* إلى امجد توفيق
عند البوابة وأنا أضع قدمي اليمنى بتوجس وتهيب، وعيناي تعانقان المدخل، كان العالم المفترض الذي ابتنيته وأنا في مقعدي الخشبي في الباص الأحمر ذي الطابقين قبل هبوطي، ماثلاً لّما يزل في وجداني متمثلاً المحررين والعاملين في المجلة وكأنهم مخلوقات من كوكب آخر... ناعمو الملمس، شفافون مثل الأشباح، ملامحهم محايدة مجردة من أية عاطفة وهم يتّقنعون تلك الوجوه الناعسة الصامتة، وكلامهم مجرد إيماءات وإشارات بالحواجب والشفاه أو حركات الرؤوس، أما جلساتهم على مناضدهم والصمت الشبيه بسكون الغابات والبحار والسماوات، عندما تبدأ الحياة عند الشفق، أو عندما تهجع الحياة عند الغسق... يترادف مع الصمت الذي تقصقصه هرولة الأقلام فوق أديم الأوراق، أو جرة قلم يعلن الحكم على المادة المقروءة... أما إلى ضجيج المطبعة أو إلى وحشة سلة المهملات .
كل هذا الفيض من الصور كانت تتّسيد أحاسيسي حين أيقظني صوت به تأفف.
تفضل أخي .
أجفلتني النبرة المرتابة لهذا الكهل الستيني الذي يقتعد كرسياً من خوص النخل وهو يراوزني بعينيه المظلّلتين بحاجبين كثين أشيبين، كان في نظراته وهو يفّصل جسدي من قمة رأسي بوجهي الطويل الذي تّسقفه أيكة من شعر أسود مسرح وعينين كليلتين تتشبثان بنظارة طبية ملونة وذقن غير حليق تتوزعه بضع شعيرات متباعدة وشارب أسود كث ينسدل مغطياً الشفة العليا برمتها ويمس الخيط المتكون من انطباق الشفتين، مروراً بجسدي النحيف الذي يستجير بقميص غير مكّوى مفتوح عند الياقة وبنطال كاوبوي ممسوح عند الركبتين وانتهاءً بالحذاء الرياضي القديم الذي ذاب لونه وتراخت قسماته.هذا التأمل الطويل فيّ ولّد في نفسي شعوراً مفاده أن هذا الرجل لم يرتح لي، وعّمق في دخيلتي تخميني الذي تشّكل وأنا أستقل الباص، بأن محرري المجلة هم ربما من عالم آخر.... عالم تتهامس وتتنافس فيه القسمات والسمات مع الثياب في جمالها وتأنقها ورقتها، وأنني ألآن في وقفتي الحائرة أمام بوّاب البناية أبدو مثل الزوان وسط سنابل نظرة معطاء،... أعاد الكرة وبلهجة تنم عن التبرم والاستخفاف .
تفضل...
أجبته بخجل .
أريد أن أدخل .
ما عندك ..؟
إنني كاتب قصة وأريد أن أواجه السيد رئيس التحرير .
صمت وهو يتأملني ثم قال .
الباب الثاني على اليمين .
وصلت الباب، كان مغلقاً، طرقت بلطف، سمعت صوت رجلٍ أعرف نبراته .
تفضل .
دخلت... غرفته لا تختلف عن غرفتي في المستوصف الذي أعمل فيه بشيء. أثاث عادي، منضدة من خشبٍ ابيضٍ غير فاخر، وكرسي دوار شائع الاستعمال، وبضع كراسٍ مرتبة تعطي للغرفة سمة البساطة والجمال الهادئ. كان رئيس التحرير منهمكاً بقراءة ملف موضوع على المكتب، قلت بصوت هامس.
صباح الخير.
رفع رأسه وتفحصني بنظرة قصيرة نافذة وأجاب بود.
صباح الخير.
قلت وأنا أصافحه .
ألا تذكرني أستاذ ؟
وبعد تأملٍ قصير ارتسمت ابتسامة ودودة على محياه وقال .
أجل ... ألست من الموصل...؟
نعم .
أنت...؟!
وتوقفت الكلمة في فمه، فقلت.
هيثم بهنام بردى .
شد على يدي بحرارة أشد ثم أشار بكفه الممدودة إلى الكرسي وقال.
استرح .
تزايد شعوري بالألفة مع هذا الرجل وتذكرت الإطراء الذي أسبغه على قصتي ( التنور ) التي قرأتها قبل عام في أمسية مخصصة للقصاصين الشباب في الموصل حيث أكد على جمالية تناولي وتوظيفي لبعض المفردات ذات الاستعمال اليومي ولكنها تتصف بأنها من الفصيح في اللغة والنحو والتي أعطت لمحاولتي القصصية صفة الواقعية الصرفة ولكن دون النقل الفوتوغرافي ... وأعادني صوته وهو يرحب بي على الطريقة العراقية (- الله بالخير) إلى حاضري المدهش، فقلت على استحياء .
لقد جئت بقصة قصيرة .
أبتسم بوجهي وانتظر، فأكملت بخجل.
- أتمنى أن تنال رضاك.
وبعد أن بلعت ريقي همست بارتباك.
وأن تكون صالحة للنشر.
ابتسم بود، وهو يتناول أوراقي، وهتف بحميمية .
نقرأ ونحكم.
وتقنفذت على نفسي، وتسمرت نظراتي على عينيه تحاولان الولوج إلى أعماقهما لاستشفاف المجهول الآتي لا محالة .
لا... ليست رجفة، بل أعم وأعمق، شعور كاو مؤلم، زاخر بالترقب، والتوجس يعتقل كياني كله ونظراتي معلقة خلف القضبان،... قضبان الصمت المريب والطويل، وعيناي مجستان تلتقطان الإشارات الخفية التي ترتسم على محياه، وتراقبان عينيه اللتين تتابعان أحداث القصة ، كان يتوقف بين كل ورقة وتاليها، ويسافر إلى داخله، فيتوقف وجيب فؤادي وأتساءل بوجل،
" هل سيستمر بالقراءة، أم سيلقي الأوراق بإهمال، ثم ينتهي كل شيء، وتختفي دلمون في
طوى النسيان والإهمال وتختفي الآمال والطموحات ليعشّش اليأس في أعطاف المدينة العامرة التي شيّدتها في مخيلتي الغضة " .
و... لكنه، كان يلتقط الورقة التالية، وبعد متابعة عدة سطور تلين ملامحه ويتفاعل مع الأحداث، كنت أسمع والغرفة الأنيقة تحتوينا نحن الاثنين حسب، تناغم رقاص الساعة الجدارية المتصادي بهتافه الرتيب المنّظم وضربات قلبي المضطرب، لمحت نظرات عينيه المرسلتين نحوي بعمق، أغمضت عينّي وتهيأت حواسي كلها لتلقي الحكم، الذي... سرعان ما ضج في رأسي صيحة نورس وحيد يداعب بحراً ساكناً كمرايا الخادرات، أو تغريدة عندليب ترافق الليل الموشك على تسليم الصولجان إلى طلائع الشفق .
- قصة ناجحة...
وبعد وقفة قصيرة، رأيت فيها البحر يدفن النورس في لجة الفناء، أو الليل أخرس العندليب وأوصد بجدثه نوافذ النهار ...
ولكن ...؟
البحر... الليل، يتناوبان خناقي.
لو أنك اهتممت أكثر بتعليقات الصحفي .
انهارت أعمدة المدينة التي شّيدتها بجهد الليالي الطويلة وأنا منكب على ضوء القنديل بإرساء لبناتها حيث أضمحل البدن والبصر، وتشتتت الرؤى الحياتية المتفرقة المحصورة بين قوسين يّضمان آمالاً أرضية زائلة بزوال البدن والبصر، وتدثر التراب الندي لمقبرة قصية يتصادى في جنباتها عواء النسيان، وانتشر نعيب البوم في أطلالها، وما عليها سوى الانتظار، انتظار الزمن وأكوام التراب، وصمت من ينتظر المعجزة التي تجلت بغتة أمامي مثل فنار مورق وسط ليل داج حين سمعت صوت رئيس التحرير .
سننشرها في أحد الأعداد القادمة .
لم ولن يخطر على بالي، وأنا أتسلق السنين، سني الطفولة والمراهقة ومن ثم البلوغ المبكر، أن الأيام ستنتشلني من عالم الشمال ببرده وأمطاره ولياليه المغتبطة بالسماء الصافية صفاء الينابيع أحياناً، والملبدة بأجواء الرباب أحياناً أخرى، .... وتزجني في عالم جديد لم يتعوده بدني من قبل، وأني الآن ملقى كشلوٍ عتيق صحبة صديقين في غرفة مشّيدة من طابوق وجص جوار بستان عامر بأصناف الشجر يتّسيده النخيل، في قرية تتنعم بدفيء الفرات الخالد وعطاياه التي لا تحد، قرية ساحرة غاية في الجمال تمشط جدائلها وتغسل شعرها برغو النهر المتوثب كالرهوان، وهو يوزع صهيله عبر البساتين والمديات الجرداء المحصبة والسهول المترامية العسجدية والقرى المتناثرة على صهوته بسكينة ودعة الرضع وهم ينعمون بنوم هادئ رخي في مهودهم المصنوعة من شعر رقبته المتطاير كشلال من الأمان بلفائف من أوراد الحندقوق وطلع النخل وأزهار المشمش... وجسدي الذي ترسم حدود حركته، سرير عتيق ومنضدة من خشب متقوض وقنديل قديم ومدفئة (علاءالدين) حائلة بالكاد تدفئ بدنها الخرب، وأقداح الشاي الحارة المرصوفة على المنضدة وهي تنتظر الأكف الثلاثة للمعلم الذي يشاركني الغرفة والمضمد الذي يشاركني الوظيفة في الدائرة، حين قال المضمد فجأة .
- أن مسؤول الذاتية في الناحية إنسان بطران .
سأله المعلم .
- كيف...؟
- أنه يبيع الصحف .
انتبهت إلى ملاحظته فسألته .
تقصد انه يمتلك كشكاً؟
لا... أنما يبيع الصحف في غرفته بالناحية .
أيبيع المجلات أيضاً ؟
بالطبع . فهو يبيع مجلات، ألف باء، والإذاعة والتلفزيون، ووعي العمال، وغيرها .
وقبل أن أسأله استطرد.
وهناك مجلة لا أعرف أسمها... فهو صعب جدا .
مثل ماذا ؟
صفن قليلا، ثم تناول بلحة من أحد العثوق المعلقة بمسمار على أحد جدران الغرفة ومضغه ثم
هتف قائلا بلذة المكتشف الأول .
- تذكرت... أدبية .
وتوقف للحظة كمن نسي شيئا ، ثم إستتلى بتردد.
- طليعية... أسم مثل هذا .
قلت بتوكيد .
الطليعة الأدبية؟
نعم... هو الاسم بعينه .
*****
كان ينظر إلي بعمق وهو يستجدي بصيرته النافذة لإجلاء هذا الطلب الغريب، وهو كهل في الستين من العمر، ضامر البدن، تلف جسده الملموم دشداشة بيضاء، وتغطي هامته الصهباء كوفية مرقطة حمراء، ويتمنطق بحزام ارتحل لونه إلى مفاوز الردى. وقفته المميزة على الشاطئ والليل الفتي يؤطر جسده وزورقه القديم الغافي على الشاطئ ذكرتني بلوحة عالمية لم أعد أتذكر أين رأيتها ومن هو الفنان الذي أبدعها، قلت بتصميم.
- سأعبر.
وخزرت عبّار القرية بنظرة بغل، وتهادت إلى ذاكرتي رحلتي الأولى إلى القرية، حين ترجلت من الباص عند مقهى يقابل بناية الناحية وجلست أستريح، وحين وافاني النادل طلبت منه الغداء واستفسرت منه عن القرية فدلني إلى الطريق الترابي المفضي إلى الشاطئ الذي تقابله القرية من الجهة المقابلة.
وفي الشاطئ والدنيا تتسربل بالثوب العسجدي لمحته على زورقه واقفاً على الشاطئ موليا ظهره نحو شمس العصاري ووجهه نحوي، كانت خطواتي غير مسموعة وحين صرت على بعد رمية حجر توقفت بحذر هر، قال بحيادية.
- أركب...
وقبل أن أتكلم اكتشفت عماه، كانت عيناه مطفئتين ورموشه تحزّز موقيين أبيضين مائتين، فلذذت بصمتي الأسيان... تغضن وجهه بفعل شعور زاخر بالغضب وهاجس مليء بالثقة، وأسى كبل ّ زاويتي الفم، ثم كرر بقوة .
ألا تريد العبور...؟؟
..........
قال بغضب .
- إني أراك .
وتيقنت من نباهة هذا الكهل الغاضب المطعون بكينونته والمرتجف كمويجات الفرات الذي يشاركه شعوره، ثم رأيته يرفع مجذافيه ويلامسهما الأرض البليلة تمهيدا لدفع الزورق في حنايا النهر ، انطلقت الكلمة من فمي خجلى .
توقف .
فأطلق حكمته التي رنّت في كياني مطراً موسمياً عاصفاً.
عجبي لهؤلاء البشر... العميان مبصرون، والمبصرون عميان .
فقلت خجلاً .
- أنا آسف يا عم، ولكن لي عذري .
ومن طريقة اعتذاري عرف أني لست من القرية أو من الناحية ، ومن المنطقة برمتها، سأل .
أنت غريب ...؟
- أجل.
صفن للحيظات ثم قال بلهجة ودودة جذلى .
أنت الطبيب عنتر.
أطلقت ضحكة عميقة هادرة، شاركني ضحكي ثم نبر.
أسمك صعب... ولكنك الطبيب الجديد . أليس كذلك؟
وأسمي هيثم.
وصعب عليه النطق فقال.
حسنا... اسمح لي أن أناديك الطبيب عنتر.
ثم بود حقيقي.
- هيا اصعد إلى الزورق ولا تخف، فـأنا عبّار القرية منذ نعومة أظفاري .
....... وها أنذا بعد فترة أقل من شهر أقف أمام العبّار وأطلب منه العبور في هذا الليل الشتائي، فأعتذر قائلا.
الدنيا ليل أستاذ عنتر.
سأعبر مهما كان الثمن.
هل ثمة خطب أو أمر جلل يستحق العبور؟
كلا.
هل كّدر صفوك أحد رجال القرية ؟
لا أحد..... هل ستعّبرني أم لا...؟
ولكن النهر هائج.
ليكن ؟
قال بتسليم.
كما تشاء.
تبدو البيوت في الناحية وهي تسابق شاطئ النهر وتغدق عليه حياتها الضاجة بالسمر إبان الليالي الباردة وتعطيه ما يبدد وحشته من أحاديث وذكريات الرجال في مغامرات الأجداد وصراعاتهم مع الصعاب من أجل تثبيت الأقدام والوجود وترسيخ كياناتهم في أعماق الأرض كجذور النخيل . ما يجعله أليفاً ودوداً معطاءً معهم فيهب عطاياه إلى الحقول والسقاية لقطعان الماشية والسيل الصافي لحاويات النواعير وهي تدغدغ أعماقه وتنهل من فيضه صاعدة بحركتها الدائرية المتواترة المتعاقبة آخذة حصتها من أهرائة ماء" صافياً دافقاً يخترم المسارب المتعددة نحو البساتين والحقول ....هذا الفرات السرمدي سخي في عطاياه نحو الإنسان الذي جاوره وقاسمه الخبز عبر الحقب والدهور.
قلت للعّبار وأنا أقفز نحو الشاطئ.
_ انتظرني .
وصعدت نحو فم الطريق الترابي تاركاً عّبار القرية محّملاً بتساؤله عن مغامرة هذا الطبيب غريب الأطوار، ثم ثقب جلدة الليل بغناء شجّي حزين سرعان مابدّد وضوحه التناسب العكسي بين مكان وقوفه وابتعادي عنه وأنا اصعد الطريق نحو أول بيت في الناحية، والأمل أن اقتني العدد الجديد من ( الطليعة الأدبية ) وأن أكون أحد المساهمين فيها لأسجل لنفسي تأريخاً يبقى في ذاكرتي إلى الأبد بأن تظهر لي قصة تكون مفتتحاً لمسيرتي الإبداعية المرتقبة.
- مرحبا.
ابتسم الوجه، يبدو أنه يعرفني، وقبل أن أسأل قال.
- تفضل... الوالد موجود .
وفي المضيف وجدت مسؤول الذاتية صاحب البيت صحبة ضيوف عديدين، يفترشون البسط بدشاديشهم البيض سوى واحد، كان مبنطلاً، لفت نظري لفترة قصيرة، نهض مسؤول الذاتية واستقبلني مصافحاً بحرارة، ومن ثم صافحت الآخرين تباعاً، جلست جنب مدير المدرسة، هتف المضيف.
حياك الله هيثم، جئت بوقتك، فنحن لم نتعش بعد.
وبعد التحية التي يشتهر بها العراقييون عن سائر الناس في المعمورة، لمحت التساؤل في وجه طبيب الناحية ومدير المدرسة وضابط المخفر فبددت تساؤلهم .
- للتو عبرت من القرية.
سأل ضابط المخفر.
خير إن شاء الله ؟
أطمئن.
ثم التفت إلى مسؤول الذاتية وسألته.
- سمعت أنك وكيل الدار الوطنية ؟
باغته السؤال ثم ضحك وقال .
صحيح.
ولديك آخر عدد من مجلة (الطليعة الأدبية) ؟.
موجودة.
أريدها.
الآن؟
الآن حتما.
نظر إلى الآخرين مبتسماً، وغمز إلى أحدهم، استلم الآخرون غمزته ووافقوه ضمناً إلاّ الأفندي فقد قرأت في عينيه تعاطفاً جلياً، قال صاحب البيت .
غداً.
بل أريدها الآن.
ومن خلال ضحكته سمعت كلماته المبعثرة.
- خير أستاذ هيثم.... هل لديك فيها كتاب شكر وتقدير.
طأطأت رأسي خجلا للحظة ثم رفعت عينّي أستقريء الوجوه واكتشفت المطب الذي وقعت فيه ...سأصير وسيلة تندرهم هذه الليلة إن لم أتدارك الموقف، واصطدمت نظراتي بعيني الأفندي، قلت بصوت واثق.
- بل لي فيها قصة منشورة أغلب الظن.
فقال الأفندي على الفور بلكنة شمالية أعرفها تماما.
- أنت هيثم بهنام بردى ؟
ودفئتني كلماته وتعاطف نبراته مع موقفي الحرج.
أجل.
لدي نسخة منها في البيت ... سأعطيك إياها نهاية السهرة.
شكراًُ.
فقال صاحب البيت.
- انه الأستاذ (ش.ب) مدير الناحية.
قلت بدهشة وتساؤل .
أعرف شاعراً بهذا الاسم.
قال طبيب الناحية.
- هو نفسه.
نهضت من مكاني واتجهت صوبه وعانقته، هتف.
أهلا هيثم.
مرحبا بك.
وأجلسني إلى جانبه ثم همس.
- إن المجلة عندي.
وبعد صمت.
- "تل الزعتر" قصة جميلة.
أثلجني الفرح فهتفت.
هل هي منشورة ؟
أجل.
*****
ليس عّبار القرية الذي صحا من غفوته في بطن الزورق المتهادي على الشاطئ الليل الكانوني الصاحي والمزدان بقمر عريس ابن أربعة عشر يوماً، هو الذي ظن أن بي مساً من الجنون وأنا أقوّض هيكل الليل بصراخي.
- تل الزعتر.
ثم أواصل بصراخ أشد.
- قصة هيثم بهنام بردى.
بل أن الحساسين اللائذة على أغصان أشجار الصفصاف، والسحالي اللابدة في الأوجار، والأسماك اللائطة بين صخور القاع، والبوم الكامن فوق شجرة آخر بيت في الناحية، ضحكت في سرها من هذا الشاب العشريني النحيف الواقف فوق التلة المشرفة على الشاطئ وهو يقف مثل فزاعة بيمناه مجلة مفتوحة على صفحة ما ويسراه ممدودة على أقصاها مثل قائدٍ لفرقة موسيقية وهو يكرّر لازمته بنبرة موسيقية لأكثر من مرة ... وصحوت على صوت عّبار القرية وهو يسأل بدهشة.
أستاذ عنتر... لماذا تصرخ هكذا...؟ هل جرى لزعتر مكروه ؟
وبعد وقفة يعاود.
هل زعتر أخوك...؟!
***
عند البوابة وأنا أضع قدمي اليمنى بتوجس وتهيب، وعيناي تعانقان المدخل، كان العالم المفترض الذي ابتنيته وأنا في مقعدي الخشبي في الباص الأحمر ذي الطابقين قبل هبوطي، ماثلاً لّما يزل في وجداني متمثلاً المحررين والعاملين في المجلة وكأنهم مخلوقات من كوكب آخر... ناعمو الملمس، شفافون مثل الأشباح، ملامحهم محايدة مجردة من أية عاطفة وهم يتّقنعون تلك الوجوه الناعسة الصامتة، وكلامهم مجرد إيماءات وإشارات بالحواجب والشفاه أو حركات الرؤوس، أما جلساتهم على مناضدهم والصمت الشبيه بسكون الغابات والبحار والسماوات، عندما تبدأ الحياة عند الشفق، أو عندما تهجع الحياة عند الغسق... يترادف مع الصمت الذي تقصقصه هرولة الأقلام فوق أديم الأوراق، أو جرة قلم يعلن الحكم على المادة المقروءة... أما إلى ضجيج المطبعة أو إلى وحشة سلة المهملات .
كل هذا الفيض من الصور كانت تتّسيد أحاسيسي حين أيقظني صوت به تأفف.
تفضل أخي .
أجفلتني النبرة المرتابة لهذا الكهل الستيني الذي يقتعد كرسياً من خوص النخل وهو يراوزني بعينيه المظلّلتين بحاجبين كثين أشيبين، كان في نظراته وهو يفّصل جسدي من قمة رأسي بوجهي الطويل الذي تّسقفه أيكة من شعر أسود مسرح وعينين كليلتين تتشبثان بنظارة طبية ملونة وذقن غير حليق تتوزعه بضع شعيرات متباعدة وشارب أسود كث ينسدل مغطياً الشفة العليا برمتها ويمس الخيط المتكون من انطباق الشفتين، مروراً بجسدي النحيف الذي يستجير بقميص غير مكّوى مفتوح عند الياقة وبنطال كاوبوي ممسوح عند الركبتين وانتهاءً بالحذاء الرياضي القديم الذي ذاب لونه وتراخت قسماته.هذا التأمل الطويل فيّ ولّد في نفسي شعوراً مفاده أن هذا الرجل لم يرتح لي، وعّمق في دخيلتي تخميني الذي تشّكل وأنا أستقل الباص، بأن محرري المجلة هم ربما من عالم آخر.... عالم تتهامس وتتنافس فيه القسمات والسمات مع الثياب في جمالها وتأنقها ورقتها، وأنني ألآن في وقفتي الحائرة أمام بوّاب البناية أبدو مثل الزوان وسط سنابل نظرة معطاء،... أعاد الكرة وبلهجة تنم عن التبرم والاستخفاف .
تفضل...
أجبته بخجل .
أريد أن أدخل .
ما عندك ..؟
إنني كاتب قصة وأريد أن أواجه السيد رئيس التحرير .
صمت وهو يتأملني ثم قال .
الباب الثاني على اليمين .
وصلت الباب، كان مغلقاً، طرقت بلطف، سمعت صوت رجلٍ أعرف نبراته .
تفضل .
دخلت... غرفته لا تختلف عن غرفتي في المستوصف الذي أعمل فيه بشيء. أثاث عادي، منضدة من خشبٍ ابيضٍ غير فاخر، وكرسي دوار شائع الاستعمال، وبضع كراسٍ مرتبة تعطي للغرفة سمة البساطة والجمال الهادئ. كان رئيس التحرير منهمكاً بقراءة ملف موضوع على المكتب، قلت بصوت هامس.
صباح الخير.
رفع رأسه وتفحصني بنظرة قصيرة نافذة وأجاب بود.
صباح الخير.
قلت وأنا أصافحه .
ألا تذكرني أستاذ ؟
وبعد تأملٍ قصير ارتسمت ابتسامة ودودة على محياه وقال .
أجل ... ألست من الموصل...؟
نعم .
أنت...؟!
وتوقفت الكلمة في فمه، فقلت.
هيثم بهنام بردى .
شد على يدي بحرارة أشد ثم أشار بكفه الممدودة إلى الكرسي وقال.
استرح .
تزايد شعوري بالألفة مع هذا الرجل وتذكرت الإطراء الذي أسبغه على قصتي ( التنور ) التي قرأتها قبل عام في أمسية مخصصة للقصاصين الشباب في الموصل حيث أكد على جمالية تناولي وتوظيفي لبعض المفردات ذات الاستعمال اليومي ولكنها تتصف بأنها من الفصيح في اللغة والنحو والتي أعطت لمحاولتي القصصية صفة الواقعية الصرفة ولكن دون النقل الفوتوغرافي ... وأعادني صوته وهو يرحب بي على الطريقة العراقية (- الله بالخير) إلى حاضري المدهش، فقلت على استحياء .
لقد جئت بقصة قصيرة .
أبتسم بوجهي وانتظر، فأكملت بخجل.
- أتمنى أن تنال رضاك.
وبعد أن بلعت ريقي همست بارتباك.
وأن تكون صالحة للنشر.
ابتسم بود، وهو يتناول أوراقي، وهتف بحميمية .
نقرأ ونحكم.
وتقنفذت على نفسي، وتسمرت نظراتي على عينيه تحاولان الولوج إلى أعماقهما لاستشفاف المجهول الآتي لا محالة .
*****
لا... ليست رجفة، بل أعم وأعمق، شعور كاو مؤلم، زاخر بالترقب، والتوجس يعتقل كياني كله ونظراتي معلقة خلف القضبان،... قضبان الصمت المريب والطويل، وعيناي مجستان تلتقطان الإشارات الخفية التي ترتسم على محياه، وتراقبان عينيه اللتين تتابعان أحداث القصة ، كان يتوقف بين كل ورقة وتاليها، ويسافر إلى داخله، فيتوقف وجيب فؤادي وأتساءل بوجل،
" هل سيستمر بالقراءة، أم سيلقي الأوراق بإهمال، ثم ينتهي كل شيء، وتختفي دلمون في
طوى النسيان والإهمال وتختفي الآمال والطموحات ليعشّش اليأس في أعطاف المدينة العامرة التي شيّدتها في مخيلتي الغضة " .
و... لكنه، كان يلتقط الورقة التالية، وبعد متابعة عدة سطور تلين ملامحه ويتفاعل مع الأحداث، كنت أسمع والغرفة الأنيقة تحتوينا نحن الاثنين حسب، تناغم رقاص الساعة الجدارية المتصادي بهتافه الرتيب المنّظم وضربات قلبي المضطرب، لمحت نظرات عينيه المرسلتين نحوي بعمق، أغمضت عينّي وتهيأت حواسي كلها لتلقي الحكم، الذي... سرعان ما ضج في رأسي صيحة نورس وحيد يداعب بحراً ساكناً كمرايا الخادرات، أو تغريدة عندليب ترافق الليل الموشك على تسليم الصولجان إلى طلائع الشفق .
- قصة ناجحة...
وبعد وقفة قصيرة، رأيت فيها البحر يدفن النورس في لجة الفناء، أو الليل أخرس العندليب وأوصد بجدثه نوافذ النهار ...
ولكن ...؟
البحر... الليل، يتناوبان خناقي.
لو أنك اهتممت أكثر بتعليقات الصحفي .
انهارت أعمدة المدينة التي شّيدتها بجهد الليالي الطويلة وأنا منكب على ضوء القنديل بإرساء لبناتها حيث أضمحل البدن والبصر، وتشتتت الرؤى الحياتية المتفرقة المحصورة بين قوسين يّضمان آمالاً أرضية زائلة بزوال البدن والبصر، وتدثر التراب الندي لمقبرة قصية يتصادى في جنباتها عواء النسيان، وانتشر نعيب البوم في أطلالها، وما عليها سوى الانتظار، انتظار الزمن وأكوام التراب، وصمت من ينتظر المعجزة التي تجلت بغتة أمامي مثل فنار مورق وسط ليل داج حين سمعت صوت رئيس التحرير .
سننشرها في أحد الأعداد القادمة .
*****
لم ولن يخطر على بالي، وأنا أتسلق السنين، سني الطفولة والمراهقة ومن ثم البلوغ المبكر، أن الأيام ستنتشلني من عالم الشمال ببرده وأمطاره ولياليه المغتبطة بالسماء الصافية صفاء الينابيع أحياناً، والملبدة بأجواء الرباب أحياناً أخرى، .... وتزجني في عالم جديد لم يتعوده بدني من قبل، وأني الآن ملقى كشلوٍ عتيق صحبة صديقين في غرفة مشّيدة من طابوق وجص جوار بستان عامر بأصناف الشجر يتّسيده النخيل، في قرية تتنعم بدفيء الفرات الخالد وعطاياه التي لا تحد، قرية ساحرة غاية في الجمال تمشط جدائلها وتغسل شعرها برغو النهر المتوثب كالرهوان، وهو يوزع صهيله عبر البساتين والمديات الجرداء المحصبة والسهول المترامية العسجدية والقرى المتناثرة على صهوته بسكينة ودعة الرضع وهم ينعمون بنوم هادئ رخي في مهودهم المصنوعة من شعر رقبته المتطاير كشلال من الأمان بلفائف من أوراد الحندقوق وطلع النخل وأزهار المشمش... وجسدي الذي ترسم حدود حركته، سرير عتيق ومنضدة من خشب متقوض وقنديل قديم ومدفئة (علاءالدين) حائلة بالكاد تدفئ بدنها الخرب، وأقداح الشاي الحارة المرصوفة على المنضدة وهي تنتظر الأكف الثلاثة للمعلم الذي يشاركني الغرفة والمضمد الذي يشاركني الوظيفة في الدائرة، حين قال المضمد فجأة .
- أن مسؤول الذاتية في الناحية إنسان بطران .
سأله المعلم .
- كيف...؟
- أنه يبيع الصحف .
انتبهت إلى ملاحظته فسألته .
تقصد انه يمتلك كشكاً؟
لا... أنما يبيع الصحف في غرفته بالناحية .
أيبيع المجلات أيضاً ؟
بالطبع . فهو يبيع مجلات، ألف باء، والإذاعة والتلفزيون، ووعي العمال، وغيرها .
وقبل أن أسأله استطرد.
وهناك مجلة لا أعرف أسمها... فهو صعب جدا .
مثل ماذا ؟
صفن قليلا، ثم تناول بلحة من أحد العثوق المعلقة بمسمار على أحد جدران الغرفة ومضغه ثم
هتف قائلا بلذة المكتشف الأول .
- تذكرت... أدبية .
وتوقف للحظة كمن نسي شيئا ، ثم إستتلى بتردد.
- طليعية... أسم مثل هذا .
قلت بتوكيد .
الطليعة الأدبية؟
نعم... هو الاسم بعينه .
*****
كان ينظر إلي بعمق وهو يستجدي بصيرته النافذة لإجلاء هذا الطلب الغريب، وهو كهل في الستين من العمر، ضامر البدن، تلف جسده الملموم دشداشة بيضاء، وتغطي هامته الصهباء كوفية مرقطة حمراء، ويتمنطق بحزام ارتحل لونه إلى مفاوز الردى. وقفته المميزة على الشاطئ والليل الفتي يؤطر جسده وزورقه القديم الغافي على الشاطئ ذكرتني بلوحة عالمية لم أعد أتذكر أين رأيتها ومن هو الفنان الذي أبدعها، قلت بتصميم.
- سأعبر.
وخزرت عبّار القرية بنظرة بغل، وتهادت إلى ذاكرتي رحلتي الأولى إلى القرية، حين ترجلت من الباص عند مقهى يقابل بناية الناحية وجلست أستريح، وحين وافاني النادل طلبت منه الغداء واستفسرت منه عن القرية فدلني إلى الطريق الترابي المفضي إلى الشاطئ الذي تقابله القرية من الجهة المقابلة.
وفي الشاطئ والدنيا تتسربل بالثوب العسجدي لمحته على زورقه واقفاً على الشاطئ موليا ظهره نحو شمس العصاري ووجهه نحوي، كانت خطواتي غير مسموعة وحين صرت على بعد رمية حجر توقفت بحذر هر، قال بحيادية.
- أركب...
وقبل أن أتكلم اكتشفت عماه، كانت عيناه مطفئتين ورموشه تحزّز موقيين أبيضين مائتين، فلذذت بصمتي الأسيان... تغضن وجهه بفعل شعور زاخر بالغضب وهاجس مليء بالثقة، وأسى كبل ّ زاويتي الفم، ثم كرر بقوة .
ألا تريد العبور...؟؟
..........
قال بغضب .
- إني أراك .
وتيقنت من نباهة هذا الكهل الغاضب المطعون بكينونته والمرتجف كمويجات الفرات الذي يشاركه شعوره، ثم رأيته يرفع مجذافيه ويلامسهما الأرض البليلة تمهيدا لدفع الزورق في حنايا النهر ، انطلقت الكلمة من فمي خجلى .
توقف .
فأطلق حكمته التي رنّت في كياني مطراً موسمياً عاصفاً.
عجبي لهؤلاء البشر... العميان مبصرون، والمبصرون عميان .
فقلت خجلاً .
- أنا آسف يا عم، ولكن لي عذري .
ومن طريقة اعتذاري عرف أني لست من القرية أو من الناحية ، ومن المنطقة برمتها، سأل .
أنت غريب ...؟
- أجل.
صفن للحيظات ثم قال بلهجة ودودة جذلى .
أنت الطبيب عنتر.
أطلقت ضحكة عميقة هادرة، شاركني ضحكي ثم نبر.
أسمك صعب... ولكنك الطبيب الجديد . أليس كذلك؟
وأسمي هيثم.
وصعب عليه النطق فقال.
حسنا... اسمح لي أن أناديك الطبيب عنتر.
ثم بود حقيقي.
- هيا اصعد إلى الزورق ولا تخف، فـأنا عبّار القرية منذ نعومة أظفاري .
....... وها أنذا بعد فترة أقل من شهر أقف أمام العبّار وأطلب منه العبور في هذا الليل الشتائي، فأعتذر قائلا.
الدنيا ليل أستاذ عنتر.
سأعبر مهما كان الثمن.
هل ثمة خطب أو أمر جلل يستحق العبور؟
كلا.
هل كّدر صفوك أحد رجال القرية ؟
لا أحد..... هل ستعّبرني أم لا...؟
ولكن النهر هائج.
ليكن ؟
قال بتسليم.
كما تشاء.
*****
تبدو البيوت في الناحية وهي تسابق شاطئ النهر وتغدق عليه حياتها الضاجة بالسمر إبان الليالي الباردة وتعطيه ما يبدد وحشته من أحاديث وذكريات الرجال في مغامرات الأجداد وصراعاتهم مع الصعاب من أجل تثبيت الأقدام والوجود وترسيخ كياناتهم في أعماق الأرض كجذور النخيل . ما يجعله أليفاً ودوداً معطاءً معهم فيهب عطاياه إلى الحقول والسقاية لقطعان الماشية والسيل الصافي لحاويات النواعير وهي تدغدغ أعماقه وتنهل من فيضه صاعدة بحركتها الدائرية المتواترة المتعاقبة آخذة حصتها من أهرائة ماء" صافياً دافقاً يخترم المسارب المتعددة نحو البساتين والحقول ....هذا الفرات السرمدي سخي في عطاياه نحو الإنسان الذي جاوره وقاسمه الخبز عبر الحقب والدهور.
قلت للعّبار وأنا أقفز نحو الشاطئ.
_ انتظرني .
وصعدت نحو فم الطريق الترابي تاركاً عّبار القرية محّملاً بتساؤله عن مغامرة هذا الطبيب غريب الأطوار، ثم ثقب جلدة الليل بغناء شجّي حزين سرعان مابدّد وضوحه التناسب العكسي بين مكان وقوفه وابتعادي عنه وأنا اصعد الطريق نحو أول بيت في الناحية، والأمل أن اقتني العدد الجديد من ( الطليعة الأدبية ) وأن أكون أحد المساهمين فيها لأسجل لنفسي تأريخاً يبقى في ذاكرتي إلى الأبد بأن تظهر لي قصة تكون مفتتحاً لمسيرتي الإبداعية المرتقبة.
*****
طرقت باب البيت، بعد فترة قصيرة فتح الباب عن وجه شاب في مقتبل العمر، قلت.- مرحبا.
ابتسم الوجه، يبدو أنه يعرفني، وقبل أن أسأل قال.
- تفضل... الوالد موجود .
وفي المضيف وجدت مسؤول الذاتية صاحب البيت صحبة ضيوف عديدين، يفترشون البسط بدشاديشهم البيض سوى واحد، كان مبنطلاً، لفت نظري لفترة قصيرة، نهض مسؤول الذاتية واستقبلني مصافحاً بحرارة، ومن ثم صافحت الآخرين تباعاً، جلست جنب مدير المدرسة، هتف المضيف.
حياك الله هيثم، جئت بوقتك، فنحن لم نتعش بعد.
وبعد التحية التي يشتهر بها العراقييون عن سائر الناس في المعمورة، لمحت التساؤل في وجه طبيب الناحية ومدير المدرسة وضابط المخفر فبددت تساؤلهم .
- للتو عبرت من القرية.
سأل ضابط المخفر.
خير إن شاء الله ؟
أطمئن.
ثم التفت إلى مسؤول الذاتية وسألته.
- سمعت أنك وكيل الدار الوطنية ؟
باغته السؤال ثم ضحك وقال .
صحيح.
ولديك آخر عدد من مجلة (الطليعة الأدبية) ؟.
موجودة.
أريدها.
الآن؟
الآن حتما.
نظر إلى الآخرين مبتسماً، وغمز إلى أحدهم، استلم الآخرون غمزته ووافقوه ضمناً إلاّ الأفندي فقد قرأت في عينيه تعاطفاً جلياً، قال صاحب البيت .
غداً.
بل أريدها الآن.
ومن خلال ضحكته سمعت كلماته المبعثرة.
- خير أستاذ هيثم.... هل لديك فيها كتاب شكر وتقدير.
طأطأت رأسي خجلا للحظة ثم رفعت عينّي أستقريء الوجوه واكتشفت المطب الذي وقعت فيه ...سأصير وسيلة تندرهم هذه الليلة إن لم أتدارك الموقف، واصطدمت نظراتي بعيني الأفندي، قلت بصوت واثق.
- بل لي فيها قصة منشورة أغلب الظن.
فقال الأفندي على الفور بلكنة شمالية أعرفها تماما.
- أنت هيثم بهنام بردى ؟
ودفئتني كلماته وتعاطف نبراته مع موقفي الحرج.
أجل.
لدي نسخة منها في البيت ... سأعطيك إياها نهاية السهرة.
شكراًُ.
فقال صاحب البيت.
- انه الأستاذ (ش.ب) مدير الناحية.
قلت بدهشة وتساؤل .
أعرف شاعراً بهذا الاسم.
قال طبيب الناحية.
- هو نفسه.
نهضت من مكاني واتجهت صوبه وعانقته، هتف.
أهلا هيثم.
مرحبا بك.
وأجلسني إلى جانبه ثم همس.
- إن المجلة عندي.
وبعد صمت.
- "تل الزعتر" قصة جميلة.
أثلجني الفرح فهتفت.
هل هي منشورة ؟
أجل.
*****
ليس عّبار القرية الذي صحا من غفوته في بطن الزورق المتهادي على الشاطئ الليل الكانوني الصاحي والمزدان بقمر عريس ابن أربعة عشر يوماً، هو الذي ظن أن بي مساً من الجنون وأنا أقوّض هيكل الليل بصراخي.
- تل الزعتر.
ثم أواصل بصراخ أشد.
- قصة هيثم بهنام بردى.
بل أن الحساسين اللائذة على أغصان أشجار الصفصاف، والسحالي اللابدة في الأوجار، والأسماك اللائطة بين صخور القاع، والبوم الكامن فوق شجرة آخر بيت في الناحية، ضحكت في سرها من هذا الشاب العشريني النحيف الواقف فوق التلة المشرفة على الشاطئ وهو يقف مثل فزاعة بيمناه مجلة مفتوحة على صفحة ما ويسراه ممدودة على أقصاها مثل قائدٍ لفرقة موسيقية وهو يكرّر لازمته بنبرة موسيقية لأكثر من مرة ... وصحوت على صوت عّبار القرية وهو يسأل بدهشة.
أستاذ عنتر... لماذا تصرخ هكذا...؟ هل جرى لزعتر مكروه ؟
وبعد وقفة يعاود.
هل زعتر أخوك...؟!
***
