أ. د. بشرى البستاني - الهايكو العربي بين البنية والرؤى ( 2 – 2)

الهايكو قصيدة مكثفة مكتفية بذاتها وإن كانت بثلاثة أسطر، وليست مقطعا في قصيدة طويلة تتكون من مقاطع عدة ، ولذا فهي لا تحتاج لغيرها كي يكتمل معناها ومن أجل ذلك ، لجأ بعض شعراء الهايكو الى وضع عنوان لكل هايكو كما وجدنا في مجموعة الأسعد "تهمس البوكنفيليا مثقلة بأزهارها الحمراء" تأكيدا لاستقلاليتها . إن المهتمين بفن الهايكو يُجمعون على أن بناءه يقوم عضوياً على ثلاثة أسطر ، وأن التشكيل فيه يتنوع بحسب قدرة كاتبه وثراء أدواته بعيداً عن التجريد والتشبيه والأفكار المباشرة ، ويُعدُّ هذا التشكيل سمة الهايكو الأساسية في تجسيد العواطف والأفكار كما يؤكد رائد الهايكو العربي الشاعر محمد الأسعد أول الشعراء العرب الذين ترجموه وكتبوه بتمكن ووعي بطبيعته وظروف نشأته ومرجعياته وسمات فنه ، مواصلاً انّ هذا الفن في تكثيفه اللغوي يتجنب كل ما يقف حائلا بين الشاعر وموضوعه من تشبيه ومجاز وتجسيد وتشخيص انطلاقا من ضرورة الوصول للحظة ادراك قصوى حيث لا شيء يشبه شيئا ، فاعتباطية العلاقة بين ركني العلامة حسب سوسير كرست الالتباس والمابين . ولكونه يصور الأشياء في طبيعتها الحركية ضمن اعتراكها الحيوي وفاعليتها العارمة إذ تتجلى لحظة الاستنارة التي غادرت التمزق وانقسام الوجود الى ذات وموضوع الى لحظة اكتشاف الكيننونة العميقة في الكون. كما يشير لأهمية الانتباه لسمة الانسجامات اللغوية التي تنسج خيوط ثلاثة أسطر بجمالية جرس الالفاظ والحركات الاعرابية والميزان الصرفي لما لها من دلالات شعورية في اللغة العربية ، فضلا عن السمة البصرية التي يسميها الاسعد "لغة الحضور" وصولا الى لحظة الاستنارة. (محمد الأسعد ، مقدمة مجموعة "تهمس البوكنفيليا.... 97-99" ، ضمن الأعمال الشعرية) كل ذلك يمنح الإنسان ما يحتاجه من صفاء ونشاط ذهني ومن إثارة وفرح بلذة الكشف ، ومن قدرة على التعلم من مرونة الطبيعة ورحابتها لنقل هذه المرونة الى التعامل الإنساني بعيدا عن التسلط والتعسف والوقوف عند الرأي الواحد والاستبداد بصنع قرار أحادي ، وذلك بسبب ما تتيحه قراءته من تعددية وانفتاح .

