فادي سعد - الشعر والمصير في متاهة المعنى

في الفترة الأخيرة ، لم يفارقْ المثل الصيني الشهير مخيّلتي: " صورة واحدة تساوي ألف كلمة ". كانت هذه العبارة تظهر لي في كلّ مكان أهرب إليه : يستشهد بها مُذيع الأخبار على شاشة التلفزيون ؛ أقرأُها في مقالة إحدى الصحف الكبيرة والواسعة الانتشار ؛ أحد الأصدقاء يُذكّرني بها أثناء حديثنا عن مأساة سجن " أبو غريب" .
ليس من المهم الآن أن نعلمَ ماهي الظروف التي أحاطت بولادة مَثَلٍ كهذا ، أو ماذا كان المقصود به تمامًا يوم قيل للمرة الأولى في تاريخ غائر في القدم . ففي عصرنا الحاضر ، استطاعت هذه العبارة أن ترسّخَ في عقول البشر ثنائية قائمة على مبدأ التنافس ، تحكمها القدرات التواصلية والاستهلاكية لكلّ من طَرفيْ المقولة : الصورة والكلمة .
يجد الشعرُ نفسه إذًا ، بتجسيده الأكثر وضوحًا لسموّ الكلمة وبهائها ، في قلب هذه الثنائية التي تفرض نفسها علينا يوميّا وتـفرز بدورها أسئلة تنتظر إجابات صريحة عن موقع هذا الجنس الأدبي في عالمٍ يشكّكُ كلّ لحظة بجدواه وقدرته على الاستمرار والحياة.
- لِمن يُكتب الشعر اليوم ؟
- هلْ يتّجه الشعر إلى احتلال مساحة أكبر في ثقافتنا المُعاصرة ، أم أنّه يتجه إلى القوقعة والانكماش داخل دائرة مغلقة من الشعراء / القرّاء ؟
- هل انهزم الشعر أمام سطوة الصورة وانتشار ذبذباتها في هوائنا، وغرف بيوتنا وشاشات حواسيبنا ؟
- ومن ثمّ ، من تقع عليه الملامة –إذا كان هناك من داعٍ لذلك– في تقهقر جمهور الشعر لدرجة التوسل والاستعطاف ؟ هل تُعزى المشكلة إلى ثقافة مريضة بفقر المخيّلة ، أم أنها تُعزى إلى الشعر نفسه - وماطرأ عليه من تبدّل عبر مرور الزمن - كفنٍّ قادر على التوصيل ، أم أنها أزمة شعراء كما يقول شاعرنا الكبير "محمود درويش" ؟
لاأدّعي أنني أملك الإجابات الشافية للأسئلة السابقة ، أو أنني أسعى لذلك في هذا الملف . ولكنيّ أرى ضرورة التحدّث عن التساؤلات التي تُوجَّه لمعنى الكلمة وموقعها في ثقافتنا المُعاصِرة ، المُحاصَرة بقوانين السوق ورأس المال والتي نجحتْ إلى حدٍّ كبير في إصابة حياتنا الروحية بالمرض لدرجة الاحتضار .

لنعُدْ إلى مَثلِنا الصيني الشهير ومعناه الحقيقي ؛ نتساءلُ هنا : ألا يبدو عالم اليوم كجَسدٍ مُنتفخ بالشحوم الغزيرة ، يحيا بقلبٍ واهن محتقنٍ يوشك على الموت ، تبدو الصورة ضمنهُ كمَن يتآمر على مكانة الكلمة لتبقى هي - أيّ الصورة - السقف الوحيد المُتاح للخيال ؟
لاشك أنّ هذا التحول التدريجي ،من ثقافة الكلمة إلى ثقافة الصورة كبديل رئيسي في توصيل التجربة ، قد أدّى إلى تغيّرات جوهرية في علاقتنا مع الشعر. فالصورة المُعَلَّبة ، تمتلكُ القدرة على الوصول إلى ذاكرتنا ومخيّلتنا دون أيّ جهد ذاتي ، حيث تمارس تأثيرها الفوريّ والحتمي بغضّ النظر عن مقدار التعب الذي نعاني منه أو درجة الضحالة التي يُعاني منها خيالنا الضامر . وعالمنا بدوره لايتوقّفُ عن إرهاقنا إلى أبعد الحدود : متطلّبات المعيشة والنجاح المادي ، الوقت المُكرّس لتغذية آلة الزيت الجشعة. في هذا السباق المحموم على المادة ، تأتي الصورة لتقتحمَ أبصارنا بالسرعة المطلوبة ، كلمحة برق خاطفة ، تخترق لحظتنا الثمينة بتركيز عالٍ لتضعنا في وهم مضيء ، وتُرضي رغبتنا المُستمّرة بالهروب ؛ تنتشل ذاكرتنا المُتعبة لوهلة قصيرة ، ثمّ ........ تنطفئُ. هكذا كما أتتْ ، ستغيب الصورة وتتلاشى لتتركَ لنا مخيّلةً كسيحة ضامرة مُستَهلَكة في ومْضة اللحظة ، مُخلِّفةً وراءها وأمامها ماضيًا ومستقبلاً من فراغ . هذا هو قصور الصورة بالذات ، كونـها آنية، تفتقدُ أيّ عمق أو امتداد ، تفتقدُ أيّ كثافة تحافظ على تماسكها أبعد من اللحظة الحاضرة ، لتَبقى بعدها الروح مدمنةً على هذا الشريط السينمائي المستمر من الصور المُتلاحقة التي تمنحها إحساسًا سرابيًا بالحياة .
نذكرُ كلّنا الانغماس الكلّي الذي يصيبنا أثناء مشاهدتنا لفيلم سينمائي شائق . ثمّ ماذا ؟
ماذا يتبّقى لنا بعد ذلك في الذاكرة . قد نستذكرُ بعض الصور كخيالات بصرية بعيدة ، ولكن العبارة الخالدة مايجعلنا نتأثر ونتغيّر في الأعماق . تزول الكثافة الآنية ليبقى صدى الكلمة يتردّد في أصقاع وعْيِنا .
الكلمة هي الوحيدة القادرة على ربطنا بماضينا الجميل والخالد ، الوحيدة القادرة على حمل النبوءة إلى الأجيال القادمة ، الوحيدة القادرة على تخليد التجربة الإنسانية وإنقاذها من موتها المحتم برصاصة النسيان البشري.
يحقُّ لنا أن نقلق إذًا حول ماتفعله ثقافتنا البصرية في وعينا اليوميّ. فمعَ مرور الزمن ، أصبحنا معتادين على هذا النوع من التلقّي المُسطَّح على حساب عمق التأمل والاستقراء في غاية المعنى. حِسُّنا الجمالي أضحى محكومًا برغبة بائعي الصور من مُنتجي الأفلام وأمَراء الإعلان وصُنّاع الخبر ؛ وغرقنا أكثر فأكثر في هذا الخدَر القاتل للحواس . بعد هذا الاعتياد التدريجي والتحطيم المنهجي لقدراتنا التخيّلية ، يأتي الشعر ليهبطَ على أرض يباب ، حيث لاتربة صالحة للحياة ، فيعاني من أعراض الاختناق ، يبحث يائسًا عن جذوره التي تجفّ شيئا فشيئا في هذا الهشيم .

هل نحتاج فعلاً لأن نطرحَ كلّ هذه الأسئلة ؟ بمعنى آخر ، هل نحتاج الشعر ؟ أليست الصورة هي العرْض الأدق للعالم الذي نعيشه والشعر هروبًا من حاضر يتطلّب منّا انتباهنا الكلّي ؟
إنّ هذه المقارنة بالذات هي إحدى إشكاليات الفهم الخاطئ للتجربة الشعرية. فالعبارة الشعرية في امتدادها الزمني تنقلنا لوعيٍ أكثر اتساعًا ، لوعيٍ علويّ يرنو إلى الحاضر مستندًا على إرث التاريخ وآمال المستقبل . تُخرجنا الكلمة من وعي الدودة لوعي شمولي هو الوحيد القادر على رؤية الجمال المستتر في الحاضر ، جمال لايمكن أن يُرى إلاّ من العلاء.
في هذه الثنائية المعاصرة التي نحاول فهمها ، يُمكن أن يُـنظر إلى الشعر من موقع الضحيّة فقط ، ولكن هذا أبعد مايحتاجه الشعر الآن ، فهو يتحمّل نصيبه من التفسير في هذا الافتراق الحاصل بين الشعر وجمهوره وسأعود لذلك لاحقًا ، ولنبقَ قليلاً في مسألة الوعي الشعري وارتباطه بالمُحتوى / المدلول الخاضع لهذا الوعي ، حيث تُشكّل هذه العلاقة مشكلة من الناحية الإدراكية ، على المستوى النظري على الأقل. فانطلاقًا من موضوع واحد يمكن أن نصلَ إلى إدراكين مختلفين متعلّقين به، إدراك موضوعي مُجرّد يتعلق بالقيمة الجمادية أو الإخبارية لهذا الموضوع المُتناول ، كأن نتحدث عن القمر بصفته كوكبًا من الكواكب المحيطة بالكرة الأرضية ، ويمكن أن نسمّي هذا الإدراك للأشياء بالوعي الدوديّ ؛ وإدراك آخر ذاتي ذهني ، يتعلق بحقيقة ذاتية تتولّد لدى المُتلقي ، وتكتسب بعدًا عاطفيّا خاصًّا ، حيث لايعود القمر يعبّر عن حقيقة علمية فقط ، بل يتعدّى ذلك إلى بُعْدٍ جماليِّ إيحائي ذي تأثير فعّال على محيطه ، يبرز من خلاله الوعي الشعري للعالم. هل يرتبطُ الوعي الشعري إذًا بالذات المفردة ؟ أو بمعنى آخر ، هل يقوم الوعي الشعري بتحوير المعنى الحقيقي للأشياء ؟ قد تتجاوز الإجابة حدود الدراسة الشعرية فقط ، ولكن في إطار المُناقشة هذه نستطيع الجزم أنّ الشاعرية ليست إضافة لغوية إلى العالم المُحيط بنا ، أو ثوبًا تمنحه لغة القصيدة لصورة الموضوع. فالشاعرية هي حقيقة تدخل في صلب الأشياء ، لاتقوم اللغة الشعرية بابتكارها، بل تقوم باكتشافها فقط وعرضها على الملأ.
تسعى القصيدة إلى فتح عيوننا لرؤية حقيقة أخرى مُختبئة خلف غبار التعب واللهاث والفقر الروحي ، الوجه الآخر لهذا العالم ، الوجه الشعري الأكثر صدقًا وحقيقة وجمالا. الحقيقة التي تنقلها القصيدة تدخل في صلب وظيفتها الفاعلة ، وهي وظيفة ناقلة لشاعرية موجودة خارجها.
هذه الشاعرية التي تبقى خافية للأسف على عدد كبير من البشر، يُعرّيها الشاعر ذو الوعي المختلف ويقدّمها لنا على طبق من قصيدة. وإنّ عدم رؤية هذه الشاعرية من قبل البعض لاينفي حقيقتها أو يقلّل من وجودها ، فمثال الإنسان المُصاب بالعمى الشعري هو الغالب في عصرنا الحالي ، وهذا مايمنحُ الشعر والشاعر رسالتهما الأسمى ، فبدونهما سيفقد العالم صوته الأكثرَ جمالاً ، الأكثر أصالة ،والأكثر خلودًا ؛ بدونهما سنعيش في عالمٍ بلا قلب ، وما أحوجنا إلى قلبٍ لهذا العالم البارد ...
هل يفسّر قولنا السابق بعضًا من صعوبة الفهم الذي تُتهم به القصيدة الحديثة ؟ فالمُصاب بالبلاهة أو البلادة الشعرية في فهم الكون ، الغارق في بريق المادة ، سيصعب عليه استيعاب شعرية قصيدة والمعنى الأعمق الذي تريد كشفهُ. هذا قد يفسّر جزءًا من معضلة الشعر الحالية، ولكن جزءًا منها فقط .

في بدايات الشعر ، كانتْ أهميّة الإلقاء الصوتي تفوق أهمية الغاية المعنوية ذاتها في عالمٍ امتازَ ببراءة الأذن والحواس . كانت وسائل الاتصال سمعيّة الطابع وعالم الصورة محصورًا في إطارٍ مكاني مُحدَّد ، مما فرضَ على الشعر شكلاً خاصًا ليزيد من قدرته التأثيرية. كان إمتاع الأذن ضرورةً تناقصَتْ بالتدريج مع تطور التأثيرات الحواسية المُرادفة على جميع المستويات ، ممّا ساعد على ظهور التحولات الكبيرة في الكتابة الشعرية. من هنا بدأتْ العلاقة بين الشكل الشعري والمعنى الشعري بالانزياح ، وانتقل مركز الثقل من مفهوم " معنى الشكل" إلى مفهوم "شكل المعنى " الذي أراد أن يتحرر من قيودٍ وعادات مُتَّبعة في الكتابة الشعرية . بدأ التصدّع بالتالي يظهر في قناعات التقيّد بالوزن وأشكاله المختلفة ، يقابله على الطرف الآخر الخوف من الانفلات الحر - وهو خوف له كلّ مبرراته – لكنه لم يكن كافيًا لوقف عجلة التغيير.
مع ظهور المدرسة الرمزية في الشعر، بدأت درجات الانزياح اللغوي وعدم المُلائمة في اللغة الشعرية بالازدياد المُطّرد ، وترافَقَ هذا الازدياد مع ازديادٍ موازٍ في درجة افتراق الشعر عن جمهوره. وصلَتْ درجات الانزياح وعدم الملائمة إلى أقصى درجاتها مع ظهور الحركة السريالية ، حيث اختلط المعنى باللامعقول وازداد معه افتراق القارئ عن الشاعر وإنتاجه ، وتجاوزتْ عدم الملائمة النقطة الحرجة التي يستعصي بعدها فهم القصيدة على القارئ ، مهما كانت درجة ثقافة هذا القارئ ، ومقدار حبّه واهتمامه بالشعر .
طبعا لايُنتظر من القصيدة أن تُعجِبَ أو أن تُفهَمَ من قبل الجميع، ولكننا نتحدّث هنا عن قارئ مُهتم ومطلّع ، يبذل جهدهُ ليبقى على اتصّالٍ مع فنٍّ أحبَّهُ ، قدَّم له عبر العصور غذاء روحيًّا حيويًّا لنموه الإنساني. وإذا كان صحيحًا أن الشعر يحمل في خصائصه الوظيفية إعادة خلقٍ للّغة ، فإنّه مُطالَبٌ – من قرّائه على الأقل- بالحفاظ على إحدى أهم وظائف اللغة ، ونقصد هنا : توصيل المعنى .

يطرحُ الآن الشعر على نفسه أسئلة مُستحقة : ماهو تعريف الشعر الجيّد ؟ وأين تكمن جمالية القصيدة ؟ وماهو مستقبل الشعر كما نراه اليوم ؟
كلام كثير كُتِبَ مُحاولاً الإجابة على هذه الأسئلة ، وكلام كثير سيُكتَبُ . ومن الممكن التطرق إلى الموضوع من الناحية الأسلوبية فقط ، ولكن أسلوب الكتابة الشعرية مرتبط بشكل وثيق جدًّا برسالة الشعر المُنتظرة وما يطمحُ إلى تحقيقه في ظروفِ عصر مُتغيّر ، مُختلف دائمًا عمّا سبقه . وإذا كنّا ننتظر من النقد التنظيري أن يُساعدَ في صياغة وتأطير التغيّرات التي يمرّ بها الشعر ، يبقى الشاعر هو الناقد الأكبر لإنتاجه والأكثر تأثيرًا على مساره ، فالنقد الأكاديمي ،كان – ومازال- يتبع دائمًا ركب الإبداع. وإذا كان الشعر قد وقعَ ضحيّة التجديد الذي أراده لنفسه ، فمن المُؤكّد أيضًا أن العقل الخلاّق يُعيد النظر في طبيعته دائمًا ، وهذا ينطبق على الفن أكثر من أيّ شيء آخر بحثًا عن الطريقة الأمثل لإيصال رسالته السامية .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى