أ. د. عادل الأسطة - في القدس..

(1)
خططت لزيارة رام الله فزرت القدس. في الجامعة التقيت د. محمد رباع فسألني إن كنت أرغب في الذهاب إلى وسط المدينة. في الطريق أخبرني أنه ذاهب إلى قلندية لاستقبال عائلته. قلت له أما أنا فذاهب إلى رام الله وأصر على أن أظل معه. في الطريق أراد أن يوصلني إلى رام الله لا إلى معبر قلندية كما اتفقنا ولكني أصررت على ما اتفقنا عليه وقلت له : أزور القدس. ووجدتني في القدس. على المعبر نظرت جندية شابة في هويتي وأعطتني إشارة بالمرور وابتسمت. يبدو أنها كانت في لحظة فرح ، وقانون اﻷعادي يسر لي هذه المرة الدخول. وهكذا وجدتني داخل السورين ؛ القديم والجديد/الحديث، ووجدتني أكرر قول محمود درويش : في القدس أعني داخل السور القديم ، ولا أكرر قول تميم البرغوثي:
مررنا على دار الحبيب فردنا عن الدار قانون اﻷعادي وسورها.
وﻷول مرة منذ سبع سنوات وجدت ميزة للتقدم في السن. أنا الآن فوق الستين وقانون اﻷعادي يسمح لمن هم فوق الستين أن يدخلوا إلى القدس دون تصريح من دولة أبناء العمومة. ها أنا لا أشكو من أوجاع الجسد فلقد نسيتهأ على المعبر وأنا أصعد الحافلة إلى باب العامود الذي لم أره منذ نهاية 1992، فقد كنت في آب وأيلول وتشرين أول من ذلك العام زرت القدس غير مرة متسللا غير آبه بالقانون الإسرائيلي. كنت أحرر صفحة الثقافة في جريدة الشعب وكنت أتسلل إلى مبنى الجريدة وأعود وكلي قلق وخوف من احتجاز لمدة يومين ودفع غرامة 600 شيكلا هي ضعف ما تدفعه لي الجريدة.
ها أنا إذن داخل السورين ؛ الجديد /الحديث والقديم وقد استبدلت الخوف بخوف آخر: هذه المرة لم يكن الخوف من الشرطي والاعتقال والغرامة ، وإنما من اﻷحداث المفاجئة في مدينة السلام ،الخوف من المتشددين المستوطنين.
في الطريق من المعبر إلى باب العامود كنت أرقب التغيرات التي طرأت على المكان، وأظن أنني شاهدت بعضها في 1998 حين زرت أمي في مشفى المطلع أو في عام 2000 حين شاركت في دفن نسيب لنا مقدسي. ولا أرى في زيارة أمي والمشاركة في دفن النسيب زيارة للمدينة ، فقد تمتا خلسة . إنهما أشبه بدخول لص منزل ليسرقه . لا يلتفت إلى المكان فذهنه مشغول بما سيسرق وبنجاح عملية السطو والخروج غانما سالما. هل هذه هي شعفاط التي أعرف؟ هل هذه هي بيت حنينا التي أعرف، وسأتذكر بيت اسحق موسى الحسيني الذي زرته مرة ﻷسأل د. اسحق عن نجاتي صدقي ، حتى ينجز شخص رسالة ماجستير عن كاتب القصة القصيرة. أين هو بيت الحسيني؟ المنطقة تغيرت تغيرا كبيرا. وأنا لم أتمعن جانبي الطريق جيدا منذ 1987، فما قمت به من زيارات، بعد العام المذكور كان زيارات خاطفة عابرة سريعة

(2)
وأنا أهبط من الحافلة عادت بي الذكرى إل ما قبل 1987. من هذا المكان كنت أقفل عائدا إلى نابلس ، أيام الخميس التي كنت أزور فيها القدس. أتذكر باصات التميمي وخالي أبا عصام /عمر الذي عمل سائقا وأتذكر علي الخليلي الذي كنت ألتقيه في الحافلة وهو عائد إلى نابلس ، قبل أن يتزوج ويستقر في القدس.
المكان في مكانه، والتعبير لمحمود درويش، وسيتلفت القلب إلى مكاتب جريدة الفجر ، حيث كنت أزور علي الخليلي، ولكن ماذا أفعل الآن لو زرت المكان، وهدفي اﻷساس هو زيارة البلدة القديمة، ثم إن عليا الآن تحت الثرى ، لا في مكتبه في الجريدة التي توقفت عن الصدور. المكان في مكانه ولكن السكان تغيروا.
أسير ببطء. في أحد هذه المحلات كان كراج سيارات نابلس ، ولهذا سمي الشارع شارع نابلس، ولم أسأل إن كان الشارع ما زال يحمل اسمه ، فما عادت هناك حافلات تقل العائدين إلى نابلس. أدخل محلا وأشتري زجاجة ماء، وأواصل سيري ببطء. أنظر في زاوية البناية ﻷرى كشك دعنا الذي توفي صاحبه قبل أشهر ، فلا أرى الكشك الذي طالما اشتريت منه مجلات الخزب الشيوعي وصحفه؛ الجديد والاتحاد، مغامرا، فقد كانت دولة إسرائيل تمنع توزيع هذه المنشورات في الضفة وتعاقب من يحملها في الضفة.أسأل صاحب كشك عن كشك دعنا فيخبرني أنه توفي. سأرد عليه قائلا :أعرف ولكن إلام آل كشك بيع الكتب؟ وبموت صاحب الكشك اختفى معلم ثقافي آخر من المعالم الثقافية لمدينة القدس-احتجبت جريدتا الفجر والشعب عن الصدور ، وسيعلمني اﻷستاذ عيسى السلايمة أن مكتب جريدة الشعب غدا عيادة طب أسنان ﻷخيه-
أمعن النظر في باب العمود وأشتري كعكا مقدسيا من صاحب الكشك، وكنت ، حين أزور القدس قبل1987، أشتري باستمرار كعكا ﻷمي أو لعائلتي. هذه المرة سأدخل إلى القدس بحرية منذ 1987، وأنا أقطع الشارع لدخول المدينة أعبر باب العامود تذكرت المستشرقة وتذكرت روز وفائزة تسيران معي للدخول إلى البلدة القديمة ، فقد اصطحبتهما معي غير مرة في العام 1987.
ها أنا في باب العمود. الجنود الإسرائيليون قليلو العدد وليس في اﻷجواء ما يوحي بأن هناك ما يبعث على عدم الطمأنينة.

(3)
وأنا أهبط درجات باب العمود تلفت قليلا إلى يساري: مكتب البريد والطريق المؤدي إلى مكاتب جريدة الشعب وشارع صلاح الدين والمكتب الفلسطيني ووكالة أبو عرفة للصحافة ونشر الكتب و.. و.. واﻷصدقاء الذين ما عادت لهم إقامة في اﻷماكن هذه ،فهم الآن في رام الله أو في عوالم أخرى ومنهم من توفي ، بعد أن منع من الإقامة في المدينة. المكان في مكانه ولكنه غير سكانه ،فلم تذهب أولا إلى هناك ؟
وأنا على درجات باب العود تساءلت :هل أنا ، حقا، بعد هذا الغياب الطويل -23سنة- هل أنا في القدس؟
في العام 1996 زرت بون من مطار اللد وأنفقت فيها شهرا ، ولم أتمكن من زيارة القدس بحرية . زرتها مخاطرة ومغامرا ، وكان قانون اﻷعادي يحول دون زيارتها. يومها كنت ، في بون، أخربش وتذكرت القدس فكتبت : ها أنت تصل آخر الدنيا ولكنك لا تستطيع الوصول إلى القدس. وفي العام 2002 وأنا أكتب زاوية حالات في اﻷيام كتبت : حنين إلى القدس.في بون تذكرت القدس ، وعلى درجات باب العامود تساءلت: هل أنا في القدس؟
وسأمعن النظر في الريفيات القادمات لبيع منتوجهن من العنب والفقوس والخوخة. إنهن معلم من معالم المدينة ما زال حاضرا، ولطالما كتب عنه خليل السواحري وأكرم هنية ومحمود شقير؛كتاب القصة القصيرة الذين أبرزوا للقدس صورة واقعية أكثر مما أبرزها الشعراء وقبل أن يبرزها الروائيون.
ها أنا أمعن النظر في بضاعة النسوة ، وها أنا أتأمل قوس باب العامود وأتذكر ما كان يفعله سكان المدينة ، حين يحاول الغزاة اقتحام المدينة: من قوس هذا الباب كان سكان المدينة يدلقون الزيت المغلي على الغزاة ، وسأدخل المدينة.

(4)
مثل سائح مغترب وكأنني أزور القدس ﻷول مرة : أراني أتأمل اﻷشياء وأمعن النظر في الناس وأسألهم: من أين الطريق إلى اﻷقصى ، وسأسأل السؤال نفسه أربع مرات. من السائح المغترب؟ سطر شعري لمحمود درويش أظنه ورد في ديوانه محاولة رقم 7 (1974) في إحدى قصائده التي أتى فيها على زيارته مدينة دمشق ، إن لم تخني الذاكرة،بعد خروجه من فلسطين المحتلة . أما مظفر النواب فقد تساءل بعد زيارته دمشق في 1973: دخلت الجامع اﻷموي لم أعثر على أحد من العرب . والحق أن القدس أمس كانت مدينة عربية بالتمام وشبه الكمال، ولو كنت زرتها يوم سبت لربما رأيت فيها مدينة عالمية . أتذكر قصة كتبتها في 80 ق20 عنوانها " تلك القدس ... ذلك السبت"، وكانت القصة ناتجة عن زيارتي القدس ذات سبت. يومها رأيت القدس مدينة عبرية ، وكان أبناء العمومة وقتها يحتفلون بالبوريم: عيد استير البطلة لهم/عيد المساخر/ذكرى إنقاذهم من مذبحة أعدها لهم وزير الملك الفارسي. (لعله هامان وزير احشيشورش).
-من أين الطريق إلى اﻷقصى؟
وربما ظنني بعضهم ذاهبا للصلاة أو أنني زائر يعشق جمع الصور، ولم تكن بيدي كاميرا ولم يكن معي جهاز تصوير أو بلفون حديث.
وهكذا وصلت إلى اﻷقصى ودخلت من بوابة يحرسها جنود يهود وشرطة عرب سأعرف أنهم خاضعون للمملكة اﻷردنية وأنهم يتقاضون رواتبهم منها. أنا الآن في مكان يؤمه الفلسطينيون ليصلوا فيه، ويزوره السواح اﻷجانب ، ويتردد عليه اليهود المتدينون للاستفزاز ربما. أنا في مدينة ثلاثية اﻷبعاد وثلاثية الديانات وعالمية البشر ومتعددة اللغات. أنا الآن في اﻷقصى ، فهل سألبي دعوة عيسى السلايمة وأصلي لله ركعتين؟
وحين يمر متدينون يهود تستفز النسوة المسلمات حارسات اﻷقصى ويرتفع صوتهن : الله أكبر.الله أكبر،فهل نحن على أبواب اشتباك؟ هل خفت ؟هل..
وسأتأمل المسجد وسيقترب مني شاب مقدسي وسيسألني : هل تعرفني؟ وسيعلمني أنه عيسى السلايمة أحد طلابي في الماجستير ، وسيدعوني إلى منزله ، وسأقول له معتذرا : إنني قادم ﻷرى القدس، وسيتبرع مشكورا بمرافقتي وابنه ابراهيم مدة ثلاث ساعات واكثر ، غير آبه لتذمر ابنه الذي ألف اﻷمر وصمت بعد أن اشترى له أبوه من المعصرة الكسبة المقدسية.

(5)
سيسألني عيسى السلايمة إن كانت لدي رغبة في التجول داخل اﻷقصى وقبة الصخرة ، ولا أمانع في دخول المسجد والتجوال في داخله ، وسيريني عيسى المصلى المرواني وسيشرح لي قصته، فقد ظل مهملا فترة طويلة حتى العام 1996 حيث أصر عرفات على افتتاحه وترميمه ولم يقصر الشيخ رائد صلاح في بذل الجهود اللازمة لتهيئته إلى ما غدا عليه.في العام 1996 ، كما فهمت، اتفق أبو عمار مع الإسرائيليين على أن يكون المصلى المرواني للفلسطينيين وأن يكون ما هو أسفل منه للإسرائيليين ، وما زلت أتذكر أحداث النفق جيدا.
السجاد في اﻷقصى تبرع من الحكومتين ؛ التركية واﻷردنية ، وهو سجاد لافت لونه العام أحمر، وربما لهذا سألني عيسى إن كنت ما زلت شيوعيا، ذاهبا إلى أنني ، كما كان الطلاب يتداولون ، شيوعي . وطلب مني عيسى أن أتوضأ وأصلي ركعتين.
كلما طلب مني شخص ما أن أتوضأ وأصلي أتذكر رواية نجيب محفوظ " اللص والكلاب" وأتخيلني سعيد مهران بطل الرواية يصغي إلى الشيخ الجنيدي. كما لو أنني لص وينبغي أن أتوب، وغالبا ما أتساءل عن الكلاب.
في المصلى المرواني سأتذكر رواية ليلى اﻷطرش " ترانيم الغواية " 2014 ولما رأيت رجلا من مواليد 1942 ويعرفه عيسى فقد سألته عن أبواب مدينة القدس وعن باب الهوى/باب عبد الحميد/الباب الجديد، ورغبت في أن أستمع إليه يقص حكاية الباب ، لعل هذا يعزز في ذهني ما قرأته في رواية ليلى، ولكن الرجل الذي يتذكر سقوط يافا، حيث كان فيها عند أخته، لا يعرف شيئا عن قصة باب الهوى، مع أنه يتذكر حادثة اغتيال الملك عبد الله تماما.
في المسجد اﻷقصى تذكرت صلاح الدين اﻷيوبي ونور الدين زنكي والمحراب وتحرير اﻷقصى في 583هجرية، وأراني عيسى في المصلى المرواني آثارا صليبية تدل على تحويل المصلى إلى اسطبل لخيول الفرنجة. وهناك تيقنت من أن تدريس القدس في اﻷدب العربي يتطلب زيارة المدينة ومعرفة الوطن من خلال القدمين، وهذا ما كان يحث عليه تربوي فلسطيني قبل 1948 ولعله إسعاف النشاشيبي.

(6)
الذين كتبوا عن القدس من الروائيين العرب والفلسطينيين غالبا ما كانت صلتهم بالمدينة معدومة أو عابرة أو أنهم كانوا كتبوا عن القدس اتكاء على الكتب ، ولهذا فقلما يتنشق المرء وهو يقرأ رواياتهم روائح القدس ويتمثل أجواءها : العراقي علي بدر والجزائري واسيني اﻷعرج والإسلامي نجيب الكيلاني والفلسطيني حسن حميد وبصورة أقل جبرا ابراهيم جبرا وعيسى بلاطة ونبيل خوري ، والثلاثة اﻷخيرون عاشوا في القدس فترة ، ثم كتبوا عنها بعد أن انقطعوا عنها بسبب حرب حزيران 1967،ولما كتبوا كتبوا عن ظلال تبقت في الذاكرة. أما علي بدر وحسن حميد وليلى اﻷطرش فكتبوا عن المدينة متكئين على كتب التاريخ أو اﻷدب أو الخرائط واﻷطالس -أستثني ليلى قليلا فقد زارت المدينة لفترة -.
ونتيجة لما سبق فقد كانت شخصية الدليل السياحي حاضرة في أعمالهم ،وما يقوله الدليل هو ما قرأه الروائي في الكتب ليس أكثر.
عيسى السلايمة كان أمس لي الدليل ، ولولا وجوده لما عرفت أشياء وأشياء. والحقيقة أنني كنت زرت القدس مرارا ولكنني لم أعرفها كما عرفتها من خلال مشاهدة حلقات عنها بثتها فضائية الجزيرة أو من خلال مسلسلات تلفازية مثل مسلسل براء الخطيب ابن يوسف الخطيب أو من خلال النصوص اﻷدبية.في اﻷقصى سألقي نظرة على مقبرة آل الحسيني : موسى وعبد القادر وفيصل عبد القادر الحسيني، وكنت عرفت هؤلاء من المسلسلات أو من الروايات ، كما رواية سحر خليفة حبي اﻷول ، أو من خلال المعرفة الشخصية المباشرة ، فقد عرفت المرحوم فيصل شخصيا. وسأترحم على هؤﻷء ، وسيعرفني عيسى على المبكى الصغير لليهود.
مدخل المبكى الصغير يقود إلى بيوت سكنية ما زال الفلسطينيون يقطنونها ، وأحيانا يأتي المتدينون اليهود ليدقوا رؤوسهم بالمبكى ويبكون. ولا شك أن اﻷمر ، في ظل أجواء العداء والتوتر ،ليس ،للسكان ،بالهين. ﻷول مرة أعرف هذا وكان يجب أن أدخل إلى المتحف لولا أنه مغلق في الثانية ظهرا ، وبدل زيارته سأتجول في مكتبة المصلى المرواني حيث يؤمها الدارسون وكان عيسى واحدا منهم.
ساحة اﻷقصى ساحة واسعة وفيها يسير المرء مسافات وفيها يلاحظ الزوار باستمار.

(7)
من باب المغاربة يسمح بدخول السواح واليهود ولا يسمح لنا بالخروج منه.ثمة جنود اسرائيليون وثمة شرطة عرب خاضعون للنظام اﻷردني وظيفيا. أذهب وعيسى وابنه إلى البراق/حائط المبكى ، حسب روايتهم. أريد أن أراهم على أرض الواقع لا من خلال الفضائيات أو من خلال صفحات الجرائد. لطالما قرأت عما؟ يفعلون هناك وما هو مضمون اﻷوراق التي يضعونها بين فراغات الحجارة. أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب ؟ محمود درويش في قصيدنه " في القدس" 2003؟ والحجارة شحيحة الضوء في البلدة القديمة كثيرة جدا ، وما أكثرها. تواريخ تجعل فاقد الحرية يتساءل تساؤل درويش : من يشتري تاريخ أجدادي بيوم حرية ؟، ويضيف : وتاريخ بني اسرائيل وغيرهم والفرنجة بلحظات هدوء وحياة كريمة لا خوف فيها.
أسأل عيسى : هل يحق لنا النزول إلى البراق أو حائط مبكاهم؟ ويعلمني بأن ذلك ممكن لولا إجراءات التفتيش. من عل أنظر إليهم قرب البراق/الحائط.هنا سيحشرون حسب الرواية الدينية خاصتهم. في هذا المكان وكنت أتمنى لو أهبط وأشاهد المكان عن قرب ولكن..
أسير وعيسى طالبا منه أن يأخذني إلى حارة اليهود التي كتب عنها جبرا في سيرته " البئر اﻷولى" وفيما بعد كتب عنها عيسى بلاطة ومن قبل هذين خليل السواحري في قصصه " مقهى الباشورة" 1969. ها هو اﻷدب يعرفني بالمدينة وها هي القصص ترسم للمدينة خارطة في ذهني.
حارة اليهود تغدو بعد حرب 1948 حارة الشرف ، وحين ينهزم العرب في 1967ويحتل اليهود المدينة يعود الاسم القديم لها : حارة اليهود
نسير في حارة اليهود. هناك يهود متدينون ذوو سوالف متدلية يجلسون على درج ما.أشعر بالرهبة فماذا لو استلبسونا. والحقيقة أنني شعرت بخوف ما. زواريب وأبنية قديمة ولا مارة عرب ولا نواصل ونذهب إلى السلسلة حيث السكان العرب قبل أن نعود ثانية إلى أجزاء عامرة من حارة اليهود التي كنت دخلتها في 1987 قبل الانتفاضة واشتريت منها كتاب تعلم العبرية " آلف مليم" /ألف كلمة.
ها نحن نعود ثانية إلى حارتهم وأسأل عن مكتبة ستميلاسكي فلا يجيبني أحدهم فهو لا يعرف أصلا ، وأبحث عن حارة الباشورة وعن مقهى الباشورة وخليل السواحري ، وهذا المقهى له حكاية

(8)
في حي الباشورة لا نعرف أننا فيه. نسأل شابا مقدسيا ،محله إلى جانب محلات اليهود ، عن الحي والمقهى فيجيب: هذا هو حي الباشورة ولا يوجد مقهى بهذا الاسم ، ولكن هنا يوجد مطعم، فاسألوا صاحبه، وسيكون المطعم هو مقهى الباشورة.
مع أنني قرأت مجموعة خليل السواحري " مقهى الباشورة" (1969) ، وأنا أنجز رسالة الماجستير 1982، إلا أنني على كثرة زيارتي المدينة ،قبل 1987 ، لم أفكر بزيارة المقهى أو السؤال عنه. يبدو أن اهتمامنا بالمكان في اﻷدب كان اهتماما عابرا. صحيح أن الشعراء ركزوا على فكرة اﻷرض منذ ابراهيم طوقان ( توفي في 1941)إلا أن التركيز على المكان، كمكان ، كان ضعيفا وهكذا لم نكتب عن يافا وحيفا وعكا كتابة تحفل بالتفاصيل، وإنما كتبنا كتابة عابرة تذكر اسم المكان ولا تأتي على جزئياته وحياة الناس فيه. خليل السواحري فاق غيره في هذا اﻷمر ،كأنما كان يحذو حذو نجيب محفوظ، ولكن السواحري الذي أبعد عن القدس كان أشبه بومضة ، سرعان ما انطفأت.
في قصصه يرسم السواحري صورة للقدس تبقى ، حتى اللحظة ، ذات نكهة مميزة ، نعثر عليها في مقهى الباشورة ، وهكذا سأدخل إلى المقهى وأمعن النظر فيه وأتذكر أبا بلطة صاحب المقهى والحارس الليلي فرج الهمشري واﻷستاذ سعيد /خليل، ولم أتأخر حتى ساعة متأخرة ﻷرى زبائن المقهى الذي بدا شبه خال في الثالثة والنصف نهارا، وفي قصص السواحري يعج ليلا بالشباب اليهود والشابات اليهوديات.
سيرحب بنا صاحب المقهى وسيصر على أن نشرب شيئا، فنحن لسنا في محل أرامل. وسيجلب لنا الكولا : شيء بارد،على رأيه وظاهر كلامه ، وسيتعرف إلى عيسى وأهله وأقاربه أيضا وسيقص علينا حكاية المقهى الذي عليه ضرائب أرنونة بما لا يقل عن 2 ونصف مليون شيكل وانه يخسر يوميا من 300_400 شيكل للضرائب، فالمقهى غير مجد ماديا، وأن هناك من عرض عليه مبلغ 8 مليون شيكل لبيع المقهى الذي يطمح هو إلى تحويله إلى مطعم لكن البلدية ترفض منحه موافقة ، فعين اليهود على المكان.
عمدان المقهى لافتة ومن على سطحه ترى القدس وقبة الصخرة ، وفوق المطعم تقريبا يقيم سكان يهود يرجمون صاحب المقهى أحيانا بالحجارة من باب التضييق. صاحب المقهى قال لي : إن هناك كتبا عنه بثلاث لغات ؛ الفرنسية والعبرية والانجليزية ، وأنه لا يوجد كتاب واحد بالعربية ، فأخبرته بما كتبه خليل السواحري ووعدته بأن أصور له المجموعة القصصية وأرسلها له.

(9)
سأغادر المقهى على أمل أن أعود إليه ثانية أو على أمل أن يزورني صاحبه ﻷصور له كتاب خليل السواحري " مقهى الباشورة"، وستلفت الصورة التي التقطها لي عيسى اﻷنظار فعدا اعجاب الفيسبوكيين بها ، فإن زياد خداش وهو كاتب قصة قصيرة يكتب لي مستفسرا عن موقع المقهى.
وسأتجول ثانية في حارة اليهود ، في شارع يعج بالسائحين الذين يأتون جماعات جماعات ، فالإسرائيليون معنيون جدا بترويج المدينة باعتبار ما ستكون. ولا يخفى على أحد مدى اهتمامهم بأحيائهم مقابل إهمال اﻷحياء العربية. مثل يافا وتل أبيب. أهملوا اﻷولى فأصبح حالها يرثى له وأغدقوا اﻷموال لبناء الثانية فازدهرت ، فيم ماتت اﻷولى ، ما دفعني مرة لكتابة مقال في جريدة اﻷيام عنوانه " اغتيال مدينة.. اغتيال يافا "، ولطالما شغلت نفسي باﻷمر ، وآخر ما كتبته كان تحت عنوان " القدس بين حكايتين ؛ صهيونية وفلسطينية" ونشرته هذا العام في مجلة مشارف مقدسية.
وكنت توقفت مرارا أمام الترجمة العربية لرواية هرتسل وتبيان صورة حارة اليهود فيها. كما تذكرت صورة حي اليهود في سيرة جبرا. الحي الآن مختلف كليا، وهذا جزء من الحرب ، كما في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا" وكما في دراسة أظنها لسليم تماري عن المدينة في الصراع. انتصرت تل أبيب على يافا فانتصر المشروع الصهيوني ، حتى اللحظة.
حي اليهود /حارة اليهود مختلفة الآن كليا. وسأمر على حي الأرمن مرور الكرام. هل كنت زرت أنجيليكا نويفرت في هذا الحي قبل 1987 ونسيت؟ وهذه مستشرقة ألمانية أخذتني إلى ألمانيا. وسأسأل رجلا ثمانينيا عما إذا كانت هناك مستشرقة ما زالت تقيم في الحي، فسألني إن كانت هي الطويلة النحيفة، وأخبرني أنها تقيم أصلا في حارة النصارى. ظل الرجل جالسا على كرسيه قرب المقهى وسرنا باتجاه كنيسة القيامة ومسجد عمر بن الخطاب ، والمسجد هذا غير المصلى في اﻷقصى.

(10)
في كنيسة القيامة ترى التاريخ البشري مجسدا منذ الفي عام. متى بنى البشر هذه الكنيسة؛ عمدانها حجارتها أبوابها.؟ كل شيء يعيد إلى الماضي ، ومن لم يزر اﻷقصى والقيامة كأنه لم يزر القدس. إلى جانب الكنيسة جامع الخليفة عمر بن الخطاب وحين تدخله يعود عيسى إلى طلبه : توضأ وصل ركعتين ، فتتذكر ثانية سعيد مهران والشيخ الجنيدي.
هنا الكنيسة إلى جانب المسجد ، وهنا التسامح ، فلم يهدم عمر الكنيسة ليقيم مكانها المسجد . كأن داعش وطالبان من قبل ، كأنهم لم يقرؤوا عن زيارة عمر إلى القدس. ويخيل إلي أن داعش خرجت من معطف الصليبيين الذين احتلوا القدس في 492 هجرية وحولوا اﻷقصى إلى كنيسة. كأن داعش لم تسمع عن صلاح الدين وما فعله يوم حرر القدس في 583 هجرية. اليهود ، حتى اللحظة، ليسوا من داعش ولم يتأثروا بعد بطالبان، ويوم يهدمون اﻷقصى ويغلقون المساجدةيحولونها إلى كنس ، وكذلك الكنائس ، فسيصبحون طالبان وداعش. " إنهم أرحم من الغزاة الذين سبقوهم في التاريخ" يقول معلم سعيد المتشائل لسعيد. يقول الكلام ويسخر، فالصليبيون احتلوا مدننا وقتلوا أهلها ، فكانوا أكثر رأفة بالسكان من اليهود الذين احتلوا المدن الفلسطينية وهجروا أهلها " إن في قلوبهم لرحمة".
( والحقيقة ، يا ولدي انهم ليسوا اسوا من غيرهم في التاريخ)
( ان في قلوبهم لرافة لم يحظ بها اجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم )
( فتحققت من كلام معلمي انهم ليسوا اسوا من الملك ليون هارت) (من المتشائل، الرسالة 9 من الكتاب الاول ، يعاد )
وأنا أتجول في كنيسة القيامة أرى التاريخ وأشم عبق الماضي وأتذكر ما كتبه زكريا محمد حول تاريخ الكنيسة واسمها.
في شعر الحروب الصليبية بيت شعري نصه :
وقمامة قمت من الشرك الذي بزواله وزوالها يتطهر
ولكن المسلمين لم يزيلوا الكنيسة وظلت في مكانها . وأنا أدرس مساق القدس آتي على قصة كنيسة القيامة /قمامة وهيلين وصليب المسيح ، ولمن يهمه اﻷمر بالتفصيل فعليه العودة إلى ما كتبه زكريا محمد.
يا لروعة المبنى، وسيخبرني عيسى عن الخلاف بين الطوائف المسيحية وعن مفتاح الكنيسة الذي ما زال بأييدي المسلمين. هل أطنبت ليلى اﻷطرش في روايتها " ترانيم الغواية "2014 بوصف الكنيسة من الداخل وهل يرقى وصفها إلى ما الكنيسة عليه؟ لا بد من قراءة الرواية ثانية قبل إصدار الحكم.

(11)
في سوق العطارين أتذكر رواية عزام أبو السعود التي حملت الاسم نفسه " سوق العطارين" ، وللحقيقة أقول إنني غدوت أعرف أسماء أسواق وحمامات وفنادق ، في القدس ، من خلال روايأت أبنائها وبناتها : عزام أبو السعود وله رواية ثانية هي " حمام العين " وديمة السمان ولها رواية " برج اللقلق"، ومن قبل هذين السواحري ونبيل خوري ، وللأخير رواية عنوانها " حارة النصارى"1974 صدرت بعد قصص " مقهى الباشورة.
في سوق العطارين في الرابعة عصرا كانت الحركة التجارية ضعيفة -على العكس كانت المحلات اليهودية تعج بالزائرين والسائحين والمشترين - وسيعلمني عيسى أن اﻷمر مخطط له فدولة أبناء العمومة تريد إخراج العرب من محلاتهم بالتضييق عليهم لتحويل البلدة القديمة إلى مدينة يهودية بالكامل، كما تفعل في عكا والآن في يافا، التجار جالسون ولا يبيعون وأتذكر صورة المدينة المتخيلة في رواية ( هرتسل) 1902 حيث ستغدو مدينة يهودية وعالمية يؤمها السياح.
أقول لعيسى: يجب تشجيع المسلمين على زيارة القدس القديمة ، ويجب علينا أن نخصص يوما لشراء حاجياتنا منها حتى يتمكن أهلها من الصمود. حقا هذا نوع من المقاومة حتى لا تصبح القدس غرناطة ثانية أو أندلسا ثانية ويصبح سكانها موريسكيين.
واعتقد ان على الفلسطينيين ان يشتروا من القدس ، ولو بسعر اعلى، مع ان اسعار بعض السلع مثل اسعارها في نابلس، لكي يدعموا اهل القدس، واعتقد ان على كثيرين ممن يتبضعون من محلات ليفي ان ييمموا صوب القدس ، حتى لا تغدو مدينة يهودية بالكامل ، ويخس السبت في (...) نحن لا في (...) اليهود.
آن أوان صلاة العصر وعيسى سيصلي وأنا سأغادر وسنفترق عند خان الزيت.

(12)
(قفلة )
خمس ساعات سأنفقها في القدس ستكون لي ساعات من أجمل ساعات العمر، حتى إنني لن أدعهم يكتبون على قبري ( مثل جبر: من رحم أمه إلى القبر). في انتفاضة اﻷقصى 28/9/2000 وبعد أن تحولت حياتنا هنا إلى جحيم بسبب التفجيرات والقتل ، كتبت قصة عنوانها " يوميات جبر الفلسطيني في العيد" وذهبت فيها إلى أن الفلسطينيين مثل جبر : من أرحام أمهاتهم إلى القبر.
أنا الآن في القدس. يا لها من ساعات تفوق في روعتها زيارة مدن كثيرة. هل أشعر بالندم ﻷنني لم أسافر هذا الصيف الى عمان كانت القدس عروس المدائن وفي شوارعها تتذكر فيروز : شوارع القدس العتيقة.
مدينة اﻷديان. مدينة السلام. مدينة الحروب. أكثر مدينة تعرضت للتدمير على مدى التاريخ. مدينة الملوك. مدينة الله . أورشليم. أور سالم. آيلياء. القدس. و.. و..
أتمشى في خان الزيت ببطء شديد. أشتري الحلوى والفواكه المجمدة وكنت أتمنى لو أنني قادر على تلبية نداءات ودعوات بائعات الخضار والعنب من الريفيات اللاتي ما زلن يفترشن اﻷرض وينادين على بضائعهن والزبائن
وكنت أمعن النظر في الناس. ما زالت أغلبية المارة من العرب ولم أشعر بالغربة هذه المرة. على باب العمود أمعنت النظر في بعض اﻷماكن التي أعرف. أين هي بوابة مندلباوم؟ لقد أزالها الإسرائيليون بعد حرب 1967 ولا يعرف عنها إلا من قرأ قصة آميل حبيبي وقصة سميرة عزام.
ربما هنا يجد المرء نفسه يكرر مع تميم البرغوثي ( في القدس من في القدس ،لكنني لا ارى في القدس الا انت )
هنا في باب العمود أقول : هنا يجب تدريس مساق القدس في اﻷدب العربي. هنا وهناك: في اﻷقصى والقيامة ومقهى الباشورة ودرب الآلام.
أسير باتجاه باصات رام الله . كأنني ، الآن ، في العام 1987. كأنني لا رحت ولا جيت وكأنني أخفي جريدة الاتحاد ومجلة الجديد



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى