إدوارد غاليانو - الباب.. ترجمة بانقا الياس

وجد كارلوس فاسانو بمحض الصدفة الخالصة باب الزنزانة،التي كان مسجونا فيها أثناء فترة الحكم الديكتانوري الأرغواي في متجر. وهي المكان الذي قضى فيه ست سنوات يحادث فأرا وباب الزنزانة رقم 282. كان الفأر ينسحب دائما إلى الخارج ويعود متى راق له ذلك ، ولكن باب الزنزانة كان دائما هناك، يعرفه كارلوس أكثر من راحة يده، ما أن رآه حتى لاحظ النقش، الذي حفره عليه بملعقة صغيرة، وتلك البقع الداكنة على الخشب، التي كانت تمثل خرائط البلدان السرية، التي كان يسافر إليها في كل يوم من أيام حبسه.
انتهى المطاف بهذا الباب وابواب الزانازين الأخرى في هذا المتجر، الذي اشتراها عندما حُولَ السجن إلى مركز تجاري،وما عادت زنازينه تحبس بشرا،بل بدلات جورج أرماني، وقناني عطور كرستيان ديور، واجهزة باناسونيك.الالكترونية.
عندما رأى كارلوس الباب قرر الاحتفاظ به، غيرإن ابواب الزنازين صارت موضة في منطقة (بونتا ديل ستيت)، مما جعل صاحب المتجر يطلب فيها اسعارا خرافية. ساوم كارلوس طويلا وأخيرا استطاع أن يدفع الثمن بمساعدة بعض الأصدقاء، وبمساعدة آخرين تمكن من نقله،فهذه الكتلة الضخمة من الخشب و الحديد، التي لم يفلها الزمن ولا الهروب الكثير، تحتاج إلى أكثر من رجل قوي لنقلها إلى منزل كارلوس في منحدرات ( شيشلا بييرا).
يقف الباب هناك مواجها الشمس، منتصبا على قمة جبل، ومحاطا بالخضرة من الجهات، تغسله الشمس كل صباح وعليه لزحة كتب عليها ( ممنوع إغلاق هذا الباب).

الأرض

هناك ولدت. وهناك تعلمت قدماها أول خطوات المشي. عندما عادت رجوبرتا بعد سنوات لم تجد قبيلتها. لم يترك الجند من أثر ، حتى اسم القبيلة. كانوا يسمونها شاميل الصغيرة، أي التي حفظت في باطن الأرض، لقد أبادوا كل شىء ، الناس والقمح والدجاج، وهرب ما تبقى من هنود إلى اعماق الغابات البعيدة و ألجموا افواه كلابهم حتى لا تدل عليهم.
تجولت رجوبرتا في الضباب على سفوح الجبال، والوهاد ، تبحث عن طفولتها، فالمياه التي اغتسلت فيها قد جفت. أو ربما أحمرت بالدماء وغاضت في باطن الأرض. وتلك الاشجار الضخمة، التي كان يظن المرء أنها ستخلد إلى الأبد بأغصانها التي كانت تحميها، وجذوعها التي تخبئها في باطن الأرض، لم يبقى منها سوى أعواد جافة وسبخة. فيما بعد صارت تتدلى من تلك الأغصان القوية حبال المشانق واستخدمت الجذوع الضخمة كحوائط للأعدام. وكل الذين يحفظون اسماء أجمل الأشجار وأطولها عمرا لقوا حتفهم، وعندما لم تجد الأشجار من لم يسميها سلمت نفسها للجفاف.
سارت رجوبرتا في الضباب الكثيف، نقطة من غير ماء، وورقة غير غصن. بحثت عن صديقتها زهرة اللوكسين في كل الأماكن ، التي كانت تتكاثر فيها فلم تجد إلا بقايا جذورها الميتة. زارتها زهرة اللوكسن في المنام، كانت مستسرة الخضرة ،موشحة بالأبيض على الأطراف ، وصفراء الزهرات في المنتصف. فيما بعد عرفت أن زهور اللوكسن تلطخت بدماء من يحبونها فشاخت حزنا عليهم ، ومزقت دواخلها حتى الجذور.

الدخلاء

داليا وفليبي من هنود التوجوبلال، لم يروا مدينة من قبل. سافروا من قريتهم الوادعة إلى مدريد برفقة أناس طيبين يأكلون ويشربون معهم. لم يسألا طوال الطريق عن أي شىء، وبعد أيام من الدهشة في مدريد أشاحا بنظاريهما عن تدفق السيارات وتزاحم الناس في الطرقات، فقد تيبست أعناقهم من كثرة التحديق إلى أعلى في البنايات الكبيرة والشاهقة.
وعندما حان موعد الرجوع تجرأ داليا وفيليبي وسألا مرافقيهم، كيف استطعتم أن تسكنوا فوق بعضكم البعض، وأين تزرعون الفاصوليا والذرة؟.

أسئلة
في نهاية عام 1949 أحرز هداف ارجواي لويس شالفرت، هدفا تاريخيا في مرمى بوينس ايرس. فالهداف المشهور بإحرازه الأهداف من على البعد سدد ضربة إلى الكرة من بعد ثلاثين مترا، طارت الكرة إلى السحاب ونزلت مستقيمة في شباك الخصم.
تساءل الصحفي الرياضي كيف فعل الهداف ذلك؟ وما سر تلك الضربة؟ وكيف تسقط الكرة في خط مستقيم من ارتفاع كهذا؟
قال الهداف موضحا لقد اصطدمت الكرة بملاك وتحورت. ولكن لم يفكر أحد منا في فحص الكرة إذا كان عليها أي نقطة دم. لم نهتم حتى بالنظر إلى الكرة، وعليه، ضاعت علينا فرصة ولو بهذه الطريقة أن نعرف، هل الملائكة يشبهوننا أم لا؟.


ملابس العمل
شوهد ابرهام لنكولن بعد مائة وخمسة وثلاثين عاما يتجول في شوارع بالتمور وآنابولس و مدن أخرى في ولاية ماريلاند.
كان لينكولن يدخل أي متجر ينتخبه من المتاجر الضخمة، يلمس حافة قبعته العليا، محدثا إنحناءة خفيفة، ثم يمسح بنظراته الحزينة ، التي لا تنسى أرجاء المتجر. بينما يقوم بتمسيد لحيته الغبراء من دون شارب فوقها، وفجأة يخرج من الجيب الخلفي لعباءته الصوفية مسدس ماغنيوم عيار357، وبحذق من لا يعرف أن يناور أو يخطىء هدفه يقول لعامل الخزينة ، الفلوس أو حياتك.
أرتدى كيفن جبسون في خلال شهر مايو عم 2002 زيا مثل ابراهام لينكولن، وتمكن من نهب إحدى عشرة متجرا قبل أن يتم القبض عليه، سيمكث جبسون في السجن سنوات طويلة. غير أنه يتساءل و لماذا ؟ إن كل ما قام به هو أنه كان يقلد أكثر السياسيين نجاحا في بلاده.


المغنية
في البحث عن فرانز كافكا، تجولت في شوارع براغ، تسكعت في صمت محاطا بصمت، بالرغم من جلبة الزحام وضجيج السيارات، لا يهم كيف كانت درجة الضوضاء، ولا كم كان عدد الناس هناك. كانت براغ صامتة مثل كافكا، وحيدة وحزينة من أجله.
نهضت أمراة من مقعدها المتحرك ، وشجت جبين صمت الليل بأجمل صوت سمعته في حياتي . عبرت المدينة من أقصاها إلى اقصاها، كانت ليلة شديدة الظلمة عندما وصلت شارع " كليتنا، وفي ناصيته المطلة على ساحة المدينة شج سكون الليل صوت أمراة تغني. نهضت من مقعدها المتحرك وهزت جدار الصمت بأجمل صوت سمعته في حياتي، كان الصوت الجميل مشدودا على وهج الأسفلت الأسود. لقد غنت تلك المرأة الجرح الباكي لكل الناس الوحيدين في العالم.
كنت واجما، فقرصت نفسي لأتأكد هل كنت نائما؟ أم كنت أحلم؟ وأي عالم كنت فيه؟ ، ولكن كان خلفي صبية يسخرون ويقلدون تلك المرأة الكسيحة ويضحكون عاليا. توقفت المغنية عن الغناء، ونكست رأسها. عندها أيقنت أنني لم أك نائما بل مستيقظا جدا وفي منتصف العالم تماما.

كرامة الفن

عندما بدا عزمي يوهن، أحسنت صنعا إذ تذكرت درسا في كرامة الفن، تعلمته منذ سنوات في مسرح ( اسيس) بايطاليا. ذهبت برفقة هيلينا لمشاهدة عرض لمسرحية صامتة. لم يحضر المشاهدون في تلك الليلة، وعليه كنت أنا وهيلينا الجمهور بأكمله، وعندما خفضت الإضاءة انضم إلينا الحارس و بائع التذاكر. وبالرغم من عدد الممثلين على الخشبة كانوا أكثرمن المشاهدين، إلا أن الممثلين قد عملوا بجدية كأنهم يتحركون على مسرح مفتوح، يعج بالمشاهدين تحت سماء صيفية صافية. لقد وضعوا أرواحهم وقلوبهم في أيديهم في لحظات العرض و ابلوا بلاءا حسنا. هز تصفيقنا أرجاء القاعة فلقد صفقنا حتى تورمت أيادينا. يا ترى لماذا يجعل المسرح الناس سعداء؟.

المصور
يعيش هيلادو شانشز في الظلمة مثل الخفاش، كالخفاش يرىبأذنيه. ولكن الخفاش لا يعرف كيف بلتقط صورة.
وهيلادو مصور بارع. كان قبل عشرين عام مضت لاعبا ممتازا، يلعب لصالح فريق كوبا القومي لكرة القدم. اصابته كرة في الرأس فطرحت أرضا مغمى عليه،آفاق في المستشفى غيرأنه فقد نعمة البصر.
بجانب أنه يرى بأذنيه، يرى بعيون ذاكرته وخياله، ووجد طريقة ليروي بها ما يبصره، آلة تصوير في يده يمارس بها هوايته المحببة. يقيس المسافة بالخطى ويضبط عدسة الكاميرا بدرجة حرارة النهار، أو برودة ما بعد الظهيرة. وعندما يصير كل شيء جاهزا يصوب نحو هدفه المنشود، يقوده الصمت والأصوات.، اللذان لا يكونا ساكنين أبدأ.
يصور هيلادو جيرانه وهم يتكئون على حوائط خدشها الزمن،والمفارش على حبال الغسيل ، وأكواب الشاي المعلقة من مقابضها على دواليب المطابخ، وتثاقل ساعات النهار وحركة الناس، وضوء الشمس والظلال التي تتراقص من خلاله. غير أنه لم يصور القمر أبدأ،برغم أنه يعرفه جيدا، تلمس اصابعه الباردة كل ليلة وجهه. إته القمر يناديه، والرجل الأعمى يمثل دور الأطرش.

الموسيقي
إنه ساحر بقيثارة، وليس هناك في البراراري الكولمبية مهرجان بدونه، ولكي يكون المهرجان مهرجانا يجب أن يكون فيه ميس فجييردو، تضىء اصابعه الراقصة الهواء، وتبعث الحيوية في الأرجل. في ليلة ما، على طريق بعيد، اعتدى عليه مجموعة من اللصوص، كان ميس فجييردو في طريقه إلى حفل زفاف على ظهر بغل والقيثارة على ظهر بغل آخر، عندما اعتدى عليه اللصوص بالضرب حتى أغمي عليه.
عثرعليه احد المارة في اليوم التالي ، على قارعة الطريق كانت ملابسه ملطخة بالدم والطين، أقرب إلى الموت من الحياة، وبما تبقى من له من صوت قال ( أخذوا البغلين) ثم سحب نفسا طويلا وضحك قائلا (وأخذوا القيثارة أيضا) ، بصق دما وانفجر صاحكا !!لكنهم لم يأخذوا الموسيقى!!.

* كاتب وصحفي من أرغواي.
أعلى