جاء في كتاب الحزن:" وما أمر النّفس الحزينة إلا كسماء تلبّد الغيم فيها حتى أوشكت زرقتها على السواد، فإذا ما انهمر الغيث ثمّ انقشع الغيم بدت أكثر بهاء و صفاء." وأنا منذ استوطن الحزن دمي، صارت السماء مطبقة على الأرض وصرت المنفي من أوردتي.أشار الصحب عليّ بترك المدينة فللمدينة سَحَرتُها وعصاي نخرتها دودة الزمن، وسلّمتني لسيدة الحيرة والحزن. خضت عناء السفر، زادي ياسمين البراري وعرجون تمر، حتى وصلت سفح الجبل، تراءى لي شيخ بلباس أبيض و لحية بيضاء، لعينيه بريق و له هيبة و وقار. عرف قصدي، رفع يده بالتحية، يدعوني لأقترب.
دفعت الرياح جسدي المنهك وقذفتني عند قدميه كومة حزن وألم. ابتسم الشيخ وقال:
-ما حاجتك يا ولدي؟
سألته: هل أنت شيخ الجبل؟
مدّ يده و شدّ يدي يرفعني لتمتدّ قامتي و يمتد ظلّه في المدى تمتم قائلا:
- أنا شيخ الجبل يا ولدي، أترى بك حيرة وألم؟
قلت: يا شيخي صرت أسير سيدة الحيرة والحزن وأنا منفي من أحلامي ومن الغد.
قال شيخ الجبل: عشب القمر نهر من أنهار هذه الأرض، توضّأ منه عند منتصف الحزن وعدْ كيوم ولدتك أمُّك بلا همّ يذكر.
-و كيف السبيل إليه يا شيخنا الفاضل؟
-عد إلى المدينة، على حافة الوادي طريق يؤدّي إلى التلّ الأخضر يعبره نهر الحياة، على ضفافه ينمو عشب القمر.
شكرت الشيخ، ودّعته عائدا إلى المدينة وقد استولدت نفسي أملا وتنامت في دمي رغبات جميلة.
بعد عناء و مشقة وصلت إلى المكان الذي حدّثني عنه الشيخ على مسيرة يومين من المدينة ،تناهى إلى سمعي عواء الذئاب و قد حام على القمر حرس وأرخى أنواره على الأرض، جلت بناظري في المكان لعلّي أهتدي إلى جدوة نار يكون بقربها أناس أستأنس بهم ، تراءت لي من بعيد امرأة فاتنة الجمال، تلك هي سيدة الحيرة والحزن التي قابلتها منذ سنين و قلّدتني قلادة الهمّ ومن يومها وأنا أسير لها وهي منطلقة تنعم بالحرية في هذا الكون الفسيح. كانت تقيم صلاة وداع على حافة الوادي. تساءلت في أعماقي كيف السبيل للهروب منها، هل أضرب الوادي بعصاي النخرة قد ينفلق إلى نصفين وأعبر إلى الضفّة الأخرى وتغرق هي في أوحاله وفي أحزاني؟
لكنّها التفتت ورأتني، ثقبت روحي بنظراتها الساحرة ووجهها يضاهي البدر جمالا، رنّ الخلخال يفضح خطاها إلى شوقي و أنا تائه عن عشب القمر أراهن على ماء النّهر و الوادي يحفر قلب المدينة. وقفت الفاتنة حلما بين ضوء القمر وإرهاصات طريق قالوا أنّه يؤدّي إلى جنّة حلمي، يقرّب إليّ الغد. اقتربت منّي وقفت أمامي عمود نور رُسمت على وجهه بسمة من ضياء، نطقت بصوت عذب جميل:
-أيّها الآدمي أنت الآخر جئت تبحث عن عشب القمر؟
ارتجّ جسدي لسؤالها و قد كشفت أمري، لكنّني تمالكت نفسي، لم أقع على الأرض مغشيا عليّ من هول ما رأيت وما سمعت، استجمعت قواي بحثا عن خلاصي، قلت لها:
-يا جارة القهر ما يضيرك لو أستعير وجهك البدري وأرحل في توحد مع جهاتك قد أولد من رحم الفرح مضمّخا بعطر الأعشاب البرية فلا أحزن أبدا؟
قلت كلماتي، نثرت هي الودع في الطريق و أومأت برأسها، لحقت بها في درب ليلي مسكون بصراخ المتأوّهين الحزانى، صار لصوتها لجام يشدّني ويخنق الكلمات في حلقي، توقفت فجأة ، سكبت كلماتها في روحي:
- عشب القمر قبيلة غزاها الفقر والجوع رحلت عن ربعنا، ماذا يضيرك لو تحزن قليلا ثمّ تفرح؟
-أنا ما جئت إلى هنا إلا ناشدا تعويذة الفرح والشفاء من حزني.
-وهل شفي اللّيل يا ابن آدم من سواده؟
-لكن شيخ الجبل أرشدني إلى هذا المكان، قال لي فيه عشب القمر مخلّص البشر من الأحزان.
تنامت قهقهاتها ورنّ الخلخال، حاصرتني جحافل العطر منها
والقمر يتناهى في الصغر، تغمر وجهه أدخنة السحاب، وعادت لتقول:
- يا بن آدم، و هل يزيّن منك العيون غير هذا السواد؟
قلت لها:
-يا جارة الفقر والعوز والجوع بي ضيق من أحزاني وأهفو إلى أفراح الروح، بالله قولي لي إن كنت من الإنس أم من الجان؟
و ذاب صوتي في لجين القمر، أغرق وجهها، بكت السماء وبكت هي ثمّ قالت:
- أنظر إلى السماء هل ترى للبدر أثرا؟
أجبتها وأنا أقلّب نظري في السماء:
-هذا السحاب مزّق وجهه المنير و أسال جراح السماء.
-وهل غير جراح السماء تستوطن الروح أيها الباكي من الحزن
-لكنّني أحلم بربيع وفرح .
-وهل الربيع غير ما رأته عيناك جمالا، وهل الفرح غير المحبّة؟
رمت ودعها على عصاي وصار وجهها البدري هلالا، ارتسم في الأفق بعد أن تلاشى السحاب وتناثر الرذاذ في المدى.
عدت إلى المدينة أجرّ خيبتي، دخلت وسط جموع المارّين في الطرقات، ومشيت حتى وصلت إلى المحطّة اختلطت أتربة الطريق بعرق الكادحين واعتصر المساء حلمي حتى بدت لي جدوة نار في الأفق البعيد، تدافعت الجموع من جديد وجدت نفسي داخل القطار المؤدّي إلى مكان إقامتي وكلّي شوق إلى أهلي وصحبي، لم يعد يرى للوادي أثر، صافرة القطار اخترقت صمتي، اتّكأت على عصاي و في عيني دموع و على ثغري ابتسام.
* كاتبة روائية جزائرية
دفعت الرياح جسدي المنهك وقذفتني عند قدميه كومة حزن وألم. ابتسم الشيخ وقال:
-ما حاجتك يا ولدي؟
سألته: هل أنت شيخ الجبل؟
مدّ يده و شدّ يدي يرفعني لتمتدّ قامتي و يمتد ظلّه في المدى تمتم قائلا:
- أنا شيخ الجبل يا ولدي، أترى بك حيرة وألم؟
قلت: يا شيخي صرت أسير سيدة الحيرة والحزن وأنا منفي من أحلامي ومن الغد.
قال شيخ الجبل: عشب القمر نهر من أنهار هذه الأرض، توضّأ منه عند منتصف الحزن وعدْ كيوم ولدتك أمُّك بلا همّ يذكر.
-و كيف السبيل إليه يا شيخنا الفاضل؟
-عد إلى المدينة، على حافة الوادي طريق يؤدّي إلى التلّ الأخضر يعبره نهر الحياة، على ضفافه ينمو عشب القمر.
شكرت الشيخ، ودّعته عائدا إلى المدينة وقد استولدت نفسي أملا وتنامت في دمي رغبات جميلة.
بعد عناء و مشقة وصلت إلى المكان الذي حدّثني عنه الشيخ على مسيرة يومين من المدينة ،تناهى إلى سمعي عواء الذئاب و قد حام على القمر حرس وأرخى أنواره على الأرض، جلت بناظري في المكان لعلّي أهتدي إلى جدوة نار يكون بقربها أناس أستأنس بهم ، تراءت لي من بعيد امرأة فاتنة الجمال، تلك هي سيدة الحيرة والحزن التي قابلتها منذ سنين و قلّدتني قلادة الهمّ ومن يومها وأنا أسير لها وهي منطلقة تنعم بالحرية في هذا الكون الفسيح. كانت تقيم صلاة وداع على حافة الوادي. تساءلت في أعماقي كيف السبيل للهروب منها، هل أضرب الوادي بعصاي النخرة قد ينفلق إلى نصفين وأعبر إلى الضفّة الأخرى وتغرق هي في أوحاله وفي أحزاني؟
لكنّها التفتت ورأتني، ثقبت روحي بنظراتها الساحرة ووجهها يضاهي البدر جمالا، رنّ الخلخال يفضح خطاها إلى شوقي و أنا تائه عن عشب القمر أراهن على ماء النّهر و الوادي يحفر قلب المدينة. وقفت الفاتنة حلما بين ضوء القمر وإرهاصات طريق قالوا أنّه يؤدّي إلى جنّة حلمي، يقرّب إليّ الغد. اقتربت منّي وقفت أمامي عمود نور رُسمت على وجهه بسمة من ضياء، نطقت بصوت عذب جميل:
-أيّها الآدمي أنت الآخر جئت تبحث عن عشب القمر؟
ارتجّ جسدي لسؤالها و قد كشفت أمري، لكنّني تمالكت نفسي، لم أقع على الأرض مغشيا عليّ من هول ما رأيت وما سمعت، استجمعت قواي بحثا عن خلاصي، قلت لها:
-يا جارة القهر ما يضيرك لو أستعير وجهك البدري وأرحل في توحد مع جهاتك قد أولد من رحم الفرح مضمّخا بعطر الأعشاب البرية فلا أحزن أبدا؟
قلت كلماتي، نثرت هي الودع في الطريق و أومأت برأسها، لحقت بها في درب ليلي مسكون بصراخ المتأوّهين الحزانى، صار لصوتها لجام يشدّني ويخنق الكلمات في حلقي، توقفت فجأة ، سكبت كلماتها في روحي:
- عشب القمر قبيلة غزاها الفقر والجوع رحلت عن ربعنا، ماذا يضيرك لو تحزن قليلا ثمّ تفرح؟
-أنا ما جئت إلى هنا إلا ناشدا تعويذة الفرح والشفاء من حزني.
-وهل شفي اللّيل يا ابن آدم من سواده؟
-لكن شيخ الجبل أرشدني إلى هذا المكان، قال لي فيه عشب القمر مخلّص البشر من الأحزان.
تنامت قهقهاتها ورنّ الخلخال، حاصرتني جحافل العطر منها
والقمر يتناهى في الصغر، تغمر وجهه أدخنة السحاب، وعادت لتقول:
- يا بن آدم، و هل يزيّن منك العيون غير هذا السواد؟
قلت لها:
-يا جارة الفقر والعوز والجوع بي ضيق من أحزاني وأهفو إلى أفراح الروح، بالله قولي لي إن كنت من الإنس أم من الجان؟
و ذاب صوتي في لجين القمر، أغرق وجهها، بكت السماء وبكت هي ثمّ قالت:
- أنظر إلى السماء هل ترى للبدر أثرا؟
أجبتها وأنا أقلّب نظري في السماء:
-هذا السحاب مزّق وجهه المنير و أسال جراح السماء.
-وهل غير جراح السماء تستوطن الروح أيها الباكي من الحزن
-لكنّني أحلم بربيع وفرح .
-وهل الربيع غير ما رأته عيناك جمالا، وهل الفرح غير المحبّة؟
رمت ودعها على عصاي وصار وجهها البدري هلالا، ارتسم في الأفق بعد أن تلاشى السحاب وتناثر الرذاذ في المدى.
عدت إلى المدينة أجرّ خيبتي، دخلت وسط جموع المارّين في الطرقات، ومشيت حتى وصلت إلى المحطّة اختلطت أتربة الطريق بعرق الكادحين واعتصر المساء حلمي حتى بدت لي جدوة نار في الأفق البعيد، تدافعت الجموع من جديد وجدت نفسي داخل القطار المؤدّي إلى مكان إقامتي وكلّي شوق إلى أهلي وصحبي، لم يعد يرى للوادي أثر، صافرة القطار اخترقت صمتي، اتّكأت على عصاي و في عيني دموع و على ثغري ابتسام.
* كاتبة روائية جزائرية