ولدى تأملنا هذه التجربة نجد أن في الشعر الاعتيادي مجالاً لتمارسَ اللغة وظيفتها التواصلية بين آنٍ وآخر كي تمنح مجالا للوظيفة الشعرية أن تكشف عن جمالياتها ، وطولُ القصيدة يسمح بهذا التراتب ، أما في الهايكو فليس ثمة حيزٌ لفعلٍ غير شعري لشدة الإيجاز اللغوي واقتصاده ، وذلك يوجب على الشاعر الاختيار الدقيق لكل مفردة ، وكل حرف والانتباه لمحوري الاختيار والتأليف معا انتباها بالغ الدقة ليكون المشهد المكثف التقاطة سريعة مكتنزة بفتنة البساطة ، ومؤدية لمقاصدها وقادرة على السمو باللغة العربية الثرية وذات العمق التاريخي والحس الفني إلى مستويات أكثر خصبا بعد أن أهلها القرآن الكريم لذلك . لقد تمكنت سمات فن الهايكو الياباني لرحابتها من عبور الشعر إلى فنون ومظاهر حضارية أخرى كما يشرح نقاده ، واستطاعت أن تتجاوز حدود بيئتها ومنشأ وجودها في اليابان إلى آداب الدول المختلفة في بلدان الشرق الأقصى وآداب الغرب ، فحضرت في بلاد الهند والصين وروسيا وأوربا وأمريكا ،بسبب قدرة هذا الفن على مخاطبة روح الانسان أينما كان ، وكون لعبته الفنية تشتغل بمفردات الطبيعة التي تعد أم البشرية المشتركة ، فضلا عن قدرته على التكيف مع متغيرات الزمن وتباين الحضارات ، ولهذه السمات التي ميزته من حيث دقة التشكيل التي تراوغ القارئ ببساطة تخفي طاقة كبيرة على بث الدلالة ، ولما يحمل من دعوة لخلاص إنساني عام يمكنه من تحقيق سلام الروح وطمأنينة النفس وتوفير الشعور بالأمن الداخلي . ولعل غنى اللغة العربية ومرونتها ورهافتها وثراءها ، أتاح وسيتيح لكتاب الهايكو العرب والمجربين اكتشاف نجاح مهم في تحقيق جماليات جديدة في شعريتنا العربية ، لا سيما وأن الهايكو العربي سيطوع النموذج للتعبير عما تموج به حياتنا العربية من معاناة ومكابدة ومحن وفقدان وتراث معرفي ، وعما يعتلج في النفس من أسئلة محنة وجودية ومشاعر اغتراب سببتها مادية الحضارة المعاصرة وعدوانيتها ، كما سيعبر عن لحظات فرح يتيحها هذا التوجه لفضاء الطبيعة الجمالي وما يمنحه للانسان من صفاء ولحظات عذوبة نقية ، لكن بأسلوب جديد ، مما سيؤدي إلى توسيع أفق هذا الفن الذي بدأ بالحوار مع الطبيعة وزهرها وشجرها ومائها وفراشاتها وحيواناتها ، لكن كل ذلك لا يطرح مباشرة بل عن طريق التكثيف والمفارقة والايجاز الذي يبث مقاصده بوساطة الإيحاء الذي يُعدُّ روح الشعرية وسمتها المهمة . ولعل النماذج المطروحة من نصوص الهايكو العربي تتيح للدارسين فرصة الكشف عن طرائق بنى الهايكو في دراسات تطبيقية تأخرت كثيرا في العمل على فحص هذه التجربة والكشف عن خصوصيتها في الثقافة العربية ، لما في ذلك من أهمية في إضاءة التنوع والتلوين في التشكيل الهايكوي العربي ما بين الحركية والتوازن ، ما بين حضور الأسس وتنوع التشكيل ، ما بين قطع ووصل وتقديم وتأخير ، وبين طرائق تشكيل المطلع والانتهاء بالقفل ، فضلا عن الدور الذي يلعبه اختيار المفردة وإيقاعها في السياق ، ومدى تفاعلها مع كلية النص في بناء هذا الفن .

**
إن ماكس جاكوب يعطي في المقدمة التي كتبها لمجموعة قصائده النثرية ، أهمية خاصّة للبناء الشكلي ، فالقصيدة في نظره مادّة مبنيّة قبل كلّ شيء والمعوَّل عليه في بناء شعريّتها مقوّمان اثنان أطلقَ عليهما مصطلحي الأسلوب والوضع ، ومقصده بالأسلوب يتّصل بإرادة الخلق أي بالوعي الفنّي المنظم الذي لا يقتصر على لغة الشاعر وإنما يشمل كل ما يحقّق وحدة العمل الفنّي في جوهره المتماسك والمفصح عن بنية مغلقة صارمة لشدة إيجازها لغويا وانفتاحها دلاليا ، وهنا يكمن سر شعريتها . وأمّا الوضع فيتعلّق بما يثيره العمل من انفعال جمالي في المتلقّي، فالإرادة الواعية هي التي تجهد في العمل على خلق نصٍّ ينبغي أن يكون كلاّ عضويّا مستقلاّ ، تشتغل في بنائه حيوية الفكر وفاعلية التنظيم ، من خلال رؤية واضحة للوجود وموقف من العالم وأحداثه ووقائعه ، فالوعي الفني اليقظ والإرادة القاصدة لكتابة هايكو يعبر عنا وعن حياتنا هو ما يحتاجه فن الهايكو العربي ؛ فبالوعي يكون قادرا على الاقتصاد غير المخل باللغة ، والبث العارم بالدلالة ما استطاع لذلك سبيلا ، من خلال بنية تتواشج فيها شبكة العلاقات بانسجام ما بين مستوياتها التركيبية والإيقاعية والدلالية بأبعادها التشكيلية. لقد عرفت الشعرية العربية الحديثة أنماطا كثيرة من الانبثاقات الجمالية التي تقترب من فن الهايكو في ومضاتها وضرباتها ومفارقاتها ورباعياتها ، لكنها تختلف في الرؤية وفي البنى والتشكيل كما مر سابقا.

**
إن مقطع الهايكو كثيرا ما يرد بثراء بصري حاذق ، فهو لقطة بصرية ، وهذه السمة البصرية بتشكيلاتها اللونية ووضوحها الحسي الصوري واللمسي والسمعي تمنح الشعرية جمالاً وتناغماً ومزيدا من القدرة على الكشف . فالطبيعة بكل خضرتها وتضاريسها وتفاصيل مكوناتها ليست هامشا في الهايكو ، ولا ظرفاً مكانياً معزولاً عن حركية الإنسان والمخلوقات الأخرى ، بل هي جزء حميم من الكل الكوني المتواشج والمتكامل بحميمية مَرة وبانتهاكات ونكاية أخرى ، وكونيته تحمل في فنيتها دعوة مهمة إلى تنمية حضارة الصمت ومغادرة التوتر الذي أشاعته ضوضاء حضارة مادية ذات إيقاعات صارخة في فنونها وتقنياتها ، حضارة ابتكرت للإنسان تقنيات هائلة من وسائل الراحة ، لكنها أرهقت روحه بانشغالاتها المادية وضوضائها ، وأشاعت في حياته الارباك والصخب والفوضى ، ووصفت الفوضى بكونها خلاقة خِداعا للشعوب وتضليلا بكون هذه الفوضى ستنتج الديمقراطية والتحضر ، ويأتي فن الهايكو في هذه المرحلة من حياة الثقافة العربية المربكة رد احتجاج على كل ذلك الصخب ، بهدوئه ودعوته للتأمل والحث على الصمت الحضاري.

إن الهايكو لعب فني جديد في أدبنا العربي ، لعب لم يسبق له أن وجد بهذا الحضور والانتشار بين شعراء العرب من الشباب ، وإذا كانت اللعبة الشعرية تكمن في عدم الذهاب الى المعنى المقصود مباشرة ، بل بطرق مُلبسة لاستقبال القارئ الجمالي ، فإن اللعب كما يؤكد هانز جورج جادامير شيء أكبر من وعي اللاّعب ، ولذا فهو أكبر من كونه فعلا ذاتيا، واللّغة شيء أكبر من وعي المتكلّم ، ولذا فهي أكبر من كونها فعلا ذاتيا ، وهذا ما قد يُوصَف بأنه تجربة للذات إلى جانب تجارب عدة . نعم ، اللعب الفني أكبر من وعي اللاعب ؛ لأنه وعي مرحلة وأزمات ووقائع ومكابدة تتكثف في وعي الفنان / الشاعر لتصل به الى لحظة الاندماج فالكشف ، وما يكتنف كل مرحلة من متطلبات ، وبديهيٌّ أنّ لكل مرحلة لعبتها الإبداعية الجديدة ، ويكون للعبة المتقنة تألقها ، فاللعبة الفنينة تسقط كليا إن لم تتقن قوانين توازنها ، وهكذا يكون الشعر مشعا حين تكون الشعرية كامنة في بنية النص، تضمر جمالياته الخاصة عبر المكون البنيوي وليس عبر الجماليات عالية الصوت من مجازات وأوزان وقوافٍ ، وهي في كثافتها تطلق إشارات وفي إيحاءاتها دلالات وفي تقلباتها ومفارقاتها إحالات ، فتكون شعرا مرتين ، مرة بما تكون ، وثانية بما تعني كما يؤكد ابن رشيق.

**

إن المطلوب من العملية النقدية التي أصيبت بخمول كبير في الثقافة العربية لأسباب ليس هنا مجال طرحها ، أن تحيط الهايكو العربي برعاية خاصة كما يفعل اليوم تجمع الشعراء في موقع المثقف من أجل تطويره وتكريس سماته العربية ، فالناقد الحقيقي مبدع لا يغادر التجريب هو الآخر مع كل نص جديد يقاربه ، ومع كل نص إبداعي يثابر الناقد الجاد في تطوير أدواته النقدية ويُثريها ، الناقد المبدع يوسّع أفق التجارب الإبداعية وينير لها طرائق رؤى جديدة من خلال الكشف وإثارة الأسئلة وحوارية الوعي . الهايكو العربي بحاجة لمتابعة النقد كي يُرسي ركائز لهايكو يحافظ على قواعده الأساسية ويحمل سمات عربية إنسانية أصيلة في التعبير عن المحنة ومكابداتها ، وعن جماليات الحلم العراقي والعربي وأصالة حضارته التاريخية ، وعن بهاء دجلته وفراته ونخيله ، وعن خضرته وجباله وزنابقه وغاباته وحدائقه المعلقة على الأمل ، وعن إنسانه الكادح الصابر الذي ظل يحلم بالأمن والسلام ، وهذا كله ليس لذاته ، بل من أجل أن يحيا الإنسان آمنا ومسالما ومعلياً قيم الحب والتسامح والالفة في وطنه وفي كلّ أرجاء العالم . إن النقد عين راصدة بحرص من أجل ألا يفقد الهايكو خصائصه المهمة على أيدي المستسهلين وغير الموهوبين من محبي الشهرة ، إن تواصُلَ متابعة الزملاء الرواد من مبدعي العراق على موقع المثقف والناقد والحوار والنور والفكر والمواقع الأخرى ، قضيةٌ مهمة تنم عن إخلاص للإبداع العراقي واهتمام بثقافته الرائدة في هذا التجمع الإبداعي المثابر سواء على مستوى كتابة الهايكو أو النقد أو الترجمة عن لغات عدة . إن ما يؤكد عليه الزملاء كتاب الهايكو العربي ، وما يستحسن تكراره مراراً أن الهايكو الذي نكتبه ونهتم به هو هايكو عربي وليس يابانيا ، هايكو يعمل بمثابرة على ترسيخ روحه واشتراطاته النظرية من خلال النصوص التي يكتبها الشاعر العربي عبر أقطار الوطن كلها. لقد عمل المبدع في هذه الأقطار من خلال النصوص المنشورة ، ولا سيما على أيدي الشعراء المبدعين أصلا على تطويع هذا الفن لظروفه ومعاناته ومشاعره ، ومتطلبات لغته العربية مفيدا من كل الجماليات التي تتيحها ، فالفن الأصيل يقاوم النمطية والنموذج وينزع للتحول والتطور والانفتاح والعبور..

**

ولا تفوتني الاشارة هنا وأنا أتأمل فقرات مسبحة الهايكو المهمة تعليميا (مسبحة الهايكو/ جمال مصطفى / المثقف 11-5-2015) ، إلى أن الشاعر الموهوب يحتاج أول ما يحتاج إلى القراءة المتأنية ، قراءة النماذج الجيدة عربية ومترجمة ، ويحتاج الاستيعاب والفحص والكشف والموازنة ليثري مقدرته على قول الجديد والجميل ، على أهمية إدراج التقنيات والتعليمات بوصفها خبرات لمبدعين يمكن الافادة منها في عملية البناء ويمكن محاورتها ومخالفتها أو رفضها ، وقد أكد الزميل مصطفى ذلك في نهاية فقرات المسبحة قائلا "أن كل ما جاء في تلك المسبحة صحيح وضروري بشكل عام ولكن الشاعر المبدع قد يتجاوز كل ذلك ويبدع متناقضا معها كأحكام عامة ، لكن ليس قبل ان يستوعبها تماما ، بمعنى لا يمكن تجاوزها إبداعيا دون استيعابها ، وهذا لن يكون إلاّ بعـد مراس طويل وعبقرية شعرية ليست في متناولنا الآن"

**
أما فقرات هذه المسبحة ، فإن الشاعرجمال مصطفى يخبرنا أنه سيورد منها ثلاثا وثلاثين خرزة يحتاجها شاعر الهايكو العربي عبر نقاط كتبتْ ما يُشبهها في موقعها سيدة الهايكو العالمي المعاصر، الشاعرة جين رايتشهولد وفي نقاطها تركيز على ما يخص الهايكو بالأنجليزية ، وأنه أخذ منها بعض النقاط العامة وأجتهد في ما يخص الشاعر والقارىء العربيين بتبسيط مقصود متناولا سمات وخصائص الكتابة الجيدة للهايكو ، وسنورد معظمها في هذه الملاحظات :
- يتنفس الهايكو حيا ً بثلاثة اسطر على أن يكون ذا رأس ومتن وخاتمة، وأي خلل يُصيب هذه البنية ينعكس اعتلالاً في صحة الهايكو وكذلك يُربك القارىء ويشوش عليه الـتـلقي. وحين يُكتب الهايكو بسطرين أو أربعة أسطر أو اكثر ، فإن في ذلك خروجاً على القاعدة ، أي على ما يجعل الفن ممتعـاً ، لكن ذلك لم يمنع شعراء رواد ومبدعين من التلاعب بعدد الاسطر ، محافظين على روح الهايكو الأصلي.

- أن يكون السطر الأول لافـتـاً للنظر وليس طويلا.

- من الأجمل أن تتأخرالكلمة التي يومض بَعْـدَها ضوءُ الهايكو في مخيلة القارىء الى نهاية السطر الثالث إذ يكتمل الهايكو بها ، ولا فائدة بأي كلمة تجئ بعدها لأنها ستظل زائدة .

- السطر الثاني هو السطر المخصص للحشوة أو الجملة التقريرية أو شبه الجملة وهي عادةً تفصل ما فوقها عـما تحتها ظاهرياً وتربطهما شعـرياً في العمق ، وهذه السمة لا أظنها دائمة في الهايكو العربي لأن تشكيله ولا شك سيختلف قليلا أو كثيرا عن الأجنبي.

- ضرورة تَجنّب اللغة َ المجازيةَ والتشبيهات والزخارف الشعرية ولا سيما المتعمدة ، فالزورق في الهايكو زورق حقيقي وليس (زورق الضوء) والزهرة زهرة حقيقية وليست زهرة الأمل وقِـسْ على ذلك. لكن ذلك لا يحجب الطاقة الدلالية الكامنة في تشكيل الهايكو.

- كتابة ما يكسر توقع المتلقي ، واللعب على المألوف ، وهذا لا يعني الـقفز نحو الغـرائبيات بل الحث على اقتناص موضوع الهايكو من زاوية غير متوقعة.

- أن يكون الهايكو سهلاً وبسيطا ً مِن الخارج ومنطـويا ً على معـنى عـميق تحت السطح.

- شاعر الهايكو يجعل من المهمش والمهمل والاعتيادي شيئاً جميلا ً ، وذا قيمة معنوية لا يلاحظها الناس عادة ً في زحمة انشغـالهم بالواقع أو من فرط تشبعهم بما هو رتيب.

- اللعب بالكلمات وعلى الكلمات إذا كان ذلك يجعـل من الهايكو جميلا وذكيا ، ولا سيما أن اللعب باللغة سمة مهمة من سمات اللغة الشعرية.

- من سمات الهايكو الجيد ، كتابة الغرائبي بطريقة مألوفة والكتابة عن المألوف بطريقة غرائبية.

- عدم الانصراف للحديث عن الذات ، وهذا لا يعني الامتناع عن ذكر ما يخص الشاعر ولكن الهايكو لا يركز على فعل المتكلم كما تصنع القصيدة.

- من سمات الهايكو التلاعب بترتيب السطور بحيث يخلـق الشاعر بذلك التلاعب غـموضا ً محبّباً .

- يمكن الافادة من الايقاع البصري لطباعة الهايكو حروفاً وعلاماتِ ترقيم ، بما يعبر عن جمالية ودلالات معا.

- كل شيء موجود من حولنا يصلح أن يكون مشروعَ هايكو.

- رُبَّ صياغة بارعة جَعـلتْ من فكرة عادية هايكو جميلا والعكس صحيح ، فهناك مشاهد والتقاطات جميلة ، ولكن الشاعر يبددها إذا لم يستطع صياغتها بشكل جيد.

- عدم الاكثار من الأفعال في الهايكو ، لأن الأفعال الكثيرة تشتت التركيز على النقطة الرئيسة التي يراد إبرازها من جهة ، وقصر الهايكو لا يحتمل كثرة الافعال من جهة ثانية ، ولا يفضل اختتام الهايكو بفعـل على الاغلب.

- الهايكو قصيدة من ذوات الفلقتين وهذا يتطلب أن يكون هناك كسر في جريان السياق يحسه القارىْ حين يقرأ الهايكو ، بمعنى أن ينكسر التسلسل المنطقي والطبيعي لسياق التشكيل ، وكأنّ هناك (فجوة ـــ مسافة توتر) بين طرفين في كل هايكو.

- استخدام الفعل المضارع أو ما يشير الى الزمن الحاضر أو الديمومة فالمضارع يوحي بطراوة التجربة وأهميتها ، حتى كأن القارئ يعيش تجربة الهايكو الآن.

- من المهم التخلص مِن تراكم بعض الحروف الرابطة أمثال :( أو، أم، ثم، كما ..) وغيرها مما لا يتحمله جسد الهايكو الصغير وتجنب تكرار الكلمات ما أمكن ؛ فالهايكو يكتفي بالتلميح والأشارة.

- النكرة أقدر على التعبير في الهايكو لقدرتها على التعميم ، وكذلك تجنب الاكثار من ظروف الزمان والمكان.

- الابتعاد عن الشعرية الجاهزة والـمستهلكة من فرط التداول.

- من الممكن توظيف الوزن الشعري (على طريقة شعر التفعيلة مثلا) لصياغة هايكو بمواصفات معينة تخدم مضمون ذلك الهايكو ، وحتى الشعر العمودي بشرط توزيع كلماته على ثلاثة أسطر وهذا راجع الى مهارات الشاعر وقدرته على الأقناع شعريا ً، وأضيف لملاحظة الزميل جمال مصطفى أن بعضهم كتب قصائد عمودية تعتمد وحدة البيت ، لكن الفاحص يجدها لا تمت للهايكو بأية صلة.

- يستطيع شاعر الهايكو توظيف مفردة عامية داخل سياق الهايكو أو كلمة أجنبية، كل شيء جائز إذا كانت تستوجبه خصوصية هايكو بعينه وهذا ليس غريبا على الشعر في كل مراحله ، وكذلك المزج بين سطرين من لغة وسطر من لغة اخرى وارد ايضا شرط ألّا يعـيق ذلك وصول المقصود من المزج الى القارىء.

- الهايكو قصيدة كاملة لا تحتاج الى سرب معها حتى تكون قصيدة بل ان عبقريتها وجدارتها بوصفها قصيدة تتجسد في كونها زهرة تعادل حديقة.

**

ومثل ذلك ما قدمه الزميل نفسه في مقال بعنوان (تقنيات الهايكو الشائعة / جمال مصطفى / 3-5-2015) على صحيفة المثقف الألكترونية ، والتي استقاها من مهتمين بالهايكو الامريكي مستخلصة من نماذج يابانية وأوربية فيها من الفوائد التشكيلية ما قد يهمُّ كاتب الهايكو ، وسنحاول اختصارها كما يأتي:

-تقنية :( ماذا، متى، أين): وهي تقنية شائعة ، ونجاحها يتوقف على كيفية تأثيث شاعر الهايكو لقصيدته معتمدا على: (ماذا، متى أين) التي تضمر في دلالتها نوعا من السببية مثال:

غصن أجرد (أين)
غراب (ماذا)
عتمة الخريف (متى)

-تقنية المجاورة والمقاربة: وهذه تقنية معروفة وشائعة يلجأ فيها الشاعر الى اختيار فلقتي الهايكو المختلفتين ظاهرا ، المتناغمتين باطنا ، ولابد هنا من رابط دلالي يجمع الطرفين بخفاء مثال:

ضباب تشرين
عمتي العجوز
تسأل من أنا

إذ تجمع ضبابية الرؤيا بين سطري الهايكو: ضباب تشرين والعمة العجوز.
-تقنية التفتح التدريجي: وهي تقنية شائعة حيث تكون الضربة الأخيرة هي تمام الفكرة وذروتها ، لأنها تعطي لما قبلها قيمة في بنية الهايكو ، وهذه القصيدة لباشو مثال يمهد فيه كل سطر لما بعده :
على جرس المعبد
تنام
فراشة

-تقنية الأنتقال من العام الى الخاص ، أو العكس أو من الكلي الى الجزئي أو العكس مثال:

السماءُ كلُّها
في حقل الزهور الفسيح
زهرة خزامى

فزهرة الخزامى زرقاء في العادة تميل الى البنفسجي قليلا ومن ينظر لهذه الحقول يظنها لزرقتها قطعة من السماء.
-تقنية التلغيز: وهي من التقنيات التي يتم حل لغزها في السطر الثالث ، والأفضل ان تكون الكلمة الأخيرة في الهايكو هي الجواب أو حل اللغز مثال:
الزبون يشتري لغيره
البائع يطرد فكرة الأحتفاظ بواحدة
محل بيع الشواهد

-تقنية اللعب على الكلمات: وهذه التقنية يعرفها الشعراء جميعا بحكم التصاقها باللغة التي يكتبون بها واللعب هنا يتخذ أحيانا شكل التورية أو الأستفادة من الجناس أو ما يفهم منه أصحاب تلك اللغة شيئا خاصا غير مصرّح به ، أعني ان الفاظ الهايكو الخارجية تقول شيئا والمتلقي يفهم شيئا آخر ، ويمكن تقريب الصورة بما يقصده العراقيون حين يُسألون عن سعر مادة ما فيجيبون: (دفتر) ويقصدون مئة ورقة ، فئة الورقة مئة دولار .
وهنالك الكثير من التقنيات الفرعية والصغيرة وما بين بين ،او التي تجمع تقنيتين في هايكو واحد، وهناك تقنية التضاد وتقنية التناقض وتقنية المشهد وتقنية التعليق على شيء يعرفه القارىء كأنْ يكون الهايكو تعليقا على لوحة أو أغنية ، ويؤكد الشاعر جمال مصطفى أن الهايكو قصيدة من جزئين وأحيانا ثلاثة ، ومابينهما الشاعر المتخفي في الظل ، ولكنه هو الذي يحرك المشهد بحيادية ظاهرية وانغماس كلي في ما هو خلف هذا الظاهر ، يقول سالم الياس:

شجرة نبق الطفولة
عصافيرها
تحتمي في شغاف قلبي
**
لا احد لااحد يحدق مليا
في مياه هذه البحيرة
الا روحي

**
وفي الختام لا بد من الاشارة الى بعض الأسئلة التي تدور بين المهتمين بالهايكو في مقدمتها:

- ما الفرق بين قصيدة الومضة المكثفة والهايكو ، والجواب أن قصيدة الومضة تحمل تسميتها بدقة ، فهي قصيدة ومضة مكثفة اللغة تتسم بالتركيز الشديد واعتماد الفنون الاستعارية والبلاغية ، دون أن يُحدد لها عدد أسطر ولا دائرة موضوعات ، وحتى لو كانت أسطرها ثلاثة ، أما الهايكو فهو مشهد مكثف وله اشتراطات في عدد الاسطر وفي الموضوع والعمل على تجنب الظواهر البلاغية ، والفرق واضح بين الومضة والمشهد . ومع ذلك فإذا كانت جين ريتشهولد أشهر كاتبات الهايكو في الانكليزية تؤشر أحد سلبيات التانكا في كونها تميّع الحدود الفاصلة بينها وبين الهايكو بإيجازها المفرط ، فإن ما يؤخذ على الهايكو أن الحدود الفاصلة بينه وبين القصيدة المركزة أو قصيدة الومضة من ثلاثة أسطر قد تبدو غائمة ..

- وهل يشترط بكاتب الهايكو أن يكون شاعرا ،والجواب يكمن في الرؤية الى هذا الفن ، فإذا صنفناه ضمن الفنون الشعرية وهو كذلك ، فلا بد أن يكون كاتبه شاعرا ، أما من ينظرون إليه بوصفه فنا لغويا يشتغل داخل دائرة الشعرية ، فإن كاتبه يجب أن يمتلك رؤية شعرية ومعرفة دقيقة باللغة العربية وقواعدها وأسرارها ، وقدرة على التأمل العميق ووعيا باشتراطات كتابة هذا الفن .

- ويتساءل بعضهم عن العلاقة بين الهايكو وقصيدة النثر ، والجواب يكمن في استرسال السرد في قصيدة النثر والإفادة من كل اشتراطات الشعرية الاستعارية والمجازية والبديعية ، وشمولية الموضوعات ، وتباين الرؤى ، بينما كل شيء محدد في الهايكو.
ويقسّم الشاعر جمال مصطفى (مسبحة الهايكو / موقع المثقف) شعراء الهايكو على ثلاثة أصناف ، الأول شاعر متخصص بكتابة الهايكو لا يكتب سواه من فنون الشعر ، والثاني شاعر محترف ينظر للهايكو بوصفه فضاء تعبيريا جديدا ، وقد يعمل على توظيفه لآفاق تجريدية أو فلسفية توسيعا لأفق اشتغاله ، والثالث شاعر فنان ويكون رساما على الأغلب ينطلق في كتابة الهايكو من مرجعياته الفنية ، ويتوقف نجاحه على موهبته ومقدرته اللغوية.

**
إن الأوطان حالما تتعرض للمخاطر ، فإن مؤسساتها الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية تسارع لتقديم حلول ورؤى للإسهام في معالجة الأزمة ، والعمل بكل جهدها على درء تلك المخاطر ، فماذا قدمت المؤسسة الثقافية في العراق وأقطار الوطن العربي من أجل مقاومة ثقافة الاقتتال والحرب والحقد وسفك الدم وتسلط دكتاتورية المؤسسة السياسية وجشعها في نهب شعوبها ، وكل ذلك ناتج عن ضيق الأفق ومحدودية الرؤيا التي تحجب القدرة على إحلال الإبداع وثقافة الحوار الحقيقي وحب السلام والتسامح والمحبة وتقبل الرأي الآخر ، ثقافة تعمل على بناء مجتمع متحضر يغادر الضوضاء والفوضى إلى صمت الوعي والـتأمل والحرص على البناء والتفكير بغد أفضل. إن الشلل الذي منيت به المؤسسة الثقافية في العراق والاقطار العربية الاخرى وانصياعها كليا للمؤسسة السياسية المستبدة والمتخلفة ، له الأثر الكبير في إشاعة الفوضى المدمرة واستشراء عوامل الصراع والقتل والنهب والانتهاكات ، وانهيار إرادة الإنسان وهشاشته . ولأهمية الإبداع وحركية الثقافة في المجتمع يؤكد الفيلسوف الامريكي ريتشارد رورتي انتقاده للنظريات التي أقصت باستبداديتها القول الشعري بما يتمتع به من طاقة فنية وجمالية ، مؤكدا أن افتقاد الإنسان للإرادة والقدرة على الاختيار ، هو ما يجعل منه كائنا هشا يسلك طرقا معدة سلفا من قبل الآخرين ، وهذه الطرق المعدة سلفاً هي التي تؤدي إلى الخمول فالجمود . ومن المفيد هنا أن نستذكر تأكيد جان جاك روسو على أن للآداب والفنون والثقافة عموما دورا مهما في تأسيس أخلاق المجتمعات وتغييرها ، ولا ننسى رواية شتاينبك التي تمكنت من إسقاط مؤسسات سياسية في امريكا ، لسبب بسيط وصعب معا ، هو أن تلك الشعوب تقرأ وتعي وأن شعبنا يرزح تحت نير الأميتين الأبجدية والحضارية ، وأن مؤسساتهم العلمية تخرِّج مثقفين متحضرين ، بينما تخرج مؤسساتنا متعلمين محايدين لا علاقة لهم بما يجري في أوطانهم من إذلال للإنسان وبيع لكرامة روحه ، ولا تعنيه السلبيات التي تكتنف حياته وحياة شعبه وأمته.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى