلتم أحداً هناك؟" الذي أدرجه سلمان ضمن كتابه "ستون عاماً"، وربما كان غيري قرأ الكتاب الضخم كتاباً كتاباً، فأنجز عن الكتاب زمن نشره الأول مقالة، وحين عاد وقرأ الكتاب الكبير في طبعته الجديدة نظر فيه ووضعه جانباً، لأنه كان كتب عنه يوم صدر تحت عناوين أخرى. ربما!!
وإذا ما أراد القارئ الباحث أن يقرأ مراجعات عن هذا السفر الكبير: "ستون عاما، رحلة الصحراء" فما عليه إلاّ أن يبحث عن عناوين كتب سلمان السابقة، التي أدرجها في هذا الكتاب، وأن يسأل عن مراجعات لها، وأن يبحث عنها في بطون "الاتحاد" و"الجديد" و"الشعب" و"الفجر" وغيرها من الصحف والمجلات التي كانت تصدر يوم أصدر سلمان كتبه في طبعتها الأولى.
هناك سيجد ضالته، ولا أدري لِمَ لَمْ يحذُ الكاتب حذو القاص محمد علي طه الذي جمع ما أنجز عنه من كتابات في كتاب، فوفر على الدارسين والباحثين جهداً كبيراً، بخاصة أن قسماً منهم لا يستطيع، الآن، التنقل بسهولة بين أجنحة فلسطين، فلسطين المحتلة في العام 1948 وقطاع غزة والقدس والضفة.
ذهبت إلى أن ما ترك أثراً سلبياً على نصوص سلمان هذه هو أنه نشرها أولاً في الصحف والمجلات، ثم أعاد نشرها في كتب منفردة، ثم أصدرها معا في كتاب، ولم يكتب في مقدمة الكتاب عناوين الكتب السابقة، كما ظهرت عليها.
مثلاً لم يكتب على غلاف "ستون عاماً، رحلة الصحراء" عنوان كتابه "هل قتلتم أحداً هناك؟، وهذا بدوره انعكس على تلقي الكتاب، فلو كان الكاتب أدرج عنوان "هل قتلتم..؟." لعاد الدارس، وهو يقرأ "ستون .." إلى ما كتب عن الكتاب في طبعته الأولى.
والأمر عموماً يحتاج إلى باحث جاد ينظر في طبعات كتب الكاتب المختلفة، ويقدم لنا صورة عن الاختلاف بينها، وآمل أن ينجز أحد طلابي، الذين اقترحت عليهم كتابة رسالة ماجستير، في سلمان ناثراً، هذا.
قبل عامين تقريباً أصدر سلمان روايته "أنا، هي، والخريف"، وقد قرأتها مخطوطة لأبدي له رأيي فيها، ولما أصدرها عن دار راية للنشر في حيفا، رتب له المركز الثقافي الفرنسي في نابلس أمسية، وطلب مني أن أقدم الكاتب، وكان علي، يومها، أن أتحدث عن أدبه، وهكذا عدت إلى بعض أعماله الأولى وقرأتها، كما عدت إلى كتابه "ستون عاماً، رحلة الصحراء" (2009)، وشعرت أنني أقرأ بعض أجزائه لأول مرة، علماً بأنني كنت أتابع هذه النصوص نصاً نصاً. ولفت نظري كتابه "انتظار" وشعرت أنني أقرؤه لأول مرة.
وأنا ألتقي بسلمان قلت له : لِمَ لا تطبع كتاب انتظار وحده، منفصلاً عن الكتابين السابقين. إن فعلت هذا فسوف يحقق لك شهرة، وسيذيع الكتاب وسينتشر في العالم العربي، وقد يحظى بمراجعات عديدة لن تحققها في روايتك الأخيرة "أنا، هي، والخريف" (2011/2012)، وأظن أنها لن تحقق لك ما سيحققه لك "انتظار"، وأنا شخصياً أرى في "انتظار" نصاً أجمل من الرواية، وهذا رأي شخصي.
في كتابه "هل قتلتم أحداً هناك؟" توقف الكاتب أمام فترة انتمائه للحزب الشيوعي الإسرائيلي، يوم كان يكتب أدباً مقاوماً ملتزماً، وتحدث عن آراء أبنائه في ماضيه الذي أنفق أجمل سنواته فيه يخدم القضية بقلمه، وكان أبناؤه يسخرون منه قائلين: أما أهبل. والعبارة له، لا لي أنا. وربما استشف المرء من كتابة سلمان بعض ندم للجهد المضاعف الذي بذله في سنوات الشباب والانتماء، حيث عاش فقيراً تقريباً، فراتب الحزب بالكاد كان يكفيه هو ورفاقه، وهذا ما قرأناه أيضاً في كتاب الرسائل بين محمود درويش وسميح القاسم، فقد أتيا على أيام الجفاف، أيام الانتماء للحزب، حيث لم يجدا أحياناً في جيبهما ثمن وجبة طعام.
أنا قلت لسلمان: لا. لا تندم على تلك الفترة، وربما تكون من أجمل فترات عمرك، وربما ما يعوض الفقر وقلة ما كان في اليد النصوص الجميلة التي كتبتها. وعموماً فقد اكتشفت وأنا أقرأ "انتظار" ما لم أكتشفه من قبل، وهكذا وجدتني أتذكر مقولة نظرية التلقي الألمانية: "إن قراءة نص واحد في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين"، فماذا وجدت؟
أعتقد جازماً أن هناك صلة كبيرة بين رواية "المتشائل" وكتاب سلمان "انتظار". ويظهر الكتاب في "ستون عاماً" في ثلاثة أجزاء: الإهداء إلى أم سميح ثم 1ـ الفلسطيني المنتظر: ويدرج تحته: اذهبوا إلى هذا الجيل الذي ينتظر/ ولا يريد أن يورثنا هذا الانتظار/ اذهبوا !/ لقد مل الانتظار/ مل الانتظار. 2 ـ نعود إلى حيفا ولا يعود: ليس هناك مكان يمارس الانتظار مثل حيفا/ مدينة كل ما تتقنه هو الانتظار/ وأجمل ما فيها أنها تنتظر وأنت أيضاً تنتظر/ حبيبتي حيفا 3 ـ سيأتي إلينا.. سنأتي إليه / كلنا على موعد مع الموت / عندما نولد يبدأ انتظار هذه النهاية / السعادة هي أن نجعل هذا الانتظار طيباً / وجميلاً / نهاية الانتظار لقاء جديد". ويقع الكتاب في الصفحات 285 ـ 455، يشكل الجزء الثاني منه الصفحات 325 ـ 440، وهذا القسم هو الذي طلبت من سلمان أن يصدره في كتاب خاص. نشر سلمان حلقات الكتاب ما بين الأعوام 1982 و2008، نشرها عاماً عاماً 1982/ 1983/ 1984/ 1985/ 1986/ 1987/ 1988/ 1989/ 1990 ـ أي السنوات التي كان فيها في الحزب وكان يتردد يومياً على حيفا، ثم ترك الحزب وعاد إلى قريته دالية الكرمل وانقطع عن الكتابة 18 عاماً وفي 2008 عاد إلى حيفا، وعاد بطله إلى حيفا، وبطله هو أحمد بن رابعة، وفيه من سلمان الكثير، فرأى حيفا غير حيفا، رآها مختلفة تماما، وهذا ما يتضح في ص410 التي كتبها تحت عنوان: "عائد إلى حيفا" فذكرتنا برواية غسان كنفاني الشهيرة، ولكن العودة هنا ليست عودة سعيد. س اللاجئ، وإنما هي عودة الراوي الذي كان يقيم في حيفا: "سألني أحمد بن رابعة: لماذا غبت عشرين عاماً؟ هل تيسرت معك الأمور؟ هل صارت حياتك بلا هموم؟ هل الحكومة راضية عنك أم أنك لم تعد مشاغباً كما عرفتك في شبابك؟ هل تغير كل شيء لتعيش حياتك بلا خمارة أم أنك صرت تأخذ الأمور بجدية فائقة وأنت قابع في برجك مثل الذين يريدون تحرير العالم وهم جالسون على الكنبات المخملية في صالونات بيوتهم أو فنادق خمس نجوم ويذهبون إلى مظاهرات الغلابة بسيارات المرسيدس؟" (ص410). (ولسلمان ناطور مجموعة قصصية عنوانها: خمارة البلد".
وكما كتب اميل حبيبي "اخطية" عن حيفا، كتب سلمان ناطور "انتظار" عن حيفا، وكما أتى حبيبي على المدينة قبل 1948 وبعدها، أتى سلمان على المدينة قبل 1990 تاريخ تركه الحزب، وعليها بعد زيارتها بعد عشرين عاماً، وهو متخل عن الحزب.
وما يجمع بين "المتشائل" و"انتظار" أكثر بكثير مما يجمعها بـ "اخطية". وكما تأثر إميل بالمقامات، فإن سلمان تأثر بها وبإميل معاً.
شكل الكتابة والراوي والبطل الذي فيه من الكاتب الكثير الكثير، وهو ما كان عليه سعيد بطل المتشائل أيضاً، ففيه من إميل الكثير الكثير، وهو ما كان عليه سعيد بطل المتشائل أيضاً، ففيه من إميل الكثير الكثير، وفضح الاحتلال و.. و.. و.. ولعمري فإن كتاب سلمان "انتظار" لم ينل حظه من الدرس والتحليل، ولعلني سأدرسه ذات مساق!!

4. هي، أنا والخريف
آخر إصدارات الكاتب الفلسطيني، ابن دالية الكرمل، سلمان ناطور، هي رواية "هي، أنا والخريف" (2011)، وقد صدرت عن دار راية للنشر / فلسطين العام 1948، بمائتين وتسع وخمسين صفحة من حجم كتاب الجيب.
كان سلمان ناطور كتب الرواية في بداية حياته الكتابية، في 70 ق 20، فقد أصدر رواية "أنت القاتل يا شيخ" وأتى فيها على مأساة أبناء الطائفة الدرزية التي وجدت نفسها موزعةً على أراضي دول عديدة: لبنان وسورية وفلسطين، هذا بعد اتفاقية (سايكس بيكو)، أما قبلها فلم يكن الأمر كذلك. وستبدأ مأساتها مع العام 1948، حيث سيجد الدرزي يحمل السلاح ليواجه فيه أخاه الدرزي على الجانب الآخر.
ولم يعد سلمان يكتب الرواية، لقد أخذ يكتب المقالة والقصة القصيرة، ولم تخل كتابته من سخرية، ما دفع الراحل إميل توما، حين كتب مقدمة لمجموعة سلمان القصصية "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" (1979)، يكتب عن السخرية فيها، ولن تغيب هذه السخرية عن مجموعة سلمان الثانية "خمارة البلد" (1987)، وعن مقالاته ونصوصه النثرية التي نشرها في "الاتحاد" و"الجديد"، وجمعها، فيما بعد، في غير كتاب: "وما نسينا"، "يمشون على الريح"، "ثقافة لذاتها.. ثقافة في ذاتها"... إلخ، وقبل ثلاثة أعوام في كتاب "ستون عاماً: رحلة التيه" (2008)، وأخص هنا بالذكر القسم الأخير الذي حمل عنوان "نعود إلى حيفا ولا يعود" وأتبعه بفقرة: "ليس هناك مكان يمارس الانتظار مثل حيفا مدينة، كل ما تتقنه هو الانتظار، وأجمل ما فيها أنها تنتظر وأنت أيضاً تنتظر / حبيبتي حيفا" (ص325).
وكتاب "نعود إلى حيفا ولا يعود" هو كتاب أحمد ابن رابعة، الفلسطيني الذي ظل مقيماً في بلده في العام 1948، وعانى ما عانى من بطالة وعنصرية وغربة و... و... والكتاب يتناص مع رواية الشهيد غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969)، لكن عودة أحمد ابن رابعة تختلف عن عودة سعيد.س بطل رواية كنفاني، فإذا كان سعيد عاد إلى مدينته بعد غياب قسري عنها استمر عشرين عاماً، من عام النكبة 1948 إلى العام 1968، فإن أحمد ابن رابعة لم يغادر حيفا قسراً. أقام فيها لأنه عمل فيها، واضطرته الظروف أن يتركها بين عامي 1989 و2008، ليقيم في قريته القريبة من حيفا، وحين عاد إليها رآها مختلفةً عما عرفها. بحث عن معارفه فيها فلم يعثر على أكثرهم، ومن عثر عليه كان مصاباً بالزهايمر، ومن تركه بائعاً فيها، بائع خضار، غدا بروفيسوراً في بيع الخضار، وفوق هذا كله فقد رأى المدينة وقد قلبت رأساً على قدم: مبانيها وسكانها. ارتفعت المباني طوابق طوابق، وانحسر الوجود العربي في المدينة، ولم تعد حديقة العرب حديقة للعرب، فقد حل الروس مكانهم، وشعر أحمد ابن رابعة بأنه غريب.
لماذا لم ينل كتاب سلمان ناطور هذا ما يستحقه من مراجعات؟ الكتاب لا يتناص مع "عائد إلى حيفا" لكنفاني وحسب، إنه يذكّرنا برائعة إميل حبيبي "المتشائل"، مبنى وسخرية، ويذكرنا، أيضاً، بمقامات بديع الزمان الهمذاني، وقد أشار دارسون كثر إلى أن بطل متشائل حبيبي خرج، إلى حد كبير، من معطفها، لغة وتغابياً، وأظن، بل أكاد أجزم، أن أحمد ابن رابعة، خرج أيضاً من معطف المقامات. حقاً لماذا لم ينل هذا الكتاب حقه من النقد؟ ربما أعود إلى هذا في وقت لاحق، فأتوقف أمامه وقفة متأنية.
هل يمكن أن يعد كتاب "نعود إلى حيفا ولا يعود" عملاً روائياً، فيكون الرواية الثانية لسلمان ناطور بعد روايته الأولى "أنت القاتل يا شيخ"؟
كتب سلمان كتابه على حلقات، ولم يكن يخطط ليكتبه روايةً. وقد نشره بين 1982 و2008، وزمنه الروائي يأتي على هذه الأعوام الستة والعشرين، ولو أصدره سلمان منفرداً لربما توقف دارسون أمام جنسه، أما وأنه نشره ضمن كتاب كامل، فقد انصرف ذهن الدارسين، فيما أرى، عن إشكالية التجنيس، بل وعن الكتاب أيضاً. كم من مراجعة أنجزت عن كتاب "ستون عاماً: رحلة الصحراء"؟ لا أدري، وربما وجب أن أبحث.
لماذا لم يكتب سلمان الرواية بعد "أنت القاتل يا شيخ"؟ لماذا انقضت ستة وثلاثون عاماً حتى أصدر روايته "هي، أنا والخريف" (2011)؟ سؤال يثيره المرء الذي يتابع مسيرة الكاتب، ولكنه لن يعدم إجابة، فسلمان كان في العام 1948 كتب مقالة عنوانها: "لماذا لا نكتب الرواية؟" وأتى فيها على الأسباب وأبرزها:
"الرواية تحتاج إلى النفس الطويل والتركز، وبما أن كتابنا منشغلون في الهموم السياسية والاجتماعية واليومية فهم ليسوا قادرين على التركز ومتابعة الأحداث وتطورها".
ولم يغب عن ذهنه إميل وروايته المتشائل، فمع انشغاله بالسياسة إلا أنه كتب رواية. ويرى سلمان أن التجربة التي مرّ بها إميل غنية وثرية، ولهذا كتب روايته، فالتجربة أساس في الكتابة الروائية، ومن لا يعي التجربة فقد ينزلق في الميكانيكية، والتجربة تحتاج إلى تنقل وحركة، وهذا ما يفتقده عرب فلسطين 48، إذ إنهم يعيشون في سجن كبير.
هناك سبب آخر ذكره سلمان وهو أن الرواية تحتاج إلى رموز، وهي غير متوافرة، وإذا ما توافرت، مثل الشيخ القسام، فإن الكاتب الذي لم يطّلع على الواقع بكل جوانبه لا يمكن أن يكتب عن هذه الشخصية رواية راقية.
هل اكتشف سلمان، مؤخراً، رموزه، ولهذا كتب "هي، أنا والخريف"؟ من المؤكد أن الرواية لا رمز فيها، فهي تأتي على شخصية عادية. لماذا كتب إذن الرواية؟ ألأنه ما عاد نشيطاً سياسياً كما كان يوم كتب مقالته "لماذا لا نكتب الرواية"؟ أم أن فهمه لكتابة الرواية اختلف؟. أياً كان الجواب، فقد أنجز سلمان روايةً يمكن القول إنها أرقى بكثير من روايته الأولى "أنت القاتل يا شيخ". هل كان الكاتب، خلال خمسة وثلاثين عاماً، يعد العدة لكتابة الرواية هذه؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال أود الإشارة إلى التغيّرات التي طرأت على مفهوم الكاتب للكتابة، وهي تغيرات عبّر عنها في مقالات وكتب عديدة أبرزها كتابه: هل قتلتم أحداً هناك؟ (2000).
في مقالته المذكورة "لماذا لا نكتب الرواية" يبدو سلمان كاتباً أيديولوجياً ملتزماً بكل ما تعنيه الكلمة. لم يكن يكتب لممارسة شرف الكتابة. كانت الكتابة ضرباً من النضال الذي يرمي إلى تغيير العالم، وكان مقتنعاً بهذا، وظل مقتنعاً به إلى عشر سنوات خلت تقريباً، إذ تغيّر مفهومه لوظيفة الأدب، وشعر أنه حين كان يكتب عن قضايا كبرى، شعر أنه أهبل، وقد أخذ أبناؤه يسخرون منه حين يتحدث أمامهم عن أدب مقاومة، ورويداً رويداً سيتحوّل سلمان، مثل كتّاب عرب كثر، وكان درويش نفسه أحد هؤلاء وإن ظل يراوح بين الالتزام والشكل، سيتحول سلمان إلى كاتب تأسره الحكاية أكثر مما يأسره مضمونها. الكتابة ليست لتغيير العالم، بل هناك جانب آخر وظيفي لها هو المنفعة، وهكذا لم يعد همه ماذا أحكي، بل كيف أحكي ما أريد حكيه، وهذا مدخل مهم لفهم رواية "هي، أنا والخريف"، فموضوعها، خلافاً لأكثر كتابات سلمان، لم يعد الأنا في صراعها مع الآخر من أجل قضمة ودحضة، وإنما الأنا في علاقتها مع الأنا والزمن، ولهذا لم يحضر الآخر في الرواية كما حضر في أعمال سلمان على مدار ثلاثين عاماً. هل أبالغ في هذا؟
من هي الـ"هي"، من هي الأنا وماذا يعني دال الخريف؟
تقع الرواية في فصلين، الأول يتكون من ستة عشر مقطعاً ويقع في 132 صفحة، والثاني يتكون من اثني عشر مقطعاً ويقع في مائة وخمس عشرة صفحة. ويفتتح الفصل الأول بحوار دال بين أنا السارد للفصل الأول وجميلة الساردة والشخصية المحورية للفصل الثاني. يتحدث أنا السارد عن الناس الصغار الذين يبحثون عن المواقع الكبيرة ليكبروا من خلالها، فيم تتحدث جميلة عن المناضلين ـ والسارد منهم ـ الذين أرادوا أن يحرروا العالم فلم ينظروا إلى المواقع الصغيرة ولم يروا الأطفال والنساء ولم يتأملوا زهرة. وماذا كانت النتيجة: أنهم انهزموا.
وهذا الافتتاح يحيلنا إلى سلمان وكتّاب اليسار الذين دفعوا سنوات عمرهم يناضلون من أجل قضية كبيرة انعكست في أدبهم، وبالتالي لم يلتفتوا إلى الأطفال والنساء والطبيعة. وتأتي رواية سلمان هذه لتلتفت إلى ما لم يكن التفت إليه، وهي بذلك تغاير نتاجه السابق أكثره، إن لم يكن كله.
ويفتتح الفصل الثاني بكلام السارد: لماذا تخليت أنت نفسك عن نفسك أربعين عاماً وأكثر؟ المرأة لا تأخذ حقوقها. المرأة تستعيدها. فيم تسأله هي: وأين كنت أنت أربعين عاماً وأكثر... لا بأس، لك حكايتك، ولي حكايتي.
وسيروي السارد حكاية زينات كهرمان، فيما تروي جميلة حكايتها وحكاية كهرمان أيضاً.
تقع زينات ضحية اعتداء البواب عليها، وهي طفلة، جنسياً. وتنزوي، فيظن الناس أن جنياً ضربها، ويروّج كثيرون، من ضمنهم البواب، لهذا، دون أن يبحثوا عن الحقيقة التي لا يريد البواب إظهارها.
وأما جميلة، فهي ضحية الحكايات أيضاً. هي ضحية قصيدة كتبتها فطلقها زوجها، ولكونها امرأة في مجتمع ذكوري فلم تواجه ولجأت إلى الصمت، وهكذا دفعت مثل، زينات، ثمناً باهظاً. وثمة تواز بين الحكايتين.
هل تخلى سلمان الذي ترك الحزب، وعبر عن ذلك في حكايات أحمد ابن رابعة، هل تخلى عن سلطة العقل في محاربة الخرافة؟ لا أظن ذلك، فالرواية كلها جاءت لتدحض الخرافة ولتكشف زيفها.
"هي، أنا والخريف" رواية تخرج عن إطار أعمال سلمان ناطور موضوعاً بالدرجة الأولى، أما من ناحية السرد فقد أثبت سلمان أنه سارد بارع بامتياز.

5. ذاكرة وصورة اليهود
ذاكرة عنوان كتاب الكاتب سلمان ناطور، وقد صدر في العام 2006، وهو، على أية حال، مختارات من كتب ثلاثة أصدرها المؤلف من قبل، هي على التوالي: "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" (1979)، و"ما نسينا" (1983) و"هل قتلتم أحدا هناك؟" (1999). وتدرج تحت أجناس أدبية مختلفة هي: القصة القصيرة، الأدب التسجيلي: سيرة شعب، والسيرة الذاتية أو ما يقترب منها.
ولمن يهتم بمرايا الذات والأخر في الأدب، فإن "ذاكرة" تبدو لافتة في هذا الجانب، ذلك أنها تبرز صورة للذات الفلسطينية، وثانية للآخر: اليهودي والإنجليزي. وربما توسع المرء في الأمر فكتب عن الذات العربية أيضا. ولا عجب في ذلك، فموضوع الصراع العربي- الإسرائيلي على أرض فلسطين، منذ اشتداده في العام 1948 وحتى العام 1999، حاضر في النصوص، وتكاد حرب العام 1948 تشغل أكثر صفحات ذاكرة. وفي تلك الحرب كان الإنجليز حاضرين على أرض فلسطين، وكذلك حضر جيش الإنقاذ العربي، بالإضافة إلى طرفي الصراع.
ولا أدري أنا شخصيا، أنا الذي درس صورة اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و1987، وصورة الإنجليز في الأدب الفلسطيني، لا أدري لماذا لم ألتفت، بما فيه الكفاية، لأعمال سلمان التي كنت درستها وتابعتها؟ ألأنها أدب تسجيلي؟، بخاصة كتاب "وما نسينا"، ربما، علما بأنه كان يفترض أن أفرد لها صفحات خاصة بها، لأن تصور الذات والآخر فيها يصدر عن فئات اجتماعية شعبية، علما بأن هذه تبرز في القصة والرواية، خلافا للشعر الغنائي.
في القصة والرواية، كما نعرف، لا يكتب الكاتب القصصي والروائي عن شريحة اجتماعية واحدة هي التي ينتمي إليها، واعني بها شريحة المتعلمين والمثقفين. إنه يكتب عن شرائح اجتماعية متعددة متنوعة، لأنه يلتقط شخوصه من المجتمع، وقد يعبر في الرواية، عن شرائح اجتماعية متنوعة: عن العمال والفلاحين، عن سكان المدن وسكان الريف، عن المتعلمين والأميين، عن المتسولين والمعلمين.... الخ. وهذا ما نعثر عليه، على أية حال، في قصصنا ورواياتنا. وهذا ما أبرزته وأنا أكتب عن صورة اليهود في أدبنا بعامة.
وفي الشعر الغنائي يعكس الشاعر انعكاس العالم على ذاته، ما يعني أنه يكون هو محور نصوصه غالبا، وبالتالي قد لا يكتب عن آخر متعدد متنوع، لأنه قد لا يقابل شرائح متنوعة من الآخر. محمود درويش مثلا كتب عن جندي وعن (ريتا) و(شولميت)، لكنه لم يكتب عن عامل يهودي. ربما لأنه لم يلتق بعامل.
سلمان ناطور في "وما نسينا" الذي ظهر أكثره في "ذاكرة" لا يكتب عن اليهود الذين التقى بهم. إنه يلتقي فلسطينيين شهدوا حرب العام 1948 وكانت لهم ذكرياتهم عنها، وكان هؤلاء عرفوا اليهود عن قرب، قبل النكبة، وفي أثنائها وبعدها، وهكذا قصوا عن تجربتهم. إن تصور اليهود، في هذا الجزء من "ذاكرة" (ص29- ص132) لا يبرز تصور سلمان نفسه لهم. إنه يبرز تصور أهل فلسطين الذين مروا بتجربة مرة في العام 1948. والسؤال الذي يثيره المرء هو: ما الصورة التي يبرزها هؤلاء لليهود؟ الصورة التي تشكلت من تجربة، لا التي ورثت أو تشكلت من خلال القراءة أو السماع فقط. وهل تختلف هذه الصورة عن تلك التي ظهرت لهم في نصوص كتاب لم يعرفوا اليهود عن قرب، ولم يصغوا مباشرة إلى أشخاص عرفوا اليهود؟ بل هل تختلف تلك الصورة عن تلك التي ظهرت في أعمال أدبية إسرائيلية أنجزها أدباء مروا بتجربة الحرب في العام 1948، وكانوا شهودا عليها، مثل (يزهار سميلانسكي) في "خربة خزعة" و"الأسير"، و(بنيامين تموز) في "منافسة سباحة"، وقد ترجمت هذه كلها إلى العربية.
يبرز اليهودي في بعض قصص سلمان ديوثا. يمارس الضابط الإنجليزي الحب مع زوجته الشقراء ويمل منها، ويبدي رأيه أمام شلومو قائلا:
" سئمت منها... أبحث عن واحدة سمراء قمحاوية"
ويقهقه الخواجه شلومو ويعد الضابط قائلا:
"غدا مساءً" (ص14و 15)
وربما تذكر المرء هنا رواية توفيق فياض "وادي الحوارث"، وهي رواية صدرت في بدايات التسعينيات من القرن العشرين- أي بعد كتابة سلمان قصته بستة عشر عاما تقريبا، وهنا يتساءل المرء: هل الديوث اليهودي موجود حقيقة ام أنه تصور عربي ليس أكثر؟
في 13/4/2004 نشرت جريدة الأيام في ملحقها "المشهد الإسرائيلي" مقالة عنوانها: "بحث إسرائيلي جديد: الحركة الصهيونية أقامت أيام الانتداب جهازا خاصا لفتيات يهوديات مضيفات!" ومما ورد فيه:
"نشرت صحيفة "هآرتس" في ملحق عددها الصادر يوم الأحد (11 نيسان 2004) تحقيقا كشفت فيه معدته (دانيئيلا رايخ) النقاب عن أن الحركة الصهيونية أقامت في عهد الانتداب البريطاني في فلسطين جهازا خاصا يضم آلاف الفتيات "المضيفات" اليهوديات اللاتي كانت كل مهمتهن في نطاق هذا الجهاز هي "الترفيه والترويح" عن جنود وعساكر القوات البريطانية وغيرها من جيوش دول الحلفاء الذين كانوا ينزلون للراحة على شواطئ البلاد خلال الحرب العالمية الثانية وذلك في إطار مساعي الزعامة الصهيونية لكسب تأييد تلك الدول لمشروعها الكولونيالي وتسهيل تحقيقه على الأرض الفلسطينية".
ولم يكن سلمان أول من أتى، في قصصه، على هذا. إن دارس الأدب الفلسطيني، في ثلاثينات القرن العشرين وأربعينياته، يعثر على نصوص برز فيها هذا (الموتيف) بروزا لافتا. الفتيات فيها يرسلن من الحركة الصهيونية للإقطاعيين العرب حتى يبيع هؤلاء أرضهم لليهود. ولعل مسرحية محمد عزة دروزة "الفلاح والسمسار"، وفي روايات أخرى "الملاك والسمسار"، من أبرز تلك النصوص، ومثلها أيضا مسرحية برهان الدين العبوشي "وطن الشهيد".
يتكرر في القصص التي كتبها سلمان، وفي الشهادات التي سجلها أيضا نموذج اليهودي الذي يحكي باللغة العامية البدوية. ما يعني أن ما يرد في القصص التي كتبها هو ليس خيالا أو اختراعا، فالشيخ مشقق الوجه الذي يروي لسلمان يتحدث عن يهود على هذه الشاكلة، في مقطع المسيرة (ص26) يحكي شلومو باللغة العامية البدوية عن تجارة الخيل وعن مغامراته في المطلة، وفي ص30 يحكي الشيخ عن اليهودي الخبيث الذي جاء من رومانيا ويزعم أنه من صفورية. هذا اليهودي يتقن أيضا اللهجة العربية البدوية. وربما تذكر قارئ الأدب الفلسطيني إحدى قصص نجاتي صدقي في مجموعته "الشيوعي المليونير" (1963). هناك كتابهُ عن يهودي يعرف لغة العرب ولهجتهم وعاداتهم وتقاليدهم أيضا. وليس الأمر بمستغرب على أية حال، فهناك يهود عرب، وهناك يهود أوروبيون جاؤوا إلى فلسطين ودرسوا اللهجات والعادات والتقاليد.
وفي "ذاكرة" تبرز أسماء يهودية حقيقية، وليس هذا بمستغرب، ذلك أن الشيخ مشقق الوجه يروي أحداثا عاشها، وعن أشخاص حقيقيين عرفهم، فثمة علاقات بين العرب واليهود، قبل العام 1948، علاقات تجارية، وعلاقات عمل، وعلاقة جيرة. كان (موشيه دايان)، وزير الدفاع الإسرائيلي في فترة من الفترات، كان راعيا، ولما تأسست الدولة غدا وزيرا. ويلتقي ببعض معارفه العرب، بعد النكبة، ويتمازحان: صرت وزيرا يا (دايان)، فيرد عليه: "غصب عنك. خليك انت راعي" ولم يراع الوزير الصداقات القديمة، مثله مثل يهود كثيرين في "ذاكرة"، غدا ولاؤهم للدولة أولا، ويردد الشيخ مشقق الوجه في داخله:
- حتى من هاي النعمة حرمتونا.. أي هو بقي أرض نرعى فيها؟!
إن وفاء السموأل الذي قرأنا عنه ونحن ندرس الشعر الجاهلي، يبدو لدى يهود دولة إسرائيل في أكثرهم، ضربا من الوهم، الوفاء هنا للدولة، لا للحق. الأرض للدولة لا لأصحابها، وقليلون هم اليهود الذين يضحون بأبنائهم أو بأنفسهم من اجل إعادة الأمانة إلى أصحابها.
يكتب سلمان، طبعا على لسان الشيخ مشقق الوجه، عن فنان يهودي لطيف سكن في بيت عرب، وقد أدرك مأساة هؤلاء، وبهذا قرر أن يترك البلاد. هذا مثل السموأل، لكن هناك فنانين آخرين يختلفون عنه. والفنان رقم 2 فنان سيء، يقيم في بيت عرب، وحين يعود هؤلاء ليطالبوا به، يرفض الخروج منه، بل إنه يطالب بتعويضات لأنه حفظ البيت وأصلحه.
"قيل مرة للفنان ايتشي مامبوش: هل تعلم أن الدار التي تسكنها لها أصحاب مشردون في مخيم جنين؟ فأجاب: إنهم مدينون لي بالشكر، فقد حافظت على البيت وزدت عليه وأصلحته ونظفته!
وإذا جاء يطالبك به؟
- سأجبره على دفع التعويضات عن كل ما أنفقته، وعن تعبي في صيانته" (ص37).
في "ذاكرة" يتكرر على لسان الشيخ أيضا عبارات نعت بها اليهود في نصوص أدبية أنجزها أدباء كتاب لم يصغوا فيها إلى شخصيات تقص، ودوّن الكتاب ما سمعوا. لقد توقفت أمام هذا في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و 1987" (1991). يرد على لسان الشيخ كلام عن خبث اليهود وعن ابتسامتهم الصفراء، وينعتون بأنهم أبناء ميتة (ص32) ويوصفون أيضا بأنهم داهية. ترد في ص57 الفقرة التالية عن دهائهم:
"بعثوا لي: أرضك مصادرة! نزلت قابلت موظف اسمه (دافيد ياو) سألني:
- وين أنت ساكن؟
- في شفا عمرو
- اللي غادر بيته مسافة أربعين متر صار لاجئ!... أرضك مصادرة!.. بدك تمشي حسب القانون: تفضل، بدكش سكتر من هون!
- أرضي 180 دونم... أعطوني 30 دونم."
وفي مكان آخر يأتي اليهود إلى القرية ويجتمعون بأهلها ويخبرونهم بأنهم يريدون بناء مدرسة، لكنهم، بعد أن أخرجوا السكان من القرية، هدموها كلها (ص89، ص90).
والجنود اليهود في العام 1948 كانوا قساة، يقتلون بلا رحمة. فلقد رحلوا العرب بالقوة. وربما تذكر المرء هنا ما ورد في كتاب التطهير العرقي لـ(إيلان بابيه)، بل إن المرء سيتذكر هذا، وهو يقرأ "ذاكرة"، مرارا، ما يعني أن الصورة التي يبرزها الشيخ مشقق الوجه لليهود ليست نابعة من حقد سببه تهجير العرب، وليست صورة غريبة غير صحيحة. وربما تذكر المرء الصورة التي أبرزها (يزهار سميلانسكي) في "الأسير" و"خربة خزعة" للجنود اليهود وما فعلوه بالقرى العربية. ومن المؤكد أن المرء سيتذكر قصة (بنيامين تموز): منافسة سباحة"، وهو يقرأ ما يرد في " ذاكرة" تحت عنوان: "المختار" (ص40 وص41).
يطلب مختار القرية من الضابط يهودا أن يعيده إلى القرية، يطلب منه هذا بحق الجيرة والمعرفة السابقة، ولكن الضابط يكون "لطيفا وإنسانيا"، فيتركه يرحل، ليقوسه الجنود بعد لحظات.
في القسم الثالث من "ذاكرة"، وهو المستل من كتاب "هل قتلتم أحدا هناك؟"، الكتاب الذي يبدو أشبه بسيرة ذاتية لسلمان، يكتب المؤلف عن نماذج يهودية التقى بها وجها لوجه. الصورة التي يقدمها هنا ليست معتمدة على روايات سمعها من الآخرين، وليست شخصيات قصصية يجري عليها تعديلات وتغييرات، فيكون لها نصيب من الواقع وآخر من الخيال.
يذهب سلمان ليرى بيت الشاعر الفلسطيني الذي مات في المنفى: عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وهناك تقيم امرأة يهودية عجوز قدمت من رومانيا. ترحب به هذه، وتشكو مما هي عليه.
"- البيت قديم، وقد طلبت من البلدية أن تعطيني بيتا آخر، ولكن لا يوجد فلوس.. أسكن في غرفة واحدة، هنا مطبخ وهنا حمام وهنا غرفة مسدودة بالباطون.. سدتها البلدية، إنها تدلف، جدرانها مشققة، وشبابيكها محطمة...
مد حنا يده وصافح السيدة العجوز.. الدمعة التي تراخت على الرموش الذابلة انقسمت، وتساقطت على خده". (ص170).
وحنا هو حنا نقارة صديق أبي سلمى. ولأنه شيوعي فقد أشفق على هذه العجوز اليهودية التي تعاني. ليس حنا، ومثله سلمان الذي كان عضوا في الحزب الشيوعي، ضد اليهود لأنهم يهود. وربما تذكر المرء هنا رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969)، وربما تذكر (ميريام) و(ايفرات كوشن) اللذين احتلا بيتا عربيا وأقاما فيه، وشعرا في البداية بأنهما خدعا.
ولأن لسلمان تجربة مع المحققين من رجال الشرطة، فقد كتب عن هؤلاء أيضا. لم يتصرف هؤلاء معه بالقسوة التي تصرف بها جنود الدولة مع السكان العرب في العام 1948. تغيرت الظروف، ولم تعد عقدة إنشاء الدولة اليهودية تحكم الصهيونيين. لقد قبلوا، على مضض، ببعض السكان العرب.
المحقق هنا سادي، والمحققون ثلاثة: طيب وشرير وبشع، الأول يطلب منه أن يرتدع عن خطه السياسي المناهض للسلطة، ويغريه بالمال والمنصب، وحين يرفض سلمان ذلك، يتركه ويغادر. والشرير/ الثاني يهدده بأن بإمكانه أن يخرب بيته، وأن يجعل حياته جحيما، وأما الثالث فينظر إليه نظرات مرعبة ويخاطبه قائلا:
"- من أنت؟ ماذا تساوي؟.. أنت لا تساوي الرصاصة التي ستخترق دماغك... لا.. لن نخسر عليك حتى رصاصة" (ص173).
ويهدده بأنه سيدهس. فجأة ستأتيك سيارة شحن كبيرة (سيمترلر)، وتدوس عليك كما يدوس الفيل على النملة.هكذا يتعامل الإسرائيليون مع العربي المعارض سياسيا لسياسة الحكومة.
وهذه هي الصورة التي تبرز في كتابات سلمان ناطور لليهود، في كتاباته القصصية والتسجيلية والسير ذاتية. وربما تساءل القارئ: ولكن ماذا عن صورة الإنجليز، باعتبارهم آخر ثانيا، ثم ماذا عن صورة الذات أيضا؟
لعلني أقارب هذا في مقالة ثانية.
* ملاحظة: النصوص المقتبسة منقولة كما وردت في كتاب "ذاكرة".

6. "ذاكرة" ومرآة الإنجليز
للإنجليز في "ذاكرة" حضور لافت، وليس هذا بغريب، فهي في قسمها الأكبر تروي أحداث العام 1948، ولم يكن هؤلاء الذين انتدبوا فلسطين في العام 1918 قد غادروها قبل أيار من العام 1948.
والإنجليز الذين عبدوا الطرق في فلسطين وافتتحوا المدارس وأقاموا المشافي، الإنجليز هؤلاء هم الذين أعطوا الحركة الصهيونية، من خلال وعد بلفور، حق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. لقد أعطوا أرض من يملك إلى من لا أرض له، ولم يكتفوا بذلك، بل سهلوا له الهجرات، وغضوا الطرف عن تهريب السلاح، حتى جاء يوم غدا فيه سكان فلسطين العرب لاجئين، يقيمون في الشتات، ويعانون قسوة الحياة وشظف العيش. وما زالوا.
ومن المؤكد أن صورة الإنجليز في الذاكرة الفلسطينية ليست على ما يرام، الذاكرة الأدبية الرسمية والشعبية أيضا، في أثناء ثورة العام 1936 كتب عبد الكريم الكرمي قصيدته المشهورة:
انشر على لهب القصيد شكوى العبيد إلى العبيد.
وأبرز فيها الصورة التالية لهم: إنهم خصم لدود، يدنسون الصحراء. وتوصل الكرمي إلى الرأي التالي:
لو كان ربي إنجليزيا دعوت إلى الجحود.
ولم يكن الكرمي الوحيد الذي أبرز لهم هذه الصورة. اسكندر الخوري البيتجالي، الذي رحب بالإنجليز في العام 1918، سرعان ما غير رأيه ورأى فيهم غزاة لا يختلفون عن العثمانيين الظلمة. وأما إبراهيم طوقان فذهب إلى أن الحجارة أقل، من قلوب الإنجليز، قسوة، على الرغم من أن (شكسبير) العظيم إنجليزي. الإنجليز الذين منعوا في بريطانيا الرق حللوه في فلسطين، ونادوا فيها على الأحرار: يا من يشتري.
ولم يكن النثر الفلسطيني الذي كتب قبل العام 1948 يبرز للإنجليز صورة مختلفة عن تلك التي أبرزها الشعر. في رواية محمد العدناني "في السرير" (1946) إتيان على نماذج إنجليزية بشرية لا تنتمي إلى القوات البريطانية. هناك الممرضة والطبيب، وهناك أيضا الشرطي. تتعالى الممرضة على المرضى وتحتقرهم، وترى في حسن معاملتهم لها، ضعفا فيهم، ولا يخيفها إلا صوت طريف الشخصية المحورية في الرواية. طريف الذي هو محمد العدناني نفسه، هذا الذي يعتز بعروبته ويرفض الذل. والشرطي الإنجليزي يسرق الكعك ويلقي جزاءه وأما الطبيب فهو وكيل (عزرائيل) على الأرض يحقن مرضاه بالمخدر حتى يموتوا. ولم يكتب العدناني في روايته عما فعلته بريطانيا بفلسطين. لقد كتب عن نماذج التقى بها، في المشفى، حين كان مريضا.
قبل صدور "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" (1979) و"ما نسينا" لسلمان ناطور كانت صدرت أعمال شعرية وقصصية وروائية في فلسطين المحتلة ذكر فيها الإنجليز، ولم تكن صورتهم إيجابية. لقد كانت سلبية بشكل عام. في أشعار راشد حسين وفي قصص توفيق فياض "الكلب سمور" وفي رواية توفيق معمر: "مذكرات لاجئ أو حيفا في المعركة" وفي رواية محمود عباسي "حب بلا غد" وفي قصة مصطفى مرار "حمارنا وبريطانيا" وفي قصة محمد علي طه "عاصفة في عش"، في هذه الأعمال كلها كان الإنجليز مسؤولين عن ضياع فلسطين، بل كانوا المفسدين في أرضها، وقفوا إلى جانب اليهود ضد العرب في أشعار راشد وقصة توفيق فياض، ورواية توفيق معمر، وأفسدوا بين العرب واليهود في بقية الأعمال. لقد كان العرب في نصوص مرار وعباس وطه يعيشون بهدوء وسلام جنبا إلى جنب، والذي أفسد عليهم حياتهم هم الإنجليز. وربما بدا هذا الرأي على قدر من السذاجة، وربما ما جرؤ الكتاب، يوم كتبوا نصوصهم يقولون غير ما قالوا، فقد كانوا موظفين في مؤسسات السلطة الإسرائيلية الحاكمة، وكان بعضهم من أنصار القبول بالأمر الواقع والتعايش مع اليهود.
ولم تبرز صورة إيجابية للإنجليز في الأدب الفلسطيني إلا في سيرة جبرا "شارع الأميرات" وسيرة فدوى طوقان "رحلة صعبة... رحلة جبلية". كان هذان أقاما في بريطانيا، وتعرفا هناك إلى إنجليز أقاموا معهم علاقة ودية، فكتبا عن الإنجليز هؤلاء، وجاءت صورتهم مغايرة لصورة الإنجليز الذين عرفهم أهل فلسطين فيها.
في "ذاكرة" هناك قص عن أحداث العام 1948، عام النكبة وضياع الوطن. والذي يقص هو ابن فلسطين الذي رأى وعاش. رأى ما يقوم به الإنجليز وعاش نتائج سياستهم التي أدت في النهاية إلى ضياع الوطن، وتَحَوّلِ أبنائه إلى لاجئين في وطنهم، وإلى أقلية فقدت أهم ما كانت تملك: الأرض. ومن هنا تبدو صورة الإنجليز في "ذاكرة" سلبية إلى حد بعيد، وليس هذا بمستغرب. وسأقف الآن على تفاصيل هذه الصورة.
يبدو الإنجليز، كما يقص عنهم الشيخ المشقق الوجه، مغرورين متعجرفين. في فقرة تحت عنوان "راع" نقرأ الأسطر التالية:
"وعشرات، عشرات من هذي القرى الممسوحة تظل ملامحها بارزة تتحرك.. تنطق وتصرخ في تجاعيد ذلك الوجه الذي شققته أيام السفر- سفر برلك، وأيام الثورة، وأيام الهجيج، والأيام التي كان يدخل فيها ضابط "جنجي"، وخلفه حاشية، وأدناهم فيها: شاويش، وأصغرهم: كلب يلبس جارزة من الصوف الإنجليزي، في فصل الشتاء.. وفي الصيف كان يأبى إلا أن يرفع رجله عند مدخل بيت المختار ويبول والحاشية كلها في انتظار". (ص29)
وفي مقطع عنوانه "المفكرة" يتواطأ الإنجليز مع اليهود من اجل تسليمهم فلسطين. يلاحق الإنجليز الثوار، ويظلمون الناس (ص53)، وفي العام 1948 يلعبون لعبتهم من اجل ترحيل العرب. في ص62 وص63 نقرأ ما يلي:
"كان الإنجليز يدخلون على البيوت ويسألونا:
بعدكم قاعدين؟ اليهود راح يدبحوكم إذا بقيتم في بيوتكم! احملوا أغراضكم ويالله عالبور...
الإنجليز لعبوا اللعبة القذرة.. من جهة، يصرحوا أنهم يدعموا الملك ضد اليهود، ومن جهة ثانية ما تركوا قطعة سلاح إلا وسلموا إياها. وكانوا يساعدوهم على تهجيرنا. كل ما شافوا عربي كانوا يسوقوه للجمارك. جمعوا العرب عند المينا وأغلقوا عليهم خط الرجعة". (61، 62).
يتكرر الكلام عن الإنجليز ودورهم في التفريق بين العرب واليهود، ولكن مع تبيان انحيازهم للأخيرين، يتكرر مرارا.
في قطعة عنوانها "المستر" (ص118) يروي الشيخ المشقق الوجه عن عمله في معسكرات الإنجليز. يعطي المستر ورقة إلى الشيخ الذي كان شابا، فيذهب بها إلى الخواجة يعقوب، ولكن هذا يرفضها ويمزقها، ولا يحترم (المستر) والدولة البريطانية. وتشتعل المعارك بين العرب واليهود:
" ومن يومها ما عرفنا يوم راحة.. كل يوم انفجار" ولما يكون الوضع هادي كان الإنجليز يحطوا مدفع وين بناية "السي. آي. دي" القديمة ويطلقوا طلقة على أبو كبير وطلقة على تل أبيب.. يولع الطخ طول الليل. مرة سألت ضابط إنجليزي، كان يشرب قهوة في الكانتين:
- ليش هيك بتعملوا؟
قال لي: إذا بدّك تشتغل وتعيش لا تسأل هذا السؤال!"
ويواصل الشيخ قص القصة:
"كنت أرجع للبيت في ساعة متأخرة، على الطريق ألتقي بجنود إنجليز لابسين لباس عربي. أسألهم:
- وين كنتوا.
- نعطي سلاح للعرب!
الضباط الكبار يفرغوا بواخر أسلحة لليهود، وعلشان يضحكوا علينا يبعثوا أكم جندي مع أكم قطعة سلاح يعطوها للزعما حتى يصدقوا أنها بريطانيا بتساعدهم. كله كان ضحك على الذقون". (ص120).
ثمة قصة أخرى تظهر الدور القذر الذي كان الإنجليز يقومون به. يروي الشيخ المشقق الوجه القصة التالية عما كانوا يقومون به:
" في الأربعة وثلاثين، الإنجليز ذبحوا بقرة ولفوها بكيس خيش، وحملوها في "الداليجانس" (حنطور)، وكان الدم ينقط منها.. وبعثوا ناس يقولوا: اليهود ذبحوا حرمة.. وهاي جثتها مقطعة في الكيس والدم ينقط منها". (ص122).
ويتابع:
"كانوا يعتقلوا اليهود في الليل ويطلقوا سراحهم في أحياء العرب.. أو يعتقلوا عرب ويرموهم في شارع فلورنتين في حي أبو كبير.. ليلة يطخوا على اليهود وليلة يطخوا على العرب" (ص123).
في المقطع الثالث من "ذاكرة" المقطع المستل من كتاب "هل قتلتم أحدا هناك؟" (1999) تعود الذاكرة بسلمان نفسه إلى ما قبل العام 1948 ليروي شيئا عن حياة الناس إبان فترة الانتداب. إن ما يرويه هنا هو إعادة للرواية، فهو لم يكن في تلك الأيام مولودا. تماما كما نكرر نحن عبارة "فرق تسد" التي سمعناها من آبائنا، العبارة التي تكشف كثيرا من روايات الشيخ المشقق الوجه.
في مقطعين متتاليين عنوانهما "عبد الحسن" و"كامل الضرير" نقرأ عن الإنجليزي الداهية والعربي الساذج أيضا. تبدو من خلال القصة الواحدة صورة الذات وصورة الآخر أيضا. كأن هذه لا تظهر إلا من خلال تلك.
عبد الحسن ثائر فلسطيني يبحث الإنجليز المستعمرون عنه، لأنه يقاومهم. ويلقي هؤلاء القبض على مجموعة من الشباب يكون عبد الحسن واحدا منهم، ويطلب الضابط الإنجليزي منهم أن يعترفوا عليه دونما نجاح، فالكل يصر على انه ليس موجودا بينهم، وتأتي والدة عبد الحسن تبحث عن ابنها، ومعها الماء والطعام، حريصة على حياته، فيتركها الضابط تسير، ولا تجدي تحذيرات الشباب لها بأن تعود، وهكذا تشير إلى ابنها الذي يقتاده الضابط ويطلق الرصاص عليه، بلا رحمة وبلا مشاعر، ودون مراعاة لوجود أمه. الضابط الإنجليزي هنا قاس لا يرحم يقتل الابن أمام أمه. الأم الفلسطينية الحريصة على ابنها تكون سببا في موته.
في المقطع الثاني نقرأ عن كامل الضرير والضابط الإنجليزي عن سذاجتنا ومكر الإنجليز واختلافهم في تفكيرهم عنا. "في أحد الأيام طوق الإنجليز البلد وأمروا الناس بالخروج من بيوتهم، ولم يبق في البيت سوى كامل الضرير، وكان يكره الإنجليز، كما كره عماه، ويبحث عن طريق لينتقم منهم، فاعتلى سطح البيت، ولما أمره الضابط بالنزول، رفض وقال:
- أنا أعمي وأخشى السقوط، اقترب لأنزل على كتفيك".
وهنا يقترب الضابط ويسحل الضرير بجسده ويستقر كامل على منكبي الإنجليزي ويلوح بعكازه صائحا بأعلى صوته:
- يا أهل البلد! والله ركبناهم.. ركبنا بريطانيا العظمى زي الحمير" (ص154).
ولم يفهم الضابط لماذا صار أهل البعد يصفقون ويهتفون ويضحكون "إلى أن أوقفهما جندي يبدو أنه عرف اللغة العربية، وبأعصاب باردة كالثلج سحب من جيبه علبة سجائر وناولها للضرير وقال له:
- هذا أجارك، انزل!"
ويفتح الضرير العلبة ويتحسسها، ثم يجعلكها بين أصابعه ويقول للجندي:
- الباكيت فاضي يا خواجة"
فيرد عليه:
- وكلامك فاضي! (ص154)
كأنما الجندي يريد أن يقول لكامل وللعرب، أنتم ظاهرة صوتية. وربما تذكر المرء هنا مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، هذا الذي كان، حين يضاجع امرأة بريطانية، يشعر أنه يضاجع أوروبا، أوروبا التي أراد أن يغزوها بصغيره.
وربما توقف المرء، وهو يقرأ المقطع السابق، أمام عبارة السارد "وبأعصاب باردة كالثلج.."، إذ يرى كثيرون أن الإنجليز ذوو أعصاب باردة.
ما يلفت النظر في الجزء الأول من "ذاكرة"، المستل من مجموعة "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" مقطع عنوانه "القروط"، والقروط شاب في الخامسة والعشرين من عمره جاء من بلاد بعيدة، وادعى أنه ينتمي لعائلة الحنتريش. كان شابا ابن حرام.. فنان سرقة.. ولكنه كان شريفا! لم يسرق من الفقراء، ولم يسرق كل ليلة إلا غنمة واحدة" (ص21).
كان يذبح الغنمة ويبيع لحمها للضباط الإنجليز وكان عمله صعبا ويتعرف إلى المسز بروكر ويصل إلى زوجها المستر بروكر، وحين يزوره في مكتبه يغلق المستر بروكر عليه الباب لمدة ساعتين. ماذا فعل القروط والمستر بروكر في هذه الأثناء؟ هل كان بروكر شاذا؟ لم تقل القصة أنه إنجليزي، إذ ذكرت أن أمه إنجليزية. فهل كان يعد على أخواله؟
لا تقول القصة هذه كل شيء، إذ تترك مجالا للتأويل والاجتهاد، ولكنها في المقابل تبرز صورة للذات الفلسطينية التي اقتربت من الإنجليز، هذه الذات التي شعرت بتضاؤل وقزامة أمام كل ما هو إنجليزي حتى اللغة. يحتقر الريفي ابن قريته، ولكنه يحترمه حين يحدثه بالإنجليزي ويشعر انه على صلة مع إنجليزي، وقد برز هذا في روايات فلسطينية سابقة أبرزها رواية عطا الله منصور "وبقيت سميرة". لكن الذات الفلسطينية ليست ذاتا واحدة، وليس لها الموقف نفسه من اليهود ومن الإنجليز، وهي ليست ذاتا سلبية في المطلق، أو إيجابية في المطلق. هناك الثائر، وهناك السمسار، وهناك الخائن، وهناك الأزعر أيضا.
وعلى العموم فإن صورة الإنجليز في "ذاكرة" تبدو صورة سلبية في مجملها. هل يبدو الأمر غريبا؟ أن ما قام به الإنجليز في فلسطين، وما خلفوه لا يسر البال، فما زال الفلسطينيون يحصدون ثمار ما زرعه الإنجليز، هؤلاء الذين لم يزرعوا إلا الشر.

7. همومٌ ذاتيّةٌ وهمومٌ قوميّةٌ
أول كتاب قرأته لسلمان ناطور هو روايته "أنت القاتل يا شيخ". وكان ذلك في سبعينات القرن العشرين، قبل أن أتعرّف على سلمان شخصيًا. كنت بدأت أتابع أدب المقاومة في فلسطين، وأقرأ ما تيّسر لي من نصوصه، واستعرت الرّواية التي لا أملك نسخة منها. كتب فيها سلمان عن مشكلة تجنيد الشّباب الدّروز في الجيش الإسرائيليّ، وحمّل المسؤولية للشيوخ الذين وافقوا، مع قيام دولة إسرائيل، على أن يخدم أبناؤهم في الجيش. وسيجد بعض الشّباب الدّروز أنفسهم على بعض الجبهات يقاتلون، وقد يقاتلون أقارب دروزًا لهم على الجانب الآخر. هل كان سلمان يومها منضويًا تحت لواء الحزب الشّيوعيّ؟
لو كان حقًا منضويًا تحت لواء الحزب لربما اتخذت الرّواية مسارًا آخر، وهو ما ستكون عليه كتابته منذ مجموعته القصصيّة الأولى "الشّجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" (1979)، وقد قدّم لها الرّاحل إميل توما. اتخذت كتابة سلمان في هذه المجموعة مسارًا آخر، وأخذت تقوم على ثنائيّة جديدة هي الفلسطينيّ المحتل/ الصّهيونيّ، وتجاوزت الكتابة عن هموم الطّائفة، وكانت همومًا مشروعة، لتعبّر عن هموم وطنيّة وقوميّة، إذا جاز التّعبير، من منطلق يساريّ، وغدا سلمان مثل أدباء المقاومة الآخرين الذين جايلهم؛ سميح القاسم ومحمّد نفّاع وحنّا إبراهيم وإميل حبيبي، ولا أنسى سالم جبران ليكتبوا جميعًا أدبًا ملتزمًا.
الأدب الملتزم بالهمّ الوطنيّ
ظل سلمان يكتب الأدب الملتزم لفترة طويلة، وفي سنوات نهاية السّبعينات وعقد الثّمانينات من القرن العشرين، حتى ترك الحزب الشّيوعيّ، ظهر اسمه – سلمان- على صفحات "الاتحاد" والجديد" والغد"، وغدا قلمه قلم كاتب يساريّ ملتزم بحزبٍ يساريّ، وغدت حياته الشّخصيّة منسجمة كليًا مع أفكاره، فلم يسع إلى مطمح فردي إطلاقًا، وظل أديبًا جوالًا يلتقي بالناس وينقل همومهم إلى الصّحافة، ومن هنا بدأ يكتب قصص مجموعته الثّانيّة "خمارة البلد" (1987).
ثمّة في "خمارة البلد"، وللاسم دلالته وأهميته في الأدب الفلسطينيّ، ما يدل دلالة واضحة على التزام سلمان بالهمّ الوطنيّ بالدرجة الأولى؛ ثمة شعب فلسطينيّ يعاني من الاحتلال، ويُعامل معاملة فيها قدر كبير من العنصريّة، ولهذا الشّعب امتداد في الخارج، حيث يقيم ملايين في المنافي في أوضاع قاسيّة وصعبة؛ لجوء وملاحقات وحنين إلى الوطن ليس يزول، واضطهاد، من هذا النّظام العربيّ أو ذاك. هل كان اتصال سلمان بفنان الكاريكاتور ناجي العلي ليرسم لكل قصّة يكتبها سلمان رسمًا، هل كان اتصاله بناجي عبثًا؟
أراد سلمان أن يعبّر عن فكرٍ يشغله، وهو وحدة هذا الشّعب في الدّاخل والخارج، ولكي يغوص في الموضوع عميقًا، فقد تنقل في القرى ليلتقي بجيل الثّلاثينات والأربعينات، الجيل الّذي عاش النّكبة ووعاها، وسجّل من أفواهه ذكرياته ليواجه المقولة الصّهيونيّة: الكبار يموتون والصّغار ينسون. وكتب سلمان ذكريات الكبار لينقلها للجيل النّاشئ الّذي وُلد قبل قيام دولة إسرائيل بقليل، أو بعد قيامها، وكتابة "وما نسينا"، كتاب مهم، وعنوانه عنوان دال.
ما بين طفولة الآباء والأبناء
مع انهيار الاتحاد السّوفيتيّ سيترك شيوعيون كثر الحزب الشّيوعيّ، وسيتركه أدباء صالوا وجالوا على صفحات جرائد الحزب ومجلاته: إميل حبيبي وسميح القاسم وسالم جبران وسالم ناطور وحنّا إبراهيم. ومع بداية التّسعينات سينشأ جيلٌ جديدٌ لم يتربَ على ما تربى عليه سلمان وحبيبي وسميح وجبران وحنّا. وسيجد سلمان نفسه في دالية الكرمل بعيدًا عن حيفا، ولم يكن حقق أي شيء على مستوى شخصيّ، فلا خيل ولا مال ولا شركة وسيكبر أبناؤه وسيسخرون من أبيهم.
في كتابه "هل قتلتم أحدًا هناك؟" (1999) يأتي سلمان على الفارق بين جيله وجيل أبنائه، وعلى ما جره عليه التزامه بالحزب، وموقف أبنائه من ماضي أبيهم. يكتب سلمان: "عندما حدثتُ أولادي عن فلسفتي قال أحدهم دون أين يفكر: أما أهبل! ورأيت إخوته الآخرين يؤيدونه بصمتهم، ولما حققت معهم لفهم سرّ هذا الهجوم الأرعن على والدهم، تبيّن في أنهم عافوا حياتهم من نظريتي التّربويّة المسكنة للأوجاع، والقلة التي أزعم فيها كذبًا وبهتانا أنهم يجب أن يكونوا سعداء، ويشكروا ربّهم على النّعمة التي يتمتعون بها لأن هناك ملايين الأطفال في العالم ممن لا يجدون ما يأكلونه، وكان أصغرهم يباغتني بسؤالٍ بريء: شو يعني النّعمة بابا؟".
عاش سلمان في خمسينات القرن العشرين، وكانت الحياة في فلسطين تحت الدّولة النّاشئة قاسيّة على العرب الباقين، فعاش طفولة فقيرة، وحين قارن بين طفولته وطفولة أبنائه لاحظ فارقًا لصالح طفولة أبنائه، ومع ذلك..إلخ.
ولم تقتصر كتابة سلمان على هذا الجانب، فقد راجع في كتابه فترة التزامه واكتشف أنه انتمى في سنوات السّبعين والثّمانين من القرن العشرين لجيل اعتز بجبروته وآبائه ونفسه في دجل نكران الذّات دون خوف أو وجل، ومع أنّ سلمان لم يتخلص كليًا من أفكاره السّابقة، ومن سلوكه الذي فرضته تلك الأفكار، إلا أن روايته: "هي، أنا والخريف" (2012) جاءت تتويجًا لتخلي سلمان عن فكرة الالتزام الحزبيّ لا الوطني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى